المعيار التقليدي: المنهج الاستقرائي
(١) الاستقراء معيار تمييز العلم
(١) تطبيق المنهج الاستقرائي في العلوم التجريبية، ومراعاة قواعده مراعاة دقيقة، يعتمد بوصفه الفيصل الحاسم بين العلم واللاعلم، ويعتبر ذلك من المسلَّمات التي تعلو فوق النقاش.
-
تعريف العلم على أساس منهجه، أمر يطابق العادات المألوفة في كل حالة لا يكون فيها خلاف؛ لهذا السبب فسأستعمل كلمة علم للدلالة على مجمل المعرفة التي يصار إلى جميعها بواسطة المنهج العلمي.١
-
ومنهج تأسيس العبارات العامة على الملاحظات المتراكمة لحالة معينة يُعْرَف بالاستقراء، ويُنْظَر إليه على أنه سمة العلم، بعبارة أخرى فإن استخدام المنهج الاستقرائي، يعتبر معيار التمييز بين العلم واللاعلم، وبذلك تتعارض العبارات العلمية القائمة على أدلة ملحوظة تجريبيًّا — أي القائمة باختصار على حقائق — مع أية عبارات من نوع آخر، سواء قامت على النفوذ أو العاطفة أو التقاليد أو التأمل أو الانحياز أو العادة، أو أي أساس آخر.٢
-
تُطْلَق العلوم الطبيعية على كل دراسة تتناول الظواهر الجزئية بمناهج الملاحظة والتجربة والاستقراء.٣
-
الالتزام بالمنهج العلمي في أية دراسة؛ أي اتباع الموضوعية، والاستناد إلى الملاحظة الدقيقة، والاعتماد على الاستقراء السليم، وإجراء التجربة المنضبطة؛ يجعل الدراسة بحقٍّ علمًا.٤
-
مجتمعات كثيرة من البشر تجهل أو ترفض قاعدة العلم — أي الاستقراء — ومن بين هؤلاء: أعضاء المجتمعات المناهضة للتطعيم، والمعتقدون في التنجيم، وأية مناقشة مع هؤلاء بغير جدوى، لا يمكن قسرهم على قبول نفس المعيار، الاستقراء السليم، الذي نؤمن بأنه شريعة القوانين العلمية.٥
(٢) اختصارًا للقول، فإننا لا بد وأن نلقي قولًا يحمل مثل هذا المعنى، تقريبًا في كل كتاب يتعرض لهذه المواضيع؛ إذ وجد العلماء فيه ضالتهم المنشودة، التي تحقق بغيتهم في تأكيد المعارف العلمية تأكيدًا يميزها عن غيرها، إلا أنه رغم كل شيء لم يكن تأكيدًا ممهدًا، بل ملغمًا بلغم خطير فجره هيوم فيما يعرف بمشكلة الاستقراء.
وكيف يعود الفضل كل الفضل في تقدم العلوم الطبيعية إلى هذا المنهج الاستقرائي، وكيف شكَّل مفتاحًا ذهبيًّا لفض مغاليق أسرار هذا الوجود، ولحل مشاكل البشر العلمية والعملية وكيف ميز العلم الطبيعي تمييزًا، وحدده بسياج ذهبية جعلته يتقدم المسيرة المعرفية، وكيف أنه رغم كل ذلك مقلقل مضطرب مزعزع، بفعل شكاك أسكتلندا المثير للمتاعب، ويفيد هيوم … حول هذا تكاد تنحصر الأحاديث التقليدية التي لا بد وأن نسمعها تتردد في كافة أحاديث فلسفة العلوم ومناهج البحث التقليدية.
لكن ماذا عسى أن يكون هذا المنهج، وماذا عسى أن تكون مشكلته.
(٢) التعريف بالمنهج الاستقرائي
فاصطلاح «المنهج» في أشد معانيه عمومية، هو وسيلة تحقيق الهدف، وهو الطريق المحدد لتنظيم النشاط، أما معناه الفلسفي على وجه الخصوص فهو وسيلة المعرفة، فالمنهج هو طريق الخروج بالنتائج الفعلية من الموضوع المطروح للدراسة، هو الطريقة التي يتبعها العقل في دراسة موضوع ما، للتوصل إلى قانون عام أو مذهب جامع، أو هو فن ترتيب الأفكار ترتيبًا دقيقًا بحيث يؤدي إلى الكشف عن حقيقة مجهولة أو البرهنة على صحة حقيقة معلومة.
- (أ)
هو مجموعة القواعد التي توضع لتنظيم عملية اكتساب المعرفة بالعالم بصفة عامة (الفلسفة القديمة).
- (ب)
هو مجموعة القواعد التي توضع كتنظيم لعملية اكتساب المعرفة الطبيعية، التي تُعْرَف بوصفها معرفة علمية (بدايات الفلسفة الحديثة).
- (جـ) هو المبادئ التي نجردها من الممارسات العملية للأفراد الذين عملوا بنجاح في عملية اكتساب المعرفة العلمية (المائة سنة الأخيرة) وهذا التجريد ليس مجرد وصف لسلوك العلماء، بل إنه يتضمن تقييمًا للمغزى Significance الذي يدل عليه هذا السلوك، كما عبر عنه بوبر قائلًا هو تقييم للعبة العلوم التجريبية،١٠ هذا هو أقصى تطور وصل إليه مفهوم المنهج.
- المنهج الاستنباطي: تسير فيه من فروض أولية إلى نتائج تلزم عنها بالضرورة، متبعين في ذلك قواعد المنطق، دون التجاء إلى التجربة، هذا هو منهج العلوم الصورية، أي الرياضة والمنطق على وجه الخصوص، ويفيد أيضًا في علوم الشريعة والقانون، وبعض المباحث اللغوية.
- المنهج الاستقرائي: أي المنهج الذي نبدأ فيه بجزئيات تجريبية غير يقينية غير ضرورية، لكي نصل إلى قضايا عامة كلية، هذا هو منهج العلوم الطبيعية، وما تحاوله العلوم الإنسانية من احتذاء حذوها، وطالما نتحدث الآن حديثًا تقليديًّا فلا بد وأن نطابق بين منهج العلوم التجريبية وبين الاستقراء.
- (أ) قانون السببية Law of Causality: وهو الاعتقاد بأن لكل ظاهرة علة سببتها، ولكل علة معلول ينشأ عنها، فحوادث هذا الكون تسير في عملية تسلسل على كل ظاهرة علة للظاهرة التي تليها، ومعلول للظاهرة التي سبقتها.
- (ب) قانون اطراد الطبيعة Law of Uniformity of Nature: وهو الاعتقاد بأن ظواهر الطبيعة تجري بشكل مطرد على وتيرة واحدة لا تتغير، ما حدث اليوم سوف يحدث في الغد وإلى الأبد، فكل شيء حدث وسوف يحدث هو مثال لقانون عام١٣ لا يعرف الاستثناء، طالما أنه محكوم بعلاقة عليه ضرورية.
ووظيفة العلم التقليدي، هي الكشف عن هذه العلاقات السببية التي تحدد قوانين اطراد الكون، وذلك الكشف بالطبع عن طريق المنهج الاستقرائي، وجدير بالذكر أن هذين القانونين ليس لهما ما يبررهما.
(٣) تناول تاريخي للاستقراء
ولنفس هذا السبب اعتبره فقهاء الإسلام، ومنهم الغزالي نفسه، معيار العلم ومحك النظر والقسطاس المستقيم، وفيصل التفرقة بين الخطأ والصواب وآلة العلوم وعلم قوانين الفكر الثابتة؛ فالأصوليون قد انتفعوا به كثيرًا في استنباط الأحكام الشرعية، هكذا كان المنطق الأرسطي هو منهج البحث الوحيد طوال عشرين قرنًا.
وغني عن الذكر ما يتسم به هذا المنطق وقياسه، من دوران منطقي ومصادرة على المطلوب وتحصيل لحاصل … إلى آخر ما قيل في نقده، غير أن الذي عابه على وجه الخصوص هو مجافاته للواقع، فهو لا يُعْنَى إلا باتساق النتائج مع المقدمات، فحتى وإن كانت نتائجه صادقة على الواقع، فهي ولا بد وأن تكون متضمنة قبلًا في مقدماته، أي إننا نعرفها سلفًا، أما إذا أردنا أن نكتسب أدنى إخبار عن الواقع أو فهمًا أكثر للطبيعة المتأججة من حولنا، فإن هذا شبه مستحيل باتخاذ هذا المنطق وقياسه منهجًا، فإن انتهجناه سنين عدة — كما حدث طوال العصور الوسطى — ألفينا أنفسنا نلف وندور في دائرة مفرغة، فينتهي بنا المطاف إلى حيث بدأنا ولا جديد البتة، ومن أين الجديد والعملية كلها انتقال من معلوم كلي إلى معلوم جزئي، ولا مساس إطلاقًا بآفاق المجهول الرحيبة.
- (أ) الاستقراء التام Complete Induction: وهو عملية إحصاء تام Complete enumeration ليجمع الأمثلة الجزئية التي تنطوي تحت الحكم الكلي، وهذا ما يسميه بعض المناطقة بالاستقراء التلخيصي Summary Induction،١٦ ومن الواضح أنه مجرد عملية عد ساذجة.
- (ب) الاستقراء الحدسي Intuitive Induction: وهو الانتقال الحدسي من مثالي جزئي واحد أو عدد بسيط من الأمثلة إلى حكم كلي عام، وواضح أن هذا هو القريب من المعنى المعاصر للاستقراء العلمي.
- (جـ)
الاستقراء الجدلي: وهو لا يبدأ من عدد كلي أو عدد بسيط من الأمثلة، لكنه يبدأ من مقدمات مشهورة أو ظنية أو شائعة؛ لهذا فهو قياس نتائجه ليست يقينية بل موضعًا للشك والاحتمال والجدل.
وواضح أن النوعين الأولين يحملان الفحوى الحديثة للاستقراء، أي الوصول إلى الحكم الكلي أو القانون العام عن طريق الاستقراء الحسي لجزئياته، ويُلَقَّب هذا الاستقراء الأرسطي عادةً بالاستقراء القديم.
غير أن الظروف الفكرية الإغريقية لم تكن تسمح لأرسطو أن يمارس هذا الاستقراء جديًّا، أو أن يتوقف لينتظر نتائج التجربة، فعاقه هذا كثيرًا كثيرًا عن أن يكون مؤسسًا للمنهج، أو حتى داعية له، وعاق أكثر البشرية بأسرها معه.
(٣) وبخلاف أرسطو فإنا نَلْقى نفرًا من مفكري العرب — لا سيما الكيمائي جابر بن حيان (المتوفى عام ٨١٣م)، وعالم البصريات الحسن بن الهيثم (المتوفى عام ١٠٣٩م) — بشروا بهذا المنهج بل ومارسوه.
(ب) منهج بيكون
وبعد أن ينبهنا إلى الأخطاء — كيما نتجنبها — يوضح المنهج الذي ينبغي اتباعه في البحث عن المعرفة، وعلى هذا يقسم عادة منهج بيكون إلى قسمين؛ قسم سلبي وقسم إيجابي.
القسم السلبي
- (١) أوهام الجنس أو القبيلة Idols of Tribe: وهي التي يقع فيها الجنس البشري عامة، أو القبيلة بأسرها؛ أي إنها أخطاء مفطورة في الإنسان بصفة عامة وليست خاصة بفئة معينة، ومن أمثلتها:
- (أ) التعميمات السريعة وسرعة التوصل إلى الأحكام العامة، دون أن نتأكد من الأساس الذي أقمنا عليه هذه التعميمات،١٩ وهذا من شأنه أن يقودنا إلى تعميمات خاطئة، إذن لا ينبغي أن نتسرَّع في عملية التعميم.
- (ب)
سيطرة فكرة معينة على الذهن سيطرة تجافي النزاهة، فنختار من الأمثلة والوقائع ما يؤيدها ونغض البصر عما ينفيها، وهذا من شأنه أن يثبت الأفكار الخاطئة، ينبغي إذن توخي النزاهة.
- (جـ)
افتراض الانتظام والاطراد في الطبيعة أكثر مما هو متحقق فيها حتى إذا صادَفَنَا مثال شارد حاولنا إدخاله بأية طريقة في أي قانون إدخالًا قد يكون خاطئًا، لا ينبغي إذن أن نفترض أكثر مما هو متحقق.
- (د)
ما يميل إليه عقل الإنسان من تجريد، وإضفاء معنى الجوهر والحقيقة الواقعية على الأشياء الزائلة، وهذا يقود إلى عدم التمييز بين طبائع الأشياء ومظاهرها.
- (أ)
- (٢) أوهام الكهف Idols of the Cave: المقصود بالكهف … البيئة التي نشأ فيها الفرد، فيكون لعوامل مكوناتها وثقافتها تأثير كبير عليه يجعله يقصر جهوده المعرفية على إثبات الأفكار التي تلقاها في كهفه أو بيئته فيَحُول هذا بينه وبين اقتفاء جادة الصواب، هذه إذن نوعية من الأوهام خاصة بالفرد المعين الذي نشأ في بيئة معينة، بخلاف أوهام الجنس العامة.
- (٣) أوهام المسرح Idols of the Theatre: كتلك التي يقع فيها المتفرجون على مسرح، حين يأسرهم الإعجاب بالممثلين، يأسر الإنسان الإعجاب بممثلي الفكر السابقين، إعجابًا ينزل أفكارهم منزلة التقديس نوع من الدوجماطيقية المرضية والتعصب الذي يعمي الإنسان ويصرفه عن اكتشاف الجديد من الواقع، ولما جناه الفكر الأرسطي من سيطرة على البشرية طوال العصور الوسطى، سيطرة جعلتها عصورًا مظلمة، خير مثال على هذا النوع من الأوهام، أوهام المسرح.
- (٤) أوهام السوق Idols of the Market: يرتفع في الأسواق ضجيج يحجب الإنسان عن الإدراك الواضح لما يسمعه، أي للغة، فأوهام السوق إذن هي الأوهام التي يقع فيها الإنسان نتيجة لسوء استخدام اللغة، فيأخذ اللغة وكأنها غاية، بدلًا من أن يعتبرها — كما هي في الواقع — مجرد وسيلة في التعبير Expression Communication والتوصيل.وقد قَسَّم بيكون هذا النوع من الأخطاء إلى قسمين:
- (أ)
أسماء لأشياء لا وجود لها، ثم نتصور نحن وجود هذه الأشياء الزائفة.
- (ب)
أشياء تركنا بلا أسماء نتيجة لنقص في الملاحظة.
- (جـ)
ويحذرنا بيكون من محاولة تلافي هذه الأخطاء عن طريق التعريفات اللفظية، فذلك من شأنه أن يجعلنا ندور في متاهات لغوية، بل نصلح الأخطاء عن طريق الرجوع دائمًا إلى الواقع والتعويل عليه.
ولأننا قد عرفنا ما هي الأخطاء التي تعيقنا عن التقدم المعرفي؛ وجب علينا إذن تجنبها ونحن نبحث عن الحقيقة باستخدام المنهج السليم، الذي يستقرئ الحقائق بالاعتماد على التجربة الحسية، ووضع بيكون لقواعد هذا المنهج هو ما يُعْرَف بالجانب الإيجابي في منهجه.
- (أ)
القسم الإيجابي
والسبيل الوحيد إلى معرفة هذه الصور هو تطبيق المنهج الاستقرائي، بأن نُجْرِي سلسلة من التجارب على الظواهر في المواد والجزئيات التي تتبدَّى فيها الطبيعة البسيطة، ثم نقوم بتسجيل نتائج هذه التجارب تسجيلًا تصنيفيًّا في قوائم ثلاث تنظم لنا المعلومات تنظيمًا يتيح لنا معرفة صور هذه الطبيعة البسيطة.
أولًا: مرحلة التجريب
- (١)
تنويع التجربة: فإما أن تنوع مواد التجريب، فإن عرفنا مثلًا أثر عامل معين على مركب كيميائي معين، نحاول أن ننوع المادة؛ لنرى إن كان لهذا العامل نفس الأثر على مركب كيميائي آخر، وإما أن ننوع مصادر الدراسة، فإذا عرفنا مثلًا أن المرايا المحرقة تستطيع أن تركز أشعة الشمس نحاول أن نعرف هل من الممكن أن تركز أيضًا أشعة القمر.
- (٢) تكرار التجربة: مثل تقطير الكحول الناتج عن تقطير أول.٢١
- (٣)
إطالة التجربة: أي مدها، فنحاول أن نجعل المؤثر يؤثر لأطول فترة زمانية ممكنة لنعرف هل طول التأثير من شأنه أن يخلق ظواهر جديدة.
- (٤)
نقل التجربة: أي إجراؤها في فرع آخر من فروع العلم، لعل هذا يكشف عن خواص أخرى في مجال جديد.
- (٥)
قلب التجربة: أي جعلها في وضع مقلوب؛ فمثلًا لدراسة أثر التسخين على قضيب نجعل مصدر الحرارة من أعلى ثم نجعله من أسفل، فنجد مثلًا أن الحرارة تنتقل من أعلى إلى أسفل، أكثر مما تنتقل من أسفل إلى أعلى.
- (٦)
إلغاء التجربة: أي طرد أو استبعاد الكيفية المراد دراستها لمعرفة أثر غيابها.
- (٧)
تطبيق التجربة: أي استخدامها في اكتشاف ما ينفع، وهذا قريب من مفهوم التكنولوجيا.
- (٨) جمع التجارب: أي الزيادة في فاعلية مادة ما؛ فالجمع بينها وبين فاعلية مادة أخرى، مثل خفض درجة التجميد بالجمع بين الثلج والنطرون.٢٢
- (٩)
صدف التجربة: أي جعلها مجرد مصادفة، فهنا لا نُجْرِي التجربة للتأكيد من حقيقة، بل فقط لأنها لم تجر من قبل، ولا يُعْرَف ماذا عسى أن ينشأ من إجرائها.
ثانيًا: مرحلة التسجيل
- (١) قائمة الحضور والإثبات: ويسميها أحيانًا بالقائمة الجوهر، فهنا الباحث يضع جميع الحالات التي لاحظ عن طريق التجربة أن الظاهرة أو الطبيعة البسيطة، موضوع الدراسة تتبدَّى فيها.
- (٢) قائمة الغياب أو النفي: يسجل فيها الحالات التي تغيب فيها الظاهرة أو الطبيعة البسيطة، ومن الواضح أن محاولة حصر جميع حالات غياب ظاهرة ما أمر شبه مستحيل، فضلًا عن أنه نوع من العبث الذي لا يُجْدِي، إنما المقصود «أن نأتي في مقابل كل حالة من حالات الحضور بالحالة التي لا تحدث فيها الظاهرة بالنسبة إلى هذه الحالة عينها، سواء أكانت حالة غياب واحدة أو أكثر من واحدة.»٢٤ فمثلًا: إذا كان موضوع الدراسة هو أثر ضوء الشمس على نمو النبات، نحاول أن نعرف ماذا يحدث لهذا النبات إذا غاب عنه ضوء الشمس، لا أن نعرف جميع الأحوال التي يغيب فيها ضوء الشمس.
- (٣) قائمة التفاوت في الدرجة: حيث يسجل الباحث الدرجات المتفاوتة لحدوث الظاهرة أو الطبيعة البسيطة موضع الدراسة، وهنا تنويه لأهمية التكميم في العلم، لكن بصورة ضعيفة.
ومن المعروف أن بيكون قد طَبَّق المنهج السالف على الطبيعة البسيطة؛ الحرارة، محاولًا استكشاف صورتها، فانتهى إلى أن صورتها هي الحركة.
(ﺟ) تقييم
هذه خلاصة المنهج الاستقرائي، كما وضعه إمامه الرسمي فرنسيس بيكون أعظم رواد الحضارة المعاصرة، والذي يُوضَع في مقدمة المسئولين عن نهضة العلم.
فقد كان بيكون نازعًا بصدق نحو الاتجاه العلمي، يرغب في التخلص من كلمة مصادفة تمامًا، ويحلم بمجتمع للعلماء، ينظمهم فيه التخصص، ويجمعهم التعاون والاختلاط الدائم، على أساس نهج العلم السليم؛ الاستقراء.
وربما كان هذا هو المنطلق، الذي قال منه ول ديورانت عن بيكون: إنه من أول المبشرين بأحدث العلوم؛ السلوكية في علم النفس، وعلم النفس الاجتماعي.
وبعد كل هذا لا بد وأن نسجِّل لبيكون بلاغة أسلوبه؛ إذ تُعدُّ أعماله من قمم النثر الإنجليزي اللاتيني. والأهم من ذلك قدرته الفائقة على تركيز العبارة، وتكثيف الأسلوب؛ بحيث لا تتسلل كلمة واحدة زائدة.
لكن كل هذا لا يبخس فضل بيكون العظيم في التنويه إلى أهمية التجربة، والتعويل عليها في اكتساب المعارف بالواقع المحيط بنا، وكان تنويهًا حقق مأربه العظيم في تحطيم سيطرة منطق أرسطو كمنهج، بالإضافة إلى هذا، كان منهجه رحبًا مرنًا، يرشد الباحث ويدله، بغير أن يقيده تقييدًا ملزمًا، وبغير أن يدَّعيَ أنه يفضي به إلى البرهان القاطع.
أي إن برنارد هنا يعني أن الاتساق المنطقي لا يُغني عن وقائع التجريب.
وعلى أساس كل هذه الأهمية للفرض، يفرق كلود برنار تفريقًا حاسمًا قاطعًا بين الملاحظة والتجربة، وبين العلوم القائمة على الملاحظة، والعلوم القائمة على التجربة، بين الطب القائم على الملاحظة — أي على محض تراكم وقائع الخبرة — وبين الطب التجريبي الذي يطمح في معرفة قوانين الجسم السليم والمريض؛ بحيث لا نتمكن من توقع حدوث الظواهر فحسب، بل ونتمكن أيضًا من تنظيمها وتعديلها في حدود معينة، كل هذا الفارق بين الملاحظة والتجربة يعود إلى الفرض.
كل هذا يؤكد كم كان برنار كسبًا عظيمًا للدراسات المنهجية ولا يزال وسيزال دائمًا.
- (١) منهج الاتفاق Method of Agreement:أي التلازم في الوقوع، وهو ينص على أنه إذا اتفق مثالان أو أكثر للظاهرة المطروحة للبحث، في نفس الظرف كان هذا الظرف الذي تتفق فيه كل الأمثلة علة (أو معلولًا) لهذه الظاهرة.٥١
يقوم هذا المنهج على أساس تلازم العلة والمعلول في الوقوع؛ بحيث إذا حدث الأول تبعه الثاني، والعكس بالعكس، ويستلزم هذا المنهج جمع أكبر عدد ممكن من الحالات التي تبدو فيها الظاهرة والمقارنة بين عناصرها؛ أي البحث عما هو السابق واللاحق في حدوث تلك الظاهرة، فالسابق هو العلة واللاحق هو المعلول.
ويمكن التعبير عنه رمزيًّا كما يلي:
الظاهرة:-
«أ»١ أعقبتها أو اقترنت بها ظواهر: ب. ﺟ. د. ﻫ.
-
«أ»٢ أعقبتها أو اقترنت بها ظواهر: ب. و. ز. ﺣ.
-
«أ»٣ أعقبتها أو اقترنت بها ظواهر: ب. ط. ي. ك.
-
«أ»٤ أعقبتها أو اقترنت بها ظواهر: ب. ل. م. ن.٥٢
وهذا المنهج يعبر عن طريقة شائعة الاستعمال في الحياة اليومية، أكثر منها في البحوث العلمية، ونقدها أظهر من أن يُذْكَر؛ فالظواهر الطبيعية ليست بهذه البساطة بحيث يظهر دائمًا العامل الواحد الذي لا يتغير، فالظروف متشابكة تختلط ببعضها، والعنصر قد يتضافر هو وعنصر آخر في جميع الأحوال، دون أن يكون هذا العنصر علة حقيقية له إنما يوجد بالعرض دائمًا.
لذلك شأن هذا المنهج يشجع مغالطة أخذ ما ليس بعلة على أنه علة؛ فقد يكون توالي حدوث العامل ليس بعلة بل مجرد مصادفة.
ويعضد هذا النقد الكشف الحديث من أنه لا حتمية في العلم، ومن إعطاء الدور الأكبر للمصادفة — أي للاحتمال — في القوانين العلمية، بينما كان مل، وعصر مل مشبعًا بالحتمية حتى النخاع، حتمية اقتران العلل بالمعلولات والظروف ببعضها، وهو على أية حال منهج ضعيف، حذَّر كلود برنار من الاعتماد عليه، وإن كان من الممكن تقليل خطورته بتنويع التجارب قدر المستطاع، كما نصحنا فرنسيس بيكون من قبل.
-
- (٢) منهج الاختلاف Method of Difference:أو التلازم في التخلُّف والافتراق، وهو نوع من البرهان العكسي الذي حبَّذه كلود برنار، وينص على أنه إذا حدث مثال تقع فيه الظاهرة المطروحة للبحث، ومثال آخر لا تقع فيه هذه الظاهرة، واتفق المثالان في كل شيءٍ إلا في ظرف واحد، وهو الذي يظهر فيه المثل الأول وحده دون سواه، كان الشيء الذي يختلف فيه المثالان معلولًا لهذه الظاهرة أو علة لها، أو جزءًا ضروريًّا من علتها.٥٣
فالعامل المختلف هو علة اختلاف النتيجتين، في الحالة الأولى سبب ظهوره حدوث الظاهرة، وفي الحالة الثانية كان هذا العامل الوحيد الغائب هو العلة إذ غاب معلولها بغيابها.
وواضح أن مل استفاد في هذا المنهج بمنهج الحذف والاستبعاد الذي نادى به فرنسيس بيكون،٥٤ وهو يحوي نفس خطأ المنهج السابق؛ أي منهج الاتفاق؛ فقد يكون اختلاف العاملين مجرد تصادف، هذا بالإضافة إلى صعوبة تحقيقه؛ إذ يصعب بعض الشيء استبعاد العلة المؤثرة، فهذا قد يعني استبعاد الظاهرة بأسرها، لكن الوسائل التحليلية التفتيتية التي توصل إليها العلم الآن، تغلَّبت على هذه الصعوبة كثيرًا، وهذا المنهج هو أهم المناهج الخمسة، وفكرته الأساسية بصفة عامة خصبة، وعلماء المناهج منذ بيكون حتى بوبر ما فتئوا يؤكدون أهميته. - (٣) منهج الجمع بين الاتفاق والاختلاف Joint Method of Agrement and Difference:وينص على أنه إذا حدثت ظاهرةٌ ما في مثالين أو أكثر، واختلف هذان المثالان في كل شيء ما عدا شيئًا واحدًا دون سواه، وكان هناك مثالان آخران (أو أمثلة أخرى) لا يحدث فيها هذه الظاهرة، ولا يشتركان إلا في غياب الشيء الذي وُجِدَ في المثالين الأولين (أو الأمثلة الأولى)، استنتجنا أن الشيء الذي يشترك فيه هاتان الفئتان من الأمثلة (وهو الذي يوجد في المثالين الأولين، ويختلف في المثالين الآخرين) هو معلول الظاهرة أو علة لها أو جزء ضروري منها.٥٥
وواضح أن هذا المنهج لا يعني أكثر من الجمع بين الطريقتين السابقتين، أي محاولة التحقُّق من ظهور المعلول بظهور العلة واختفائه باختفائها، أو ما أسماه الإسلاميون: دوران العلة مع معلولها وجودًا وعدمًا، وهذا تأكيد أكثر للعلاقة السببية التي نبحث عنها.
- (٤) منهج البواقي Method of Residues:وهو منهج لوضع الافتراض أكثر منه لتحقيقه، وهو ينص على أنه إذا كان لدينا ظاهرة ما لها عناصر عدة، عرفناها بالعمليات الاستقرائية السابقة على أنها علة لمعلولات لاحقة معينة، فإن ما يتبقَّى من عناصر تلك الظاهرة هو علة لما يتبقى من معلولاتها اللاحقة.٥٦
ويمكن التمثيل لهذا المنهج على النحو التالي: لو كان لدينا حالتان: «أ» و«ب»، وكانت «أ» هي علة «ب»، وتبينا في «أ» عدة عناصر هي «س»، «م»، «ق»، وتبينا في «ب» عدة عناصر هي «ص»، «ل»، وإذا عرفنا أن «س» هي علة «ص»، و«م» هي علة «ل»، فإننا نفترض أن العنصر المتبقي في «أ» وهو «ق»، لا بد وأن يكون علةً لعنصر آخر في «ب»، فنفترض وجود هذا العنصر، وليكن مثلًا «ك» ونعتبره نتيجة للعلة «ق» أي معلولًا لها.
ويمكن التعبير عن هذا المنهج رمزيًّا كما يلي:٥٧وقد نوَّه مل إلى أن هذا المنهج يستحيل أن يستقل عن الاستنباط، ورغم أنه يتطلَّب هو الآخر خبرات معينة، فإننا لا نستطيع اعتباره من بين مناهج الملاحظة المباشرة والتجريب إلا بشيء من التجاوز،٥٨ وواضح أنه منهج يعتمد أساسًا على نتائج الممارسات السابقة لبقية المناهج الأخرى؛ لذلك كان من الألْيَق أن يأتيَ هذا المنهج في مؤخرة قائمة المناهج، غير أن مل وضع المناهج في «نسق المنطق» بهذا الترتيب. - (٥) منهج التغير النسبي Method of Concomitant Variation:أو منهج التلازم في التغير، أو بمصطلح أدق: منهج التغيرات المساوقة المتضايفة أو التغيرات المساوقة النسبية،٥٩ وهو ينص على أنه إذا تغيرت ظاهرة ما بطريقة معينة، وصاحَبَ هذا التغير في ظاهرة معينة أخرى بنفس الطريقة المعينة، كانت تلك الظاهرة علةً للثانية أو معلولة لها، أو مقترنة بها اقترانًا عِليًّا من ناحية ما.٦٠
أي إن هذا المنهج للكشف عن العلاقة الكمية بين العلة والمعلول، عن التناسب الطردي بين شدة العلة وبين شدة معلولها، فإذا كان هناك تغير فيما نفترضه من عوامل الظاهرة يتبعه تغير وبنفس النسبة في نتيجتها، كان ذلك تثبيتًا للعلاقة العِليَّة التي افترضناها.
ويمكن التعبير عن هذا المنهج رمزيًّا هكذا.٦١في العلاقة الطردية (الاتفاق):-
أ + ٠ ب + ٠
-
أ + ١ ب + ١
-
أ + ٢ ب + ٢
في العلاقة العكسية (الاختلاف):-
أ + ٠ ب − ٠
-
أ + ١ ب − ١
-
أ + ٢ ب − ٢
هذا المنهج أسهل المناهج الخمسة عمليًّا وأدقها؛ لأنه يأخذ في الاعتبار التكميم؛ أي إن مل ينبِّه فيه إلى سر التقدُّم العلمي.
-
(ب) تقييم
ثم إن مل قال: إنه سيأتينا بأربعة مناهج، ثم أتانا بخمسة، وبعد أن شرحها ظل مصممًا على أنها أربعة! وقد اختلف الباحثون؛ أية الطرق هي الزائدة؟ ترى سوزان ستبنج أن البواقي هي الزائدة، أما جوزيف فيرى أن منهج الجمع بين الاتفاق والاختلاف هو الزائد، بينما يذهب وليم نيل إلى حذف طريقتي البواقي والتغير النسبي.
لكن ثمة تحليلًا معقولًا، خلاصته أن منهجَي البواقي والتغير النسبي يعتمدان على المناهج الثلاثة الأولى، في حين أن المنهج الثالث — منهج الجمع بين الاتفاق والاختلاف — مجرد تكرار للمنهجين الأول والثاني معًا، زد على ذلك أنه يمكن رد المنهج الأول إلى المنهج الثاني؛ لأن الوقائع لن تكشف لنا بطريقٍ مباشر أن الحادثة «أ» مثلًا علة الحادثة «س»، وإذا لوحظت عدة وقائع تُثبت أن «أ» علة «س»، فإن تلك الملاحظات لا تقدم دليلًا على أن «أ» علة «س»، بل يجب أن نتثبت أنه لا يوجد علة للحادثة غير الحادثة «أ»، ذلك يستلزم القيام بتجارب سالبة؛ أي منهج الرفض أو الاختلاف، وهو المنهج الثاني، وبذلك ننتهي إلى أن هذا المنهج الثاني هو فقط الأساس، ومع ملاحظة أن فرنسيس بيكون قد سبقه إليه، ننتهي إلى أن مل لم يأت البتة بأي شيء جديد لم يقله أحد من قبله.
-
علة «س» إما أن تكون «أ» أو «ب» أو «ﺟ».
-
لكن علة «س» ليست «ب» أو «ﺟ».
-
لكن علة «س» هي «أ».٦٤
الحق أن هذا النقد فيه شيء من السفسطة؛ لأن القياس الأرسطي يدور حول قوانين الفكر الصورية؛ لذلك من السهل جدًّا إثبات دخوله بطريقة أو بأخرى في شتَّى أنواع الاستدلال.
وأخيرًا فإن هذا المثلب التجريبي لمل، لا يشفع فيه إلا شيء واحد، هو أنه من أوائل من نادَوا — في الأمة الإنجليزية — بضرورة إخضاع العلوم الأدبية والعقلية — خصوصًا علم النفس — للمنهج التجريبي، وكان يؤازره في هذا صديقه الفرنسي أوجست كونت، وقد قوبل باستنكار ورفض شديدين، ولكننا بالطبع أصبحنا اليوم ندرك قيمة هذه الدعوة.
(٨) تلك هي الخطوط العريضة في تاريخ المنهج الاستقرائي؛ إذ لم يتعرض الاستقراء إلى إضافة تُذْكَر بعد مل، بل اتخذ مفهوم المنهج العلمي طريقًا مغايرًا، بلغ أوج انحرافه على يد بوبر.
السالف ذكرهم هم الأعلام الذين مكنوا من عقيدة الاستقراء كل هذا التمكين.
ومن هذا العرض التاريخي، نخرج إلى استعراض خطوات المنهج الاستقرائي.
(٤) خطوات الاستقراء
أما عن خطوات الاستقراء، فقد يختلف الباحثون اختلافًا يسيرًا في ترتيب خطوة أو أخرى ولكن الترتيب التالي هو الأمثل:
(١) الملاحظة والتجربة Observation and Experiment
يبدأ الباحث عمله بملاحظة عدة أمثلة للظاهرة موضوع الدراسة ملاحظة دقيقة، مقصودة ومنتقاة وهادفة، أي مقصورة فقط على ما يخص الظاهرة موضوع الدراسة، وقد فرَّق كلود برنار بين الملاحظة البسيطة وهي بالحواس المجردة وبين الملاحظة المسلحة، وهي التي يستعان فيها بالأجهزة الدقيقة التي تمكن الحواس من عملية الملاحظة بكفاءة أعلى ودقة أكثر.
والملاحظة العلمية يجب أن تكون متواترة ومرتبة، وإذا كانت متعلقة بظواهر تستغرق حيزًا زمانيًّا واسعًا كمسارات الأفلاك، أو دورات الحياة مثلًا، تكون الملاحظة فيها متصفةً بالتعاقب الاستمراري.
وبديهي أن الملاحظة العلمية يجب أن تتصف بالدقة والنزاهة وتوخِّي الموضوعية، وأن تستند على الدقة التي توجب استخدام الأجهزة المذكورة آنفًا، أما النزاهة والموضوعية فيوجبان: التجرد عن كل هوى شخصي، والتعبير الكمي القياسي عن الملاحظة.
على ذلك فالخطوة الأولى التي هي جمع المعلومات، قد تكون إما بالملاحظة وإما بالتجريب الابتدائي حسب طبيعة العلم:
فهناك علوم تعتمد فقط على الملاحظة؛ لا سيما الفلك والجيولوجيا.
وهناك علوم تعتمد فقط على التجريب؛ لا سيما الكيمياء والطبيعة.
وهناك علوم تجمع بين الاثنين؛ لا سيما علوم الطب والحياة.
هذه هي المرحلة الأولى: مرحلة العيان الحسي، الذي نجمع به الحقائق التمهيدية عن الظاهرة موضوع الدراسة.
(٢) التعميم الاستقرائي Inductive Generalization
ومن الأمثلة التي لاحظها الباحث أو جرَّبها، يخرج بتعميم مطلق لنتيجة الملاحظة، تعميم يطبق فيه الباحث ما رآه، على ما لم يره من جميع الحالات المماثلة للأمثلة موضوع ملاحظته، تلك التي حدثت والتي تحدث الآن، والتي سوف تحدث، فمثلًا إذا لاحظ الباحث أن بعض قطع من الخشب كلما تعرضت للهب اشتعلت؛ خرج بتعميم استقرائي ينطبق على جميع قطع الخشب في كل زمان ومكان وهو «الخشب قابل للاشتعال»، أو مثلًا كما لاحظ باستير من تجاربه على بعض عينات لمواد قابلة للفساد، ملاحظة خرج منها بتعميم استقرائي هو «لا تفسد المواد القابلة للفساد إلا إذا تُرِكَت مكشوفة.»
(٣) افتراض الفرض Hypothesis
ثم يحاول الباحث افتراض فرض يعلل به ما وصل إليه من تعميم استقرائي، كأن يفترض أن الخشب قابل للاشتعال لأنه يتحد بالأكسجين، أو كما فعل باستير حين افترض أن الهواء يسبب الفساد؛ لأنه يحتوي على كائنات دقيقة، الفرض إذن هو محاولة اكتشاف العلاقة العِليَّة التي تحكمها في كل زمان ومكان، هو — على حد تعبير إرنست ماخ — تفسير مؤقت للظاهرة.
أما عن نشأة الفرض فهي تقوم على عوامل خارجية وأخرى باطنية؛ العوامل الخارجية هي الخطوة الأولى التي جمع الباحث فيها الملاحظات، وعليها يتأسس الفرض، وقد يلقى الفرض فيها مصادفة؛ أما العوامل الباطنية فهي نصيب العالِم من الذكاء وحصيلته المعرفية، وبتفاوت قدرات العلماء تتفاوت قيمة فروضهم.
والفروض على نوعين؛ فهي إما فروض جزئية متعلقة بأحوال معينة لأحداث معينة، وإما هي فروض عامة، والفروض العامة على قسمين؛ المبادئ والنظريات.
- (أ)
يقوم على أساس الملاحظة والتجريب، فلا يكون فرضًا خياليًّا، ولا يكون مجرد ربط منطقي بين الأفكار، فمثلًا قانون الديناميكا الحرارية يقول: إن الحرارة تنتقل من الأجسام الأكثر سخونة إلى الأجسام الأقل سخونة في حالة التَّمَاس بينهما، في حين أن التفكير المنطقي الخالص لا يمنع افتراض أن الجسم الأسخن هو الذي يسحب الحرارة فتزداد حرارته، ويزداد الجسم الملامس له برودة.
- (ب) ألَّا يكون متناقضًا،٧١ لا مع نفسه ولا مع الوقائع المُسَلَّم بها.
- (جـ)
أن يقبل التحقق، فيمكن للتجربة أن تثبت صحته أو خطأه، وهذا شرط غاية في الأهمية؛ لأنه هو الذي يكفل استمرار الإجراءات الاستقرائية، حتى نصل في النهاية إلى الهدف، وبعد أن يضع العالم على هذا النحو فرضًا مستوفيًا لهذه الشروط، ينتقل للخطوة التالية.
(٤) التحقُّق من صحة الفرض Verification of Hypothesis
وهنا تبرز أهمية التجريب، فيلجأ العالم إلى التجربة لكي تحسم له القول في صحة أو خطأ ما افترض من فروض، والتجربة هنا مخالفة للتجربة الابتدائية التي لجأ إليها العالم في الخطوة الأولى، التجربة هنا علمية حقيقة، يصطنعها العالم من أجل التحقق من فكرة معينة في ذهنه وهي افتراضه.
- الجانب السلبي: يمارس فيه الباحث ما أسماه كلود برنار: منهج برهان الضد أو شاهد النفي؛ إذ يحاول الباحث أن يأتي ببرهان مضاد للحالة التي يفترضها الفرض، ففي امتحان العكس إثبات للأصل.
- الجانب الإيجابي: يحاول فيه الباحث التثبت من صحة الفرض في الأحوال المتغيرة على قدر الإمكان.٧٢
وهذه الخطوة هي أهم خطوات البحث العلمي، فهي الخطوة الفاصلة، وعليها سيتوقف ما إذا كان العالم سيضيف إلى المعرفة العلمية، أم أن جهوده العلمية ما زال عليها استئناف المسير.
ولا ينبغي الإطناب أكثر من ذلك، فالتناول التاريخي في الحديث عن مل، لم يكن إلا حديثًا عن كيفية التحقُّق من صحة الفرض.
(٥) البرهان أو الدحض Proof or Disproof
وتلك هي المحصلة الطبيعية للخطوة السابقة، فإما أن تنتهي إلى إدخال الفرض في نطاق الحقائق العلمية إذا ما ثبتت صحته، وإما أن ننتهي إلى دحضه، فنتركه ونلجأ إلى غيره إذا ثبت خطؤه، ومن هنا يتضح كيف أن الفرض من شأنه أن يوحي بتجارب وملاحظات جديدة.
ولا بد على العالم أن يترك فرضه إذا ثبت خطؤه، وليس ذلك باليسير فالعالم يعتز بالفرض الذي توصل له يسعد به فيتمسك به، ويتغاضى عن الوقائع التي تدحض هذا الفرض، يجب على العالم أن يتخلَّى عن الفرض سريعًا ويحاول أن يضع غيره، ولا يعلن أن فرضه قد تم البرهان عليه إلا إذا كان هذا البرهان مراعيًا لأدق دقائق الموضوعية والنزاهة الكاملة.
وإن أثبتت التجارب صحة الفرض على هذا النحو، فقد أصبح قانونًا ويكون الباحث قد وصل إلى الخطوة الأخيرة.
(٦) المعرفة Knowledge
وهذه بالبداهة هي غاية البحث العلمي، فماذا يبغي العالم من كل ما سلف إلا الإضافة إلى بنيان المعرفة، وزيادة عدد القوانين الطبيعية التي ظفر بها الإنسان قانونًا وإزاحة حدود الجهل خطوة إلى الوراء، وتقديم حدود العرفان خطوة إلى الأمام.
ذلك هو الاستقراء وخطواته، فما هي مشكلته تلك التي ما فتئ فلاسفة العلوم ومناهج البحث والمناطقة يثيرونها في كل مناسبة وبغير مناسبة؟
(٥) مشكلة الاستقراء
(١) لقد اتضح الآن أن العلوم التجريبية هي — من الوجهة التقليدية — علوم استقرائية؛ أي عمليات تعميم استقرائي يقوم بها الباحث، وقد اتضح ما هو الاستقراء، وكيف تطور على يد الأعلام الذين مكنوا له.
الاتجاه التجريبي
العقل لا يعرف ولا يصل إلى المبادئ أو غيرها إلا عن طريق التجريب، فالاستقراء مردود إلى السببية، والسببية توصلنا إليها عن طريق التجريب كما توصلنا إلى كل شيء في عقولنا، فتجاربنا قد دلتنا على أن الظواهر ترتبط ببعضها ارتباطًا ضروريًّا، هو — بلا شك — ارتباط العلة بالمعلول، وعلى أساس السببية نُقِيم الاستقراء ومبدأه إقامةً تجريبية، وأهم الممثلين لهذا الاتجاه جون ستيورات مِل.
الاتجاه العقلي
وهو يتفق مع الاتجاه السابق في أن الاستقراء يعود إلى السببية ولكن السببية مبدأ عقلي سابق على التجربة، إذن مبدأ الاستقراء كامنٌ في الذهن سلفًا، ولم نشتقه من التجريب الاستقرائي، أهم الممثلين لهذا الاتجاه: إيمانويل كانط (١٧٢٤–١٨٠٤م) وبرتراند رسل.
(٢) وهذه المشكلة لا تقتصر على البحث عن مبدأ، بل هي أساسًا قائمة في صلب الاستقراء، وإن كانت نتيجة لمشكلة أخرى هي مشكلة السببية والاطراد، اللذين يبرران الاستقراء.
مشكلة السببية
إذا كان الاستقراء منهجًا يحقق هدف العلم الطبيعي من الكشف عن العلاقات العلية، فهو إذن يفترض مسبقًا فكرة العلية أو السببية، والسببية بدورها راسخة رسوخ البداهة في التفكير الفلسفي قبل التفكير العلمي، وفي تفكير الحياة اليومية قبلهما؛ فالحس المشترك والفلسفة والعلم التقليديان يعتبران ترتب ظاهرة على أخرى ترتبًا متكررًا مطردًا مرجعه إلى السببية التي تجعل الظاهرة الأولى علة والثانية معلولًا لها.
وهيوم هذا تجريبي شديد التطرف، لا يعترف بمصدر للمعرفة إلا انطباعات الحس التي تخلف وراءها الأفكار، وكل ما يخرج عن المنطق والرياضة لا بد وأن يرتد إلى انطباعات الحس، وإلا كان حديث خرافة، والسببية ليست علاقة منطقية، فلا بد إذن أن نبحث عن أصولها في الخبرة الحسية، غير أن الحواس لا تعطينا إلا سلسلة من الأحداث متعاقبة زمانيًّا ومتجاورة مكانيًّا، وكل ما أدركناه هو وقوع هذه الأحداث في هذا الآن وعلى هذا النحو، ولم يصل إلى انطباعاتنا للحسية ما يفيد بالعلاقة العلية بينهما، فمن أين أتينا إذن بالاعتقاد في السببية؟ هذا اعتقاد ليس له ما يبرره لا تجريبيًّا ولا منطقيًّا.
وقد أثار هيوم مشكلة السببية في الصورة الآتية: لماذا نستنتج أن المؤثرات المعينة سوف يكون لها بالضرورة تلك الآثار المعينة؟ ولماذا نستدلُّ من الواحدة على الأخرى؟ ثم اتخذت المشكلة فيما بعدُ صورة تساؤل أكثر عمومية هو: لماذا نخرج من الخبرة بأي استنتاجات تتجاوز الحالات الماضية التي مرت بخبرتنا؟ أي لماذا نمارس الاستقراء؟
مشكلة الاطراد
حين نلاحظ أن الحادثة «أ» قد أعقبتها في أكثر من مرة أو حتى في كل المرات الحادثة «ب»، فإننا لا نستطيع الاعتقاد بأن ذلك قد نشأ لأن «أ» علة معلولها «ب» — فقد رفضنا السببية — بل لأن «أ» قد أعقبتها «ب» فحسب، وليس لدينا ما يبرِّر توقع الحادثة «ب» حين نرى الحادثة «أ» مرة أخرى، فتوقُّع الاطراد عادةً مسألة سيكولوجية بحتة وليست منطقية حتى نأخذها أساسًا للمعرفة، وينطلق هيوم مستغرقًا في تحليلات سيكولوجية للاعتقاد وأبعاده وأثر التكرار، تحليلات يخرج منها بأن افتراض الاستقراء وهو فقط تكويننا السيكولوجي ولا نملك أن نحيد عنه، التكرار يرسخ في الذهن الاعتقاد في قانون الطبيعة.
وقد اعتمدت الحتمية على الصورة الميكانيكية التي رسمها نيوتن للكون، على أنه كتل تتحرَّك على السطح المستوي عبر الزمان المطلق في اتجاهه من الماضي إلى المستقبل، لتغدو كل حركة قابلة للتحديد والتنبؤ الدقيق.
لكن ظهرت نظرية النسبية لآينشتين التي تحطم هذه الخلفية المفترضة والضرورية للحتمية؛ أي فكرتي الزمان والمكان المطلقين، وظهرت نظرية الكوانتم، فلم نجد في عالم جسيمات الذرة الدقيقة أية مقدمات ضرورية ولا نتائج حتمية، ولا عِلِّية ولا اطراد على وجه الإطلاق، فانهارت الحتمية بعد أن كانت هي نفسها حتمية ورفضتها الغالبية العظمى من الفلاسفة والعلماء المعاصرين، وتشبثت بها قلة.
(٤) وبعد انهيار السببية والاطراد ثم الحتمية، أصبح الاستقراء مبدأ لاعقلانيًّا، بل ليس بمبدأ البتة، فإذا سئلنا مثلًا: لماذا نعتقد أن الشمس سوف تشرق غدًا؟ سنجيب: لأنها في الماضي أشرقت كل يوم، وهذا مثل أي تعميم استقرائي ليس له ما يبرِّره.
- (أ) المنطق الأرسطي، وقد كان متضمنًا لباكورة الاستقراء، قد حل هذه المشكلة بادعاء أن كل استدلال استقرائي يحتوي على مقدمة كبرى عقلية قبلية مؤداها أن الصدفة لا تتكرر دائمًا ولا حتى كثيرًا، ومقدمة صغرى هي «أ» و«ب» اقترنتا في كل الحالات المستقرأة، إذن «أ» علة ضرورية ﻟ «ب».٨٦وواضح أن هذا لا يحل المشكلة بل يؤكدها، يؤكد وقوعها في الأولية Apriorism وما زالت المشكلة قائمة، من أين أتينا بهذه المقدمة الكبرى؟
- (ب)
التجريبيون المتطرفون التقليديون قالوا: لا داعي لإثارتها، فالعلم يتقدم سواء حُلَّت هذه المشكلة أم لا، وهم بهذا دعاة لما يمكن أن نسميه باللاعقلانية التجريبية.
إنهم الاستقرائيون المتعصبون تعصبًا هو الذي قادهم اللاعقلانية، أبرز ممثليهم في الوقت الحاضر ستراوسون، الذي يرى أن الاستقراء ليس بحاجة إلى تبرير، تمامًا كما أن الاستنباط ليس بحاجة إلى تبرير؛ لذلك فالاستدلال الاستقرائي صحيح تمامًا، كما أن الاستدلال الاستنباطي صحيح.٨٧وقد ذهب الباحث فارهانج تسابيه Fahrhang Zabeeh مذهب الفيلسوف ستراوسون، فقد رأى أن الاستقراء تمامًا كالاستنباط هو منهج لتبرير المعتقدات، المنهج نفسه لا يمكن أن يُبَرَّر، وإن كان من الممكن تحسينه،٨٨ وأكثر من هذا فقد اتخذ تسابيه من رأي بوبر نفسه في خرافية الاستقراء معينًا له … فقد أثبت بوبر أن الباحث يفترض قبل التجريب فرضًا، ثم يجرب فقط لكي يمتحنه، فيكون القانون ليس مشتقًّا من الوقائع المستقرأة، وبالتالي لا استقراء البتة — كما سنرى بالتفصيل — لقد راح تسابيه يناظر هذا الافتراض السابق على التجريب بمقدمات الاستدلال الاستنباطي … كي يثبت أن مكانة الاستقراء تكافئ منطقيًّا مكانة الاستنباط، رغم أنه أوضح أن بوبر يقصد بهذا استحالة الاستقراء وخرافيته، بل وأوضح أيضًا أن بوبر في هذا الموقف قوي متماسك!٨٩بالطبع مضاهاة الاستقراء بالاستنباط قول أجوف، وإلا فأين مشكلة الاستقراء التي تكاد تكون الفكرة الفلسفية الوحيدة المقبولة من الجميع، والتي تحكم حكمًا لا جدال فيه بأن الاستقراء غير صحيح invalid. - (جـ) الاستقرائيون المحدثون، سلَّموا بمشكلة الاستقراء، فقد أكد رايشنباخ فضل هيوم الكبير على الاستقراء بتأكيده استحالة وضع تبرير حاسم له،٩٠ لكنهم كانوا ليتركوا الاستقراء لو أنهم يبحثون به عن اليقين، لكن طالما أن جميع القوانين العلمية احتمالية، فلا بأس أن يكون أساس الاحتمال ليس ثابتًا، أبرز مَنْ حاولوا تبرير الاستقراء على أساس الاحتمال كينز Keynes وبيرس ورايشنباخ.٩١لكن أبسط ما يقال لهم هو قول بوبر: إن الاحتمالية لن تنقذ الاستقراء، فإذا أسندنا درجة الاحتمالية للقضايا القائمة على استدلال استقرائي، فلا بد من تبرير درجة الاحتمالية عن طريق مبدأ استقرائي جديد، وهذا المبدأ الجديد لا بد من تبريره وهكذا …٩٢ لا نلقى مناصًّا من الارتداد الذي لا نهاية له والذي يوقعنا فيه الاستقراء، إنهم لم يفعلوا شيئًا أكثر من سحب السمة اللاعقلانية من القوانين اليقينية لتغطي أيضًا الفروض الاحتمالية، والمحصلة أن العلم، سواء كان يقينًا أم احتماليًّا، هو لاعقلاني.
- (د)
من المدارس التي استطاعت بحق حل المشكلة: المدرسة الأداتية التي ترى في العلم مجرد نسق منطقي من عبارات هي دالات منطقية؛ لأنها لا تعدو أن تكون محض أدوات تستنبط منها العبارات التي تعين على فهم العالم وتحقيق الهدف التكنولوجي للعلم.
وبهذا تنتهي مشكلة الاستقراء، فإذا كانت العبارة العلمية دالة وليست إخبارية فإنها لن تكون مجرد حصر لجميع الحالات التي وقعت في الخبرة، فتكون تحصيل حاصل، وهذا خلف لأنه مناقض للطبيعة الإخبارية، ولا هو قياس على الشاهد فتواجهنا مشكلة الاستقراء أن دالة القضية المنطقية تعفي نفسها من اختبار الصدق والكذب٩٣ ومن الاعتماد على الوقائع المستقرأة، الدالة المنطقية مقولة مبهمة غير محددة معفاة من أي قيود سببية أو استقرائية، فهي إذن بلا مشاكل.هذا موقف متماسك فعلًا، لكن المشكلة هي صعوبة التسليم معهم بافتراضهم الأولي من أن العبارات العلمية محض أدوات، فالغالبية العظمى ترى في العلم عبارات تركيبية إخبارية لها محتوى معرفي عن الواقع تعرقله مشكلة الاستقراء.
- (هـ) والجدير بالذكر حقًّا أن الوضعية المنطقية اضطرت إلى الالتجاء لهذا الملجأ الأدائي لكن فقط بالنسبة للقوانين الكلية، فاعتبروها محض قواعد أو أدوات للاستدلال على العبارات الجزئية٩٤ الإخبارية، فهي بغير محتوى معرفي تقيم حوله دلالته الإخبارية مشاكل استقرائية، بالطبع الرد عليهم نفس الرد السابق.
- (و) أما البراجماتيون فقد قالوا: ليكن الاستقراء مجرد عادة كما قال هيوم، إلا أنها ليست عادة مرذولة، بل هي عادة حسنة تفضي بنا إلى حصاد هائل، فلماذا لا نبقي عليها طالما أنها مفيدة، وقد وقف بجانب البراجماتيين رايشنباخ، فهو استقرائي متطرف، يحاول تبرير الاستقراء بكل الطرق، و«على أساس أنه أفضل الوسائل للوصول إلى معرفة عن الطبيعة، هذا الموقف مقبول على نطاق واسع إلا أنه بالطبع غير حاسم.»٩٥ فهو لم يفعل من تبرير اللاعقلانية بأنها مفيدة، والمنطق ليس مرابيًا يتغاضى عن حقوقه نظير الفائدة المادية.
وبالإضافة لهذه المدارس فهناك فلاسفة آخرون حاولوا أيضًا حل المشكلة بصورة مستقلة.
- (ز) المنطقي المعاصر وليام نيل William Kneale، حلها بالتمييز بين أربعة أنواع من الاستقراء:
-
الاستقراء التلخيصي، وهو الذي سماه أرسطو بالاستقراء التام، وهو مجرد عملية حصر الوقائع.
-
الاستقراء الحدسي، أو التجريبي، وهو موضع المشكلة، فهو إقامة مبدأ كلي عام اعتمادًا على حالات محددة،٩٦ وقد اعترف نيل بأننا لن نستطيع تبرير الاستقراء على أساس احتمالية نتائجه ولا على أساس صدقها، فلا صدق الآن، ولكن يمكن تبريره فقط بالنظر إليه على أنه خطة معقولة (Policy) على أنه النهج الوحيد الذي يوصلنا إلى تنبؤات صحيحة صادقة صدق مؤقت، أي معرض للمراجعة والحساب في المستقبل،٩٧ ومن هذا المنظور ينبغي التمييز بين نوعين من الاستقراء:
-
الاستقراء الأولي Primary Induction، ينصبُّ على اكتشاف القوانين المعبرة عن اطرادات موجودة في الطبيعة، كما اتفقنا في الخطة الاستقرائية، واستمرارنا فيها يكون من أجل الحصول على بينات مخالفة Counter-Evidence، ليمكن رفض الفروض الخاطئة، ولا يبقى في النهاية إلا أرسخ الفروض.
-
الاستقراء الثانوي Secondary-Induction، يهتم بالنظريات الكلية التي هي مجموعة من القوانين المترابطة؛ أي بالفروض الصورية ذات الطابع التفسيري الذي ينطوي على تبسيطات فتكون النظرية تقترح علينا موضوعات نبحثها بالاستقراء الأولي.٩٨
-
والحق أن هذه محاولة جادة من نيل للإبقاء على كيان عزيز وغالٍ يسمونه الاستقراء، لكنها لا تعدو الإقرار الواقعي الصريح باحتمال إتيان الخطأ في غضون المستقبل، حتى لا يتسرَّب خفية، فيمثل مشكلة الاستقراء التي لا تُحَل أبدًا.
-
- (ﺣ) من قبل نيل كان فيلسوف العلم الكبير وايتهد استطاع أن يحل المشكلة على أساس نظريته الشهيرة: النظرة العضوية للطبيعة، التي ترفض النظر إلى الطبيعة على أنها واقعة سكونية آلية، بل تنسب إليها نوعًا من الحياة وتراها مترابطة٩٩ ارتباط التعضون، بواسطة العلاقات الداخلية التي يمكنها أن تبرر الاستقراء، فالارتباط الداخلي بين الحوادث يجعل إدراكنا الحسي للحوادث كافيًا لاستبصار ما بينها من علاقات سببية ضرورية،١٠٠ وقد أوضح وايتهد أولًا أنه يختلف مع هيوم في أن الأمثلة متشابهة لا تنطوي أي منها على أكثر مما في بقيتها من مضمون، كلا هذه الأمثلة ليست بهذه البساطة المتناهية والانفصال عن بعضها كما اعتقد هيوم، وحينئذٍ نكون مضطرين بالفعل إلى ضرورة عقلية للربط بينها؛ فالتحليل في حد ذاته ضروري للفهم، ولكن الوقوف عند نهاياته والزعم بأنها تمثل الحقيقة هو جريمة في حق الطبيعة العضوية، فالأمثلة الجزئية هي الحوادث وهي ليست مفككة، بل يمتد بعضها فوق البعض الآخر في متواليات تزداد تركيبًا وعينية، ومغزاها وضرورتها لا يتضمان إلا في تلاحمها على هذا النحو، بحيث نعطي لأنفسنا الحق في التنبؤ بما سيكون قياسًا لما كان، وتستطيع الفلسفة أن تهدأ بالًا من مشكلة الاستقراء التي أرَّقتها زمنًا طويلًا.١٠١
الآن هذا قول لا بأس به، ولكن عضوية الطبيعة وعلاقاتها الداخلية محض افتراض ميتافيزيقي ليس لوايتهد أن يلزمنا به، والحق أنه في حد ذاته ليس مقنعًا، فكيف نقيم أساس العلم؛ منطقه ومنهجه على افتراضات ميتافيزيقية، يمكن أن نقول عنها: إنها ذاتية، أساس العلم يجب أن يكون مثله موضوعيًّا ثابتًا.
- (ط) فتجنشتين حاول هو الآخر تبرير الاستقراء تبريرًا سيكولوجيًّا فقال: إن العملية على أية حال ليس لها أساس منطقي ولكنَّ لها أساسًا سيكولوجيًّا، فمن الواضح أننا لا نجد أساسًا للاعتقاد بأن أبسط تسلسل للأحداث يصلح للاعتماد عليه،١٠٢ لكننا مدفوعون سيكولوجيًّا إلى هذا، من الواضح أن فتجنشتين أكد خطورة المشكلة، كيف نسمح بإقحام دوافع سيكولوجية في منطق العلم.
- (ي) النظرة الشاملة لكل هذه المواقف، تجعلنا نقول قول جيرولد كاتز من أن طرق الإحاطة بمشكلة الاستقراء ثلاثة:
-
محاولة وضع تبرير للاستقراء، ولكن هذا مستحيل.
-
محاولة توضيح أن الاستقراء غير ذي مشكلة حقيقية، وأن المشكلة تقوم على خلل في استعمال المفاهيم، فالخطأ هو محاولة البحث عن تبرير للاستقراء.
-
أن يوضح الباحث استحالة الانتهاء إلى أي تبرير للاستقراء، كما فعل كاتز الذي راح في فصل مسبب يوضح هذا، ويوضح أن أي تبرير كان لأي شيء كان لا بد وأن يقود إلى ارتداد لا نهاية له؛١٠٣ لذلك فقد حل المشكلة عن طريق إثبات أن الحل الموجب لها مستحيلٌ منطقيًّا، ويمكن الحل فقط بالأخذ بجوانب الاحتمال والبساطة وما إليها؛ لذلك كان حله — كما يقول هو — حلًّا سالبًا لا بد وأن يلزم عنه المشكلة الملحَّة، وهي أن الاستقرار طالما بغير تبرير، سيبدو التميز والفصل بين الاستدلال السليم والاستدلال غير السليم invalid، أيضًا غير ممكن.١٠٤
لم يفعل كاتز في النهاية أكثر من تأكيد استحالة حل المشكلة.
-
- (ك)
وأخيرًا فإن الموقف السليم هو — وهو فقط — موقف التجديديين الذين يرَوْن أن الثقة قد سُحِبَت من الاستقراء، فهو لا يصلح إطلاقًا مبدأ للعلم، وألحوا على ضرورة البحث عن مبدأ جديد، وأقوى من تبنِّي هذه الدعوى إيجابيًّا هو كارل بوبر، كما سيثبت في غضون هذا الباب.
(٧) هذا هو الاستقراء، الذي سيطر على الأذهان كمعيار للعلم، وتلك هي مشكلته ومدى خطورتها على البنيان المعرفي، فماذا فعل كارل بوبر بإزاء كل هذا؟
(٦) موقف بوبر
هذه الطريقة في النظر إلى المعرفة، مكنتني من إعادة صياغة مشكلة هيوم في الاستقراء.
(١) الفلسفة هي البحث في الأسس النظرية العميقة التي تكمن خلف موضوع البحث، فتكون فلسفة العلم هي البحث في الأسس المنطقية للعلم كما هو معروف، ولما كان العلم هو أنساق من النظريات كانت فلسفته التي هي منطقه؛ نظرية في هذه النظريات، والمشكلة المطروحة هنا هي: نظرية تميزها عن غيرها من الأنساق قد تختلط بها.
ولكن هل تكون المعرفة العلمية متبوئة عرش السيادة، وجديرة بالعناية الدقيقة بتميزها، بعد أن رأينا هيوم يصفها باللاعقلانية، واهتراء الأساس والافتقار إلى المبررات المنطقية وما إليه، بحيث إن من يعتبر عقله يرفض التسليم بها بوصفها معرفة على الإطلاق، فضلًا عن أن تكون في طليعة المسيرة المعرفية.
(٢) إن بوبر فيلسوف العلم الأول، وأحد العوامل التي خوَّلت له هذه الأولوية هي حله لمشكلة الاستقراء وإخراجه منطقًا عقلانيًّا راسخًا للعلم، فيكون محقًّا في اعتباره المعرفة العلمية أرفع ضروب المعرفة وأكثرها تقدمًا ونجاحًا، وأقدرها على حل المشاكل، وبالتالي من الضروري تمييزها عن غيرها من المعارف؛ إذ إنها جميعًا موضوعية.
والأهم أن هذا الحل يمثل الوجهة المنطقية لضرورة حذف الخرافة الاستقرائية، فنرى أمامنا المنهج الحقيقي للعلم، وهذا من شأنه أن يعود بنا إلى لب المشكلة المطروحة في هذا الباب، الفصل في الزعم الشائع من أن الاستقراء هو المعيار الذي يميز العلم.
(٣) لكن كيف نعرض كل هذه الأفكار المتداخلة المتشابكة عرضًا منهجيًّا منسقًا؟ الواقع أن الفقرات المقتبسة المستهل بها، توفر الكثير من عناء المحاولة لاستيضاح الطريق.
(٤) على هذا نخصص الفصل الثاني من هذا الباب؛ لعرض نظرية بوبر في أن «المعرفة موضوعية»، وفي الفصل الثالث تستغل هذه النظرية في «حل مشكلة الاستقراء»، وحينما تُحَل لن نجد مناصًا من اعتبار «الاستقراء خرافة»، ولكننا رأيناه في الفصل الأول وثنًا أعظم، تفانى في عبادته العلماء وفلاسفة العلم، على هذا نخصص الفصل الرابع لتأكيد أن الاستقراء محض خرافة، ولكن ما هو المنهج العلمي إذن؟ موضوع الفصل الخامس هو: «منهج العلم»، وفي نهاية هذا الباب فصل سادس لتقييم كل هذا تقييمًا نقديًّا، نناقش بوبر لنرى ما له وما عليه وإلى أي حد يؤدي كل ما سلف إلى حل المشكلة المطروحة للبحث: كيف يمكن تمييز المعرفة العلمية؟
نلاحظ أن مل وضح أيضًا تعبيرًا رمزيًّا عن هذا المنهج، غير أنه مختصر وموجز يحتاج إلى شرح، وتعبير د. توفيق الطويل أوضح.
وسنرمز لهذا الكتاب فيما بعد بالرمز: K. P. L. S. D.