مدريد١
بين أشبيلية ومدريد طريقان ملكيان، تنعم السيارة فيهما، فتسرع الإسراع المبهج للمجانين في أسفارهم، وأنا من أولئك المجانين، إن لم يكن لي غرض في البلاد التي أجتازها، وكان الطريق استواءً مثل لوح الزجاج. أجل، أنا إذ ذاك ممَّن لا يبالون بالكيلومترين في كل دقيقة، ولا يجزون القابض يده على الدولاب إذا نقص عدَّاد الكيلومترات عن التسعين في الساعة الواحدة.
أطوها طيًّا، يا حادي، التهمها التهامًا يابن زين!
قلت إن من أشبيلية إلى مدريد طريقين يلبيك فيهما ابن زين، طريقًا يجتاز مقاطعة استرمادوره شمالًا إلى ماردا من الجنوب الغربي.
والطريق الثاني يمر بقرطبة إلى بيلين، فليتارس، ثم شمالًا بولاية لامنشا المخلدة في سيرة ضون كيخوته، فإلى مدريد من بوابة الجنوب الشرقي، كلا الطريقين لا يتجاوز الخمسمائة كيلومتر. سلكنا الأول ذهابًا، والثاني إيابًا، فوقفنا في الأول، إذ وصلنا إلى تروخيو، من مقاطعة استرمادوره إكرامًا لمَن أنجبت من رجال الفتح والاستكشاف.
هذه المقاطعة لا تشبه المقاطعات الإسبانية الأخرى في شيء من الخصب الطبيعي، أو اللمعان الاجتماعي، فإن طبائع أهلها مثل سمائها جافة، ومثل أرضها يابسة، أرض تقل فيها الغابات، وتكثر فيها المراعي، وهي مشهورة بخنازيرها، التي تُعلف البلوط. ولحم تلك الخنازير مشهور في إسبانيا، كما أنها مشهورة بأغنامها السارحة، التي تنزل في الخريف من أعالي جبال قشطيلة وليون، وتخلق المشاكل والدعاوى بين المالكين والغنَّامين. أو كانت في الماضي! أما اليوم فالقانون يُوجِب إفراز مساحة معينة إلى جانبَيْ كل طريق للمرعى العام المشاع!
وفي طلبيرا، بعد مائة وخمس وعشرين سنة من تلك الوقعة، انتصر جيش الجنرال فرنكو على جيش الحكومة الجمهورية، فأخرجه من البلدة واحتلها، فمهَّدَ لنفسه الطريق إلى طليطلة ومدريد.
لا نزال في مقاطعة استرمادوره، في طرفها الشرقي الشمالي الذي يدنو من قشتالة الجديدة، وهو أخف وجومًا وأقل جفافًا من الطرف الجنوبي. على أن الأشجار تقل في الماضي، وأوشكت أن تضمحل، في كل نواحي المنطقة؛ لأن الفلاح الإسباني كان يظن أن الشجرة عدوه، لأنها تظلل الطيور الصغيرة التي تأكل بذور ما يزرع من الحبوب.
وقد بلغ هذا الخوف أشده في ولاية لامنشا، فقطع أهلها الأشجار ليقضوا على الأطيار، وقد قيل لي إنه في زمن ليس ببعيد لم يكن هناك إلا ما يندر من الأشجار، وأن ألوفًا من مواطني ضون كيخوته لم يروا في حياتهم غرسًا مغروسًا. وقد زكوا هذه الكلمة بمثلٍ يقول: يجب على القبرة التي تزور أرضنا أن تحمل زادها معها.
ولكن الإسباني مثل العربي مضياف، وإن تجهَّمَ القبرة، وجافَى في الماضي الطيور. ولقد سعَتْ حكومته، في مطلع هذا القرن، لتزيل ذلك الجفاء وتنشر من العلوم الزراعية ما يُعِيد إلى الفلاح حسن الظن بالطيور، وهي التي تأكل الحشرات الفتاكة بكل مزروع ومغروس، فتدفع عنها الشر والأذى.
وهناك في أعالي المقاطعة، كما في قشطيلة، آثار باهرة لقنوات الري التي مدَّها العرب في زمانهم، فجدَّدتها الحكومة، وزادت فيها فازدانت الأرض بالأشجار، وتحسَّنت العلاقات بين الفلاحين والأطيار.
•••
ومدريد هي قلب قشتالة، كما أن قشتالة هي قلب إسبانيا، هي وليون كما كان يقال، قلب إسبانيا وحصنها، من قبل أن تُخلَق إسبانيا، يوم كانت الممالك الإسبانية كالممالك والإمارات العربية اليوم، أنانيات مسلَّحَة تريد أن تحمي خيالها المديد الزائل.
وقشتالة اليوم قشتالتان: القديمة والحديثة؛ القديمة التي شبت على الفروسية، وركبت في قنانها سنان الإيمان الكاثوليكي، والجديدة التي أنبتت الفكرة الإسبانية التي أنارت شموع الكنيسة للملكة إيزابلة والملك فردينند؛ فكرة التوحيد، فكرة السيادة المركزية، فكرة الدجاجة الرنقاء تضم تحت جناحيها فراخ إسبانيا الجديدة المتحدة المظفرة.
وقد أصبحت مجريط مدريد في فجر القرن الثاني عشر يوم وضع ألفونس السادس بضع بيضات تحت جناحي الدجاجة «الرومية» الرنقاء.
ثم صارت مصحًّا في عهد شارلس الخامس الذي أمَّها مستشفيًا، ثم شيَّدَ فيليب الرابع عرشه فيها، فغدت عاصمته، وفيها بلاطه الوحيد.
ثم نُقِل إلى مدريد عبقري إسبانيا الأكبر سرفنتس، فأقام فيها خمس عشرة سنة، وكمل في بيت له فوق ذلك القصر كتابه الخالد.
ثم جاء صنو سرفنتس الفنان الأكبر فلاسكيز، فحامَ حومة حول القصر، ودخله ظافرًا فزيَّنَه بوجوده وبصوره وبسمو أخلاقه.
لم يكن في إسبانيا قبل ذلك غير العواصم، لم يكن فيها عاصمة؛ فكانت سرقسطة لأراغون، وبرغوس لقشطيلة، وطليطلة للغوط، وقرطبة وإشبيلية للعرب، وليس لإسبانيا عاصمة تعصمها من شرور الأنانيات الصغيرة، فخلقت الضرورة مدريد.
صار الحصن قصرًا، وأصبح القصر إرادة وسيفًا وصليبًا. فَلْتسمع أراغون، فَلْتخضع ليون، فَلْتدفع الأندلس الخراج.
شاهدناها من غير السماء، وما شاهدنا في أبوابها غير أبناء الجحيم مجسَّمة في الطلول الدوارس.
هو ذا الدير الذي كان مدفونًا في كنيسته نوابغ إسبانيا: سرفنتس، وهريرا، ولوبه ده بيغا، وفلاسكيز.
وهي ذي الأسواق التي أمست مقابر، والقبور فيها فارغة، فاغرة أفواهها وكأنها تصيح قائلة: أين موتاي؟
أين ضحايا الحرب الأهلية؟ مَن ماتوا تحت الردم، ومَن ماتوا في النار، ومَن ماتوا متعثرين بين الأطلال، ومَن ماتوا خوفًا وهلعًا، ومَن ماتوا غير مرة في الفرار والحرمان والجوع والبرد والتشريد. وأين ضحايا الحرب الأيتام، والمنقذين من مخالب الموت بأيدي الرحمة الجامدة العين، والإحسان القاتم الجبين؟
مُذْ دخلنا المدينة، من الجنوب الغربي، حتى اجتزنا الخمس عشرة أو العشرين من أسواقها، كانت الخرائب على الجانبين متواصلة، لا يتخلَّلها بيت واحد سليم في طابق من طوابقه العليا. هذي هي آثار الطائرات المدمرة، شاهدناها بأم العين.
صروح جميلة مبنية بالحجر الأبيض وبالقرميد الأحمر، يتصل بعضها ببعض، وينفصل بعضها عن بعض، صروح للعلم — للعلوم والفنون والصناعات — عشر كليات، عشرون كلية — بضع عشرة، بضع وعشرون بناية — كلها خراب يباب.
وكل أشجار تلك الغابة تندب مدينة الكليات. تلك الأشجار، وفيها المحطمات، والهاويات، والواقفات كالثكالى المحروقة أثوابهن، المحروقة أجسامهن حتى العظام، الصارخة أرواحهن صرخات تسمعها السماء؛ ترسل مع ذلك شمسها كل يوم لتدفئ عظام الأرض.
في هذه الغابة وبين صروح مدينة العلم قامت الحرب في أشدها بين أبناء الأمة — الأم — الواحدة. ها هنا أمام جبال وادي الرحمة تذابَحوا وتعاوَنوا في التدمير، والرحمة هناك علاها الشيب، وغشيها الصمم، فهي لا تشعر ولا تسمع ولا ترى!
وهذا باب الحديد، درب من الشمال إلى مدريد يشطر مدينة الكليات شطرين، وإلى جانبَيِ الدرب خنادق «لهم» وخنادق «لنا»، مختلطة بعضها ببعض؛ فمنها للثوار بين ناري الجمهوريين، ومنها للجمهوريين بين ناري الثوار.
وكان الجنود من الجيشين، ساعة تخمد نار المعركة، يخرجون من الخنادق إلى قارعة الطريق، فيتلاقون هناك، ويشربون الخمر، ويدخنون، ويتمازحون، ثم يعودون إلى الخنادق يستأنفون أعمالهم المباركة!
وأغرب من ذلك أن تلك الخنادق مفروشة بالبلاط الأسمنت، فلا تتوحل في الشتاء. هو الارتقاء الخندقي، توحيه إلى إسبانيا أوحال خنادق الحرب العظمى.
وذي هي لوحة من غير اللوحات التي ذكرت، كُتِبت عليها كلمة تذكر بكلمة الجيش الفرنسي بفردون: لن تمروا. وجَّهَها جيش الحكومة إلى جيش فرنكو، وتحتها اليوم لوحة كتبَتْ عليها حكومة فرنكو الجواب: قد مررنا.
كان الهجوم الأول على مدريد في ٢١ أغسطس سنة ١٩٣٦.
وبعد يومين حلَّقت فوقها عشرون طائرة من طائرات الثوَّار.
ومنذ الهجوم الأول إلى أن سلَّمت، بعد سنتين وسبعة أشهر، هُوجِمت من الشرق والغرب والشمال والجنوب، فكانت جبهات الجيشين المتحاربين كالبحر في مدها وجزرها، وكالبحر الهائج في أمواجها المتلاطمة.
كانت مدريد بيدهم، وكانت بيد خصومهم، كانت مقيَّدَة في روحها، كما كانت مقيَّدَة في جسمها، فتنازَعَها الخصمان؛ فدافَعَ عنها مَن ترغب عنه، وحمل عليها مَن تميل إليه، والويل للمنقسمين في بيوتهم وعلى أنفسهم.
جئناها في الشهر الأول، وبعد سنتين وسبعة أشهر من أهوال الحرب، وهي في دور النقاهة، فلا عجب إن لم تكن قد تأهَّبت لاستقبال الزوَّار.
وما كانت أنزالها كلها مفتوحة؛ فمنها التي أقفلت أثناء الحرب لانقطاع أسباب السفر والزيارة، ومنها التي استُخدِمت للجرحى، فأمست جميعًا في حاجة إلى الإصلاح والترميم.
ولقد شاهدنا الأثر القبيح ليد الحرب وروحها في نُزُل المدينة الأكبر — في غرف النوم، وفي الأروقة والمجالس العامة، حتى في خدمة الخدم — فكيف به في الأنزال الأخرى.
كان ذلك النُّزُل مزدحمًا بالضباط المسرَّحين من الجيش وغير المسرَّحين، وبالأُسَر الإسبانية العائدة إلى العاصمة، تتفقَّد بيوتها المهجورة أو المتهدمة، وتعيدها كما كانت صالحة للسكن.
أما القصور الملكية، والمعاهد العلمية، ومتاحف الفنون والآثار فقد كانت كلها مقفلة، وليس هناك غير ذلك المعرض الدائم — المعرض البشري — في الساحة التي تُدعَى «بوابة الشمس».
ولكن الشمس الراقصة على حجارتها المرصوفة، الضاحكة حول موائدها المصفوفة، لم تكن في قلوب الجالسين والجالسات هناك، ولم تكن في دوائر الفكر والسياسة في زوايا تلك الحانات والمقاهي.
بوابة الشمس، وجه مدريد، وقلبها وفكرها، ولكن الوجه لا يزال واجمًا، والفكر مضطربًا، والقلب على شيء من الغم.
مدريد كالخارجة من المستشفى، تراها تتنزَّه في شارع الكلا، فكأنها تمشي في نومها، وتراها جالسة للشمس في «البرادو» فتنعس وتنام.
•••
هذا القول يصح في كل بلدة، وكل قرية إسبانية؛ حيث تقوم الكنيسة فوق البيوت كالفيل الواقف بين قطيع الغنم أو المعزى.
وما كانت القرى لتتبيَّن الأرض حولها، وهي في بيوتها من لون تلك الأرض البنية أو الدكناء، لولا «الفيل» الواقف في وسطها الشامخ بخرطومه — برج الكنيسة — عليها.
القرية (الضيعة) المدينة، ببيوتها المنخفضة، اللاصقة بالأرض، النائمة في ظل الكنيسة القاتم، هي إسبانيا الخاشعة التقية، الواجمة في خشوعها، القاسية في تقواها، إلا في الأعياد والمهرجانات. فتطفر يومذاك الطفرة المنقذة؛ تثب وثبة واحدة من نور الشموع إلى نور الشمس، وترقص قديسيها رقصة الحياة في ساحات المرح وواحات السرور.
يقول الدليل: وفي هذا القلب — أي قشطيلة الجديدة — بقع شاسعة هي الصحراء، ولكن الحكومة في الزمن الحديث قامت بمشاريع كبيرة للري والتشجير كما قدَّمتُ، فلم تَعُدْ ضواحي مدريد مثلًا كما كانت جافة قاحلة، بل هي اليوم زاهية زاهرة بالواحات والبساتين.
ومن ألطف ما شاهدنا من مظاهر الاهتمام بالتشجير تلك الصفوف من الحور والإزدلخت واللبلاب التي تزيِّن الطريق على جانبيه، إلى مداه، بدون تقطُّع يُذكَر، من مدريد إلى برغوس، مسافة مائتي كيلومتر.
وها هنا في الشمال شاهدنا ما شاهدناه في قلب إسبانيا، وفي الجنوب من تلك القرى والبلدان اللاصقة بالأرض الجاثية تحت أبراج الكنائس وقبابها، والأهالي، رجالًا ونساء وولدانًا، يمشون الهوينا إلى الكنائس، وكتب الصلاة أو السبحات بأيديهم، كما يمشون كل مساء إلى شارع أو ساحة التنزُّه في البلدة، إلى المعرض البشري، وهم في كلا الحالين مطمئنون مستبشرون، على وجومهم الذي أمسى كالقناع.
كنت أظن أن إسبانيا التقية الفقيرة ستتمرَّد ذات يوم على السلطتين الدينية والمالية فتسحقهما، أو تنزع في الأقل المخالب من جورهما، فتمرَّدَتْ إسبانيا، وظنَّ مَن تمرَّدوا أنهم فائزون، فما صَحَّ ظنهم.
فالكنيسة لا تزال في القرية وفي المدينة، كالفيل القائم بين قطيع الغنم غير النائمة.
أجل، لقد استيقظت إسبانيا. فإن قلنا إن الإكليروس في هذه الحرب كان منتصرًا على الأمة الإسبانية، فالأمة راضية بذلك. الأمة الإسبانية لا تستطيع أن تنام قريرة العين إن لم يكن لها دين، ولا تنام دون أن تصلي، ولكنها إن صَلَّتِ اليوم، فهي لا تعود إلى النوم، وقد لا تسكت إن رأت الكنيسة منتصرة على فرنكو وحكومته.
ليس من شك في أن الجنرال فرنكو وأكثر أنصاره من أبناء الكنيسة المؤمنين المخلصين في إيمانهم، وقد أدركوا أن الأمة الإسبانية على الإجمال مثلهم، وفي ذلك قوة استخدموها، فكانوا فائزين.
ومما لا ريب فيه كذلك أن الأمة التي أعادوا إليها كرامتها وإيمانها ستقف معهم إذا قام الإكليروس غدًا يُنازِعهم السيادة، أو يُطالِب بما كان له في غابر الزمان من الامتيازات.