المقدمة
(١) «من النص إلى الواقع» إلى «الفناء والبقاء»
ومع ذلك يمكن ممارسة النقد الذاتي على «من النص إلى الواقع». فالعيب لا يظهر إلا بعد الاكتمال. والجنين لا يبدو إلا بعد الولادة. والممكن أكثر غنًى من الواقع. وما بالقوة أكثر اتساعًا مما بالفعل. والمؤلف هو الناقد بالأصالة. والمبدع هو الذي يعلم حدود الإبداع. والأم أَقدر على وصف معاناة الولادة من المولد.
-
(أ)
كان الهدف من الجزء الأول «تكوين النص» تفكيك النص الأصولي القديم، وبيان أنه لا يوجد نص ثابت خالد أبدي واحد عبر كل العصور. تتعدد قواعده وأصوله. بِنيته متحركة داخل النص الأصولي السني والشيعي على حدٍّ سواء. كان القصد «تحريك النص» من جديد وهو عنوان الفصل عن النص الأصولي الشيعي.٣ لذلك كثُر حضور النص بعد ترتيبه زمانيًّا لبيان تغير القواعد والأصول التي يُبنى عليها العلم عبر الزمان مما يسمح بتطويره مرة أخرى طبقًا لهذا العصر. فيتحرك النص من جديد عبر التاريخ. كان الهدف هو القضاء على تكلس النص وثباته بل وقدسيته، والعودة إلى الاجتهاد البشري في إبداع النصوص. كان الهدف هو هز سلطة القدماء التي ما زالت أحد أسباب توقُّف حركة العلم، بالإضافة إلى إحساس المحدثين بالدونية أمامهم، فلم يترك السلف للخلف شيئًا. كان الهدف إثبات أن النص الأصولي ليس نصًّا ثابتًا أبديًّا أزليًّا إلى آخر الزمان، بل هو نص تاريخي حتَّمَته ظروف كل عصر ومستواه الثقافي. فقد خرج التراث كله من حيز التاريخ إلى الإطلاق. وتحول من اجتهادات الأجيال المتتالية إلى مقدس خارج الزمان نظرًا لعجز الأجيال المتأخرة عن التواصل معه واستئنافه وكتابة نصوص جديدة دون الاكتفاء بدراسة النصوص القديمة وعرضها وتكرارها بعد أن انفصل الذات الدارس عن الموضوع المدروس، وتحول إلى مستشرق ينظر إلى موضوع مغاير له وليس مسئولًا عنه. تمايز بينه وبين تراثه ولم يتوحَّد معه. فتكلس التراث وتشيَّأ وتحجَّر، وأصبح قديمًا يدرسه المحدثون. ومع ذلك جاء الجزء الأول «تكوين النص» علميًّا للغاية، تاريخيًّا صِرفًا، لا يظهر فيه التجديد بوضوح، أقرب إلى القدماء منه إلى المحدثين، ثقيل في القراءة، ممل الاستيعاب. يُظهر صاحبه عالمًا لا مجددًا، مؤرخًا لا أصوليًّا، يعرض القدماء ولا يخاطب المحدثين. كان السبب هو الرغبة في تسوية الأرض أولًا قبل الزرع، وحفر التربة وتقليبها قبل البذر، فما جدوى بناء جديد على أرض لم تسوَّ؟ وقد قامت محاولات قبل ذلك لإعادة البناء دون تسوية من القدماء المتأخرين ومن المحدثين المعاصرين، فسرعان ما انهار البناء.٤
-
(ب)
كان مفهوم البنية وتعدد قواعدها هو المفهوم السائد الذي على أساسه تم تقسيم الأصول، غياب البنية أو حضورها، احتجابها أو ظهورها، أحادية أو ثنائية أو ثلاثية أو رباعية … إلخ. لم يستعمل لفظ البنية بمعنى المحدثين عند البنيويين.٥ كان له معنًى عام وشائع في اللغة المتداولة.٦ كان يعني فقط الأصول أو القواعد التي يُبنى عليها العلم. هي البنية الظاهرية وليست البنية الباطنية، بنية النص وليست بنية الفكر، بنية القول وليست بنية الرؤية، بنية التعبير وليست بنية المعنى، فتعددت البنيات بين الكثير والقليل، بين الدال على الفكر وغير الدال الذي يكتفي برصد الموضوعات في أبواب وفصول وأقسام وأجزاء. غابت أولًا ثم حضرت ثانيًا ثم غابت ثالثًا. منها ما كان تقليدًا واتباعًا مثل كثير من النصوص التي تتكاثر فيها الأقسام والأجزاء، ومنها ما كان اجتهادًا واتباعًا مثل البنية الرباعية في «الموافقات». منها ما كان لاشعوريًّا ودون قصد بل مجرد إحصاء لترتيب الأبواب، ومنها ما كان شعوريًّا عن قصد ولو عن طريق الصورة الفنية مثل «المستصفى»، عن صورة الثمرة والمستثمر، والمستثمر وطرق الاستثمار. تكاثرت فصول البنيان بعد أن تعدَّدت وأصبح من الصعب فَهم دلالاتها. كان المقصود هو بيان عدم وجود بنية واحدة ثابتة للعلم مما يسمح بإدخال البنية الثلاثية.وقد تم اختيار البنية الثلاثية التي قام عليها الجزء الثاني «بنية النص»، وليس الرباعية في «المستصفى». وهي البنية التي قامت عليها متون أصولية أخرى عديدة ابتداءً من «الرسالة» وانتهاءً إليها.٧ وهي بنية تكشف عن التطابق بين بنية النص (المصادر الشرعية الأربعة، ومباحث الألفاظ، والأحكام الشرعية) وبنية الوعي التاريخي والوعي النظري والوعي العملي.
-
(جـ)
كان الجزء الأول «تكوين النص» بمثابة التمهيد للجزء الثاني «بنية النص». كان هو «البولدوزر» الذي يسوي الأرض بدلًا من إقامة الجزء الثاني على نتوءات أو منخفضات لم يتم تسويتها من قبل وإلا انهار البناء الجديد. كان الهدف من الجزء الأول هو تحرير الوعي الأصولي من ثقل التاريخ حتى يستطيع أن يقبل النص الأصولي الجديد ويتفهمه بعقل حر دون خوف من القدماء المجتهدين أو قهر من المحدثين المقلدين.
ومع ذلك كان «البولدوزر» بطيء الحركة، ضعيف الصوت، هادئ المعول، لا يجرف الكثير. كان مجرد تحريك للتربة دون دكها. كان يعمل دون صخب ودوي ربما لعزوف صاحبه عن الفرقعات، الرصاص الفارغ «الفشنك»، وصخب الإعلام. لم يؤدِّ غرضه على نحوٍ مباشر. يحتاج إلى وقود ليدور محركه بدلًا من دفعه باليد. يحتاج إلى وقت حتى يدرك أهميته طلاب العلم في الجامعات الدينية والمدنية بعيدًا عن الاستقطاب الحالي بين سلفيين وعلمانيين، قدماء ومحدثين، محافظين ومجددين.
كان الركام الناشئ منها كثيرًا مبعثرًا. غطى على الحفر والأسس الفارغة التي في حاجة إلى صب جديد. كان أشبه بوقوع البناء بطريقة التفجير أو الزلزال حتى غطى الركام على الأساس المطلوب دون إعادة حفره وصبه من جديد، وظهرت على المشاهد علامات الحزن على المنزل المهدم أكثر من علامات الفرح لمشروع البناء الجديد الذي لم يرَه بعد في الجزء الثاني «بنية النص».
-
(د)
ثم أتى الجزء الثاني «بنية النص» واضحًا مرتبًا، ولكنه غرق في تحليل اللغة كما قام به القدماء. ولم يكتفِ بالاشتباه اللغوي الذي يبدأ منه التجديد. ربما كان القصد اللاشعوري هو إمكانية تحويل التحليلات اللغوية عند الأصوليين إلى علم اللغة العام ليخفف ثقل الأحكام الشرعية خاصة أحكام التكليف، وبوجه أخص الحلال والحرام بعد أن اختزل العلم فيها في أذهان العامة الذين يخشَون من السلوك التلقائي وأنصاف العلماء الذين يودون إبقاء العلم أداة للسيطرة على الناس والمؤسسات الدينية التابعة للنظم السياسية التي تستعمل الدين كأداة للضبط الاجتماعي.
تضخم الوعي التاريخي خاصة في مسائل الرواية. وكانت أقرب إلى هم القدماء في نقد السند من هم المحدثين في نقد المتن.٨ كما غرق في تحليل أنواع العلل بحيث تاهت دلالة التحليل وسط هذا الكم الهائل من التفصيلات. كان المبرر هو عدم ترك تحليلات القدماء دون إشارة حتى يعيش المحدثون معهم، ويشعروا بهم إيجابًا أم سلبًا. فيتضخم الحجم بلا داعٍ إلا استهلاك مادة القدماء، وإعادة عرضها. وما كان يتطلب التطوير والتفصيل هو الوعي العملي، المقاصد والأحكام، جاء على قدر ما ترك القدماء، ومقاصد الشريعة، وأحكام الوضع هي زُبدة العلم. خشي من التطوير الزائد حتى لا ينفصل العلم عمَّا تركه القدماء، لحظة «الموافقات» وحتى يتم التغير من خلال التواصل، ولا تكون المسافة شاسعة بين إبداع القدماء وتطوير المحدثين. ويمكن لجيل آخر أن يطور الوعي العملي ويقلِّص الوعي النظري. ويعيد التوازن إلى أبعاد العلم الثلاثة: الوعي التاريخي، والوعي النظري، والوعي العملي.٩ -
(هـ)
وبالرغم من أن العنوان يتضمن لفظين: «النص» و«الواقع» إلا أن العمل كله أتى أقرب إلى النص منه إلى الواقع. طغت النصوص، وتوارى الواقع مشرئبًّا برأسه من الانهيار، يطلب الخروج. قد يكون السبب في ذلك أيضًا إبقاء الطابَع المنطقي الخالص لعلم الأصول، وما يتميز به من إحكام نظري. وعلم الفقه هو العلم الذي يتم فيه التحول من فقه العبادات إلى فقه المعاملات، ومن فقه الحلال والحرام إلى فقه المجتمع. ربما كان السبب هو كثرة تحليل الواقع ووصف تحديات العصر في المؤلفات الثقافية مثل «هموم الفكر والوطن»، «حصار الزمن». وربما كانت هناك خشية من الخطابة والحديث العام عن مآسي العصر وأحزانه، وعلم أصول الفقه علم محكم ودقيق. والقراءة المتأنية قادرة على تلمس الواقع والإحساس أو الإمساك به من خلال خيوط قائدة قصيرة أو حبال طويلة. فمن الأفضل ظهور الواقع على نحو غير مباشر حتى يبقى العلم في الأصول وليس في الفروع. وكثيرًا ما تتحدث النصوص القديمة عن «زماننا» و«عصرنا» دون تفصيل أحوال الزمان وظروف العصر.
-
(و)
كانت مشكلة إعادة بناء العلوم القديمة كبر الحجم. «من العقيدة إلى الثورة» (خمسة مجلدات) ومن النقل إلى الإبداع (ثلاثة مجلدات كل منها ثلاثة أجزاء، وفي مجموعها تسعة). وجاء «من النص إلى الواقع» مجلدين. أصغر من حيث الكم. ومن في هذا العصر قادر على قراءة مجلد واحد؟ التحدي الآن هو إخراج «من الفناء إلى البقاء» في مجلد واحد، اللهم إلا إذا كبرت الأبواب الثلاثة الرئيسية: التصوف الأخلاقي، التصوف النفسي، التصوف الفلسفي. وتحول كل منها إلى فصول. واستحالَ ضمُّها في مجلد واحد. فأصبحت ثلاثة مجلدات. وبعد وضع المقدمة عن «الوعي الصوفي» لوصف تطور النص الصوفي كما هو الحال في الجزء الأول «تكوين النص» و«من النص إلى الواقع» تضخمت كما تضخم، وأصبح بابًا مستقلًّا، هو الباب الأول من الجزء الأول عن التصوف الخلقي. ثم تضخم هذا الباب الأول إلى ثلاثة فصول: الوعي التاريخي، الوعي الموضوعي، الوعي النظري. ثم تغيرت الفكرة الشائعة أن ابن عربي آخر الصوفية وما بعده شرَّاح له مثل النابلسي والشعراني، وهو ما قيل أيضًا عن ابن رشد أنه آخر الفلاسفة وما بعده شرَّاح، عندما اتضح قدر التصوف العملي بعد «الفتوحات» على مدى خمسة قرون فأصبح فصلًا رابعًا. ولما كثرت النصوص وتعددت وتضخَّم هذا الباب الأول بفصوله الأربعة ولم تنته بعد المقدمة، أضيف إليها فصل خامس عن التصوف وموضوعه داخل منظومة العلوم قبل أن تبدأ فصول التصوف الخلقي: الشريعة والأخلاق، والرذائل والفضائل، والتوحيد الخلقي. فانفصلت المقدمة وأصبحت هي الجزء الأول «تكوين النص» وهو عنوان الجزء الأول من المادة بناء علم أصول الفقه في «من النص إلى الواقع».١٠
(٢) الموضوع، المنهج، المادة العلمية، الأسلوب
والتصوف بالجمع «علوم التصوف» مثل علوم الحكمة في حين أن «علم أصول الدين» و«علم أصول الفقه» بالمفرد. وهو يدل على أن التصوف يجمع عدة علوم: علم الأخلاق، وعلم النفس، والفلسفة، وليس علمًا واحدًا. فالتصوف مجموعة من العلوم تعتمد على الفقه والحديث والتفسير والسيرة خاصة في التصوف العملي.
والثانية عرض التصوف نفسه كطريق أو طريقة أو فهم عملي مستقل عن التاريخ، طريق صاعد من أسفل إلى أعلى، من الإنسان إلى الله. يبدأ بالتوبة، وينتهي بالفناء. وبين البداية والنهاية المقامات والأحوال. المقامات سبعة أو تسعة طبقًا لعدد فردي يحصل عليها الصوفي بجهده وبقدرته على الرياضات والمجاهدات. والأحوال مزدوجة. حالتان سلبية وإيجابية في الانتقال من مقام إلى مقام، هبة أو إشارة أو علامة على اجتياز مرحلة في الطريق مثل علامات المرور. المقامات مثل التوبة، والفقر، والصبر، والتوكل، والرضا … إلخ. والأحوال مثل: الخوف والرجاء، الصحو والسكر، المحو والإثبات، الغيبة والحضور، الفقد والوجد، الفناء والبقاء … إلخ.
التصوف كطريق يبدأ من الخارج إلى الداخل ثم من الداخل إلى أعلى، من العالم إلى النفس، ثم من النفس إلى الله، من أفعال الجوارح إلى أفعال القلوب، ومن أفعال القلوب إلى الأفعال الإلهية.
وهنا يتداخل التصوف الخلقي مع التصوف النفسي. فالفضائل عند الصوفية مثل الصدق والورع والإخلاص لا تختلف في أهدافها عن المقامات الصوفية. وقد ميَّز الصوفية في مصطلحاتهم بين الاثنين. وهناك تماثل بين المراحل الأربع في التصوف كتاريخ والتصوف كطريق، التصوف الأفقي والتصوف الرأسي. المرحلة الأولى في الطريقتين هي المرحلة الأخلاقية عند رابعة في التاريخ وفي التوبة كطريق. والمرحلة الثانية هي المرحلة النفسية لدى الحلاج في التاريخ وفي الأحوال والمقامات كطريق. والمرحلة الثالثة في التاريخ تعادل المرحلة الثالثة كطريق مرحلة الفلسفة الإلهية عند السهروردي وابن الفارض وابن عربي وعبد الحق بن سبعين. الأفقي مثل الرأسي ومسار التاريخ مثل مسار الروح. والمرحلة الرابعة الحالية وهي المرحلة الطرقية تقابل علاقة الشيخ بالمريد. والمرحلة الخامسة القادمة، المرحلة الثورية، هي مرحلة تنوير الثقافة الشعبية وحركة الجماهير لتجاوز الاستكانة والهوان لدى جيل ما بعد التحرر من الاستعمار، وانهيار الدول الوطنية الحديثة.
و«من الفناء إلى البقاء» أيضًا دراسة في الطريق أي في البنية وليس في التاريخ. يعرض التاريخ من خلال البنية، ولا تعرض البنية من خلال التاريخ أسوةً بالمحاولات الثلاث السابقة، «من العقيدة إلى الثورة» و«من النقل إلى الإبداع» و«من النص إلى الواقع». ومع ذلك يخرج في جزأين. الأول التصوف كتاريخ وعلم. ويضم فصولًا ستة: تشكل الوعي التاريخي، والوعي التاريخي الخالص، والوعي التاريخي الموضوعي، والوعي الموضوعي، والوعي النظري، والوعي العملي، والتصوف كعلم يضم تعريفات التصوف وتصنيفه في تقسيم العلوم وعلوم الذوق، والعلم والعمل. ويضم المراحل السابقة، ويمزجها من التاريخ إلى الموضوع.
وتنقسم التجارب الإنسانية إلى نوعين: الأول تجارب إنسانية عامة، الإنسان من حيث هو إنسان، لا يتغير بتغير الزمان والمكان، الإنسان الوجودي الذي تصفه فلسفات الوجود. والثاني تجارب إنسانية خاصة مرتبطة بعصر دون عصر تتحكم فيها الظروف السياسية والاجتماعية في كل عصر، وتختلف باختلافها. هي التجارب التي تعبر عن أحوال الأمة ومسارها في التاريخ.
وهو منهج مزدوج يقوم على تحليل النص القرآني وعلى وصف مصالح الأمة حاليًّا. فالتجربة لها أساس نصي من أعلى، وهو ما تتعامل معه علوم التأويل. ولها أساس واقعي حياتي من أسفل، وهو موضوع العلوم الاجتماعية، الاجتماع والسياسة والاقتصاد. وهما الأساسان في إعادة بناء التصوف ونقله من المرحلة القديمة إلى المرحلة الجديدة، من عصر النشأة الأولى إلى عصر النشأة الثانية.
كما يعتمد الصوفية على تقديرهم لمصالح الأمة في عصرهم. فالعلوم ليست فقط أبنية نظرية بل تهدف إلى تحقيق مصالح عملية. فالكلام دفاع عن التوحيد ضد الثنوية والتثليث والتجسيم والتشبيه. والحكمة دفاع عن وحدة الثقافة، والتعبير عن الموروث بلغة الوافد ضد ازدواجية الثقافة بين متكلمين ومترجمين. وأصول الفقه وضع منهج لاستنباط الأحكام للوقائع الجديدة. وعلم التصوف دفاع عن سلامة القلب ونقاء الضمير، ونوع من المقاومة السلبية ضد تيار البذخ والترف والتكالب على الدنيا والسعي وراء السلطة والثروة. فإذا كان التصوف في نشأته تعبيرًا عن نوع من المقاومة السلبية لمظاهر السقوط والانحطاط في الأمة فإنه اليوم يُعاد بناؤه كمقاومة إيجابية بعد أن انتشرت أساليب المقاومة منذ حركات التحرر الوطني في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي حتى حركات المقاومة الآن في أوائل هذا القرن في فلسطين والعراق وأفغانستان والشيشان وكشمير.
ومن ثم، يقرأ النص الصوفي القديم بطريقتين: الأولى عرض النص القديم ثم التساؤل حوله من أجل إعادة النظر في الموقف، والتشكك في حكم القدماء. والثاني الاستدراك بعدة حروف مثل «ومع ذلك»، «إلا أن» أو «واو» العطف. دون استعمال «لكن» لأنها ليست جملة رئيسية.
في التصوف كتاريخ أي في الوعي الموضوعي الأعمال مرتبة ترتيبًا زمنيًّا لمعرفة تطور الوعي الصوفي. وفي التصوف كطريق مرتبة ترتيبًا موضوعيًّا طبقًا لبنيته لمعرفة ما هو الطريق، بدايته ونهايته، منطلقه وغايته. وقد يكون تعريف متقدم لموضوع ما في المرحلة الخلقية أو النفسية أو الميتافيزيقية أنفع في المرحلة الثورية. وقد يبدو تماهيًا باطنيًّا بين التاريخ والبنية لأن البنية تتكشف في التاريخ، والتاريخ يفرز البنية.
والمادة العلمية المحللة هي أقوال الصوفية المباشرة وليست الحكايات المروية عنهم، كما هو الحال في علم الحديث أقوال الرسول، وليس الأفعال المروية عنه، ومثل أقوال المتكلمين والفلاسفة. فالمهم النص وليس صاحبه. فما يترسب في الذهن وما يبقى في الموروث الشعبي هو المثل العامي وإن لم يُعرف مؤلفه. ولا يهم نسبة القول إلى صاحبه إلا في الهوامش إذا دعت الضرورة وكان مشهورًا، وإلا تحولت الدراسة إلى استشراق، والتحقق من العمل لمعرفة الصحيح من المنتحل. هناك صوفية لم يتركوا مؤلفات وراءهم بل جُمعت أقوالهم ورويت عنهم أو عن رواتهم مثل رابعة العدوية والبسطامي وذي النون المصري والشبلي ومعظم صوفية القرنين الثاني والثالث الهجري الذين يذكرهم مؤرخو التصوف كالسلمي في «الطبقات» والقشيري في «الرسالة»؛ فقد انشغلوا بالتصوف العملي وهي مرحلة التصوف الخلقي قبل أن يتحول إلى تصوف نظري في القرنين السادس والسابع، مرحلة التصوف الفلسفي.
والمادة العلمية كما هو الحال في باقي العلوم الإسلامية متوافرة وغزيرة. والموجود منها يغني عن المفقود. والمطبوع من كتب التصوف يكفي لإصدار أحكام عليه، والدخول في حوار معه لإعادة بنائه. والمتاح منه أكثر مما نفد. والمطبوع منه أكثر من المخطوط. والتكرار فيه يغني عما لم يمكن الاطلاع عليه. والتعبير الكمي غير الدال لا يغني عن التحليل الكيفي الدال. ونقل الصوفية عن بعضهم البعض يغني عن المفقود.
وقد استعمل الصوفية أنفسهم النثر والشعر للتعبير عن مواجيدهم. كما استعملوا كل فنون الكلام من تصريح وكناية وإشارة ورمز وإيماء وإيحاء، خاصة في التصوف النفسي. وكبار الصوفية هم كبار الشعراء، وكبار الشعراء هم كبار الصوفية مثل ابن الفارض.
وهذا لا يعني أي تنازل عن الأسلوب العلمي الدقيق، بل هو السهل الممتنع الذي يجمع بين الدقة والتوجيه، بين التحليل النظري والتوجه العملي. يخاطب الخاصة والعامة في آنٍ واحد. هو نوع من الدراسات الوطنية التي تجمع في نفس الوقت بين هموم العلم والوطن، وهو ما اتبع من قبل في أجزاء مشروع «التراث والتجديد» الثلاثة السابقة.
(٣) السمات العامة للتصوف
(أ) التصوف علم عملي مثل علم أصول الفقه: غايته تحويل الناس من النظر إلى العمل عن طريق الرياضة والمجاهدة. ليس علمًا تأمليًّا أو منطقيًّا بل هو علم يهدف إلى تغيير سلوك الناس. فالعلوم العقلية النقلية نوعان: علوم نظرية كأصول الدين وعلوم الحكمة، بالرغم من وجود الحكمة العملية، ولكنها حكمة عملية نظرية، وعلوم عملية وهي علم أصول الفقه وعلوم التصوف. وهو يعبر عن الموقف القرآني والكوجيتو العملي وَقُلِ اعْمَلُوا، وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ.
(ب) وهو علم منهجي مثل علم أصول الفقه: يتحول فيه المنهج إلى منهج حياة، وليس منهجًا عقليًّا للاستدلال. وهو منهج صاعد يقوم على التأويل من «أول» أي رجع إلى المصدر الأول، وليس منهجًا نازلًا يقوم على التنزيل كما هو الحال في علم أصول الفقه، استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها اليقينية. لهذا السبب نشأ صراع بين الفقهاء أنصار التنزيل والصوفية أنصار التأويل. في التصوف الحقيقة في السماء، وفي أصول الفقه الحقيقة في الأرض. والطريق إلى الله طريق أفقي صاعد، من الأخلاق إلى النفس إلى الميتافيزيقا، من علم الجوارح إلى علم القلوب إلى علم العقول، من وحدة الذات إلى وحدة الشهود إلى وحدة الوجود.
(ﺟ) وهو علم ذوقي: يعتمد على التجربة والمشاهدة العيانية وليس علمًا نظريًّا استدلاليًّا كما هو الحال في علوم الحكمة أو علمًا استنباطيًّا استقرائيًّا كما هو الحال في علم أصول الفقه. الصوفية أهل ذوق في مقابل المتكلمين والحكماء والأصوليين أهل النظر. ويتجلى الذوق في الحدس المباشر، في الكشف والمكاشفة، في العلم اللدُنِّي الذي يقذفه الله تعالى في القلب بلا تعب ولا نصب. في حين أن باقي العلوم الإسلامية علوم برهان واستدلال، مقدمات ونتائج. الذوق يقين والنظر شك. هو علم يقيني في مقابل العلوم الإسلامية الظنية حتى ولو كانت علومًا برهانية. الجدل هو علم اليقين. والحكمة عين اليقين. أما التصوف فهو حق اليقين. هو العلم الذي فتح آفاق الشعور والوجدان وتحليل الخبرات الحية وعالم الباطن، الذوق، والقلب، والروح، والخاطر. فالعالم شعوري، والعلم شعوري. الموضوع والمنهج شعوريان. لذلك ارتبط بالأدب خاصة التجربة الشعرية.
(د) وهو علم باطني يذهب إلى ما وراء الظاهر: الظاهر مجرد علامات أو إشارات على معانٍ باطنية. لذلك ارتبط التصوف بالنزعات الباطنية، كما فعل الغزالي في «المستظهري» أو «فضائح الباطنية»؛ لذلك نقده الفقهاء وأهل الظاهر. دوَّن بعض الصوفية تفاسير صوفية مثل الحلاج والتستري والقشيري وابن عربي وغيرهم. وبجانب التفاسير اللغوية والفقهية والفلسفية والكلامية والتاريخية هناك التفسير الصوفي. فالحقيقة لها ظاهر وباطن. المتكلمون والأصوليون والفقهاء يتعاملون مع الظاهر. والصوفية وحدهم يعكفون على الباطن. وقد أُنزل القرآن بنص حديث الرسول على سبعة أحرف. وقد حول الصوفية منطق الاشتباه عند الأصوليين: الحقيقة والمجاز، الظاهر والمؤول، المحكم والمتشابه، المجمل والمبين، المطلق والمقيد، العام والخاص، للآيات المتشابهة إلى منطق محكم للغة على الإطلاق، ثم التحول من اللغة إلى الوجود، من الاشتباه اللغوي إلى الاشتباه الوجودي.
(ﻫ) وهو علم حركي لا ثبات له: النفس متحركة، والعالم متحرك، والله كل يوم هو في شأن. ينتقل الصوفي من مقام إلى مقام، ومن حال إلى حال، ومن وحدة الذات إلى وحدة الشهود إلى وحدة الوجود، ومن حرف إلى حرف، من الحرف الأول إلى الحرف السابع. ينتقل من التنزيل إلى التأويل، ومن التأويل إلى التنزيل، من الخارج إلى الداخل، ومن الداخل إلى الخارج، من الأنا إلى الآخر، ومن الآخر إلى الأنا، من الله إلى العالم في الحلول، ومن العالم إلى الله في الاتحاد. والتوحيد حركة من وحدة الذات إلى وحدة الشهود إلى وحدة الوجود، رد فعل على التصور الثابت لله في نظرية الذات والصفات والأفعال والأسماء عند المتكلمين. والمقامات والأحوال في ارتقاء مستمر، من التوبة إلى الفناء.
(و) ويبدع التصوف عالمًا من صنع الخيال الخلَّاق بديلًا عن عالم الواقع الذي تم نفيه واستبعاده والتراجع عنه بعد أن أصبح عصيًّا على الطاعة، لا يمكن تغييره: عالم الخيال ميسور خلقه، يسهل اتباعه. وهو ليس من صنع الوهم بل هو حقيقة بديلة تصنعها الروح، وينسجها الخيال. هو عالم الأقطاب والأبدال، عالم الأرواح المتآلفة، عالم الملأ الأعلى. فالحقائق ليست في عالم الأعيان بل في عالم الأذهان بتعبير الفلاسفة. والحقائق العلوية من وضع الخيال. لذلك امتزجت التجربة الصوفية بالتجربة الأدبية الإبداعية لفنون القول خاصة الشعر ثم النثر ثم القصة. وقد يكون عالم الخيال أكثر واقعية من عالم الواقع. وقد يكون أكثر تأثيرًا من علم الأخلاق.
(٤) نشأة التصوف
(ب) لم ينشأ التصوف نشأة داخلية من الكتاب والسنة باجتزاء بعض الآيات والأحاديث دون غيرها. وإلا أصبح الكتاب والسنة يمثلان نزعة دنيوية بآيات وأحاديث أخرى مجتزأة من سياقها. وفي كلتا الحالتين يرد الجزء إلى الكل. والتصوف رد فعل على الكلام والفلسفة وأصول الفقه والفقه وليس نابعًا منها. والطرق الصوفية ظاهرة اجتماعية في مجتمعات الفقر والوفرة على حد سواء، تعويضًا عن الفقر وإشباعًا للروح. وفي القرآن مجاهدة النفس وجهاد العدو على حد سواء، ومقامات مثل الصبر ورفض الصبر فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ على حد سواء، والتوكل والاعتماد على النفس، والرضا والغضب، وأحوال مثل الخوف والحزن ورفضها لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ. والرضا بالتخلف والقعود مذموم رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ. وحياة الرسول بها تأمل وحرب، تهجد ويقظة، روح وجنس، عزلة وصحبة، عبادة ومعاملة، قوة وضعف، كمال إلهي ونقص بشري، حلم وغضب، تسامح وانتقام، رحمة وعدل، شفقة وعداوة، معاشرة واعتكاف، تواضع واعتزاز بالنفس، حياء وصراحة، فلا حياء في الدين، عطاء وتقتير على النفس، ولاية ومسكنة «اللهم أحيني مسكينًا، وأمتني مسكينًا، واحشرني في زمرة المساكين»، دعاء وفعل.
والصحابة مثله عاشوا حياة الإسلام في كليتها دون إيثار جانب على جانب. وكان الاقتداء في كل شيء في الزواج والحرب، وليس فقط في الحياة الروحية. والحياة الخلقية القائمة على التقوى واليقين والتواضع والمحبة والطهارة والزهد هي حياة خلقية وليست صوفية بالضرورة. ورؤية عمر عن بعد سارية في الشام معروف في علم النفس في تحليل قوى الإدراك، والتمكن قوة ذاتية وليس تدخل إرادة خارجية. ويتفاضل الصحابة في ميزان التعادل بين الحياة الروحية والحياة العملية، والصحابة في عصر ونحن في عصر آخر. والتاريخ يتغير. والتقليد ليس مصدرًا من مصادر العلم.
(ﺟ) لم ينشأ التصوف نشأة شيعية. فلا فرق بين التصوف السني والتصوف الشيعي. والتميز بينهما ينم عن بقايا طائفية وغربية أو استشراق من آثار التاريخ. كما أنه يهدف إلى رفض التصوف الشيعي الذي تغلب عليه نظريات الاتحاد والحلول دفاعًا عن التصوف السني عند الغزالي من أجل تحرير التصوف خاصة الغزالي للإبقاء على سلطته إبقاء على الوضع القائم، أيديولوجية السلطة للحاكم في «الاقتصاد في الاعتقاد»، وأيديولوجية الطاعة للمحكوم في «إحياء علوم الدين»، وتكفير فرق المعارضة في «المستظهري» أو «فضائح الباطنية»، وأخذ الحكم بالشوكة دون البيعة تبريرًا للانقلاب العسكري. ومن الطبيعي أن تكون هناك علاقة بين التصوف والتشيع. فقد نشأ كلاهما كحركة معارضة للحاكم الظالم. التصوف باسم أهل السنة، والتشيع باسم الإمام الغائب، الأول حركة علنية سنية، والثاني حركة سرية باطنية. وكلاهما حركة صامتة. الأولى في العاجل، والثانية في الآجل. الأولى في الحاضر، والثانية في المستقبل، الأولى في النفس، وهو الجهاد الأكبر، والثانية في الواقع والسياسة والدولة.
(د) إنما نشأ التصوف كتوجه نحو الآخرة كرد فعل على التكالب على الدنيا، والتقاتل على السلطة، وإراقة الدماء في الصراع السياسي على الخلافة في عصر الفتنة الكبرى. اغتصب الأمويون السلطة. وبايع الناس خوفًا وطمعًا. واستشهد الأئمة من آل البيت وفي مقدمتهم الحسين. واستحالت المقاومة. فآثر فريق العزلة والانشغال بالتجارة الحلال لأنه إذا اقتتل المسلمان فالقاتل والمقتول في النار. القاتل لأنه قاتل، والمقتول لأنه كان حريصًا على قتل صاحبه، والأعمال بالنيات. وآثر فريق ثالث اعتزال الدنيا برمتها، السياسة والتجارة، السلطة والثروة، والانشغال بإصلاح النفس بعد أن استعصى عليهم تغيير العالم. وحاولوا تطهير النفس من الرغبات والأهواء والدوافع والميول، والشهوات وحب الدنيا. وخلقوا بالخيال عالمًا بديلًا من الأقطاب والأبدال يعيشون فيه، مدينة روحية سماوية بدلًا من المدينة المادية الأرضية، مدينة يعيش فيها أهلها في محبة وألفة وسلام، وليست مدن الخلافة والإمارة التي يتقاتل عليها طلاب الدنيا وحب الجاه والمال والثروة. فالتصوف نشأ من الداخل وليس من الخارج. وهذا الداخل ليس الكتاب والسنة أي النص بل من الواقع الاجتماعي السياسي ورد الفعل عليه.
(ﻫ) كما نشأ التصوف كمنهج ذوقي وكرد فعل على العلوم العقلية التي جعلت العقل أساس النقل كالمعتزلة والفلاسفة. صحيح أن الوحي والعقل شيء واحد ولكن بإضافة الحدس والواقع؛ فالتصوف يعتمد على الكشف والحدس والرؤية المباشرة. ولا يكتفي بعلم اليقين عند المتكلمين، ولا بعين اليقين عند الفلاسفة، بل يذهب إلى حق اليقين. وفي كل حضارة الرومانسية رد فعل طبيعي على «الكلاسيكية»، أو الوجدانية والعاطفية رد طبيعي على العقلانية أو الصورية.
(ز) نشأ التصوف أيضًا كرد فعل على ثنائيات المتكلمين والفلاسفة وتقسيمات الأصوليين وتفريعاتهم. فقد وقع المتكلمون والفلاسفة باسم الدفاع عن التوحيد في ثنائية حادة: الخالق والمخلوق، الواحد والكثير، العلة والمعلول، الجوهر والعرض، القديم والحديث، الواجب والممكن التي تفصل بين الله والعالم. فحدث رد فعل عند الصوفية لرد الاعتبار للتوحيد في الحلول أو الاتحاد، وحدة الشهود أو وحدة الوجود بين الله والعالم، وبين الله والإنسان. الثنائية الأولى ظاهر، والتوحيد الثاني باطن.