جبل طارق
من طنف غرفتي في فندق الصخرة، اللاصق ظهره بصدر الجبل، تحت هوله الخالد، أطللتُ على مشهد رائع من مشاهد الجمال الطبيعي، والعظمة الدولية، فمن الصنوبر الساحق النازعة أغصانه القديمة إلى الفوضى، إلى الأزاهير تحته في جنائن تتغنى بالوفر والنظام، إلى ساحات معبَّدة مسيَّجة، للعب اﻟ «تينس»، إلى طريق أسحم أملس بين البلدة وطرف البلدة وطرف الصخرة الشرقي، مظلَّل بالأشجار، مزدانة جوانبه بالأزاهير المتدلية من الجدران العالية؛ كل ذلك في انحدارٍ غير انحدار الجبل إلى الفندق، في انحدار خفيف لطيف إلى البحر.
وهناك على شاطئ البحر — الطبيعي والاصطناعي — في الأرض التي هي من الجبل والأرض الردم؛ مظهر من مظاهر العمران المدفعي، والعظمة الصناعية البحرية، المجردة كلها من جمال الطبيعة أو الفن. هناك رمز العلم والقوة، هناك الأرصفة الممتدة إلى البحر، المكعبة والمثلثة فيه كأنها قضايا هندسية، وهناك أبراج وجسور وعمد من حديد للبرق والنور، ولرفع الأثقال ونقلها، وهناك المخازن والمستودعات والمرافئ والأحواض، والمكاتب والمختبرات، وهناك المصانع لترميم السفن، وللتنظيف والتجديد، وهناك المدرعات والغواصات والطرادات، وقد عادت من نزهة في البحر المتوسط، وهي متأهِّبة لدرء أخطار الحرب أو لخوض غمارها.
هي بلدة قائمة بنفسها، وهي دومًا في عمل، نار محركاتها لا تخمد، وأنوارها تصل الشفق بالفجر. هي صخرة الدولة البريطانية وعظمتها البحرية. هي هي جبل طارق!
أهل جبل طارق ناس من جنسٍ خاص بالصخرة، لا هم إسبان، ولا هم إنكليز. لا وطنية لهم تحملهم على المشاغب والفتن، ولا قومية تورثهم داءي الكد والاستعمار. هم حقًّا بريئون من اليقظات القومية، والنهضات الوطنية؛ فلا يكلِّفون أنفسهم فوق طاقتها في عمل من أعمال الحياة، ولا يُكلَّفون إلا اليسير اليسير من الضرائب.
فإن كنَّا نرثي لحال مَن لا وطن لهم ولا قومية، فالجبلطارقيون يرثون لحال مَن يجاهدون في سبيل الأوطان!
ولنذكر ها هنا أن السلطة الإنكليزية لا تريد أن يكثر سكان الصخرة، وهي حصن وقاعدة بحرية فتعسر سُبل العيش، بالأساليب القانونية والخفية، على أولئك الذين تتجهَّمهم الحياة فيتجهمونها، فيمسون على هامشها المتردم، ولا عمل ولا أمل، ويستمرون في التنقُّل، فيصلون إلى لالينا، إلى سكان روكيه، إلى الجزيرة. على أن أكثرهم يبقون في البلدة القريبة من الصخرة لتوافُرِ الأعمال فيها، ولا سيما المحرَّمات؛ لذلك يقول الجبلطارقي، ولا يكذِّبه الإسباني، ولا يقطع لسانه: إن سكان لالينا أكثر أبناء آدم خبرةً وعملًا في كل ما هو محرَّم من التجارات والمهن.
ولكن في القول غلوًّا بانَ لنا بعد البحث، فيجب أن نقول إذن، دفاعًا عن اللالينيين: إن كل ما هو محرَّم ينحصر في تهريب الدخان والخمر، وفي الشقاوة التي تنطق بلسان الخنجر في بعض الأحايين. أما فيما سوى ذلك، فإنهم — مثل كل الناس — يدفعون الضرائب، ويُجنَّدون، ويؤمون الكنيسة للصلاة، لا لسرقة الأواني المقدسة، ويحسنون معاملة النساء والقطط.
كاد الكلام على سان روكيه ولالينا ينسينا النصف الثاني من جواب التاريخ على سؤالنا. فبعد أن نزح الإسبان من جبل طارق حلَّ محلهم قوم من الطليان، جاءوا على الأخص من جنوا، فرحَّبَ الإنكليز بهم، فأقاموا في ظل الصخرة آمنين، وتاجروا مطمئنين، وتناسلوا فرحين، فكانوا الأجداد لسكان اليوم.
قلت إن في جبل طارق بلدتين: بلدة هؤلاء المتمردين من الطليان، وبلدة الدفاع البحري البريطاني، وليس بينهما خيط صلة من الحرير أو الشعر، بل إن البلدتين تختلفان في مزية أولية جوهرية، هي النطق الذي يميِّز الإنسان عن الحيوان؛ فالنطق كله، بعجره وبجره، عند الجبلطارقيين، والصمت كله، بذهبه ونحاسه، عند الجندية والبحرية ومَن يلوذ بهما من الإنكليز، فإن كنتَ طالب علم، يهمك مقدار ما فيه من الصحة، فدونك الشارع الكبير الواحد تحدث التجار فيه وأصحاب الحانات، وإن كنتَ تبتغي التحقيق والتدقيق فيما تسمع، أو في موضوع يصله، ولو خيط من العنكبوت، بالصخرة الإمبراطورية وأسرارها العسكرية، فلا تدنو من أحد العاملين في تحصينها وإدارتها، فإنهم ومَن يلوذ بهم لا يُحسِنون على الإجمال غير لفظتين اثنتين: لا أعلم!
خرجت صباح يوم أمشي، ولا هدف غير ما تكشفه الطريق، فرأيت شجرة بين الأشجار لا أعرف اسمها، وأنا في هذه الحال على شيء من شذوذ الطبع فأغتاظ لجهلي، ولا أقف عند حد في فضولي. قلت: أغتاظ ففرَّطت، فإن شجرة أجهل اسمها بين أشجار أعرفها حيثما أشاهدها، لشجرة مكربة مضنية. إنها لتضنيني. أقول ذلك بلساني الشرقي وإحساسي الموروث، وأما بلساني الغربي الذي تمرَّنَ على التدقيق في التعبير، وأحسن شيئًا منه، فأقول: إنها تفسد النزهة عليَّ، ولست في ذلك مفرِطًا أو مفرِّطًا.
وهاكها متحدِّية بين أشجار الصنوبر والسنديان. هي شبيهة بالسنديان وليست منه، وما هي كشجرة من عوامل الدفاع أو من أسرار الحصون والقلاع، فَلْأسأل هذا الضابط يساعد في كشف غمي. صحبته واعتذرت، ثم سألته قائلًا: ما اسم هذه الشجرة؟ فقال بلهجة مزنَّقة: لا عِلْمَ لي بالأشجار. ثم سألت رجلًا في ثوب مدني أنيق فتأسَّفَ وأجاب جواب الضابط!
بعد ذلك بانَ لي في أعالي الجبل شيء غريب من البناء أنساني الشجرة، وكانت امرأة تدنو إذ ذاك مني، وفي وجهها الدميم نبأ التقوى والصلاح، فسألتها عن ذلك البناء، فأجابت بلهجة الضابط: لا أدري! … وهؤلاء الجنود الأربعة قد خرجوا على ما يظهر متنزهين، لا بد أن يكون واحد منهم، ذاك الرقيق الإهاب الضارب إلى الاصفرار، عالمًا بعلم النبات، فسألته عن اسم الشجرة، وكنت وا أسفاه مخطئًا في ظني.
ثم سألت رفيقه عن اليوم الذي وصل فيه الأسطول إلى جبل طارق، فسمعت للمرة الرابعة أو الخامسة كلمة السر: لا أعلم.
إنني لفي جبل الصمت والتكتُّم، ولكن الحياة تأبى الإطلاق، وتنفر من القياس الواحد، فلا بد أن نلقى حتى في المقابر لسانًا ناطقًا، وها هو ذا تحت الشجرة التي كادت تفسد عليَّ نزهة ذلك الصباح.
كان الرجل يحرق بعض الأوراق، فسلَّمْتُ، فردَّ السلام بإنكليزية سليمة، ولهجة كريمة، وقد أجاب عن سؤالي الأول جوابًا استبشرتُ به؛ فما هو من الجندية ولا من البحرية ولا ممَّنْ يلوذون بهما، إنما هو صاحب مغسل الجنود، وقد كان في تلك الساعة يلهو بحرق الجرائد التي تجيئه من بلاده.
وعندما سألته عن اسم الشجرة أدهشني بثقافة عالية؛ فقد أعطاني الاسم وشفعه بنادرة تاريخية، ومثل لاتيني رواه باللغة الأصلية. عجيب أمر هؤلاء الإنكليز، فإنه يبلبل الباحثين الراغبين في الحقيقة نقدًا وتقديرًا.
وقفت معجبًا بذلك الرجل كل الإعجاب، أمثقف في جامعة أكسفورد وصاحب مغسل للجنود بجبل طارق! سعدت دفعة واحدة بعلمه كما يشقى هو بجرائد لندن، وقانا الله الخير إذا طمى!
ومن مدهشات ما شاهدتُ في ذلك الصباح راعيًا ولا كالرعاة، شابًّا في ثوب إفرنجي نظيف، يتأبَّط كتابًا، بدل أن يحمل القصب أو الناي، ويسوق قطيعًا من المعز. هو ذا الراعي العصري المتمدن! كتاب يذهب بالناي — علْمٌ يذبح الغناء والهناء!
أمعنت في الطريق المعبَّد المفروش بالزفت المصعد في الجبل، فمررت ببيوت وضيعة جميلة تحاوِل الاختباء بين أشجار اﻟ «مُلْتَا» والصنوبر. هي بيوت للضباط البريين والبحريين، وهذه أكواخ لاصقة بالصخور الشاهقة يقيم فيها بعض الفلاحين وهم يكتفون من المهنة — فلا أرض تُفلح في الصخرة — بتربية الدجاج وبيع البيض للجنود. وهاك ديرًا بمدرسة للراهبات فوق الطريق، ومجموعة تحته من البنايات الكبيرة، تصل بعضَها ببعضٍ الجسورُ والأروقة، هو المستشفى العسكري.
دنوت من المكان العالي أمامي، القائم فوقه بناء ينشر علمًا سرِّيَّ الخبر لمثلي، هو مركز الأنباء والإشارات البحرية، يتبادَلها والسفن الحربية والتجارية، المستأذنة — وهي في المضيق — بالدخول إلى الميناء.
وصلت إلى الثكنة العسكرية عند منتهى الطريق في طرف الصخرة الجنوبي الغربي، المشرف على الناحية الشرقية منها — على جون «كاتالان» وقرية صيادي السمك هناك. ما كان لي أنا أن أشرف على ذلك الجون الجميل الذي رأيته بعدئذٍ من الباخرة المشرِّقة. أوقفني الحرس؛ لا مرور عند هذا الحد بدون إذن من الحكومة.
عُدْتُ أدراجي بشيء من التعريج، فوصلت إلى نفق في صخرة ضخمة، ووقفت عند كتابة محفورة إلى جانب المدخل، فإذا هي تقول: إن هذا النفق فتحه وأتمَّه تبرُّعًا جنودُ جلالة الملكة في سنة ١٨٤٢، ثم — بلهجة شعرية تندر في الأنصاب والآثار الإنكليزية:
دخلت النفق المؤدي إلى أرض وراء الصخرة، مهَّدَها كذلك أولئك الجنود، فبُنِيت فيها الثكنات. هناك في تلك الساحة، تحت جفن الجبل وفوق عين البحر تعصف الرياح على الدوام — الرياح الشديدة الباردة حتى في الصيف — وقد كانت في أشدها، على ما أظن، صباح ذلك اليوم، فولَّيْتُها ظهري. رحت معها كما يفعل صاحب الشراع إبَّان العاصفة، فإذا بي عند الرأس الذي يسرع في انحداره إلى البحر من نواحيه الثلاث الشرقية والغربية والجنوبية، وإذا بي أمام صف من الخنادق المبنية بالأسفلت، وأروقة وراءها وبينها، وأبواب إلى داخلها حيث تكمن المدافع التي تبرز خياشيمها من نوافذ ترى البحر ولا يراها.
وبين هذه الخنادق، فوق سطوحها، مصاطب مصونة لمدافع كبيرة أخرى، دُهِنت باللون الأزرق؛ لتتجانس ومحيطَها شكلًا ولونًا، فتخفي حقيقتها على العدو.
أما ما يُرَى في تلك المنحدرات الحادة الزوايا مع البقع البيضاء الكبيرة، فهي موضوع حدس وتكهُّن للمسافرين في السفن التي تعبر المضيق. فيقولون: هي جدران للطريق المؤدي إلى رأس الجبل. ويقولون: هي فسحات، قُطِعت أشجارها، وجُزَّ نباتها؛ لغرض من أغراض الدفاع. ويقولون: هي بقع صخرية جرداء تظهر في بياض سابغ، فتخفي ظلالها على الناظر إليها من عرض البحر.
أما الحقيقة فهي غير ذلك؛ جبل طارق صخرة تقل فيها الينابيع، ومياه البلدة والحصون — قديمًا وحديثًا — تُجمع من الأمطار في الآبار، أما آبار اليوم فهي أحواض عمومية كبيرة تتوزَّع منها المياه إلى البلدتين، التجارية والعسكرية. ومن أين تتسرب إليها مياه الأمطار؟ هذا هو السر في تلك الجدران المبنية من الحجر الكلسي المنحوت بناء محكمًا على صدر الجبل، فتتلقى الأمطار، وتحملها إلى القنوات المتصلة بالأحواض في أسفلها.
ولكن التغير الكبير الطارئ على هذا الحصن إنما هو في مجمله لا في جزئياته، إن للإنكليز في سياستهم المتعلقة بالبحر الأبيض ثلاثة أغراض أولية، هي: السيادة، والتجارة، وصون طريق المواصلات الإمبراطورية. فالبحث في الغرضين الأول والثاني ليس من موضوعي، وليس ما يسترعي له النظر الآن من الاستحكامات والقواعد البحرية في طريق الهند، غير جبل طارق هذا، باب رحلتنا المغربية.
كان جبل طارق الحصن الأمنع في التاريخ، وحدَّ الدنيا الأقصى في الأساطير، فذهبت الاكتشافات بالأساطير والحدود، كما تذهب الاختراعات الحربية بأهمية القلاع والحصون. لقد ذكرت التحصينات القديمة المهملة، وأشرت إلى الحديث منها، الظاهر والخفي، في أعالي الصخرة. بَيْدَ أن ذلك كله بالنسبة إلى ارتقاء السلاح الجوي، أمسى كالحصون في القرون الوسطي؛ فالعدو يستطيع أن يحطم من الجو مدينة الدفاع بكل ما فيها من مرافئ الاستحكامات ومدافعها.
ومما ينقص من قيمة هذه الاستحكامات والحصون هو أن لألمانيا اليوم مراكز حربية، بحرية وجوية، جنوبي المضيق، في جزائر كاناري بإجازة الإسبان، وعلى شاطئ الأطلنتيق في الأرض الإسبانية الأخرى التي تُدعَى ريو ده أورو.
لذلك باشر الإنكليز بناء مطار وراء الصخرة في الناحية الشمالية، وهي ساحة رحبة تكاد تصل إلى الحدود الإسبانية. فإن شريط سكة الحديد — الحدود — على نحو مائة متر منها.
عندما باشَروا تمهيد تلك الساحة لهذا العمل تنبَّهَ «الجنرال فرنكو»، فزاد في حاميتي لالينيا وسان روكيه، وهو يفكِّر في غير ذلك من أساليب الدفاع والهجوم!
إن بين إنكلترا وإسبانيا اتفاقًا قديمًا على أن لا تُحصَّن الجبال القائمة في ذلك الهلال بين جبل طارق والجزيرة، وأن لا تُستخدَم لغرض من الأغراض الحربية. على أن حكومة «الجنرال فرنكو» لا تميل إلى التقيُّد بذلك الاتفاق، وإني أظن أن هناك، في الجبال الغربية، حصونًا واستحكامات بُنِيت حديثًا.
جبل طارق! لا يزال الإسبان يعلِّلون النفس بضمه إلى أمه، إلى الأرض الإسبانية. فإن كانت حكومة «فرنكو» لا ترى الوقت مناسبًا للعمل الخطير، الذي يحرِّضها عليه الألمان والطليان، فهي لا تمنع الجرائد والكتاب من البحث في الموضوع.
أَضِفْ إلى ذلك عودتهم إلى فكرة قديمة في حفر نفق تحت البحر، في المضيق، بين طريفة وطنجة يصل الأرض الإسبانية بالأرض الأفريقية، ويمكن بواسطته نقل الجنود من المغرب إلى إسبانيا، ومن إسبانيا إلى المغرب، يوم يعزمون على الحرب.
وفي أعالي الجبل، منها البرج المربَّع الذي لا يزال قائمًا هناك. تلك الجدران الدكناء، بين فسحات من الاخضرار، وتحت أطناف من الصخور، وإن تحدَّت الرواسي والسنين، وظلت سليمة بعد كل ما شهدت من حرب، إن هي إلا شهيدة الزمان، وقديسة التخاذل والنسيان!
استمر حكم العرب في جبل طارق، على اختلاف عهودهم ودولهم سبعمائة وخمسين سنة، فانتزعه منهم الإسبان سنة ١٣٠٩ ثم فقدوه، وفي سنة ١٤٦٢ كان الفوز لهم، فأخرجوا العرب منه، وزادوا في تحصينه، فظلَّ في حوزتهم بشيء من التقطُّع أكثر من مائتي سنة.
أما استيلاء الإنكليز عليه، فقد كان للمرة الأولى في الحرب الأوروبية (١٧٠١–١٧١٤) التي أثارها ملك فرنسا الكبير «لويس» الرابع عشر.
ما أتفه الأمور الظاهرة التي كانت تقام من أجلها الحروب في الماضي! ولكنها كانت تنطوي على غيرها، وهي الجوهرية. هي هي المطامع الاقتصادية والاستعمارية بعينها، أراد لويس الرابع عشر أن يبسط نفوذه على إسبانيا بإقامة حفيده الأمير «فيليب» ملكًا عليها خلفًا «لشارلس» الثاني، فقامت إنكلترا تنادي بالويل؛ لاختلال التوازن الدولي الأوروبي، فألَّفَتْ حلفًا منها ومن النمسا وهولندا والدنيمرك والبرتغال لمحاربة الفرنسيين والإسبانيين. دارت رحى الحرب في أوروبا بضع سنوات، ثم امتدت إلى إسبانيا، فاحتلَّ الأحلاف قادس، وقرَّرَتِ القيادة العامة أن تحتل كذلك جبل طارق؛ فأطلقت القنابل عليه في ٢٣ يوليو سنة ١٧٠٤، واستمر الحصار ستة أشهر، فتكلَّلَ بالنصر في ١٠ مارس سنة ١٧٠٥ للمحاصرين.
بَيْدَ أن ذلك الاحتلال لم يَدُمْ طويلًا، في النصف الأول من القرن الثامن عشر، لا للإنكليز ولا للإسبان، الذين حاصروا الصخرة فاستعادوها، ثم فقدوها. وظل الاحتلال الإنكليزي متقلقلًا حتى حصار عام ١٧٧٩–١٧٨٣ برًّا وبحرًا، والذي يُعَدُّ من أعظم حصارات التاريخ؛ ذاق الإنكليز أشد ويلات الحرب وأمرَّها. ومع ذلك، وبالرغم من مساعدة فرنسا، ما استطاع الإسبان أن يزحزحوهم من مراكزهم المنيعة. كانوا هم والصخرة صنوين. فرفع المحاصرون الحصار، وعقدوا مع المحاصرين معاهدة الصلح في ٦ فبراير سنة ١٨٨٣.
منذ ذلك اليوم إلى يومنا هذا استمرت سيادة الإنكليز في جبل طارق دون انقطاع، وهي تزداد قوةً وتمكينًا بما بنوا فيه من الحصون، وبما حفروا من الأنفاق، وبما أسَّسوا من المرافئ وردموا من البحر، وبما حسَّنوا إجمالًا في أسباب الحياة المدنية والعسكرية، وفي أسباب المناعة البحرية، فغدت الصخرة أحصن الحصون وأعزها في العالم، وظلت كذلك حتى عهد السلاح الجوي الذي نحن فيه.
فهل تذهب يا ترى كما ذهبت أمثالها العربية والإسبانية قبلها، هل تمسي حصون الإنكليز كما أمست حصون ملوك قشتالة وملوك غرناطة؟ …
ليقف القارئ عند كهوف الاستعمار — عند خنادقه — وَلْيذكر تلك المدافع والاستحكامات التي كشف الصدأ سرها، وطوت العفونة أخبارها!