الوضعية المنطقية ومعاييرها لتمييز العلم
مقدمة
الفلسفة بالمعنى المحدد الذي نريده لها، لا تورط نفسها في مجالات العلوم الخاصة، ولا تخلق لنفسها مجالات غير مجالات العلوم، بل تجعل مهمتها تحليلًا منطقيًّا للمدركات العلمية والقضايا العلمية، وبهذا تصبح الفلسفة فلسفة للعلم أو تحليلًا له، هدفها هو التوضيح لا الإضافة الجديدة، فليس هناك عالم إلا عالم الواقع، وليس لأحد أن يتحدث عنه حديثًا موضوعيًّا إلا رجالات العلوم المختلفة، وللفلسفة أن تجيء بعد ذلك فتحلل وتوضح.
وهذه الخلفية العلمية المتينة خلقت فيهم اتجاهًا أمتن نحو العلمية حتى أرادوا أن يكون العلم وتحليلاته المنطقية، هو فقط النشاط العقلي الوحيد، الذي لا نشاط سواه.
(١) فلسفة دائرة فيينا
(١) على خلاف النهج المعهود في نشأة المذاهب الفلسفية، فإننا لا نجد أمامنا أستاذًا نفذ ببصيرته وعبقريته الفردية إلى كنه الحقيقة، فاصطفَّ من حوله التلاميذ ينصتون إليه في رهبة وخشوع بل هم جمع من الزملاء، معظمهم علماء طبيعة ورياضة، التفوا حول زميلهم موريتس شليك منذ عام ١٩٢٢م، اختلفت آراؤهم، وتقاربت هاماتهم تقاربًا شديدًا، يتعاونون علميًّا لتحقيق غاية فلسفية واحدة، إذا طُرِح سؤال يتناولونه تناول الأنداد، بدلًا من أن ينصتوا في رهبة لجواب أستاذهم، وقد تختلف الإجابات بل وتتناقض، ويحاول كلٌّ تنقيح إجابة زميله واكتشاف أخطائه، قد تختلف مشاربهم الفلسفية اختلافًا شديدًا يبلغ حد العداء الفلسفي لكنهم يتفقون على مبادئ أربعة هي الممثلة لدعائم مذهبهم الفلسفي، من اعتنقها كان وضعيًّا منطقيًّا، وإن اختلف معهم في أية مسألة أخرى أو حتى في كل المسائل الأخرى، أما من يرفض مبدأ واحدًا منها لم يكن وضعيًّا منطقيًّا بحال.
أولًا: الفلسفة تحليلية٤⋆
التيار التحليلي من أهم تيارات الفلسفة المعاصرة، وقد امتاز عن سواه بأنه ثورة فلسفية في المنهج (أسلوب البحث) وأكثر ثورية في المذهب (مضمون البحث)، وترجع فاتحته إلى مقال كتبه جورج مور عام ١٩٠٣م يقول فيه إن مشكلات الفلسفة تعود إلى أننا لا نتبين حقيقة السؤال الذي نجيب عليه، ولو حاولنا اكتشاف المعنى الدقيق للأسئلة فستختفي معظم المشاكل الفلسفية الخادعة. ويتألف التحليل عنده من ترجمة العبارة إلى أخرى أوضح، ولم ينفرد مور بقيادة الحركة، بل شاركه برتراند رسل الذي رأى أن التحليل هو رد العبارة إلى صيغ منطقية؛ لأن اللغة مضللة، أما الرائد الثالث فهو فتجنشتين الذي وجَّه العناية إلى الدراسة المنطقية للغة.
وإذا كان التحليل معروفًا منذ القدم في الفلسفة، فإن التحليل المعاصر شيء مختلف تمامًا، ويتميز بخصائص أربع؛ الأولى هي قصر الاهتمام على اللغة ورد الفلسفة كلها إلى الدراسات اللغوية، ليس البتة بمعنى النحو والصرف، ولكن بمعنى البحث الفلسفي في دلالات الألفاظ «السيمانطيقا» من ناحية، وقواعد التركيب والبناء اللغوي من الناحية الأخرى. والخاصة الثانية هي تفتيت المشكلات الفلسفية بغرض معالجتها جزءًا جزءًا اقتداءً بالعلم، ومناهضة للاتجاه الشمولي الهادف إلى بناء الأنساق الميتافيزيقية. والخاصة الثالثة هي الاقتصار على البحوث المعرفية. أما الرابعة فهي المعالجة البين-ذاتية، أي استخدام نوع من التحليل له معناه المشترك بين الذوات بمعنى قريب من الموضوعية.
هذه هي أسس الوضعية المنطقية بوصفها فلسفة تحليلية، بل وتحليلية بموقف أكثر جذرية من أي مذهب تحليلي آخر، لكنها أسس تنطبق على الوضعية مثلما تنطبق على تيارات تحليلية قد تختلف معها؛ لذلك لا بد أن نوضح بقية الأسس التي تشكل الوضعية وتميزها عن سواها.
ثانيًا: الفلسفة علمية
-
(أ)
لقد اتفقنا على أن البحوث الفلسفية مقتصرة على التحليل، باقٍ أن نتفق على قصر هذا التحليل على العبارات العلمية، شريطة أن يكون تحليلًا منطقيًّا.
-
(ب)
فالفلسفة — وهي مهمتها التحديد — لم تحدد لنفسها مجالاتها، فأخذت تصول وتجول حيث تشاء، حتى ضاق بها الجيران، وأخذوا يطردونها من أراضيهم واحدًا بعد الآخر، بادئين بالطبيعة منتهين بالاجتماع والنفس، ولم يَبْقَ أمامها إلا العلوم المعيارية والميتافيزيقا والمنطق.
أما العلوم المعيارية (= الأخلاق والجمال)، فما هي إلا عبارات وجدانية انفعالية، لا تزيد عن ضحكة الضاحك أو صرخة المتألم، فلا ترقى بالطبع إلى أن تكون علومًا، أما الميتافيزيقا فما هي إلا جلبة أصوات بغير معنى، إذن لم يَبْقَ للفلسفة ميدان جدير بحق البقاء إلا المنطق، فعليها أن تتمسك به وتجعله شغلها الشاغل، والعقل البشري لم يعد ينشغل إلا بالبحوث العلمية، فإذا أرادت الفلسفة لنفسها البقاء، فما أمامها إلا سبيل واحد هو تطبيق منطقها على العلم، أي تجعل نفسها منطقًا للعلم، أو فلسفة له، وبهذا تصبح الفلسفة علمية.
ثالثًا: القضية إما تحليلية أو تركيبية
-
(أ)
لقد كانت العلوم الرياضية — بما تنطوي عليه من ضرورة الصدق المطلق — تمثل عقبة كئودًا في وجه التجريبيين، فمبدأ التجريبية الأساسي هو أية قضية مفهومة، ولها محتوى معرفي لا بد أن تكون قائمة على أساس الخبرة، لكن من الواضح أن العقل في الرياضة يستقل بنفسه عن التجربة، فتكون النتيجة قضايا يقينية الصدق. فبأي عقل، وبأي منطق نفضل عن هذا المنهج المستقل عن التجربة — أي منهج الرياضة الذي تقتفي خُطاه الميتافيزيقا — منهجًا آخر يعتمد على التجربة، فتجيء نتائجه وهي العلوم الطبيعية، في قضايا احتمالية الصدق، والواقع أن التجريبيين لم يكونوا جميعًا بجرأة مل وصلابته التجريبية، حتى يزعموا معه أن قضايا الرياضة ما هي إلا تعميمات تجريبية،٥ وربما كانت هذه العقبة هي التي منعت التجريبيين طوال خمسة وعشرين قرنًا — هي عمر الفلسفة — من اتخاذ موقف شديد التطرف، كموقف دائرة فيينا.
-
(ب)
وكتاب برنكبياما تيماتيكا هو الذي أتاح للدائرة هذا الموقف، حين تمكَّن من تبيان الخاصة التكرارية للقضايا الرياضية، وكيف أن شِق القضية الأول يشير إلى عين ما يشير إليه شقها الثاني تبعًا لما اصطلحنا عليه من دلالات الرموز، أنها تحصيل حاصل، فارغة من المحتوى المعرفي، لا تدَّعي أدنى إخبار عن الواقع، وكانت هذه النتيجة هي الأساس الذي انطلقت منه رسالة فتجنشتين مقررة أن الصورة المنطقية للقضية الرياضية: «أ» هي «أ»؛ أي لا تقول شيئًا أكثر من إثبات ذات الهوية، عكس قضايا العلوم الطبيعية، فهي إخبارية وتتخذ الصورة المنطقية: «أ» هي «ب».
-
(جـ)
ومن هذا المنطلق كان تقسيم الوضعية المنطقية الشهير للعبارات أو الجمل أو سائر ما يتمثل في الصور النحوية إلى قسمين:
- (١) العبارات ذات المعنى Meaningful، وهي إما العبارات التحليلية، أي قضايا العلوم الصورية (= المنطق والرياضة)، وإما القضايا التركيبية القائمة على الخبرة (= قضايا العلوم الطبيعية والتجريبية).
- (٢) العبارات الخَلْو من المعنى Meaningless: وهي التي تخرج عن هذين النوعين، أي العبارات الميتافيزيقية؛ فالوضعيون يطابقون بين المعنى وبين العلم، وحيث لا علم لا معنى.
- (١)
- (١) القضايا التحليلية Analytic: قضايا العلوم الصورية، حيث تنحصر قيمة القضية داخل ذاتها فهي تحصيل حاصل Tautology، شقها الأول يعني عين ما يعنيه شقها الثاني؛ لذلك فهي تكرارية — تكرر في المحمول عين ما قالته في الموضوع — تبعًا للمصطلحات الأرسطية، ليس لها أي محتوى معرفي أو قوة إخبارية، تصل إليها استنباطًا، نعرف صدقها أو كذبها فقط بتحليلها تحليلًا منطقيًّا لغويًّا، فإذا أوضح التحليل أن الشق الأول هو بعينه الشق الثاني مثل «للمربع أربعة أضلاع» كانت صادقة؛ لأن القضية التحليلية مجرد إثبات للهوية، إثبات لهوية المربع، أو ما اصطلحنا على تسميته مربعًا؛ لذلك فهي يقينية، أي مطلقة الصدق؛ لأن صدقها يعتمد على الضرورة المنطقية، فلا مجال إطلاقًا للخطأ، هنا وفي كل مكان في الدنيا وفي الآخرة، يستحيل القول بأن المربع ليس له أربعة أضلاع؛ لأنه يعني ببساطة أن المربع ليس مربعًا، والضرورة المنطقية تستلزم استحالة النقيضين؛ لذلك فالقضية هنا إن كانت صادقة كانت ضرورية، وإن كانت كاذبة كانت متناقضة ذاتيًّا Self Contradict.
ورغم كل ذلك فالمسألة اتفاقية بحتة؛ لأن اللغة اتفاقية بحتة، تتوقف على أسلافنا القدامى، فقد اتفقوا على الإشارة بلفظ «المربع» إلى شكل له أربعة أضلاع، وكان يمكن أن يتفقوا على الإشارة إليه ﺑ «س» أو «ع» أو أي رمز آخر، الضرورة في قوانين منطق اللغة والفكر وليس في الواقع؛ فالواقع لا ينطوي على أية ضرورة، لكن القضية التحليلية ليس لها أية علاقة بالواقع.
خلاصة القول: إن القضية التحليلية تكرارية، تحصيل حاصل، استنباطية عقلية يقينية ضرورية، محك الصدق فيها هو اللغة.
- (٢) القضايا التركيبية Synthatic: وهي قضايا العلوم الطبيعية، التي تنقل خبرًا عن العالم الواقع من حولنا، فهي إذن إخبارية ذات محتوى معرفي، نصل إليها استقراءً٦⋆ لخبرة الحواس، والتحليل المنطقي لأمثال هذه القضايا يردها إلى سلسلة من القضايا الذرية، أي القضية التي تشير إلى واقعة معينة في نقطة معينة من نقاط المكان، ولحظة معينة من لحظات الزمان حتى ينتهي تحليل الوضعيين إلى سلسلة من المعطيات الحسية التي تبعث بها الواقعة؛ إذ المرجع هنا في قيمة الصدق (أي الصدق أو الكذب) هو خبرة الحواس، لكن ينبغي التحفظ؛ فالصدق أو الكذب هنا نسبي يستحيل إطلاقه، المعطيات الحسية تشير الآن إلى صدقها، لكن من يدري قد يتغير في الغد العالم الطبيعي، أو تتغير المعطيات الحسية، أو تتكامل بعد نقص، فتصبح القضية كاذبة، إنها لذلك عرضية احتمالية، يستحيل أن تكون ضرورية.
خلاصة القول: إن القضية التركيبية تجريبية استقرائية احتمالية عرضية، محك الصدق فيها هو خبرة الحواس.
هذان هما نوعَا القضايا ذات المعنى، وهم يفضِّلون اصطلاح عبارة ذات معنى Meaningful Statement، عن اصطلاح لها معنى has a meaning؛ لأن الصيغة الأولى تظهر بمزيد من الوضوح أن المعنى صفة للعلاقات، وليس شيئًا يضاف إليها،٧ أي شيء يتحد بنفس طبيعة الجملة.
رابعًا: الميتافيزيقا لغو
-
(أ)
أما الحديث عن الميتافيزيقا، فهو حديث ذو شجون، فأمْيَز ما يميز الوضعيين أنهم قوم ضاقوا ذرعًا بعقم المشاهد الميتافيزيقية، التي بقيت ثلاثة وعشرين قرنًا حيث خلَّفها أرسطو، بينما تحقق المباحث التجريبية تقدمًا متصلًا لا ينقطع أبدًا، فمن ذا الذي يزعم أن ميتافيزيقا القرن العشرين أدنى إلى الصواب قيد أنملة من ميتافيزيقا أرسطو، فما هو هذا الصواب، وهل من خبرة عساها أن تخبرنا به؛ لذا كانت الوضعية على العموم، والمنطقية منها على أخص الخصوص هي فلسفة قامت لكي تقوض دعائم الميتافيزيقا، وتزيحها تمامًا من عالم ينبغي أن ينفرد به العلم وحده.
-
(ب)
وقد تيسر لهم ذلك فيما اعتقدوا بناءً على النقطة السابقة من تقسيم القضايا ذات المعنى أي العلمية إلى تحليلية وتركيبية، ولما كان مبدؤهم الأساسي هو أن أية قضية واضحة ومفهومة لا بد أن تقوم على أساس الخبرة، فقد انزاحت العقبة الرياضية حين اتضح أنها مجرد إثبات للهوية لا تخبر بشيء — كما أوضحنا آنفًا — فبفضل جهود رسل وفتجنشتين أمكن للتجريبي — وهو هنا الوضعي المنطقي — أن يحتفظ تمامًا بمبدئه، وعليه فقط أن يضيف إليه: «ما لم تكن إثباتًا للهوية.» فيصبح أية قضية واضحة ومفهومة لا بد أن تقوم على أساس الخبرة، ما لم تكن ثباتًا للهوية، وطالما أنه لا يوجد ميتافيزيقي واحد قد أعد نفسه ليعترف بأن قضاياه لا تخبر بشيء عن العالم «٢» — أي ليست مجرد إثبات للهوية، وهي بالطبع ليست قائمة على أساس الخبرة الحسية — أمكنهم استئناف المسير إلى هدفهم المروم، فيدَّعون أن القضايا الميتافيزيقية غير واضحة ولا مفهومة؛ لأنها غير ذات معنى ولا حتى مغزى nonsense تفهمه منها، لكي نحكم عليها بالصدق أو بالكذب، إنها لا ترقى حتى إلى مرتبة الكذب؛ ذلك لأنها تدَّعي الإخبار عن العالم، أي تخبر عما لا يمكن الإخبار عنه، أي تدَّعي فعل ما لا يمكن أن يُفْعَل، إنها إذن تناقض نفسها كما أوضح كانْت، أوَلَيس من الجائز أن نلقى في إحدى صفحات كتاب يؤرخ للميتافيزيقا قضية تزعم أن الحقيقة هي المطلق، وفي صفحة أخرى «الحقيقة ليست هي المطلق.» وكل من القضيتين مصحوبة بأدلة تبدو دامغة، ولما كان الفصل بينهما مستحيلًا، أوجبت الأمانة العلمية على المؤرخ تقرير القضية ونقيضها، وما هكذا يكون تقرير الكلام ذي المعنى.
-
(جـ)
هذه هي الأفكار التي تحدد الهيكل العام لفلسفة الوضعيين المناطقة، والتي أخذت الدائرة تناقشها وتتداولها في اجتماعاتها المستمرة، حتى أُصيبت باغتيال رائدها موريتس شليك عام ١٩٣٦م على يد طالب مأفون من جامعة فيينا، فكان أن انحلَّت الدائرة، وأكد على هذا الانحلال الغزو النازي الذي أصاب النمسا في بوادر الحرب العالمية الثانية، ولنزعتهم العقلانية والعلمية أقيل كثيرون منهم من الجامعة وكان معظمهم — كبوبر — ينحدر من أصول سامية يهودية؛ مما أدى إلى تفرُّقهم في غرب أوربا وأمريكا، مخافة بطش هتلر باليهود.
لكن النظرة الثاقبة تبيِّن أننا لا نجد أمامنا إلا مجموعة أفكار مستقلة تقريبًا، والذي يمثل العمود الفقري الذي يقيمها ويقيم المذهب ويحقق هدفه الأساسي، إنما هو معيار التحقق وما تبع اهتراءه من معايير، إنه أهم أفكار المذهب وأشهرها، فضلًا عن أنه موضوعنا الأساسي الذي جَرَّنا إلى الحديث عن الوضعية.
(٢) المعايير الوضعية لتمييز العلم
(١) لقد اتضح الآن مدى افتتان الوضعية بالعلم التجريبي الحديث، وفي الآن نفسه مدى غضبهم (المضري) الذي لا يُبْقِي ولا يذر على شتى المباحث الميتافيزيقية، حتى نادوا بأن يصبح العلم ومنطقه هو فقط النشاط العقلي والذي لا نشاط سواه.
ولكن كيف ننقح ميادين النشاط العقلي حتى لا يصبح فيها إلا العلم؟ لا بد من معيار يمثل الفيصل الحاسم بينه وبين اللاعلم، عدنا إذن إلى المشكلة التي يعالجها هذا البحث مشكلة تمييز المعرفة العلمية.
وقد أدت محاولات الحلول هذه إلى طرح أفكار لحل نفس المشكلة — تمييز المعرفة العلمية — فلم يعد أمامنا معيار التحقق فحسب، بل ومعيار القابلية للاختبار والتأييد، ولغة العلم ومحاولة فتجنشتين المتأخرة، كلها تحاول تحقيق هدف التحقق متفادية أخطاءه.
(٣) من ناحية أخرى فقد سبقت هذه المعايير — خصوصًا معيار التحقيق — معيار القابلية للتكذيب البوبري، فقد عرف طريقه إلى الأسماع والأبصار، وشغل الأوساط الفلسفية قبل أن تعرف هذه الأوساط بوبر أو معياره؛ لذلك كان عبثًا كبيرًا على بوبر أن يلقى مكانًا لمعياره، لا سيما أن الوضعية كانت موضة شائعة في عصرها، ومن يخرج عليها — كبوبر — يعد رجعيًّا متخلفًا.
بالإضافة إلى ما يبدو للوهلة الأولى من تشابه بين التحقيق والتكذيب، مما ساعد على شيوع الخطأ الكبير باعتبار بوبر وضعيًّا، واعتبار القابلية للتكذيب مجرد امتداد للقابلية للتحقيق أو تعديلًا له.
ولقد ذاع هذا الخطأ، لدرجة أن دائرة المعارف الفلسفية — وهي المرجع العلمي الرفيع الذي لا يتطرق إليه شك أو نقد — تعتبر التكذيب مجرد امتداد للتحقق، فتتناوله تحت مادة مبدأ التحقق، وتعالجها في إطار واحد، ومن منظور واحد، والحقيقة الحقة أنهما جد مختلفان شكلًا وموضوعًا، وقد وجَّه بوبر نقده الحاسم لمعيار التحقق ولسائر معايير الوضعية جملة وتفصيلًا، واختلفت محاولته لتمييز العلم اختلافًا شكليًّا وموضوعيًّا وفلسفيًّا عن معيار التحقق وعن سائر معايير الوضعية.
لكن ما هو معيار التحقق هذا أولًا؟
لقد استبعدوا القضايا التحليلية: الرياضة والمنطق، المعيار يُطَبَّق فقط على القضايا التركيبية، ليحدد منها العلم الطبيعي، ويستبعد الميتافيزيقا، ودع عنك الأوامر والنواهي وسائر التعبيرات الدالة على قيم معيارية من قبيل: «ما أجمل الزهور» «القتل جريمة بشعة» ومثال هذه التعبيرات في عرفهم محض إنشائية، ونظرًا لأن فلسفة الوضعية ذات خاصة معرفية فهي لا تعنيهم البتة، بل تعني نقاد الفن والأدب، المهم ألَّا يزعم أصحابها أنهم يزيدوننا معرفة بالواقع.
ولما كان التحقق معيارًا للمعنى فهو يشمل أيضًا التحقق من المفاهيم والكلمات، وطبعًا العبارة لن تقبل التحقق إلا إذا كانت كل المفاهيم الواردة فيها قابلة للتحقق.
غير أن المعيار أثار الكثير من النقاش، فهو ذاته لا قضية تحليلية ولا قضية تركيبية تقبل التحقق، فكان أن عرض الوضعيون قبوله على أساس براجماتي، ثم إن القضية قد لا تقبل التحقق لأسبابٍ منطقية، أو لأسباب فنية قاصرة على الوقت الراهن، أو لأسباب فيزيائية … إلخ، فأي من هذه الوجوه يحمل معه الخلو من المعنى، لحل هذا ميزوا بين التحقق المباشر للقضايا التي تدور حول المدركات الحالية، والتحقق غير المباشر لبقية القضايا ذات المعنى، وقريب من هذا ما فعله آير حين ميز بين: التحقق بالمعنى القوي، والتحقق بالمعنى الضعيف.
غير أن هناك مشكلةً معينة بَدَت على درجة قصوى من الخطورة، فلقد أحس الوضعيون أنفسهم أن معيار التحقق لن يحطم الميتافيزيقا فقط، بل وسوف يحطم العلم أيضًا؛ ذلك أن قوانين العلم بطبيعة الحال ليست قابلة للتحقيق، إذ ليست هناك أية مجموعة من الخبرات يكون اكتسابها مكافئًا لصدق قانون علمي.
وكان حل شليك قريبًا من حل صديقه وأستاذه فتجنشتين؛ فقد ادعى أن القوانين العلمية ليست عبارات، بل هي قواعد ورخص للاستدلال، غير أن كارناب ونيوراث اعترضَا على هذا مستندين إلى أن القاعدة — طبعًا — تستحيل محاولة تكذيبها، أما القوانين العلمية فإننا نحاول تكذيبها، فهي إذن عبارات إخبارية وليس مجرد قواعد، وواضح أن هذا مجرد استجابة من كارناب لتأثيرات بوبر، وأثر بوبر يمتد لدرجة أن الوضعيين أنفسهم اعترفوا بأنه حتى القضايا الجزئية والمفاهيم لا يمكن أن نتحقق منها تحققًا كاملًا.
أما القصور لا نقاش فيه، فهو أن التحقق أو إمكانية التحقق — ولا فارق بينهما — تميز العلم، ولكن لا تستطيع إطلاقًا التمييز بين العلم، فلا يمكن مثلًا للعالم إبان بحثه اختيار فرض علمي بين مجموعة فروض متنافسة؛ لأنه أكثر أو أقل قابلية للتحقق، بعبارة أخرى: لم نسمع من الوضعيين أي شيء عن درجات القابلية للتحقق، فهو لا يُجْدِي العالم في شيء، فكيف بالله يكون أساسًا لفلسفةٍ هي أولًا وأخيرًا علمية.
تلك بصفة عامة المشاكل التي تبدَّت في وجه معيار التحقق، مما جعله يتخذ تدريجيًّا صورًا أخرى، باعتقاد أنها مستطيعة التغلب على هذه الصعوبات.
وحينما تكون النظرية علمية، فلا يمكن بالطبع أن يفضي الاختبار إلى تأييد حاسم، بل فقط إلى بينة مؤيدة بدرجة أكبر أو أصغر، ومن هنا يمكن اعتبار معيار القابلية للتأييد والاختبار، هو أيضًا للاختيار بين الفروض العلمية، فنختار الفرض الأكثر قابلية للتأييد على أساس المحكات الآتية: كمية ونوعية ودقة البيئة المؤيدة — التأييد بالقضايا اللزومية الاختبارية الجديدة — التأييد النظري.
والآن فبصرف النظر عن أن معيار التكذيب يحل محل التأييد بصورة أكفأ كثيرًا كثيرًا، فإن أبسط ما تقوله لهمبل هو أن شذى الاستقراء ما زال يفوح طالما نبحث عن البينات المؤيدة إيجابًا، وأن التأييد لا يعلو أن يكون صورة ضعيفة من التحقق.
لكن الذي يعلي من شأن نظرية همبل، هو أنه طرح خرافة المعنى جانبًا؛ استجابة لدعوى بوبر، رغم أن فكرة المعنى من أسس الوضعية المميزة، وأوضح أن التأييد فقط لتمييز العلم والتعامل مع الفروض العلمية.
(صوري؛ لأن كل أحاديث كارناب هي — في رأيه — من النمط الصوري؛ لأنها منطق العلم الذي يتحدث عن العلم، أما العلم ذاته — والذي يتحدث عن الأشياء المادية — فهو من النمط المادي، إذن عند كارناب: اللغة الشيئية = النمط المادي، اللغة البعدية = النمط الصوري.)
-
هل يمكن رد مفاهيم علم النفس إلى مفاهيم الفيزياء بمعناها الضيق؟
-
هل يمكن رد قوانين علم النفس إلى قوانين الفيزياء بمعناها الضيق؟
وللرد بالإيجاب ليصبح علم النفس فقط علم السلوكيات، وتصبح كل عبارة ذات معنى سواء حول الحيوان أو الإنسان قابلة للترجمة إلى عبارة حول الحركات الزمانية المكانية للأجسام الفيزياء؛ أي للغة الفيزياء، أو لغة العلم الموحد.
(٣) خاتمة: عود إلى بوبر
كانت هذه الأقصوصة، التي تناثرت من حولها الشائعات لدرجة أن رسالة من نيوزيلند وصلت بوبر، تسأله عمَّا كان فعلًا قد تشابك مع فتجنشتين بالأيدي والبوكر، لنوضح مدى نفور بوبر العنيف الذي وصل لحد الكراهية الشخصية من آراء فتجنشتين.
(٣) كان هذا تمهيدًا للنزال الفلسفي الحامي الوطيس، والذي سنرى بوبر يخوض غماره ضد فتجنشتين والوضعية عمومًا، وضد محاولاتهم للتمييز خصوصًا، فتجنشتين ليس وضعيًّا منطقيًّا بأي معنى انتمائي، لا هو مؤسس الدائرة ولا هو عضو فيها، لكن الذي لا يختلف عليه اثنان، أن الوضعية المنطقية ليست إلا صورة متطورة متطرفة من فلسفته، لا سيما في مرحلتها الأولى، المعروضة في الرسالة المنطقية الفلسفية، وربما لو لم تكن هذه الرسالة لما كان هناك وضعية منطقية بالذات؛ لذلك جاز لنا أن نضع فتجنشتين مع الوضعية المنطقية ونضع معاييرهم لتمييز المعرفة العلمية معًا في ناحية واحدة، ونضع بوبر في الناحية المقابلة لها، كي نعرف رأيه في هذه المعايير، أو بالأصح نعرف كيف حاول بوبر تبيان أخطاء هذه الفلسفة، تمهيدًا لإسقاط معاييرها لتمييز العلم.
John Passmore, A hundred Years of Philosophy, p. 367.
وفي تفصيل محاولة فتجنشتين هذه، وتفصيل نقد بيتر مونز لها ولفتجنشتين، كتابنا «تيارات الفكر المعاصر».
وللكتاب ترجمة عربية بعنوان: فلسفتي كيف تطورت، بقلم عبد الرشيد الصادق، مراجعة د. زكي نجيب محمود، مكتبة الأنجلو، القاهرة سنة ١٩٦٠م.