بوبر ينقد معايير الوضعية لتمييز العلم
مقدمة
لذلك لا بد وأن يكون النقد السليم لمعايير الوضعية لتمييز العلم جزئيًّا، ويمتنع على بوبر بالذات أن يجيء به كحكم كلي عام، يترتب على نقد الخطوط العريضة في الفصل السابق.
(٢) لكن لا بأس من إفراد الجزء الثاني من هذا الفصل، لوضع خطوط أساسية لنقد عام ينطبق على المحاولات كلها باتجاهها العام، ثم تنفرد الأجزاء التالية لنقد كل محاولة على حِدَة، فيكون الجزء الثالث لنقد التحقُّق، والرابع للتأييد، والخامس لمحاولتَي كارناب وفتجنشتين، أما الجزء السادس فهو خاتمة.
(١) نقد المعايير بصفة عامة
(١) ما هو النقد الكلي الذي ينطبق على المحاولات بصفة عامة، والذي يمكن استخلاصه من كتابات بوبر؟ أول ما يقال في هذا الصدد هو أن النزاهة جافت هذه المحاولات، ومجافاة النزاهة بلا مراء أخبث الأدواء الفكرية.
وهذه النظرة التطبيعية هي نظرتهم إلى المعنى، فمبدؤهم يحتِّم أن أية عبارة تجريبية إما ذات معنى أو بغير معنى، وليس ذلك بالاتفاق فيما بيننا، ولا حتى بالقواعد التي اصطلحنا عليها، بل كمسألة أمر واقع، يعود إلى صميم طبيعة العبارة، كما يعود اللون الأخضر إلى صميم طبيعة النبات، وليس إلى القواعد المصطلح عليها بيننا.
لتوضيح هذا النقد من بوبر، يمكن القول إنه ليس من الضروري أن نستخدم عبارات تؤدي إلى التناقض الذاتي، كالتي استخدمها رسل في توضيح الأهمية العظمى لنظرية الأنماط المنطقية، فمن الممكن استخدام عبارات تنطبق على مستويات منطقية مختلفة ولكنها ليست متناقضة كأن نقول: إنها جميعًا فئات لها أفراد قابلة للدخول في علاقات منطقية.
هذا نقد من بوبر لوجهة معينة من المعايير، وجهة اعتبار الميتافيزيقا خالية من المعنى بصميم طبيعتها، بعضد من نظرية الأنماط المنطقية.
ثم إن بعض العبارات العلمية قد تكون قابلةً للتحقق جدلًا، بينما نفيها غير قابل له، فهل تكون العبارة ذات معنى، بينما نفيها غير ذي معنى! هذا كلام لا يستقيم، أو هو لغو وضعي بغير معنى (هذا ما تفاداه كارل همبل في معيار القابلية للتأييد).
إذا أردنا مثالًا يوضح هذا النقد الوجيه من بوبر، فلنأخذ القانون العلمي الذي يسمى أحيانًا صياغة بلانك لأول قوانين الديناميكا الحرارية، وهو: «لا توجد آلة أبدية الحركة»، هذا قانون طبيعي، إذن ذو معنى، لكن الملاحظ أنه عبارة كلية، أي لا وجودية، والتي ثبت استعصاؤها على التحقيق، فمن الأحرى أن العبارة الوجودية المناظرة له، أي نفيه، تكون وقوعها داخل نطاق العلم أوضح وأكثر حسمًا، لكن هذه العبارة الوجودية هي «توجد آلة أبدية الحركة» ليست علمًا أي غير ذات معنى!
الحديث المتسق هو أن تكون العبارة صادقة، بينما نفيها كاذب، لكن كيف تكون العبارة ذات معنى ومجرد نفيها بغير معنى؟! أخْذُ الوضعيين بالمعنى واللامعنى جعَلَ الحديث يلتوي ويتناقض.
ثم إن تطور العلم عن الأساطير والميتافيزيقا، يحتِّم وجود حدود مشتركة بينهما، أو على الأقل باهتة، أي ستظل على الدوام بعض من الأفكار المشتركة بين العلم والميتافيزيقا، وهذا يوضح من ناحية أخرى أن الخرافات من شأنها أن تطور بعضًا من عناصرها القابلة للاختبار، حتى تصل إلى الدرجة العلمية.
الخلاصة أن الخط بين العلم واللاعلم متموج وليس مستقيمًا، والفصل الحاسم القاصم مستحيل.
(٦) تلك هي الخطوط العريضة للنقد الذي ينطبق على المحاولات ككل، حسب استخلاصها من كتابات بوبر: إنها ليست نزيهة، وتصورت إمكانية نقد أو هدم الميتافيزيقا بأسرها بمبدأ واحد، واعتقدوا أن رأيهم ليس رأيًا، بل كشفًا لصميم الطبائع، ثم طابقوا بين العلم والمعنى واللاعلم واللامعنى، وتصوروا إمكانية الفصل الحاسم بينهما.
كل هذه الأخطاء وغيرها، تأدَّت بجميع معايير الوضعيين إلى أن تكون مكنسة تكنس الكثير جدًّا: النظريات الفيزيائية الكلية، وتكنس القليل جدًّا، تترك معظم عبارات الميتافيزيقا وكل عبارات العلوم الزائفة؛ أي ببساطة نظل في فوضى معرفية، ومعايير للتمييز لا مبرر لإقامتها.
لكن المحاولات بَدَت في الفصل السابق عديدة ومتميزة، فلا بد من لقاء بين بوبر وبين كل محاولة على حِدَة، وليكن الجزء التالي للقاء بوبر أو نقده للتحقق، أهم المعايير وأبرزها وأكثرها شيوعًا وشهرة، إنه الأصل والعلم، أو على الأقل المعيار الوضعي الرائد.
(٢) نقد معيار التحقق
طبيعي أن يجيب بوبر على هذا بالنفي، لا الخبرة الحسية ولا أي شيء آخر يمكن أن يكون المصدر النهائي للمعرفة، فهو يرفض تعيين هذا المصدر، بل وينفي إمكانية الوصول إليه، ويصر على الترحيب بكافة المصادر، شريطة تعريض نتائجها للنقد.
- (أ) عملية تعقب أية معلومة إلى أسسها النهائية — حتى وإن كانت معلومة تجريبية — هي عملية مستحيلة، فإذا حاولناها ندخل في سلسلة من الإجراءات المملة المعقدة الشاقة، ونجد موضوع البحث في النهاية قد ازداد واتسع، ككرةٍ من الجليد تتدحرج فوق الثلج،٢٢ هناك استحالة نظرية في تطبيق المعيار، سيتشعب بدلًا من أن ينحلَّ — كما يظن الوضعيون — إلى سلسلة من الملاحظات الحسية البسيطة.
- (ب)
حتى الملاحظة الحسية في حد ذاتها، تتضمَّن هي نفسها تأويلًا، إنها مصبوغة بمعرفة الملاحظ، أما الملاحظة الخاصة فهي مستحيلة، وإن أمكنت فهي عقيمة غير مثمرة، بعبارة أخرى: العبارات التجريبية ليست محض مدركات حسية، بل فيها شيء آخر أضفاه الذهن، هذا النقد من بوبر قائم على أساس فكرته المعروضة في الباب السابق: فكرة إسقاط الاستقراء على أساس التوقعات أو الافتراضات العلمية التي تسبق الملاحظة التجريبية.
- (جـ) ثم إن محاولة تطبيق المعيار باتِّساق، سوف تبطل ما أسماه آينشتين بالمهمة العليا للفيزيائي،٢٣ مهمة البحث عن الأسس النظرية العامة.
- (د)
وحتى المعلومات المقامة على ملاحظات حسية يمكن التحقُّق منها مباشرة، والتي قد تكون ذات أهمية كبيرة، قد تخطئ وبحسن نية، لا سيما إذا كان الحدث مثيرًا وجريئًا، أو حدث بسرعة، أو إذا كان من نوعية تغري بالتأويل أو تطلب تفسيرًا معينًا، هذا التفسير والتأويل في معظم الأحيان يشوه ما تمت رؤيته بالفعل، بعبارة أخرى: عملية التحقق الحسي إن أمكنت أصلًا، فهي مستحيلة الإمكان الخالص؛ أي النزيه، الآن قد بَدَتْ الاستحالة أمام فكرة التحقق أصلًا.
- (هـ) وإن استحالة التحقق لقائمة في أبسط عبارة؛ لأن كل وصف يستعمل أسماء كلية، مما يجعل لكل عبارة — معنى ما — خاصية النظرية أو الفرض، أبسط مثال «هنا كوب ماء.» لا يمكن أن تحققها أي خبرة ملاحظة، والسبب أن الكليات التي ظهرت فيها لا يمكن أن تقصر على أي خبرة حسية محدودة، الخبرة الحسية الفورية، هي فقط الخبرة الحسية الفورية، حالة فريدة، أما كلمة كوب «مثلًا، فهي تشير إلى أجسام فيزيائية تعرض ما يشبه القانون في السلوك، وبالمثل كلمة ماء.» الكليات لا يمكن أن تُرَدَّ إلى فئات من الخبرات التحقيقية، إنها لا يمكن أن تؤسسها.٢٤
إذن حتى الآن يمكن اعتبار هذا النقد من بوبر للتحقق، لا يعدو أن يكون رفضًا له على أساس وجهة نظره التي تخالف الوضعية؛ لذلك فهو في الواقع ليس نقدًا موضوعيًّا ملزمًا وما له هذا الشأن إنما هو الانتقادات التالية:
وليس من العسير رد هذه الدعاوى الفارغة من آير، فإن اختبار النظرية بواسطة الوقائع لا يعني التحقق منها، فالتحقق غير مطلوب نهائيًّا؟ وإذا كان هناك هدف من الاختبار بالوقائع، فهو محاولة التكذيب، ثم إن الأمر اختلط على آير كما هو واضح؛ فقد كان يهدف أصلًا إلى دحض أفكار بوبر لأن يكون التحقق مصدرًا للمعرفة؛ وبالتالي محكًّا للصدق، وواضح أن كل ما قاله لا يعني إطلاقًا أن التحقق؛ أي الخبرة الحسية مصدرًا، بل يعني نفس ما يعنيه بوبر من أن الخبرة الحسية تحدد مصير النظرية، بعد أن نكون قد وصلنا إليها من أي مصدر شئنا.
- (١)
الورقة التي أكتب عليها.
- (٢)
منديل اليد.
- (٣)
السحب.
- (٤)
تمثال من الجليد.
الحق أن هذا نقد معقول من بوبر، فكرة أن ضرورة التحقق من الكلمات كي تكون ذات معنى، تعني أننا نحدد بدقة الدلالات الحسية للكلمة قبل أن نستعملها، معنى ذلك أن الاستعمال لن يكون إلا تركيبات منطقية ومن هنا نجد أن مبدأ التحقق من الكلمات الذي أكده شليك خصوصًا، سيفضي بنا إلى عالم من تحصيلات الحاصل، ولا قضايا تركيبية، وأَوْجَه ما في هذا النقد أنه يوضِّح خطورته على العلم ذاته، وحجتهم أنهم يضحون بكل شيءٍ من أجله فماذا أبقى لنا هذا المذهب المتناقض، بعد أن عرض العلم ذاته للخطر، فإن هذه اللغة ذات المفاهيم المتحققة، تسد الطريق أمام عالم، تكشف أمامه وقائع جديدة هذه اللغة غير ملائمة للأغراض العلمية لا يمكن صياغة الفروض فيها، أية لغة مناسبة للعلم هي على العكس تمامًا يجب أن تحوي كلمات لا يمكن تعريفها عدديًّا، ويجب أن تستعمل الكلمات الحقيقية، سواء أمكن تعريفها أو تحقيقها أم لا، بعبارة أخرى: كل فرضٍ علمي جديد، يفتح أفقًا جديدًا، فكيف نعبِّر عنه بلغة اسمية، حددت سلفًا وبدقة مفاهيم كلماته، على هذا لا يبدو مسوغًا لرفض بعض المفاهيم لأنها ميتافيزيقية، فأين هو التمييز، إن التحقُّق من المفاهيم لا يناسب إطلاقًا، لغة العلم فضلًا عن أن يميزه.
لقد كان نقد بوبر في هذه الفقرة منصبًّا على منحاهم الأسمى، وتعريفاتهم العددية للكلمات المتحققة، التي يريدونها تجريبية لدرجة أن تكون مجرد تجميعات عددية، من شأنها أن تسدَّ الطريق أمام تقدُّم العلم، وبغير أن تميزه أصلًا.
(٣) نقد معيار القابلية للتأييد والاختبار
(٣) كما أن معيار التأييد لن يميز العلم أكثر مما يميزه التحقق، فالعبارة تكون أكثر قابلية للتأييد، كلما كانت أكثر قابلية للاختبار بمقاييس الوضعية أي كلما أمكن اشتقاقها من عبارات الملاحظة؛ فالتأييد — كما أوضح الفصل الأول — يعني اتصال العبارة بفئة من عبارات الملاحظة من هذه الوجهة تكون النظريات غير قابلة للتأييد بدرجة عالية؛ لأنها غير قابلة للاشتقاق من عبارات الملاحظة فهي غير قابلة للتأييد بصورة مرضية، تمامًا كما أنها غير قابلة للتحقق بصورة مرضية وما زال معيار التأييد يستبعد الهامَّ من العلم؛ النظريات الكلية المثمرة.
الخلاصة أن معيار التأييد — كسائر معايير الوضعية — مكنسة تكنس الكثير جدًّا (النظريات الكلية العلمية)، وتكنس القليل جدًّا (تترك العلوم الزائفة والميتافيزيقا)، والنتيجة أن نظل في فوضى معرفية، ومعيار للتمييز لا مبرر لأن يقام.
وفضلًا عن أن وارنوك لم يفهم بوبر جيدًا في أكثر من موضع، أو في كل موضع، وفضلًا أيضًا عن أنه قال هذا فقط بسبب خضوعه الدوجماطيقي لسلطان الاستقراء، فإن لنا أن نستأنف عرض نظرية بوبر بما هو كفيل بفك هذا التناقض الظاهري؛ إذ إن الاحتمالية العالية لو كانت هدفًا للعلم، لأصبح العالم يفضل الاهتمام بتحصيلات الحاصل بينما هدفه هو تقدم العلم، والإضافة إلى محتواه المعرفي، والفلاسفة الاستقرائيون المعتقدون أن العلم يجب أن يهدف إلى الاحتماليات العالية لا يستطيعون التعامل بعدالة مع حقائق من قبيل أن صياغة القوانين الكلية واختبارها هي أهم هدف لمعظم العلماء، وأن قابلية العلم للاختبار البين ذاتي تعتمد على هذه القوانين، أي من الخطر أو من المستحيل احتذاء حذو كارناب في القول بأنها غير ضرورية.
إن درجة تأييد العبارة العلمية وحسب مفهوم بوبر للتأييد؛ تعتمد على قسوة اختباراتها وصمودها أمام هذه الاختبارات؛ أي تعتمد على درجة قابليتها للاختبار، ودرجة القابلية للاختبار بدورها تتناسب تناسبًا طرديًّا مع غزارة المحتوى المعرفي، أي تناسب عكسي مع درجة احتماليتها، إذن طالما نريد درجة عالية من التأييد، فإننا نريد محتوى معرفيًّا عاليًا، أي احتمالية منخفضة.
(٥) لقد انتهت الوضعية إلى أن جميع القوانين الكلية لها درجة التحقُّق صفر، كما أوضح كارناب نفسه في أي عالم لا متناهٍ، وحتى في أي عالم مننتاهٍ عدد الأشياء والأحداث فيه واسع، بما يكفي، فإن درجة تحققه لن تتميز عن الصفر، ونظرًا لارتباط التأييد بالتحقق، وارتباطه السابق بالاحتمال، فإن القوانين الكلية غير قابلة للتأييد، أي تأييدها صفر.
أما فكرة بوبر في أن احتمالية القوانين الكلية صفر، فكونها مناقضة للحس المشترك أو للمألوف، ليس مبررًا كافيًا لتركها، والوقوع في كل هذا الالتواء في مفهوم الوضعية للتأييد، لم يسعف التواءه وتعثره الشديد كمعيار للعلم.
كل هذا جعلهم هم أنفسهم يتركونه في محاولة وضع معيار جديد هو لغة العلم.
(٤) نقد لغة العلم
(٢) لكن كان لهذا المشروع مرحلة أولى، هي اللغة الفيزيائية، خلاصة نقد بوبر لها هو كالآتي:
بعبارة أخرى: من المسلَّم به أن هناك مستويين من الكائنات؛ مستوى فيزيائي ومستوى لافيزيائي، اللغة الفيزيائية تهدف إلى حذف المستوى اللافيزيائي، لكن أحد أوجه هذا المستوى هي العواطف والمشاعر والانفعالات لا سبيل إلى نكرانها، وبالتالي لا سبيل إلى حذف هذا المستوى، فلنضع فيه جميع الكائنات الميتافيزيقية والثيولوجية.
وكما هو واضح فالمدرسة السلوكية مادية على الأصالة، وهي بالطبع اتجاه الوضعية بإزاء علم النفس، ولكارناب وهمبل بالذات باعٌ طويل فيها.
والآن فإن ركيزة نقد بوبر للغة الفيزيائية من وجود العواطف والمشاعر كضرورة لوجود مستوى لافيزيائي، يمكن ردها تمامًا داخل الفلسفة السلوكية فتكون مجرد ردود أفعال سلوكية لمؤثرات بيئية محض فيزيائية، وبذلك يسقط نقد بوبر، والسلوكيون يستطيعون فعلًا استبعاد كافة التفسيرات الداخلية ليستبقوا فقط التفسيرات السببية الخارجية القائمة على الملاحظة المباشرة والتجربة المحدودة بإزاء السلوك الخارجي للظاهرة.
لكن بوبر يجيب على هذا الرد بأنه مجرد محاولة لتفسير كائنات ميتافيزيقية تفسيرًا ماديًّا؛ بغية إرضاء مطالب لغوية.
إنه اتجاه قوي، لا يمكن اعتبار تلك العبارة السابقة من بوبر، والتي قيلت نقدًا للفلسفة اللغوية تقويضًا أو حتى نقدًا له، ويجب أن يعترف بوبر بأن الاتجاه السلوكي فعلًا يرد نقده السابق.
على العموم إخفاق بوبر هنا، ليس بالشيء الكثير، فاللغة الفيزيائية أصلًا تركها واضعوها، وحاولوا أن يضعوا بدلًا منها لغة العلم الموحد.
- أولًا: فكرة جمل البروتوكول، ليست من ابتداع الوضعية تمامًا؛ فقد سبق أن
نادى بها رايننجر Reininger،
وكانت نقطة بدايته التساؤل الآتي: أين يقع التناظر أو الاتفاق بين
العبارات وبين الوقائع أو الحالات أو الشئون التي تصفها؟ ووصل إلى
استنتاج مؤداه أن العبارات يمكن أن تقارَن فقط بالعبارات — نفس ما
وصل إليه نيوراث وكارناب — وتبعًا لرأي رايننجر، فإن التناظر بين
العبارة والواقعة ليس إلا تناظر بين عبارات تنتمي إلى مستويات
مختلفة من العمومية، فالتناظر بين عبارات من مستوى عمومية عالٍ،
ومع عبارات لها نفس المحتوى المعرفي، لكن من مستوى عمومية أقل،
ويظل هذا التناظر يتدرج تنازليًّا في مستويات العمومية حتى نصل في
النهاية إلى العبارات المسجلة للخبرة، والتي يطلق عليها رايننجر
اسم العبارات
العنصرية Elementary statements.٦٤
وهي ليست إلا ما أسماه كارناب ونيوراث جمل البروتوكول.
بل وأكثر من هذا فإن رايننجر مثل نيوراث، رفض اعتبار هذه الجمل غير قابلة للتعديل أو النقد، لكن رايننجر أعطانا منهجًا لاختبار العبارات العنصرية في حالة الشك فيها، وهو منهج مفاده استنباط نتائجها واختبار هذه النتائج،٦٥ أما نيوراث فلم يعطنا مثل هذا المنهج، ولا هو أعطانا أية قواعد أو أسس لقبول جمل البروتوكول أو رفضها وبغير القواعد لا يمكن لعملية التمييز أن تتم عمومًا لم يكن نيوراث مهتمًّا بمشكلة التمييز، وكان طرحه لفكرة «جمل البروتوكول» مخلفًا أثريًّا أو ذكرى باقية لنظرية تقليدية ترى أن العلم التجريبي يبدأ من مدركات الحس (بالطبع يقصد بوبر الاستقراء). - ثانيًا: فكرة جمل البروتوكول ليست إلا النزعة السيكولوجية معبرًا عنها بأساليب كارناب، ونيوراث، فعملية إبدال الخبرات الحسية بعبارة دالة على الحس هو مجرد ترجمة النزعة السيكولوجية في النمط الصوري من الحديث،٦٦ لكن المعرفة الموضوعية علمتنا أن الخبرات الذاتية أو الشعور أو الاقتناع، لا يمكن أن تلعب دورًا داخل العلم إلا دور موضوع علم النفس،٦٧ ولا تجعل جمل البروتوكول مفضلة،٦٨ فضلًا عن اتخاذها أساسًا للعلم وتمييزه.
- ثالثًا: لا يمكن رد صدق العبارة العلمية، إلى الخبرة الخاصة، النسق العلمي كليًّا وجزئيًّا يجب أن يكون موضوعيًّا، المرور بخبرة ذاتية لا يجدي في تبرير عبارة علمية أو حتى لا علمية، ولن يهتم العلم بأني مقتنع أو غير مقتنع بها حتى إن كان سبب هذا الاقتناع بانطباعات حسية لا يتطرق إليها شك الاقتناع الذاتي، لن يعني العلم إلا إذا أمكن طرحه موضوعيًّا، أي مؤيدًا باجتياز اختبارات نقدية منطقية تجريبية حاسمة، إذن يجب مراعاة الموضوعية في أسس العلم كما نراعيها في كافة مراحله، والجمل التي نتخذها أساسًا له، بدورها لا بد وأن تكون قابلة للاختبار البين ذاتي، على هذا لا يمكن أن يوجد في العلم عبارات نهائية غير قابلة للتكذيب من حيث المبدأ ولو عن طريق تكذيب بعض من النتائج التي تلزم عنها؛٦٩ لذلك وجب استبعاد فكرة جمل البروتوكول الصادقة أبدًا.
- رابعًا: من ناحية أخرى فقد جعلت جمل البروتوكول لغة العلم ليست منتمية للفيزياء بما فيه الكفاية طالما تفسح مجالًا للخبرات الذاتية «تكنس القليل» وأيضًا تجعلها منتمية للفيزياء أكثر من اللازم؛ إذ تستبعد افتراضات هي فعلًا ميتافيزيقية، لكن لا بد منها للفيزيائي «تكنس الكثير» فأبسط عبارة عن مقياس الجهد الكهربي — وهذا مثال كارناب نفسه — لا تقبل مثل هذا الرد، ومعظم المفاهيم التي يعمل بها الفيزيائيون، مثل مجالات القوى وجسيمات الذرة، لا تقبل أي رد إلى جمل البروتوكول.
- أولًا: ليست ابتكارًا أو إضافة، بل هي تقليد لريننجر وتقليد مبتسر.
- ثانيًا: ليس في العلم مجال للخبرات الذاتية أسس العلم مثلة يجب أن تكون موضوعية تمامًا.
- ثالثًا: ليس في العلم عبارات مطلقة أو تعز على التكذيب.
- رابعًا: نقد بوبر العام لمعايير الوضعية: هي مكانس تكنس القليل جدًّا وتكنس الكثير جدًّا تجعله جمل البروتوكول منطبقًا على معيار لغة العلم.
هذا عن نقد أساس اللغة، جمل البروتوكول.
- أولًا: وقبل كل شيء ليس هناك ما يسمى بلغة العلم، كي نشغل أنفسنا ببنائها رمزيًّا أو غير رمزي، أمثال هذه التجهيزات الفنية الرمزية المعقدة التي تهدف إلى محاولة إيراد صورة أو نسخة مصغرة للعلم، يستحيل أن تفيد أحدًا في عملية المعرفة لا العلم ولا الفلسفة ولا حتى الحس المشترك، ليس هناك أي نمط من الاهتمامات العلمية يمكن أن يصاغ في مثل هذه اللغة، هذه جهود لا جدوى منها ولا داعي لها، فضلًا عن أن تكون الجهود الفلسفية الوحيدة.٧٠
- ثانيًا: هذه اللغة تحطم نظرية الوضعية التطبيعية في الخلو من المعنى، وبغير أن نترك أي أمل في إعادة بنائه، النقد الذي أبداه بوبر بشأن استعمالهم لنظرية الأنماط المنطقية، يطبقه هنا بوبر بصورة أخرى أكثر حسمًا؛ لأن البرهان على خلو العبارة ذاتها بصميم طبيعتها من المعنى، كان يجب أن يكون صادقًا بالنسبة لكل لغة كافية للعلم التجريبي، الميتافيزيقيون عالمون أن عباراتهم لا تنتمي إلى مجال العلوم التجريبية، فبداهة لن يتخلَّى أحد عن الميتافيزيقا فقط؛ لأنها لا تصاغ داخل العلم، أو داخل لغة مناسبة للعلم،٧١ لتكن الميتافيزيقا خالية من المعنى بالنسبة للغة العلم فهناك لغات أخرى كثيرة يمكن أن تصاغ فيها عبارات الميتافيزيقا بدقة وإحكام، هذا النقد يخرج منه بأن قصارى ما تثبته هذه اللغة هو أن الميتافيزيقا ليست فرعًا من العلم التجريبي ويا لها من نتيجة خطيرة!
- ثالثًا: الوضعي المنطقي، وعالم الرياضيات البحتة كورت جودل Kort Gadel الذي ينتمي مع
كارناب إلى مدرسة فريجه في بناء الأنساق، اشتهر بنظريتيه في
اللااكتمال incompleteness theorems اللتين نال عنهما جائزة آينشتين؛
وهما: النظرية الأولى هي في أي نسق صوري ملائم لنظرية العدد، توجد
صياغة غير قابلة
للفصل undecidable أي صياغة غير قابلة للبرهنة، وأيضًا نفيها
غير قابل للبرهنة.
ولما كان من الممكن أن نضيف إلى هذا أن تلك الصياغة غير القابلة للفصل قد تكون صادقة، فإن النتيجة اللازمة للنظرية هي أن اتساق النسق الصوري الملائم لنظرية العدد لا يمكن البرهنة عليه داخل النسق نفسه، وتلك هي النظرية الثانية.٧٢والآن يتسلَّح بوبر بأن جودل بواسطة هاتين النظريتين، قد أثبت أن هذه اللغة الموحدة (النسق اللغوي الواحد) لن تكون كافية لوضع جميع تقريرات العلم، وإن كفتهم فلن تكون كافية لصياغة براهينهم، وبواسطة النظرية الثانية بالذات، نثبت أن المناقشة حول اتساق لغة العلم بواسطة اللغة نفسها هي مناقشة بغير معنى ولا جدوى،٧٣ هكذا دائمًا لا نجد أي أحاديث فلسفية بغير معنى ولا جدوى إلا أحاديث الوضعيين.ومن ناحية أخرى، فإن تارسكي — صاحب الكشف العظيم في التمييز بين اللغة الشيئية واللغة البعدية — قد أثبت أن أية لغة كلية واحدة تستحيل، وإلا فستكون متناقضة ظاهريًّا Paradoxical؛ إذ كيف يمكن التمييز بين اللغة الشيئية واللغة البعدية، بين لغة العلم ولغة فلسفة العلم، إنها ستكون ملتبسة لا توضح الحدود بينها، وفي هذا الصدد يمكن الإشارة لما أوضحه بوبر من أن الخلط بين مجالي اللغة الشيئية واللغة البعدية هو أكبر أسباب تعثُّر فلسفة كارناب، وهو سبب صعوبة كتابه «التركيب المنطقي للغة» كما أن تارسكي يردف قائلًا: إن منطقها يقع حتمًا خارجها، فيضيف بوبر قائلًا: ولماذا لا تقع ميتافيزيقاها أيضًا خارجها إنها لن تستطيع استيعاب العالم كله، فتغلقه في وجه الميتافيزيقا.
- رابعًا: وقد يعترض الوضعيون على كل هذا النقد من بوبر اعتراضًا مؤداه أن العلم المصوغ بدقة صارمة لم يكن مقصودًا، فكارناب اعتاد أن يتكلم — لا سيما في كتاباته الأخيرة — عن لغة كلية عامة مصطلح عليها universal مما يشير إلى أنه لم يكن يفكر في لغة كلية مصوغة بدقة، بوبر يردُّ على هذا بأنه قول صائب، غير أنه يحطم مرة أخرى صلاحيتها للتمييز؛ وبالتالي مبدأ خلو الميتافيزيقا من المعنى، فإذا لم تكن قواعد لغة العلم الكلية دقيقة صارمة، فإن الحكم بعدم إمكانية التعبير عن الميتافيزيقا فيها حكم جزافي بلا مسوغ يلزمه.٧٤
- خامسًا: بل وإن بوبر سيثبت منطقيًّا، استحالة أن تميز العلم عن الميتافيزيقا، وها هنا نقد بوبر الذي يستطيع بحق أن يطيح بلغة العلم؛ لأن اللغة الملائمة للعلم يجب أن تحتوي مع كل صياغة محكمة نفيها، ولما كانت بالضرورة تحوي جملًا كلية أصبح عليها أن تحوي جملًا وجودية، هذا يعني أنها يجب أن تحوي جملًا عادة مما يعتبرها كارناب ونيوراث وسائر الوضعيين والمُعادين للميتافيزيقا؛ ميتافيزيقية.٧٥
المنطق يقسم القضايا إلى كلية وجزئية ويعتبر القضايا الكلية لا وجودية ليس من الضروري أن يكون لما صدق موضوع الجملة الكلية وجود حقيقي لكن موضوع القضية الجزئية، يجب أن يكون له ما صدق حقيقي وهي لذلك وجودية.
الآن تبدو الفقرة السابقة لبوبر غامضة، فمن المعروف أن قضايا الميتافيزيقا أقرب إلى الكلية أي اللاوجودية، فكيف باحتواء العلم على عبارات وجودية بالذات تكون محتوية على الميتافيزيقا، إنها تكون كذلك بناءً على الآتي:
سيضع بوبر فرضًا ميتافيزيقيًّا، موغلًا في الميتافيزيقية هو: «توجد روح مشخصة، قادرة على كل شيء، حاضرة في كل مكان، عالمة بكل أمر.» واضح أنه شبيه إلى حد ما بفكرة الألوهية، لكن بوبر لم يستطِع طرح مفهوم آلة الأديان كاملًا، فهو يعترف بأن البعد الأخلاقي الخير، لا يمكن فعلًا التعبير عنه في الحدود الرمزية للغة العلم.
- (١)
الشيء «أ» يشغل الموضوع «ب»، أو بدقة أكثر «أ» يشغل موضعًا تمثل النقطة «ب» حيزًا منه بالرموز «مو «أ»، ب» أي العلاقة مو (موضع) تربط «أ» و«ب».
- (٢)
الشيء «أ»، آلة أو جسم، أو شخص، يمكن أن يضع الشيء «ب» في داخل الموضع «ﺟ» بالرموز، «ضع «أ، ب، ﺟ».»
- (٣) «أ» يتفوه٧٦⋆ ﺑ «ب» بالرموز «تو «أ، ب».»
- (٤)
«أ» سؤل عما إذا كان «ب» أم لا بالرموز «سو «أ، ب».»
ونحن نفترض أن لدينا وتحت تصرفنا أسماء لكل التعبيرات على الصورة «مو «أ، ب».» و«ضع «أ، ب، ﺟ».» أيضًا للتعبيرات التي سترِد فيما بعد لمساعدتها.
توخيًا للبساطة سيستعمل بوبر أسماء اقتباسية Quatation Names للدلالة عنها، ورغم أن هذا إجراء غير دقيق لا سيما حين تشير المقتبسات إلى متغيرات كثيرة، كما في رقم ١٤ إلا أنها صعوبة يمكن تخطيها.والآن فباستعمال ١، ٢ يمكن بسهولة تقديم الصياغات الآتية، بمساعدة التعريفات الواضحة (أي التعريفات المنطقية لتلك العبارات).٧٧ - (٥)
«أ» حاضر في كل مكان أو «ل» «كل مو «١».»
وبمساعدة ٣، ٤ نطبق منهج كارناب في الرد، ونقدم الجمل الآتية:
- (٦)
«أ» قادر على كل شيء أو «ل» «كل ضع «أ».»
- (٧)
«أ» يفكر في «ب» أو «فك «أ، ب».»
وكارناب يوصينا بأن نقبل مثل هذا المحمول، وبمساعدة (٧) يمكن أن نضع التعريفات الواضحة الآتية:
- (٨)
«أ» شخص مفكر أو «ش ف «أ».»
- (٩)
«أ» روح مشخصة أو «ش ر «أ».»
- (١٠)
«أ» يعرف أن «ب» في الموضع «ﺟ» أو «ف مو «أ، ب ﺟ».»
- (١١)
«أ» يعرف أن «ب» يستطيع وضع «ﺟ» داخل الموضع «د» أو «ف ضع «أ، ب، ﺟ، د».»
- (١٢)
«أ» يعرف أن «ب» يفكر في «ﺟ» أو «ف فك «أ، ب، ﺟ».»
- (١٣)
«أ» لا يسبر غوره (أيْ لا يعرف: «ف») أو «لا – ف «أ».»
- (١٤)
«أ» يعرف الواقعة «ب»، أو «ف «أ، ب».»
- (١٥)
«أ» موثوق «ب» أو «ث «أ».»
- (١٦) «أ» عالم بكل أمر أو «كل ف «أ».»٧٨
على هذا النحو يمكن بمنتهى السهولة وضع صيغ وجودية رمزية محكمة هي ميتافيزيقية على الأصالة داخل لغة العلم (لذلك كان احتواء اللغة للعبارات الوجودية إمكانية لاحتواء عبارات ميتافيزيقية) وليست هناك أية صلة بين أحكام الصياغة اللغوية داخل الحدود الفيزيائية وبين الخاصة العلمية، أين هو المعيار الذي يميز العلم؟
إن هذا الفرض الميتافيزيقي الخبيث الذي وضعه بوبر، لا يسقط لغة العلم فحسب بل وسائر معايير الوضعية لتمييز العلم، إنه الشاهد القوي الساطع على إخفاق المعايير في استبعاد الميتافيزيقا، أي فقدانها لمبرر وجودها.
(٧) وفي ختام مواجهة بوبر لصديقه الشخصي وخصمه الفلسفي كارناب بقي تصنيف كارناب الأحاديث إلى النمط المادي (حديث العلم) والنمط الصوري (حديث فلسفة العلم) وفكرته القائلة إن كل الأحاديث يجب أن تكون قابلة للترجمة إلى النمط الصوري كي تكون علمية وذات معنى، بوبر يرفض هذا ببساطة، وقصارى ما يمكن قوله أن النمط الصوري أفضل من النمط المادي وذلك فقط حينما تكون ماهية الفلسفة هي التحليل اللغوي، وهذا ما انتهى دحضه الفصل السابق (جزء رقم ٣).
خاتمة
(١) النغمة المسيطرة على هذا الفصل هي احترام وإجلال الميتافيزيقا، وبذل قصارى الجهد للزود عنها وهي في الواقع نغمة مسيطرة على كتابات بوبر بأسرها.
(٢) والنقد الذي كوَّن هذا الفصل لا يفيد في مشكلة التمييز فحسب، بل ويكمل الفصل السابق في إنجاز مهمة النقد الحاسم للوضعية على أساس الدور العظيم الذي تلعبه معايير التمييز في إقامة صلب المذهب.
وطالما أن النقد حاسم ومحيط بالمادة، فوجب الآن أن نعتبر الوضعية ومعاييرها من شئون الماضي أمرًا ذاويًا في تاريخ الفلسفة، وهذا هو الأمر الواقع فعلًا، لقد انتهت الحركة وسواء بفضل من بوبر أو غيره فلا بد أنها واقعة الرضا العظيم له فبعد القضاء على خرافة الاستقراء كان القضاء على الوضعية المنطقية ولا جدال أعظم آمال بوبر الفلسفية.
والآن فإن مناقشة ما إذا كان بوبر وضعيًّا أم لا، هي بداهة من نافلة القول السخيف، لكن المشكلة أن كثيرين يصرُّون على أنه هكذا!
Rudalf Carnap, the Nature and Application of inductive Logic (consisting of six sections from logical foundations of probability), The university of chicago press, chicago and Illinois; 1951.