من الاستقلال إلى الحماية
قبل أن نباشر السياحة في المغرب الأقصى سنجول جولة قصيرة في تاريخه الحديث؛ لنحيط علمًا بما كان عليه في العقد الأخير من القرن الماضي، وبما آلت إليه أحواله في العقد الأول من هذا القرن. وفي هذا العلم أو بعضه تدنو من فهم السائح غوامض الأمور، الظاهرة والخفية، فتتم محاسن السياحة، وتزداد فوائدها.
في أواخر القرن التاسع عشر كانت الدول الأوروبية العظمى — وشبهها فرنسا وإنكلترا وألمانيا وإسبانيا وإيطاليا — تتنافس وتتشاكس حول بسط نفودها وتوطيده في المغرب الأقصى، فتتخذ لذلك شتى الأساليب، السلمية الدبلوماسية، والدبلوماسية المقرونة بقرقعة السلاح. كل دولة ترقب الأخرى، فترمقها بنظر دائرة اختباراتها! وكل تلك الدول تترقب الفرص؛ لتنفذ سياستها المختلفة صورةً، المتفقة هدفًا، في المغرب الشمالي والغربي: تؤلف الشركات للمتاجرة في البلاد، وتسعى لتعزيزها تارة بالامتيازات، وطورًا بالمؤامرات، تدس بعضها الدسائس لبعض بواسطة قناصلها وأعوانهم في البلاد، تجامل الحكومة الشريفية حينًا، وتجبهها حينًا آخر، تنتفع بالاضطرابات الداخلية، وتغض النظر عن قرصان البحر المتوسط؛ لتضعف بهم السلطات الأهلية المحلية. ترسل بواخرها الحربية للنزهة على الشواطئ الأفريقية، غربًا وشمالًا، فتحتل ميناء ها هنا، وآخَر هناك، باسم التجارة، والمحافظة على رعاياها ومصالحهم، وترسل مَن هم أفعل من البواخر الحربية في تنفيذ سياستها الاستعمارية، أي التجَّار والقناصل المتاجرين، وما كان أولئك القناصل والتجار ليتورَّعوا فيما يفعلون، أو يخجلون؛ فيتجسسون ويفسدون ويثيرون الفتن تحقيقًا لمآربهم الخاصة، ولمآرب دولهم العامة، وكلها استعمارية استثمارية.
وكانت فرنسا أبعد الدول هدفًا، وأكثرها نفوذًا، وأشدها صولة وطمعًا في ذلك المغرب، تستحثُّها وتنصرها عصبةٌ من التجَّار والماليين والسياسيين الفرنسيين في الجزائر، وخصوصًا في وهران القائمة عند الحدود الجزائرية المغربية — وهران الجبهة الشرقية للحرب وللسياسة في استعمارها المغرب واحتلاله.
ما سوى ذلك عقيم؛ فالزيارات السفيرية لم تُسفِر عن شيء سياسي أو تجاري في تلك الأيام، ولا بعد خمسين سنة؛ لأن أقدم المعاهدات بين الحكومتين الفرنسية والمغربية هي — على ما نعلم — المعاهدة التي عُقِدت سنة ١٧٦٧، وهي سياسية أكثر منها تجارية، فإن كانت تضمن للأجانب حق المتاجرة، فهي تضمن لهم كذلك حق امتلاك الأراضي في المغرب، وتضمن للدول حق التمثيل القنصلي، وللقناصل الحق بأن يستخدموا في القنصليات كتَّابًا ومترجمين من الأهالي.
ها هنا — في حق الأجانب بامتلاك الأراضي، وحق القناصل بأن يوظِّفوا مَن يستأمنون من الأهالي في قنصلياتهم — ها هنا بابان للدخول إلى البلاد، والتغلغل السلمي، فالاستيلاء التدريجي عليها. فالأجانب، في امتلاكهم الأراضي، يخلقون المشاكل لدولتهم فتتدخل بشئون الحكومة والقناصل، في استخدامهم كتَّابًا ومترجمين من الأهالي يتمكَّنون من الحصول بوساطتهم على المعلومات اللازمة لتمهيد سُبُل السياسة الاستعمارية.
على أن هذه المعاهدة أخفقت في مقاصدها — أو كادت — لأسباب كثيرة، منها المنافسات الدولية، ومقاومة السلاطين لكل المساعي والمحاولات في تنفيذها؛ فما كان لفرنسا في أواخر القرن التاسع عشر غير قنصليتين، الواحدة في سالي والأخرى في الرباط، ولم يكن لبقية الدول قنصليات في غير طنجة. أما الرعايا الأجانب فلم يتجاوز عدد الفرنسيين منهم الألف، وعدد الإسبان المائتين في كل البلاد.
ماتت تلك المعاهدة، وقد ماتت روحها بالرغم من مرور مائة سنة ونيف على عقدها؛ فقد تجددت في الربع الثالث من القرن الماضي المساعي والمحاولات للتغلغل في الغرب والاستيلاء عليه، وتجدَّدت معها المنافسات والمشاكسات الدولية، كما تجدَّدت المشادات بينها وبين الحكومة المغربية.
هذا، على ما كان في البلاد يوم جلوسه على العرش من الاضطرابات، ومن عوامل التفسخ والانحطاط؛ فقد باشَرَ أعماله في تنظيم الجيش، وراح يؤدب القبائل الثائرة، والمدن المتمردة. فضرب فاس، وأعاد إليها الطاعة والأمن والنظام، وحمل على قبائل الريف، فدفعوا الضرائب صاغرين، ومثَّل بسكان مراكش فعلَّق رءوس أبنائها المتمردين فوق أبواب المدينة.
قضى الحسن معظم مدة ملكه في الحروب، وهو يتنقَّل في مملكته المترامية الأطراف، المفكَّكة الأوشاج، من واحاتها الجنوبية إلى جبالها الشرقية الشمالية، ومن مدينة إلى أخرى، وما استتب فيها الأمن والسلام بالرغم من قساوة حكمه وقلبه، وبالرغم من دهاء وذكاء «سي» أحمد وزيره الأول، وشريكه في تلك القساوة.
فقد كان الفرنجة يمدون المتمردين بعتاد الحرب وبالمال، وجاءت فوق ذلك سفنهم الحربية إلى طنجة، مهدِّدة منذرة بعد أن شاع — كذبًا — خبر موت السلطان، مولاي الحسن، ومع ذلك استمر الفرنسيون يعدون العدة لاحتلال قسم من البلاد على شاطئ الأوقيانوس، ووقف الإسبان متأهِّبين في أبواب الريف.
هذا في ميادين الحرب أو في أبوابها، أما في ميدان السياسة فقد اغتنم الحسن الفرصة عند انهزام فرنسا في حربها مع بروسيا سنة ١٨٧٠، فأراد أن يقصر نفوذها في بلاده، وقد سعى من أجل ذلك لعقد مؤتمر دولي لإعادة النظر في شئون المغرب وعلاقاته الأوروبية، فعقد المؤتمر في مدريد سنة ١٨٨٠، وكان الأول من نوعه لاشتراك ممثل عربي في مباحثاته.
ممثل واحد عربي، بين ممثلي فرنسا وإسبانيا وإنكلترا وإيطاليا، ينكر عليهم حق التدخُّل في شئون المغرب. فماذا ينفع الإنكار، وإنْ سجل في وقائع المؤتمر؟ وماذا تنفع وطنية ذلك الممثل المغربي العربي؟ وماذا تنفع حنكته السياسية، وفصاحته العربية؟ لقد كان مغلوبًا على أمره — وما الغالب غير العدو، وإن تعوَّدنا أن نقول: لا غالب إلا الله.
فقد قررت الدول الأربع فأثبتت، في ذلك المؤتمر، حق رعاياها في امتلاك الأراضي في المغرب، وحق قناصلها في استخدام مَن يرون فيه «الذكاء» من أهل البلاد. ثم أضافت ما هو أهم من ذلك، وهو أن يمنح القناصلُ مَن يريدون من الأهالي — تجَّارًا كانوا أم أكارين — حمايةَ دولتهم، وأن يكون لهؤلاء المحميين ولأولئك الموظفين «الأذكياء» الحقُّ بأن يحاكموا في قضاياهم المدنية والجزائية، في محاكم قنصلية.
أقف بك ها هنا لأعرض وجهًا آخَر من وجوه القضية؛ فقد كان الأهالي ولا سيما التجَّار منهم يطلبون الحماية الأجنبية ليتخلَّصوا من جور الحكومة الشريفية وإرهاقها، فاتفقت مصالحهم ومصالح الدول الحامية، وكان الأجنبي فوق ذلك يشارك الوطني في تجارته أو ملكه لقاءَ حمايةٍ يظفر له بها من قنصل بلاده؛ فيصبح الوطنيُّ شريكُ الأجنبيِّ حمايةً أجنبية، فيشرك الأجنبي في أرباحه دون أن يكون للأجنبي فلس واحد في رأس المال.
زادت هذه الحال الطين بلة؛ فالمحميون شركاء الأجانب أمسوا بيد القناصل أدوات استعمار، يستخدمونها فيما يبتغون تنفيذًا لسياسة حكومتهم، وتعزيزًا لها.
وقد استمرت الحماية في الانتشار بالرغم من مساعي الإنكليز لوقف طغيانها، فامتدت من المدن إلى الأرياف، وصار الأوروبيون ولا سيما الفرنسيون المشاركون للأهالي، أصحابَ أملاك واسعة في البلاد.
زِدْ على ذلك أن أولئك الفلاحين الذين أشركوا الأجانب في أملاكهم أمسوا ذوي امتيازات يتمتعون بها مثل إخوانهم التجَّار، ويزيدون في التمتُّع فلا يدفعون الضرائب، ولا يُجنَّدون، ويشمخون بأنوفهم على أبناء البلاد، والبلاد بلادهم، وعلى موظفي الحكومة وهي حكومتهم.
وإنْ شَكَا أحدهم إلى الحاكم المحلي — إلى الباشا أو القائد — صُمَّت الآذان خشيةَ التدخُّل في أمور هؤلاء الذين يتمتعون بحماية النصارى!
هذه بعض ثمار معاهدة مدريد، يذكرها المؤرخون، ويقول المتفائلون منهم — في دائرة المعارف الإنكليزية، وفي غيرها من الكتب المشرقة صفحاتها بأهلة الحقائق: إن المغرب نجا في ذلك المؤتمر من براثن الحماية، وإن الفضل في الأمر عائد لما كان بين إنكلترا وفرنسا من المنافسات السياسية والاستعمارية.
هَبْ ذلك هو الصواب … وهَبِ الإنكليز كانوا يدافِعون في المغرب — كما يقول مؤرِّخهم — عن كيان الدولة الشريفية كما كانوا يدافِعون في المشرق عن كيان الدولة العثمانية. فهل أفلح الإنكليز؟ اسأل التاريخ في المشرق، وسأسأله عنك في المغرب غدًا.
كان «سي» أحمدُ بن موسى حاجبَ مولاي الحسن، فصار وزيرَه الأول، فسيفه البتار، ﻓ «حجاج» المغرب، قبيل وفاة سلطانه وبعدها، فقد توفي الحسن في الطريق (١٨٩٤) وهو عائد إلى فاس من الجنوب، فكتم «سي» أحمد الخبر بضعة أيام اتقاءَ الفتن.
وكان قد قرَّرَ البيعة لعبد العزيز أصغر أولاد الحسن، فخلفه وهو في الثالثة عشرة من سنه، وتولَّى «سي» أحمد الحكم إلى أن بلغ السلطان الولد سن الرشد، وبلغ — لله من الأقدار! — في السنة نفسها ذلك الوزير الطاغية سنَّ الرحيل من هذه الفانية!
حكم ابن موسى حكم الحجاج بن يوسف بضع سنوات، فقطع الرءوس، وملأ السجون بالنفوس، وبنى القصور للجواري والعبيد؛ فضجت البلاد، وحشرجت العباد، وكلهم إلى الله يشكون، وفي قلوبهم يلعنون.
وكان «سي» أحمد متوقد الذهن ذكيَّ الفؤاد، حكيمًا في أمور الدنيا عليمًا، لا يحكِّم القلب في شيء منها، ولا يرى في بُعْد النظر غير زيادة الأخطار المحدقة بالبلاد. أما ما كان منها أمام ناظريه، فقد كان يتجسم كل يوم تجسُّمًا منكرًا مخيفًا؛ فهناك مدرعات الفرنسيين على الشواطئ الغربية، وهاك الإسبان يحومون حول الشواطئ الشمالية، وهاك ساسة الفرنجة في طنجة، متجمعين متألبين حينًا، ومتخاذلين حينًا آخَر، وكلهم في كل حال ينظرون إلى المغرب نظرة الذئاب الكاسرة.
ضبط «سي» أحمد الأمر بالسيف «الحجاجيِّ» في المغرب الأقصى أجمع برهةً من الزمن، ووقف وقفةً يُحمَد عليها في وجه زبانية الفرنجة بطنجة، ولكنه ضاق ذرعًا بأمر أخويه: وزير الحربية، ورئيس التشريفات في البلاط. فشكاهما إلى الله، فسُمِعت على ما يظهر شكواه، وسُمِع غيرها من الشكاوى، فمات الأخوان فجأةً، وبعد أسبوع لحق هو بهما! فإن كنت تشك في الحكمة الإلهية، فلا أظنك تشك في حكمة الدنيا الفانية، والفتى لا يستقصي شئون الدولة الخفية، في أزماتها الدكتاتورية.
وكان مولاي عبد العزيز قد بلغ سن الرشد عندما أراحه الله من بني موسى الثلاثة في فجر هذا القرن العشرين.
ولكنه بعد سنتين من حكمه (١٩٠٢) مُنِي بمَن جعله يترحَّم على بني موسى؛ فقد شبَّتْ في البلاد نيران ثورة الشريف الكاذب «بوحماره»، وتلتها بعد نحو ثلاث سنوات ثورة الشريف الصادق أحمد الريسوني، وسنقص عليك قصة الريسوني في فصل آخَر من فصول هذا الكتاب.
أما «بوحماره» — ولست أدري مصدر الكنية إلا أن يكون من مطيته — فهو الجيلاني الزرهوني، نسبةً إلى زرهون بالقرب من مكناس، وفيها مدفن إدريس الأكبر مؤسِّس الدولة الإدريسية في المغرب. فلا عجب — وهي مهد القداسة، وقبلة المؤمنين في تلك الديار — إذا كانت لا تزال خصبة مثمرة. فلا تكذب بشائرها، ولا تكذب رسل غيرها!
وهذا رسول الخير الزرهوني، كان حمَّالًا، فصار مرابطًا، ثم صاحب دعوة دينية، وما لبث أن صارت دعوة سياسية.
– أتقولون: السلطان عبد العزيز؟! إنه لعبد الأجانب، إنه لعبد المستعمرين، أعداء المسلمين وأعداء الله!
سمعت القبائل، ولبَّتِ الدعوة؛ فانتشرت الفتنة انتشار النار في الهشيم.
وجلس «وليُّ الله» في تاز إحدى عواصم المغرب في قديم الزمان يُصدِر الأوامر، ويرسل الجباة لجمع الخراج.
– مَن والى الكفَّار كافر، وليس له في أعناق المسلمين عهدٌ، مَن والَى الكفار من السلاطين هو عدو المسلمين! استفيقوا، استفيقوا أيها المسلمون.
وبينما كانت القبائل تردِّد هذه الكلمات، وتدفع الخراج لجباة «وليِّ الله»، كان هذا «الوليُّ» — فعل الله ما شاء به — يستقبل رسل الفرنجة من أهل البلاد، ويتعهَّد بالولاء لمَن يعرض منهم الولاء، وما يليه أو يصحبه من عتاد أو مال. جلس ولي الله في تاز، فرقصت له شياطين السياسة في طنجة والجزائر.
وهناك بالقرب من الحدود، بين الجزائر والمغرب، كان بين رسل الاستعمار طلَّاب امتيازات من الإسبان، وفي ضواحي مَلِيلَة جبال محشوة بالمعادن، ولا سيما الحديد.
– فيا «بوحماره»، يا أيها الطامع بالعرش الشريفي … إن المال عصب الحرب، ونحن ننشد الامتيازات.
فقال «بوحماره»: هاتوا المال، وخذوا امتيازات. وكان ما كان مما لست أذكره، على أننا سنزور شركة المناجم الإسبانية، في جبالها الحديدية في ضواحي مليلة، ولك يومذاك أن تظن شرًّا أو خيرًا.
وكان الفرنسيون أشدهم طمعًا، وأمهرهم لعبًا على الحبلين، بالرغم مما للإنكليز من الشهرة في هذه اللعبة السياسية المزدوجة؛ فقد أشرت إلى ما كان من أمرهم — أي الفرنسيين — مع «ولي الله» بوحماره، وها هم أولاء الآن يحثون السلطان الشاب على العزم في الحكم، ويَعِدونه بالمساعدة، ويغرونه بالهدايا الثمينة والتافهة — بالسجاجيد والسيارات، بالتحف والأعلاق، بالدراجات والألاعيب — ليمكِّنهم مما يريدون.
لَانَ لهم عبد العزيز ووَالَاهم، وفتح للسياسيين منهم باب المفاوضات، وللتجار أبواب الكسب والإثراء، فتمادى هؤلاء في الطمع، وأولئك في الطغيان. كيف لا وهذه جنودهم تتأهَّب للزحف على البلاد من الجبهة الشرقية، من الجزائر، وهذه مدافع مدرعاتهم ترمق بنظرها القتَّال الشواطئَ الغربيةَ.
– نريد أن نؤمِّن الطرقَ للسياح والمدنَ للتجارة.
آمنَّا، ولكننا مع ذلك غير مطمئنين؛ فقد أرسل مولاي عبد العزيز رسوله المنبَّهي إلى لندن يحتجُّ على ذلك التأمين في مختلف أشكاله، فجامله ساسة الإنكليز، وزوَّدوه بالنصح السديد غير المفيد.
– ليحكم سيد المغرب بلاده كما نحن نحكم بلادنا. ليفتح الموانئ للتجارة. ليجمع الخراج بالطرق المشروعة. ليطلق سراح الأبرياء من المساجين، وليطعم الآخرين.
عاد المنبَّهي يحمل هذه النصائح إلى مولاه، فاهتم عبد العزيز بإصلاح بعض الشئون على الطريقة الإنكليزية، فاصطدم بطريقة أوروبية مناوئة. غاظ الفرنسيين قبولُه نصائحَ الإنكليز.
قال عبد العزيز: على كل فرد من الرعية أن يدفع مبلغًا معيَّنًا من الضرائب.
فقال الفرنسيون: إن الذين في حماية أجنبية — فرنسية أو إسبانية أو إنكليزية أو غيرها — لا يدفعون، وهذه معاهدة مدريد تؤيِّد قولنا.
وهناك غيرهم — مَن والوا «بوحماره» مثلًا — لا يدفعون الضريبة للسلطان، بل سرت روح العصيان من الثائرين والمحتمين بالحماية الأجنبية إلى سواهم من الرعية، فساءت الأحوال في كل مكان، وصار الجباة يمشون في البلاد كأنهم سيَّاح راغبون في النزهة، لا يحملون سيفًا أو كرباجًا، فلا يطاعون ولا يخشون؛ فلماذا يدفع عبد السلام الفاسي الضرائب، وأخوه عبد السلام الفرنجي لا يدفع درهمًا؟ …
سُدَّت على خزينة الدولة الموارد من كل جانب، وكان بلاط مولاي عبد العزيز يكتظ بالتحف والألاعيب الأوروبية، فأصبح كجناح من مخزن اللوفر بباريس، إلا أنه يختلف عن سائر المخازن في أنه يقوم بالهدايا وبالشراء، لا بالبيع. يؤمه التجار فتشحن إليه البضائع، يؤمه السياسيون وهم يحملون الهدايا، ومنها ألاعيب بلوالب تُدَار فترقص وتغني، فتضحك الثكالى والسلاطين المفلسين!
وكان في البلاط هناك غير ذلك من عوامل البهجة واللهو والتفريج، ومن التجار والسياسيين الأوروبيين مَن يزورون غبًّا، ولا يزدادون حبًّا، ومن العبيد والحجاب والجواري والفتيان مَن كانوا وكنَّ جزءًا من الأثاث والألاعيب.
وكان «هاريس» و«ماكلين» ترسَيْ مولاي عبد العزيز وسيفَيْه، يتَّقِي بهما الأخطار، ويضرب بهما رقاب الكبار غير الأبرار من ساسة الفرنسيين والإسبان، ولذينك الترس والسيف مزيتان إنكليزيتان دقيقتا الحد والمعنى، يشترك فيهما السحر والحرام، ولا يجزل خيرهما في الحالين: «ماكلين» و«هاريس» شوكتان في ثريدة الفرنسيين، وذبابتان في كأس الإسبان، وهما في ذلك البلاط بفاس معصومان محصنان، معصومان فيما يوحي به إليهما من الرقم العاشر في دوننج إستريت بلندن، ومحصنان بما يحسنانه من التهريج والتفريج في حضرة صاحب الجلالة!
وما خلا ذلك البلاط — بعد أن قبض الله روح ابن موسى الطاهرة — ممَّنْ كانوا شبيهين به، إلا في ذكائه، فكان الفرنسيون والإسبان يستعينون بهم على داهيتي البريطان.
أما السلطان عبد العزيز — على كل ما قيل في تبذيره وسفهه، واسترساله إلى اللذات — فقد كان صادق العزم في محافظته على كرامة الدولة، بالرغم من ولائه لمَن كانوا يتودَّدون له، ويتآمرون عليها وعليه.
وأما بليته الكبرى فلم تكن في هؤلاء الأجانب، ولا في أولئك المرابطين — لا في المؤامرات الخارجية، ولا في الفتن الداخلية، بل في الخزانة الفارغة.
المال — المال — يصلح الشئون كلها، ومن أين يجيء بالمال؟
سمع الإنكليز صيحة صاحب الجلالة كما سمعها الفرنسيون، ولكنهم لم يسرعوا في العمل كما كانوا يسرعون في النصح. ما حقَّقوا آمال خادميهم الطائعين: «هاريس» و«ماكلين».
وكانت الجمهورية الفرنسية قد استعادت الكثير من قواها وكرامتها، ومن نفوذها المالي السياسي، فجاء رجالها مسرعين يقدِّمون لمولاي عبد العزيز غير النصائح. ذي هي الفرصة السانحة. فقبضوا على ناصيتها.
– رعيتكم يا صاحب الجلالة لا تدفع الخراج، وأنتم في حاجة إلى المال. فالمال عندنا يجيئكم على ما تشتهون، وبقدر ما تشتهون، وما عليكم غير أن توقِّعوا هذه الأوراق ضمانًا واطمئنانًا — ضمانًا لأصحاب المال، واطمئنانًا لكم.
ختم السلطان بختمه «أوراق الضمان»، ورهن جمارك الدولة لحكومة الدائنين؛ فهتفت الخزينة مع ذلك للستين مليونًا من الفرنكات، وهتف ساسة الفرنسيين وصيارفتهم في الجزائر لهذا النصر المبين.
– لتفتح أبواب المغرب على شواطئ الأوقيانوس كما انفتحت على شواطئ المتوسط. لتفتح للتجارة، وللمشاريع المالية والعمران. لتفتح للتمدن الفرنسي.
وكان أولئك الثلاثة، على اختلافٍ بينهم في الخُلُق والمزاج، من طينة سياسية واحدة؛ فقد كان «دلكاسة» ديموقراطيًّا حرًّا في سياستة الوطنية، واستعماريًّا مرًّا في سياسته الدولية، وكان «سالسبوري» الذي خلف «غلادستون»، من أشد المحافظين الأرستقراطيين في البلاد الإنكليزية وخارجها. أما «الإمبراطور غليوم»، فقد كان — بعد أن انطلق من ظل «بسمارك» — الدكتاتور الأوحد في بلاده، وهو يحاول أن يسيطر كذلك على السياسة الدولية في العالم.
على أن الأحوال والمقادير كانت موالية لسياسة «دلكاسة»، وخصوصًا منها سياسته المغربية، فقد أفلح في عقده الاتفاق الأول مع سلطان المغرب (٢٠ يوليو ١٩٠١)، يوم كانت حرب البوير تشغل إنكلترا، فحدد فيه الحدود بين المغرب والجزائر، ثم ألحقه في السنة التالية (٢٠ أبريل ١٩٠٢) باتفاق آخَر قَبِلَ فيه مولاي عبد العزيز التعاونَ مع الفرنسيين.
وكانت إسبانيا تعتمد على إنكلترا في مقاومتها مطامع الفرنسيين، وتذهب مذهبها في وجوب المحافظة على كيان الدولة الشريفية.
على أن إنكلترا، وقد أضعفتها حرب البوير ماليًّا، وأضعفها سياسيًّا تعاظُم شأن حزبي الأحرار والعمَّال؛ خفضت صوتها في الدفاع عن المغرب، والاحتجاج على تغيير الوضع الراهن فيه.
وما كانت مطمئنة فيما تضمره لمصر من «خير» الاستعمار، وفي ما تمخَّضت به مصر من العداء لذلك الخير؛ فسعت سعيًا جديًّا لتحديد الوضع البريطاني في وادي النيل، ولتسوية المشاكل المتعلقة، ولا سيما مشاكل الديون العامة والامتيازات. ذلك ما شغلها في سنة ١٩٠٤ عن المغرب الأقصى، كما شغلتها عنه في السنوات السابقة حرب البوير.
وما أفادت مساعيها، بالرغم من دهاء المقيم العام «اللورد كرومر»، وبالرغم من توسُّط الملك «إدوار» السابع نفسه؛ لأن فرنسا كانت تطالِب ملحة بما لها من حقوق سياسية ومالية واقتصادية في وادي النيل.
فقال غلاة السياسة الوطنية الاستعمارية: فرنسا تعرقل مساعينا في مصر، فَلْنعامِلها بالمثل في المغرب، يجب أن نعود إلى سياسة المحافظة على كيان الدولة الشريفية.
وكانت الصحافة الإنكليزية، على الإجمال، تردِّد صدى كلمات الوزارة: نحن في مصر وفرنسا في المغرب.
وشاء إبليس صديق «دلكاسة» و«بلفور» و«لانزدون»، أن تتم الصفقة في ٨ أبريل ١٩٠٤، فكانت فرنسا منتصرة للمرة الرابعة في سياستها المغربية خلال ثلاث سنوات: فمن القرض المالي للسلطان عبد العزيز، إلى اتفاق الحدود، إلى اتفاق التعاون، إلى الاتفاق الفرنسي الإنكليزي. ذي هي أربع مراحل بأربعة انتصارات.
وبعد ستة أشهر من هذا الاتفاق الاستعماري تمكَّنَ «دلكاسة» — وقد أسكت الإنكليز — من إرضاء إسبانيا؛ فعقد وإياها اتفاقًا سريًّا (٣ أكتوبر سنة ١٩٠٤) على أن تكون في حمايتها المنطقة الشمالية من نهر مروي شرقًا إلى ضواحي فاس غربًا بجنوب …
ومولاي عبد العزيز في قصره بفاس يستقبل صديقه المخلص «ماكلين» منظم جيشه، وصديقه الآخَر المخلص «هاريس» مبيِّض وجهه في الجريدة الإنكليزية الكبرى، فيقص الأول عليه الأقاصيص، ويتبسَّط الثاني في العلوم السياسية والاقتصادية التي تعمِّر هذه الدنيا الفانية على حساب الآخِرة الخالدة. فيهز عبد العزيز رأسه، ويعود إلى ألاعيبه …
– لماذا لا ترقص هذه الدمية؟ ولماذا لا تغني؟
– لأن لولبها انكسر، يا مولاي.
– ولولب الدولة؟! مَن يضمنه لمولاي عبد العزيز؟
هل تضمنه المعاهدات السرية، فتظل الدمى الشريفية ترقص وتغني أبد الدهر؟!
المعاهدات السرية الفرنسية الإنكليزية الإسبانية، أتضمن لأصحابها سلامة اللولب المركَّب — لولب الاستعمار — أبد الدهر؟
وما محل ألمانيا من هذا الإعراب الفرنسي الإنكليزي الإسباني المغربي؟ أتنسون ألمانيا؟ أو يستطيع «دلكاسة» أن يعزلها؟ وهل ينسى إيطاليا، وهي من الدول التي اشتركت في مؤتمر مدريد؟
لقد كانت ألمانيا ترقب يومئذٍ الحرب الروسية اليابانية، وترجو النصر لليابان، فتحقق ما كانت ترجوه. انكسرت روسيا، وليَّة «دلكاسة»، فاطمأن قلب «غليوم»، واطمأن باله. لا خوف من دبِّ الشمال؛ إذن … سنصدر بيانًا يزلزل أوروبا: إذا احتلت فرنسا شِبرًا من المغرب، فالحرب حتمًا واقعة. قالها سفير ألمانيا على مسمعٍ من اﻟ «كاي دورساي» بباريس.
ركب «غليوم» مدرَّعة من مدرعاته الحربية إلى طنجة (٣١ مارس سنة ١٩٠٥)، وخطب هناك خطبة «هتلرية» — إنْ جازَ تشبيه الماضي بالحاضر — فقال: إنه جاء يزور سيد البلاد المطلق، وإنه «غليوم»، وإنه سيدافع بكل ما لألمانيا من القوة عن استقلال الدولة الشريفية العلوية.
فهم سيد البلاد السلطان عبد العزيز، معنى تلك الزيارة ومغزاها. خسرنا الإنكليز فأنعم الله علينا بغليوم!
واشتدَّ ساعِد عبد العزيز، فقلب ظهر المِجَنِّ للفرنسيين، وراح يدعو لعقد مؤتمر دولي لإعادة النظر في شئون المغرب.
مؤتمر دولي؟ وهل تذهب جهود «دلكاسة» كلها سدًى؟ كلا. هو التهويل تلجأ ألمانيا إليه، وبالرغم من انكسار الروسي في منشوريا، وبالرغم من تقلقُل موقف إنكلترا، ظلَّ السياسي الفرنسي متمسكًا بظنه أن ألمانيا تهول تهويلًا. فتناقَشَ في الموضوع ممثلو البلاد في مجلس النوَّاب والشيوخ، ثم اقترعوا، فكانت الغلبة للمعارضة.
سقطت وزارة «دلكاسة» (٢ يونيو ١٩٠٥) فرجحت كفة ألمانيا في ميزان السياسة المغربية.
دفع السلطان المال، وصارت الصحف والدول منذ ذلك الحين تهتم للريسوني وأخباره، ومنها: ما رواه القنصل «برديكاريس» نفسه بعد أن أطلق سراحه، وهو أن الريسوني عربي شريف كريم الأخلاق. وسنزيدك نحن من أخباره في الفصل الذي وعدناك به.
هذا الحادث — عودًا إلى بدء — حَدَا الحكومة الأميركية إلى المشاركة في بحث شئون المغرب، وما كان الرئيس «روزفلت» ممَّن يجمجمون الكلام. فقد قال في سياسة «دلكاسة» إنها خطر دولي، وحبَّذَ عقدَ المؤتمر الذي تقدَّمَ ذِكْره، فتقرَّرَ أن يعقد في الجزيرة، في ذلك المنزل الجميل القائم على الطرف الغربي من الهلال الأخضر، المنتصب على طرفه الشرقي جبل طارق.
عُقِد المؤتمر في الشهر الأول من سنة ١٩٠٦ واستمر إلى شهر أبريل. فماذا فعل أصحاب السعادة ممثلو الدول العظمى في خلال ستة أشهر؟ لست أدري، إلا أنهم كانوا شرقيين في المناقشات، وغربيين في التنزُّه. ومما لا شك فيه أن الإقامة طابت لهم، فقضوا فصل الشتاء الدافئ كله في ذلك النعيم الأرضي، وما رمَّموا فيما صنعوا نعيم المغرب أو شيئًا منه.
بل قرَّروا أن تكون الشرطة المغربية فرنسية الإدارة في الرباط وصبرة، وإسبانية في تطوان والعرائش، ودولية في طنجة والدار البيضاء، وقرَّروا كذلك أن يُؤسَّس بنك دولي مغربي له امتياز الإصدار، وأن تكون أكثر أسهمه لفرنسا؛ لأنها دائنة الحكومة الشريفية. ما سوى ذلك ينحصر في أمرين؛ الأول: أن تشترك الدول على السواء في المشاريع الاقتصادية والعمرانية في المغرب، والثاني: أن تعترف للسلطان بالسيادة والاستقلال.
أرادت ألمانيا أن تحل محل فرنسا في النفوذ والامتيازات، فحالت دون إرادتها إنكلترا وأميركا.
وأرادت فرنسا أن يكون لهذا النفوذ الأول والامتياز الأكبر، فحالت دون ذلك إسبانيا وإيطاليا وألمانيا والنمسا.
وما حَلَّ المؤتمر مشاكل المغرب، أو مشكلًا من مشاكله، حلًّا تامًّا ثابتًا دائمًا.
ستة أشهر من المناقشات — والتنزه — انتهت بقرار لتنظيم إدارة الشرطة المغربية، وبإجماع الآراء على أن المغرب لنا كلنا، يا ناس، على شريطة أن لا يمس استقلال سلطان المغرب!
وفي السنة التالية كان بمراكش بعض السياح الفرنسيين، فسمعوا الناس في الشارع يقولون: «ها هم أولاء الفرنسيون، جاءوا يأخذون بلاد المغرب.»
وما اتعظ سلطان المغرب مولاي عبد العزيز بما كان من محنة ابن عمه في تونس الباي محمد الصديق، تلك المحنة التي نجمت عن التبذير الشرقي، والجشع الأوروبي، وما كان خازنداره الداهية الشركسي ليخفِّف بدهائه من ويلاتها. فالخزانة فارغة، والإفلاس يخيم على الملك. الإفلاس! ومَن يداويه غير صيارفة الفرنجة؟
وجاء الصيارفة ناصحين لخير الدين، عارضين عليه المال الذي تحتاج إليه الدولة. تحتاج إليه الدولة؟! يحتاج إليه الباي ليظل قصره عامرًا بالجواري والعبيد!
– لا ينقذنا غير القرض — يا مولاي — وهؤلاء الأوروبيون يقدِّمونه لنا بفائدة صغيرة تافهة.
وما اتعظ سلطان المغرب مولاي عبد العزيز، ولا فكَّرَ في نتائج القروض المالية والسياسية، وفي جشع الممولين.
نقلت لك قول الخازندار خير الدين لمولاه الباي بخصوص الدين وفائدته «القليلة التافهة».
فهل يتعظ سلاطين المغرب؟ وهل يتعظ أمراء الشرق وملوك العرب؟ وهل تتنبه الشعوب العربية؟!
•••
استمرت فرنسا في سيادتها الهدَّامة لاستقلال المغرب، من الناحيتين الشرقية والغربية، بالرغم من قرارات مؤتمر الجزيرة، فكانت تمهد خصوصًا في الشرق، من وهران وتلمسان، سبيل التقدم الاستعماري إلى الأوقيانوس، وذلك بعد أن وقفت برهة موقف الحائر في أي الخطتين أضمن للنجاح السريع: الشرقية أم الغربية؟
– اضمنوا لنا سبل التجارة. وطِّدوا الأمن للتملك والاحتلال. افتحوا البلاد للتمدن الفرنسي!
وبعد مذبحة العمَّال الفرنسيين في الدار البيضاء، وثورة الشاوية على قواد الحكومة الشريفية، احتل الفرنسيون أولًا وجدة، على الحدود المغربية الجزائرية، احتلالًا «مؤقتًا» — كما قالت حكومة باريس. ثم في حيزران (يونيو)، أي بعد سنة من مؤتمر الجزيرة، ثارت لأبنائها، ضحايا الاضطرابات في الدار البيضاء، فأطلقت المدافع من مدرعتها «الجليل» على المدينة فدمرتها، وقتلت من أهلها أضعاف عدد أولئك الضحايا.
صفا الجو للجيش، وما صفا للسياسيين في باريس وبرلين، فقد عكَّره الأجانب في الدار البيضاء؛ إذ فرَّ ستة من جنودها هاربين في أيلول (سبتمبر) سنة ١٩٠٨، منهم ثلاثة ألمان. فاتهم القنصل الألماني هناك بتشجيع أولئك الجنود على الفرار. مما لا ريب فيه أنه أعطاهم تذاكر الطريق، ولكن القنصل الفرنسي أدركهم بثلة من الحرس، فألقوا القبض عليهم.
هذا الحادث أثار الخواطر في الصحافة والدوائر السياسية في العاصمتين، فطلبت حكومة برلين من الحكومة الفرنسية الاعتذار قبل التحقيق، فرُفِض الطلب، وما كُرِّر ولا عجب، وفيه تحكمٌ عارٍ من الكياسة، وقد أحجمت حكومة برلين عن تكراره؛ لأنها شُغِلت في ذلك الحين بحادث آخَر خطير، في شرقي أوروبا، وهو ضمُّ النمسا لمقاطعتي البُسْنة والهرسك في أكتوبر من هذه السنة. فقبلت ألمانيا أن ترفع قضية الجنود الفارِّين إلى محكمة لاهاي، وقد حكمت تلك المحكمة في القضية لفرنسا (مايو ١٩٠٩).
وكانت المفاوضات في أثناء ذلك جارية بين الحكومتين في معضلة المغرب، فعُقِد بينهما اتفاق اقتصادي (٨ فبراير ١٩٠٩) مبني على قاعدة: «للضرورة أحكام» ومادة المساواة الدولية في ميثاق الجزيرة. فتقرَّر فيه تأليف شركات اقتصادية وتجارية، رأسمالها ألماني وفرنسي؛ لاستغلال المناجم وللأشغال العامة، وقد خُصَّتْ بالذكر شركتا «شنيدر» و«كروزو»، وشركة «كروب»، فتعَيَّنَ للأولين ٥٠٪ من الأسهم، وللثانية الألمانية ٢٠٪، وما تبقَّى لشركاتٍ من الدول الأخرى.
في هذه المدة (١٩٠٨–١٩١٠) قطعت الجيوش الفرنسية نحو ثلاثمائة كيلومتر من الشرق غربًا بجنوب، وثلاثمائة كيلومتر أخرى من الغرب جنوبًا بشرق، واحتلت البلدان في طريقها، فدنت من العاصمتين مراكش وفاس.
أما الإسبان فقد كان احتلالهم بطيئًا للمنطقة التي غنموها في اتفاق سنة ١٩٠٤، بطيئًا ومحفوفًا بالمصاعب والأخطار. هذه إسبانيا المستعمرة تخبط خبط عشواء بين الكنيسة والاشتراكية، هذه إسبانيا المضطربة شئونها اضطرابًا يدنو من الفوضى، بل هي الفوضى بعينها — الحمراء! — تصيح صيحاتها الاشتراكية اليوم، الإكليركية غدًا، والحكومة تحمل تشريعها لتحليل الزواج المدني، ولتقييد الجمعيات الدينية — كما حمل المسيح الصليب — من مرحلة إلى أخرى، من وزارة إلى أختها، فتسقط الوزارات وتتجدد، وتظل الفوضى قائمة، نافخة في الصورَين: صور الحرية الحمراء، وصور الرجعية الفاتيكانية، وها هو ذا السنيور «مورا» يعود إلى رياسة الوزارة (١٩٠٩) ليخفق في محاولاته الائتلافية. فلا الاشتراكية تهتدي، ولا الكنيسة تلين، ولا الحكومة تستطيع أن تكبح جماح إحداها.
وهناك في الريف تقوم القبائل على عمَّال شركة المناجم، وهم يقومون بعمل استعماري، يمدون خطًّا حديديًّا من مدينة مليلة إلى الجبال المعدنية المجاورة لها. شبَّتْ نيران الثورة في تموز (يوليو) من هذه السنة، فعجزت الجنود الإسبانية هناك عن إخمادها. النجدة، النجدة!
وما لبثت أن تجسمت النقمة والنغمة في الإضراب العام الذي أُعلِن في برشلونة، فانتشر سريعًا في الولايات كلها، وما لبثت أن انقلبت الفتنة، فأمست المقاومة للتجنيد والاستعمار حملة اشتراكية على الدولة والكنيسة معًا.
استمر الإضراب ثلاثة أيام، سادت فيها الفوضى، فهاج هائج الرعاع على الكنائس والأديرة، يهدمون ويحرقون؛ فأُعلِنت الأحكام العرفية في إسبانيا جمعاء، واستمرت شهرين.
لا عجب إذا عجزت الحكومة — والحال هذه — عن نجدة جيشها، واستعادة كرامتها في بلاد الريف.
أحدثت هذه الجريمة الحكومية — أقول الجريمة لأن المحكمة بعد سنتين أعادت النظر في قضية «فرير» فحكمت ببراءته — أحدثت هذه الجريمة ضجة استياء واحتجاج في العالمين الأوروبي والأميركي، بل في العالم المتمدن أجمع. وإني أذكر الحفلة التي أُقِيمت لذكرى «فرير» في بيروت، فاعترض عليها الجزويت وحاوَلوا وقفها.
وما كان المغرب الأقصى ليختلف كثيرًا في أحواله عن إسبانيا؛ فقد كانت الحرب في هذه الأثناء قائمة بين الأخوين الشريفين العلويين؛ عبد العزيز وعبد الحفيظ، ولا تسلْ عمَّنْ أثارها في ذلك البيت العلوي، فإن للسياسة الدولية إشارات وهمسات لا يجوز في مثل هذه الأحوال، ولا يليق، التقصِّي فيها.
استمرت الحرب بين الأخوين نحو سنتين، وانتهت باندحار عبد العزيز، فلج أ في ١٩ آب (أغسطس) سنة ١٩٠٨ إلى الجيش الفرنسي، وكان علماء مراكش قد بايَعوا في السنة السابقة مولاي عبد الحفيظ.
أما الدول، فلم تعترف به إلا بعد أن لجأ أخوه إلى الفرنسيين، وقد قيَّدوا اعترافهم بشروط، منها أن يدفع ديون أخيه.
وكان عبد الحفيظ (١٩٠٨–١٩١٢) شديد الشكيمة، عصبي المزاج، صادق النزعة الخليفية، واللهجة الوطنية المغربية، فسعى لإخماد نيران الفتن في بلاده، فأخمد بعضها، وكانت فتنة «بوحماره» منها؛ فمثَّل بالمتزعِّمين من القبائل الثائرة، وجاء بالزعيم الأكبر «وليِّ الله» إلى فاس، فجعله فرجة للمتفرجين، ثم عبرة للثائرين.
«بوحماره» في قفص يُرمَى إلى السباع في ساحة المدينة! عيد روماني! بل عيد بابلي! أفلا تذكر قصة دانيال في جب السباع هناك ببابل، كما قصَّها بنو إسرائيل في التوراة؟ وكان الرب يهْوه حفيظ دانيال، فما دَنَتِ السباع منه في ذلك العهد القديم.
أما في فاس، في هذا العهد الحديث: فقد ذاق أحد السباع قطعةً من ذراع الولي، فما استمرأها، أو أنه ندم فأحجم عنه لوجه الله، ولكن العبيد نفذوا ببندقياتهم الأمر السلطاني.
ولو أعان الله مولاي عبد الحفيظ لجاء بأقفاص أخرى إلى ساحة فاس، فيها من الأجانب مَن لا يحجم عنهم السباع. لله من أولئك المتواطئين والصيارفة! ما دان لهم عبد الحفيظ ولا لان، مع أنه كان في حاجة شديدة إلى المال.
حدَّثَ أحد السياسيين الثقات في تطوان قال: بعد أن تمَّ الصلح بين مولاي عبد الحفيظ والشريف الريسوني، أسرَّ عبد الحفيظ إلى الشريف بحاجته إلى المال، فجمع الشريف من القبائل مائة ألف دورو — نحو نصف مليون فرنك — وأرسلها إليه.
نصف مليون فرنك لا تسد ثقبًا صغيرًا في الخزينة الكثيرة الثقوب.
– في الباب صيرفي يا مولاي.
– ليدخل. لعنه الله.
ولأولئك الصيارفة أساليب عجيبة في تأمين ديونهم وفوائدها. القرض ثم القرض، وشفعة بالكلام المعروف. هاكم، يا صاحب الجلالة، ما هو واجب علينا في تفريج الأزمات الشريفية، هاكم قرضًا آخَر تستطيعون أن تدفعوا منه في الأقل فوائد القروض السابقة، وقيل: إن الكلام قُرِن بشيء من الإنذار والتهديد.
قبل عبد الحفيظ القرض الجديد — مائة مليون فرنك — ودفع منها بعض ديون أخيه، ثم دفع نفقات الجيش الذي احتلَّ الشاوية، ودمَّر الدار البيضاء، ودفع كذلك التعويضات لرعايا الفرنسيين في تلك المدينة.
وقد وعد أولئك السياسيون المتواطئون والصيارفة، عندما عُقِد ذلك القرض، أنهم سيجلون عن بلاد الشاوية قريبًا، وعن الدار البيضاء، فلا يكون لهم هناك غير معلِّمين للشرطة الشريفية. وعود عرقوب! وعود أوروبية! ومما زاد في طين مولاي عبد الحفيظ بلة، أنه بعد أن أمست خزينته كما كانت قبل ذلك القرض، زاد هو في الضرائب على رعاياه، فتمرَّدَتِ القبائل، وثارت عليه، ثم اقتدت بالجيش الفرنسي المرابط عند أبواب العواصم المغربية، فرابطت هي ثم شرعت في الزحف.
وا أسفاه! ما مرت السنة الثالثة من عهده، الشبيه في خزينته بعهد أخيه، حتى اضطر — ونار الثورة تشتعل في فاس — إلى الاستغاثة بالفرنسيين أنفسهم، فأغاثوه مسرعين فرحين.
صدرت الأوامر إلى الجنرال «مونيار» بأن يمشي إلى فاس فمشى، ودخلها بجيشه في ٢١ أيار (مايو) سنة ١٩١١.
ثم زحف إلى مكناس فاحتلها في ٨ حزيران (يونيو)، وتلتها الرباط في ٩ تموز (يوليو).
– سنجلو قريبًا عن الشاوية …
أما في المغرب الشرقي، فبعد أن انفرجت أزمات ١٩٠٩ في إسبانيا، أرسلت الحكومة نجدة إلى الريف، فأخمدت الثورة هناك، ثم عقدت والحكومة الشريفية اتفاقًا (نوفمبر ١٩١٠) شبيهًا بالاتفاق الفرنسي الشريفي، المزيَّن بالوعود الخلَّابة — الوعود العوقوبية!
وبعد ذلك (يونيو ١٩١١) احتلت جيوشها المدينتين المغربيتين: العرائش والقصر الكبير.
•••
هي سياسة المِطرَق والحديد الحامي؛ اضربْ، وعجِّلْ بالضرب، وعجِّلْ كذلك بالبيان، اطمئنانًا للمضروب، وإن كان لا يحسن الظن بالضارب. عجِّلْ بالبيان، في الأقل، للتاريخ: قد احتللنا وجدة احتلالًا موقتًا، وقد خرج الجنرال «ليوتي» من وجدة للتنزه في ضواحي تاز. صدِّقْ، أيها التاريخ!
ولكن التاريخ بعون الزمان، يفضح السياسيين الفضيحة الشائنة؛ يسجِّل لهم اليوم الأكاذيب، ويسجِّل الوقائع عليهم غدًا! وهم مع ذلك، وبالرغم من فضائحه كلها، من بداية السياسة الاعتذارية إلى اليوم، يكذبون ويتفنَّنون في الكذب، وفقًا للأحوال، ولطبائع المصالح والرجال. يكذبون الأكاذيب الدقيقة والغليظة، الملونة والقاتمة، الطرية والجافة، الناعمة والخشنة. يكذبون الأكاذيب المعززة بالوثائق الرسمية، المكللة بخنفشار الشرف الدولي! الأكاذيب العسكرية، الأكاذيب الاستعمارية، الأكاذيب المضمخة بطيب التعاليم المكيافلية!
ولَكنتَ تقف، يا مكيافلي، مكشوف الرأس إعجابًا وإجلالًا، أمام أولئك المجلِّين في ميدان سياستك وأدبك.
أما أولئك العرب المغلوبون اليوم على أمرهم، في المغرب والمشرق، فإنهم ليقفون أمامك، يا مكيافلي، في المجلِّين من كتَّابهم النوابغ — ولا يعدُّون — وكل منهم يحمل كتابًا في مكارم الأخلاق، وفي رأس مكارم الأخلاق الصدق والأمانة، ليذكِّروك، ويذكروا تلاميذك، ساسة أوروبا، أن الغلبة في النهاية للصادقين، ولذوي المروءة والأمانة والشرف! يقولون ذلك بمائة لسان، ويعتصمون بالإيمان، والصبر والاطمئنان، ويضعون كتابك وكتبهم في كفتي الميزان؛ ليحكم فيها الزمان حكمه، وإننا إلى حكمه لمطمئنون، وإن تأجَّلَ عشرين أو خمسين أو مائة سنة. فإن الحكم، ولا ريب، لنا!
ومما لا ريب فيه أيضًا أن النزاع بين الناس والأمم، عندكم وعندنا، يؤدي إلى الفساد والفناء.
فها هم أولاء يكرِّرون القول والتصريح والتعهد، ويوقِّعون المواثيق والمعاهدات، في المحافظة على كيان الدولة الشريفية واستقلال سلطانها، وفي المساواة بينهم في استعمار بلاده واستثمارها.
إن في ذلك من النزاع العقلي الوجداني ما فيه، وإن فيه كذلك من النزاع الدولي ما هو أشد من النزاع بين الأقوال والأعمال، وقُلْ بين العقل والضمير.
فقد نسيت إحدى تلك الدول العهود قبل أن يجف حبرها، ونسيت في الأعمال أقوالها، وفي الاستثمار الزملاء والجيران. كيف لا، والاتفاق الاقتصادي الألماني الفرنسي ما كان — كما أسلفت القول — غير حبر على ورق؛ فعندما أدركت حكومة برلين ذلك ضربت به عرض الحائط، وراحت تتعامل مباشَرةً والسلطان.
وعندما زحف الجيش الفرنسي على فاس، وسارعت حكومة باريس إلى البيان، اطمئنانًا للقلوب والضمائر، في وزارات الخارجية، والبيوتات المالية، كانت حكومة برلين — وقد أبت أن تشترك يومئذٍ في المهزلات الاعتذارية — أصرح من سواها من الدول، وأسرع منها في سياسة المطرق والحديد الحامي.
قنبلة سياسية انفجرت في ذلك المرفأ الأطلنتيقي، فكادت نارها تتصل بمخزن البارود الدولي، والله سلَّم ولطف، وكان من لطفه أن إنكلترا — وقد نسيت ذلك التفاهم الودِّي؛ المغرب لفرنسا ومصر للإنكليز — انبرت للمصارحة فدافعت عن ميثاق الجزيرة لتحول دون مطامع ألمانيا الأفريقية. كذلك قيل وفي القول باب للظنون!
على أن موقفها لم يكن مجردًا من الخير، فقد عادت الدولتان — مصيبتا العالم في سلمه المنشود — إلى المفاوضات التي استمرت أربعة أشهر، وكانت كثيرة المشادات والمناورات، فسمعت خلالها قرقعة السلاح. ثم دخلت الرواية في فصل المساومات التجارية. هاتي يا فرنسا مستعمرة أفريقية، وسكة حديدية، وخذي ما تريدين.
أزمة في المفاوضات — عُقِدت في المساومة. فمَن يحلُّها؟ هي السياسة في تلونها وتطورها، وحوادث يومها. تجلس اليوم في حجر هذا الوزير، وتركب غدًا على كتفيه، أو تقف كالكابوس على صدره.
وقد جلست يومذاك في حجر «كايُّو» إذ شُغِلت ألمانيا بالحرب الطرابلسية بين الطليان وأصحابها الأتراك، كما شُغِلت بالأمس في قضية البوسنة والهرسك. أَضِفْ إلى ذلك الأزمات المتوالية في بورصة برلين، وﻟ «كايُّو» — كما أسلفت القول — يدٌ فيها؛ فخفض «غليوم» من صوته، وقَبِلَ بقسمته، فتَمَّ التفاهم، وعُقِد الاتفاق في ٤ نوفمبر سنة ١٩١١.
إن في هذا الاتفاق وملاحقه السرية الحكم المبرم على استقلال المغرب.
فقد اعترفت ألمانيا لفرنسا بحق احتلال بعض المرافئ البحرية، بموافقة السلطان، وقبلت بأن تعيِّن — إذا اقتضى الأمر — مقيمًا عامًّا في فاس، وأن تشرف على مالية الدولة الشريفية ضمانًا للديون الأجنبية.
واعترفت فرنسا لألمانيا — للمرة الثالثة أو الرابعة — بالمساواة الدولية في الاستثمار، وخصوصًا في امتيازات المناجم، ثم أعطتها، بموجب ملحق سري، قسمًا من مستعمرة الكنغو الفرنسية.
أُرْضِيَتْ إنكلترا بأن تُرِكت وشأنها في مصر، فسكتت، فكان سكوتها ذهبًا لها ولشريكتها في الاغتصاب.
وأُرضِيَتِ اليوم ألمانيا بمستعمرة أفريقية وامتيازات، فسكتت كذلك.
إن السكوت حقًّا من ذهب، وإن الذهب لباب الاستعمار والحماية!
لم تُذكَر الحماية في المعاهدة، ولكنها كامنة بين سطورها، وقد عبَّرَ عنها تعبيرًا صريحًا كتاب آخَر، هو الملحق الثاني السري، من برلين إلى باريس، تعهَّدَتْ فيه ألمانيا بألا تقاوم وألا تعترض إن مسَّتِ الحاجة إلى الحماية.
ثم عقدت ومولاي عبد الحفيظ في ٣٠ مارس ١٩١٢ المعاهدةَ التي قضت على استقلال المغرب — أو يجوز أن نقول نحن كذلك: موقتًا!
لقد سلَّمَ عبد الحفيظ بكل الإنشاءات الاقتصادية، والإصلاحات الإدارية والمالية التي تقرَّرَ القيام بها، والتي لا تُلفَظ في مجموعها بغير لفظة الحماية، وقد قبلت بها الدول.
على أن إسبانيا لم تقبل إلا بعد المفاوضات والمشادات والمناورات الشبيهة بما كان منها بين فرنسا وألمانيا.
نعود إذن إلى الناحية الإسبانية من الموضوع؛ لنتقصَّى الحوادث التي أدَّتْ إلى التفاهم.
في ذلك الحين كان الفرنسيون يتأهَّبون للزحف على فاس، فرأت حكومة «كاناليخاس» أن تزيد سياستها المغربية حزمًا ونشاطًا، فاحتلت العرائش كما أسلفتُ القول، بعد ثلاثة أسابيع من احتلال الفرنسيين فاس، وضاعفت قواتها العسكرية لإخضاع القبائل التي عادت إلى الثورة والعصيان والتوثب للقتال.
وما راقَ ذلك الفرنسيين، فحملت صحافتهم على حكومة مدريد العسكرية، الاحتلالية، الاستعمارية؛ فتمثلت في حملتها حقيقة من حقائق الإنجيل الرائعة، هي مَثَل: أن لا ترى الخشبة في عينك، وترى القذى في عين أخيك!
وكان الإسبان قد علموا أن القبائل التي يحاربونها مسلَّحة بسلاح فرنسي، فهاج هائجهم على المعتدين والمحرضين، وامتلأت الصحف في مدريد، كما في باريس بلواذع الكلم والتهم، ومما زاد في اكفهرار جو السياسة الدولية: حادثة أجادير، المنبهة للأحلام، المبددة للأوهام. أدركت باريس ومدريد الخطر الحقيقي، فسكنت العاصفة الصحفية، وما سكنت الخواطر.
في ذلك الجو المكفهر، في صيف سنة ١٩١١، جرت المفاوضات بين الحكومتين الفرنسية والإسبانية، وهما تنشدان التفاهُم للمرة الثانية أو الثانية عشرة، فتوصَّلَتَا في ربيع السنة التالية (مايو) إلى اتفاق معدل لاتفاق سنة ١٩٠٤، فتنفست الأمتان الصعداء، فزار الملك «ألفونسو» باريس، وزار رئيس الجمهورية المسيو «بوانكاره» بعدئذٍ مدريد.
على أن الشئون الداخلية لم تتأثر بشيء من الزيارات الرسمية أو المعاهدات الدولية؛ فبعد أن غادَرَ الرئيس «بوانكاره» إسبانيا شبت نيران الأهواء الحزبية، ينفخ فيها الإكليروس من جهة، والاشتراكيون وأنصارهم من الجهة الأخرى، فاضطرب حبل الأمن في البلاد، وفي خلال ذلك الاضطراب أطلق فوضوي رصاصةً في ١٢ نوفمبر ١٩١٢ على رئيس الوزارة فأرداه قتيلًا.
كانت المعاهدة قد تمت في شهر مايو، ولكنها لم تصدق إلا بعد ستة أشهر (٢٧ نوفمبر)، أي بعد وفاة «كاناليخاس» بثلاثة أسابيع.
إن لتلك الحوادث في أوروبا والمغرب أسبابًا ونتائج يتصل بعضها ببعض؛ فالمعاهدات الثلاث: الفرنسية الألمانية، والفرنسية الشريفية، والفرنسية الإسبانية، متداخلة متفاعلة، وإن اختلفت فيما كان يطمع فيه المتنافسون وما ظفروا به.
أما التقسيم، فقد قامت القوة مقام العدل فيه؛ فلا عجب إذا كان نصيب الأسد لفرنسا، وقسمة الجَفْل للإسبان!
عُدْ إلى خريطة المغرب الأقصى تجد في شماله بقعة صفراء صغيرة مستطيلة، وبقعة أخرى في الجنوب، عند الخط التاسع والعشرين من خطوط العرض، هي نحو ثُمْن مساحته الأولى. هذه قسمة الجَفْل!
تمتد البقعة الشمالية من نهر مروي في الشرق، وهو يصب في البحر المتوسط إلى نهر لوكس في الغرب، وهو يصب في المحيط الأطلنتيق، وقد تعدَّل خط الحدود الجنوبية لهذه المنطقة، بين النهرين، تعديلًا يثير ثائر المحقق حتى اليوم من الإسبان، إذا ما نظروا إليه، وإلى ما كان قبل معاهدة ١٩١٢.
أما البقعة الصغيرة في الجنوب، على شاطئ الأطلنتيق، التي تُدعَى إفني، فهي محاطة من الجهات الأخرى الثلاث، بالمغرب الفرنسيِّ المحميِّ. لقمة صغيرة من قسمة الأسد!
هذا من الوجهتين الفرنسية والإسبانية. أما من وجهة الحق الأعلى، فإن صاحب المغرب، الذي تقاسمت الدولتان ملكه، لا يزال حيًّا يُرزَق، وقد كان في شخص مولاي عبد الحفيظ حيًّا يُرزَق ويُخشَى. فبالرغم من تلك المعاهدات التي وقَّعَها استمرَّ في سياسته المزعجة المغضبة لفرنسا.
وقد شبَّتْ نار الفتنة في قلب مدينة فاس بعد عقد المعاهدة بأسبوعين (٧ أبريل)، فقُتِلَ فيها بضعة عشر ضابطًا فرنسيًّا وأربعون من الجنود، واثنا عشر من الأهالي؛ فغضبت باريس غضبة استعمارية، وعيَّنَتِ الحكومةُ الجنرالَ «ليوته» مقيمًا عامًّا غير موقت!
عامَلَ الجنرال صاحب العرش بالحسنى، وبغير الحسنى، فألفاه في الحالين شريفًا علويًّا عنيدًا، وعلى شيء من الحذق في التهكُّم والازدراء.
– أتريدون أن أستقيل؟ أتفضلون أخي يوسف عليَّ؟ لكم ما تشاءون بشرط واحد؛ إني أعلم أن الغاية الأولى والأخيرة، الدنيا والقصوى، من سياستكم كلها هي المال، المال ربكم المعبود، وهو عندي كالخادم، المال عبدٌ من عبيدي، ولا بد للسلطان، وإنْ اعتزَلَ العرش، من عبيد. هاتوا المال وخذوا العرش.
وكان في ذلك اليوم الثاني عشر من شهر أغسطس من السنة الثانية عشرة والتسعمائة والألف مسيحية، واليوم السابع والعشرين من شعبان سنة إحدى وثلاثين وألف وثلاثمائة هجرية.
على شمس المغرب وقمره السلام! …
Il Joua un role décisif dans I’emeute de Marakech, au cour de Laquelle Manchamp succomba (ibid P. 22).