مقدمة الطبعة العربية
السؤال عن العلو (الترانسندنس) قديم قِدمَ الفلسفة، بل هو أقدم منها، لأن الفكر الديني للبشرية أسبق من الفكر الفلسفي.
فلا يكاد الإنسان يشعر بذاته حتى يشعر حتمًا بذلك الواقع الذي يتفوق عليه، ويسمو على كل ما يعمله ويفكر فيه. غير أن هذا الشعور الأوَّلي الأصيل يتلاشى مع التقدم المطرد في العقل والعقلانية، ويتسطح في زحمة المشاغل الدنيوية، إلى أن يصبح نوعًا من الابتذال الذي نُحِسُّه في حياتنا اليومية، ونتصور أنه هو الواقع. ومهمة هذا الكتاب هي وقف هذا التلاشي للشعور بالواقع، ومساعدة الإنسان على أن يفتح وِجدانه لسر الواقع، ويتعلم من جديد كيف يهَبُ نفسه له.
ذلك أن التطور العقلي للبشرية والنمو المتزايد في وعيها العلمي لا يقتضيان على الإطلاق أن تتخلى عن العلو، بل الأَولى أن يُقال إنه يتطلب منها أن تأخذه مأخذ الجد، وأن تنظر اليوم إليه نظرةً أعمق مما فعلت حتى الآن.
أشرتُ في التمهيد لهذا الكتاب إلى أن سفينة الفضاء التي تهبط على سطح القمر، تستطيع أن ترسل إلى الأرض مجموعةً من الصور التي التقطتها منه، ولكن ينبغي أن نسأل أنفسنا إن كانت هذه الصور تُعبر عن «القمر الطبيعي». وقد أشرت كذلك إلى قصيدة الشاعر ماتياس كلاوديوس (١٧٤٠–١٨١٥م) المشهورة «أغنية الماء». وأحب أن أقدم للقراء العرب المقطوعة الأولى منها:
لم يقف الأمر في الفترة الأخيرة عند هبوط سفن الفضاء على سطح القمر، بل استطاع فريق من بني الإنسان أن يدوروا حوله ويمشوا على سطحه. ولم يقتصر الأمر أيضًا على مشاهدة وجهه الأمامي، بل تمكَّن الإنسان من رؤية وجهه المحجوب عن الأرض رأيَ العين، فهل أمكنه أن يرى القمر «الحقيقي»؟
لقد عبَّر رائد الفضاء جيم لوفيل، بعد عودته إلى الأرض من أول رحلة طاف فيها الإنسان حول القمر، عن تجربته بهذه الكلمات: «عالَم يَباب، فاقد الحياة، ظلام في ظلام، لا ماء، ولا زرع، ولا ألوان. لست أدري كيف استطاع الشعراء أن يصِفوا القمر هذه الأوصافَ الرومانتيكية.» كان هناك حوالَي خمسمائة مليون إنسان يجلسون أمام شاشات البث (التليفزيون). واستمعت البشرية كلها إلى الكلمات أو قرأتها في الصحف وأغرقت في الضحك.
أيُّ معرفة بالشِّعر، وأي مفهوم عن الواقع نجده في الأبيات السابقة؟ هل تغنَّى «ماتياس كلاوديوس» بالغابات والمراعي والضباب المنتشر فوق سطح القمر أم تصورها بخياله؟ وهل يُنتظر من شاعر جادٍّ أن يفعل هذا؟ إن جميع الشعراء في الشرق والغرب قد تغنَّوا دائمًا بالقمر من مكانهم على الأرض، ولم يبرحوا سطحها أبدًا. وها هي ذي الشاعرة الرومانتيكية أنيته فون دروسته هيلز هوف (١٧٩٧–١٨٤٨م) تختم قصيدتها «مطلع القمر» بهذا البيت:
وفي رأيي، إن دقة هذا التعبير لا تقف فحسب على قَدم المساواة مع دقة تلك الآلات والأدوات التي أطلقت سفن الفضاء المحمَّلة بالآدميين إلى سطح القمر، بل إنه يتفوق عليها تفوقًا لا حد له؛ لأنه ينطوي على نوع من الدقة الباطنية التي لا تقتصر على الظاهر وحده.
إن هذا الرائد لم يجد على سطح القمر سوى عالَم مُقفِرٍ ميت يغمره ظلام فوق ظلام؛ أي: إنه لم يجد أمامه إلا الواقع كما يراه الناس ويُحسُّونه في هذه الأيام. وهذا الكتاب يحاول — كما ذكرت في التمهيد — أن يشارك بنصيبه لكي يعود الواقع أخضر، أو إن شئنا الدقةَ؛ لكي يعود الأخضر أخضر.
إنه لَيُسعدني ويغمر نفسي بالرضا أن يصدر هذا الكتاب في البلد الذي نشأ فيه واحد من أعظم المفكرين والمتصوفين الغربيين، وأعني به أفلوطين. صحيح أننا لا نعرف على وجه اليقين إن كان قد وُلد في مصر أو إن كان مصريَّ الجنسية كما قيل عنه أحيانًا — فأفلوطين نفسه لم يصرح بشيء عن موطنه الأصلي — ولكن الأمر الذي لا شك فيه أنه أمضى في مدينة الأسكندرية سنوات الطلب التي كانت ذاتَ أثر حاسم على حياته الفلسفية. والجدير بالذكر أن طبعة أفلوطين التي صدرت في السنوات الأخيرة بإشراف العالِمَين هنري وشفيزر؛ قد رجعت إلى الترجمة العربية التي تُعد مصدرًا لا غنَى عنه لتحقيق النص الأصلي والتثبت من صحته.
فرايبورج بالبرايسجاو في يناير سنة ١٩٧٤م.
Zen Flesh, Zen Bones, A collection of Zen and pre-Zen writings Compiled by Paul Reps, New York, 1961, p. 212.