تعقيب
مقدمة
(١) الكثيرون عرضوا للوضعية، والأكثر عنوا بنقدها لكن موضوع هذه الدراسة عرضتها من منظور جديد، يعني بأن دعائم المذهب على ممر تطوراته هي معايير لتمييز العلم فهي محاولات لتفريده وقصر المجال عليه، أما عن نقد بوبر، فهو أوفى نقد لها، ولا شك أن الفصلين الثاني والثالث قد أثبتا هذا؛ أن بوبر هو الرائد لكل نقدٍ علمي لها.
(١) تعقيب على موقف بوبر من التحليل اللغوي
لكن ورغم ذلك يستحيل أن نمر على موقف بوبر منها، بغير التعقيب عليه تعقيبًا ناقدًا، يوضح أخطاء بوبر، وبغير هذا النقد تكون صحبتنا لبوبر فيلسوف النقد لم تعلمنا الدرس الذي نرومه.
-
مواجهة مع التيار التحليلي عامة.
-
مواجهة مع الوضعية المنطقية خاصة.
ولما كان التحليل هو الأصل والوضعية فرعه، وجب أن نناقش موقفه من التحليل، ثم نناقش موقفه من الوضعية ورفضها للميتافيزيقا ومعاييرها في الجزء التالي.
(٢) لقد وضح أن بوبر يرفض رفضًا جذريًّا — وببساطة — التحليل اللغوي وتحليلات منطق للغة والسبب هو نظريته الوظيفية في اللغة؛ إذ يبغي منها ما يبغيه من مجرد أداة تؤدي وظائف معينة هي الإشارة والتعبير والوصف والجدل، وطالما تمت هذه الوظائف، فلا داعي البتة لما يرومه التحليليون من دقة فوق الحاجة.
إذن الفيزياء علم دقيق، ولكن مصطلحاته ليست بدقته الصارمة، هذا قول صحيح، لكن الخطأ هو اعتباره حجة على أي شيء، حجة بأن نحتذي هذا الحذو ولا نأبه بأن مفاهيمنا اللغوية غير دقيقة، إنه نوع من التقليد الأعمى، والعبودية لتقدُّم الفيزياء هل لأنها أكثر تقدمًا، فيجب أن نحتذيَ حذوها في حسناتها وأيضًا في سيئاتها؟
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإن الفيزياء تعوض هذا اللَّبس في مصطلحاتها باعتمادها أولًا وأخيرًا على اللغة الرياضية، وهل من شك في أن الدقة الفائقة للرياضة بحكم طابعها التحليلي، من أهم أسباب تقدُّم الفيزياء ثم إن الفيزيائيين ليسوا حريصين حرص بوبر على هذا الالتباس في المفاهيم والمصطلحات، هم — بلا شك — يرومون التخلُّص منه.
لكن بوبر أوضح أنه يعادي التحليل ليس من أجل العداء، ولكن لأنه لا يجدي في نمو المعرفة طالما أنه يحلل ما هو كائن ولا يضيف جديدًا — كما أوضحنا في الفصل الثاني — لكن لا أعتقد أن بوبر أصاب في هذه الحجة؛ لأن التحليل يساعد على الإيضاح والدقة، وهذا من شأنه أن يساعد على التقدم، أو تمهيد طريق التقدم، هل من الضروري أن يأتي الباحث بنظرية جديدة ويصوغها في جملة محدودة ليكون قد أضاف للمعرفة، غريب حقًّا أن يتعلق بوبر فقط بهذا الأسلوب المباشر في الإضافة.
(٤) إن بوبر قد تناقض مع نفسه في الرفض القاطع للتحليل اللغوي جملةً وتفصيلًا؛ فقد أنكر تحديد منهج معين للبحث الفلسفي، أو مصدر معين للمعرفة، وقال: إن كل المناهج متاحة، وكل المصادر نرحب بها شريطة تعريض نتائجها للنقد، ثم عاد بعد ذلك وأنكر على التحليليين منهجهم اللغوي بالذات، رغم أن نتائجه قابلةٌ للنقد البين-ذاتي؛ أي الموضوعي، كيف ينكره بعد أن أعطى الحق في ممارسة كل منهج، لقد فطن بوبر إلى خطئه هذا، فعاد في فاتحة الترجمة الإنجليزية من كتابه «منطق الكشف العلمي»، التي طُرِحَت بعد عشرين عامًا من الأصل الألماني، وقال: إن هذا المنهج اللغوي ممكن شريطة ألَّا يكون المنهج الوحيد، وبعد أن أنكر أدنى ضرورة للتحليل يعود ليقول في هذه الفاتحة: إن هناك فعلًا بعض المفارقات المنطقية في حاجة إلى التحليل ليكشف عنها وأن التحليل قد يكون جزءًا من الحل أو يساعد على الحل، لكن ليس الفلسفة كلها، ثم يعود بعد هذه الفاتحة مرة ثانية في سيرته الذاتية لينكر ثانية أدنى ضرورة للتحليل عامة أو للتحليل اللغوي خاصة أنه موقف متذبذب؛ لأنه غير متَّسق.
ودليل آخر على عدم الاتساق في هذا الموقف، هو:
-
المعرفة بمعناها الذاتي ومعناها الموضوعي.
-
الأصل الفيلولوجي للفظ اللاتيني interpretatic الذي يقابل لفظ interpret في الإنجليزية ومدى دقة المقابلة بين اللفظين، وتطور اللفظ ومعناه على مر العصور، أحرامٌ على بلابله الدوح حلال للطير من كل جنس، هو فقط الذي يحلِّل ويدقق في المعنى حين يريد.
فرغم أهمية التحليل فإن الفلسفة لو قصرت عليه لأصيبت بالغثاثة، وفقدت ما يجعلها فلسفة متميزة عن العلم، من حريتها في طرح أي سؤال وفي اتباع أي منهج، وفقدت مكمن روعتها وهو حرية التجول في وديان الفكر، فضلًا عن أن الفلسفة بصميم طبيعتها لا تقصر على شيء، من هذه الوجهة — أعني قصر الفلسفة على التحليل — يمكن أن نعطيَ قيمة كبيرة لنقد بوبر، غير أن التحليل — كما يشهد الأمر الواقع — ليس هو كل الفلسفة المعاصرة هو مجرد تيار من عدة تيارات فيها، علينا أن نجنيَ ثماره، في الوقت الذي نجني فيه ثمارَ التيارات الأخرى ونظرًا لقوة التيار التحليلي، فلا يمكن اعتبار موقف بوبر الرافض له مباشرة تقييمًا أو حكمًا يصدر، بل نعتبره فقط معبرًا عن موقفه الشخصي ورأيه الخاص.
أي إن بوبر أقوى في موقفه من موقف التحليليين، لكن خطأ بوبر هو أنه أراد أن يحذف التحليل بأسره من ميدان الفلسفة، وهذا ما لا ينبغي، لقد تطرفت الوضعية في تحليلها حين أرادت قصر الفلسفة عليه، وهذا خطأ، وتطرف بوبر في رفض التحليل أصلًا، وهذا أيضًا خطأ معالجة التطرف لا تكون بالتطرف في الاتجاه المضاد، وإلا كانت معالجة الخطأ بالخطيئة.
(٦) بقيَتْ ملاحظة أخيرة في التعقيب على موقف بوبر من التحليل، وهي أنه اكتفى بالهجوم الضاري على التحليل اللغوي، وتحليلات منطق اللغة، لم يتعرض بما فيه الكفاية للتحليل المنطقي مع إمامة رسل، لم يوضح تقييمه، أو حتى رأيه في الجهاز الرمزي الذي اصطنعه رسل من أجل التحليل المنطقي هل ينطبق عليه رأيه في التحليل اللغوي من أنه لا يُضيف جديدًا للمعرفة، لم يحدد بوبر موقفه، واكتفى بالتعبيرات المتناثرة هنا وهناك، التي تحمل أعظم آيات الإجلال لرسل، والاعتراف بأن فضله عليه وعلى الفلاسفة المعاصرين عمومًا أعظم من أي فيلسوف آخر، وبصفة عامة، فإن الانطباع الذي تتركه مناقشات بوبر للتحليل هو أنه شديد الكراهية لفتجنشتين ووضعيته، شديد الإعجاب برسل، ومَنْ ذا الذي لا يعجب برسل، شيخ فلاسفة العصر بغير منازع! وأعظم عقلية أنجبها القرن العشرين.
(٧) في هذا الجزء من الفصل ناقشنا موقف بوبر من التحليل، وهو يضم نقده لمنحى الوضعية التحليلي واللغوي معًا، باعتبار الثانية مندرجة في الأولى.
(٢) تعقيب على نقد بوبر لموقف الوضعية من الميتافيزيقا ولمعاييرها
(١) بقي فقط مناقشة نقد بوبر لموقفهم من الميتافيزيقا، ولمعاييرهم في التمييز، ويمكن اعتبار الموقفين — رفض الميتافيزيقا والمعايير — وجهين لعملة واحدة، طالما أن الغرض الأساسي للمعايير هو استبعاد الميتافيزيقا.
(٢) وكما رأينا، فقد لاقى موقفهم من الميتافيزيقا نقدًا شاملًا من بوبر، أجمل ما فيه أنه جاء من عالم وفيلسوف علم، والحق أن هذا النقد من أقوى مواقف بوبر، ومن أكثرها إذكاءً له في عالم التفلسف، أساس هذا الموقف هو أن بوبر شديد الاحترام للميتافيزيقا، بينما الوضعيون شديدو الاحتقار لها، السبب في هذا الموقف المتناقض — رغم أن كليهما فيلسوف علم — هو أن معرفة الوضعيين بالميتافيزيقا سطحية، فهم شديدو الجهل بها والناس دائمًا أعداء لما جهلوا، بينما بوبر واسع العلم بها، أعماله — لا سيما المجتمع المفتوح — تثير دهشة المتخصصين من سعة علمه بدقائق تاريخ الفلسفة، علمه الواسع بالميتافيزيقا، هو الذي مكَّنه من أن ينزلها حق منزلتها؛ إذ لا يعرف الفضل بين الناس إلا ذووه.
(٣) أما عن نقد بوبر لمعايير التمييز، فقد كان غاية في القوة والمضاء، لم يخب أبدًا إلا حين نقد اللغة الفيزيائية، كما أوضحت آنفًا.
وأجمل ما في هذا النقد أنه متسق تمام الاتساق مع فلسفة بوبر ذاتها مع أهمية النقد وأسلوبه الجزئي مع رفض الاستقراء، مع العقلانية النقدية، نظريته في منطق الاحتمال واعتباره للميتافيزيقا، وهو مع هذا نقد موضوعي خالص، يقبله كل باحث عن التقييم المنطقي لهذه المحاولات، سواء اتفق مع فلسفة بوبر أم اختلف معها باستثناءات بسيطة، مثل الأوجه المتعلقة برفض الاستقراء وتوضيح الاستحالة النظرية للتحقق، تبعًا لنظريته هو.
والأجمل والأكثر اتساقًا أن معيار التكذيب سيتلافى كل هذه الانتقادات المطروحة في الفصل الثالث تمامًا كما تلافت فلسفة بوبر كل الانتقادات المطروحة في الفصل الثاني، وفي هذا الاتساق إحراز لنقطة هامة في صالح بوبر لا سيما إذا أخذنا في الاعتبار أن تناقض الوضعيين مع أنفسهم ودوراناتهم المنطقية من أبرز عوامل انهيارهم.
الواقع أن بوبر لم يضطهد مصدر الخبرة ولم يحتقره كما تصور بوبر بيرنايز، لكن الفكرة أن فلسفة بوبر — كما أوضح الباب السابق — تعني أن هناك استحالة في تلقي معطيات الحس بذهن خالص، التوقعات الفطرية والافتراضات السابقة، تعني استحالة التحقق كما يرومها الوضعيون؛ لذلك يستحيل أن تكون المعرفة مجرد تسجيل للحس كما يهدف التحقق، تمامًا كما يستحيل أن تكون مجرد تسجيل للخرافة أو الفروض أو أي مصدر آخر من مصادر المعرفة.
خاتمة
(١) لقد كان بوبر أكثر من رائع وهو يرفض مجاراتهم، رغم ما أوضحه تمهيد هذا الباب من عوامل شكلية وموضوعية، كان من شأنها أن تلقي به في قلب التيار التحليلي عامة والوضعي خاصة.
الانحياز لطرف بوبر تؤيده أقوى الدعامات وأمتنها والتي تعز حتى على النقاش، ألا وهي شهادة الواقع والتاريخ، شهدت الأيام بأن فلسفة الوضعيين رغم تطرفهم ووضوح الرؤية أمامهم، وتمسكهم الراسخ بمبادئهم، ورغم أنهم من أساطين العلم والمنطق … رغم كل هذا لم يستطع المذهب الصمود، وبعد عقود قليلة من السنين كانت محاولات إنقاذ المذهب وتكييفها وتعديلها، تأدت بهم إلى تناقضات، أو إلى الانتهاء إلى مبادئ تناقض الأصل الذي بدءوا منه، باختصار انتهوا إلى اضمحلال المذهب وتفككه، أو على أحسن الفروض إلى ذوبانه في التيارات التحليلية الأخرى، فكان عمره حقًّا قصيرًا إذا ما قيس بالعمر المعهود للمذاهب الفلسفية حينما تكون شامخة.
(٢) لقد تعرَّضت الوضعية للنقد المتحامل أكثر من أي مذهب آخر، لكن نقد بوبر بالذات له منزلة خاصة؛ لأنه شاهد من أهلهم، فهو مثلهم يألف الفيزياء والرياضة على دراية واسعة، بتقدم العلوم الطبيعية فقط اختلف عنهم في سعة إلمامه بالفلسفة الخالصة والميتافيزيقا، وهذا جعل نقده متبصرًا بالمذهب وأسسه ومعاييره، داعيًا لأهدافه ومراميه، متقنًا لأساليبه المنطقية والفنية والعلمية، ومن ناحية أخرى سد الطريق على الوضعية لاتهامه بالتأخر والجهل بالعلم، كما تتهم كل ناقد لها يحترم الميتافيزيقا.
(٣) ولكن رغم ثقل وخطورة نقد بوبر فإني لا أوافق على الاحتمال الذي يرجحه من أن يكون هو المسئول عن القضاء على حركة الوضعية المنطقية، لا هو ولا أي ناقد آخر، بل أعتقد أن السبب الذي عجل باضمحلال المذهب، إنما يكمن في الصعوبات التي بَدَتْ في صميمه، في التناقضات التي انطوت عليها أفكارهم نفسها، وفي تقدم العلوم الفيزيائية البحتة في الاتجاه التجريدي، وسيرها في المسار الاستنباطي. في الفيزياء المعاصرة اتجاهان: الفيزياء التجريبية، وأعظم أعلامها مندليف ورذرفورد وبيير وماري كوري، والفيزياء البحتة وأعظم أعلامها، هو أعظم الأعلام طرًّا: آينشتين وماكس بلانك ولويس دي بروي، والآن الغلبة للاتجاه الاستنباطي البحت، ولا يعتمد العالم فيه كثيرًا على المعمل، إن لم يكن لا يدخله؛ فقد قيل عن آينشتين: إنه لم يُجر في حياته تجربة واحدة لكي يصل إلى النظرية النسبية، وكانت معظم جهوده الفيزيائية على الورق، حيث يجري معادلاته، كل هذا أدى إلى استحالة قيام فلسفة علمية على أساس من معطيات الحس المباشر، أي التحقق وسائر تعديلاته، من معايير تميز العلم على هذا الأساس.
(٤) على أية حال لا بد أن ينتهي المطاف إلى الإقرار بأن محاولات الوضعية لم تحل المشكلة المطروحة للبحث، لقد اضمحل التحقق من تلقاء نفسه، حين حاول أن يقاوم الاحتضار متخذًا صورًا أخرى كالقابلية للاختبار والتأييد أو لغة العلم، لم تكن أقل منه إخفاقًا، ثم كانت الطامة الكبرى أن يتنكر فتجنشتين للتحقق وهو المعيار الأساسي، ثم جاء نقد بوبر حاسمًا باتًّا.