العرب والفرس قبل الإسلام
سأجمل في هذا الفصل ما يعرفهُ التاريخ وترويه الأساطير من الصلات بين العرب والفرس قبل الإسلام، عسى أن يكشف البحث عن صلات أخرى بين الأمتين، أو يبين عن حقائق تفسر بعض هذه الأساطير، ويمكن تقسيم الروايات إلى قسمين: ما قبل العهد الساساني وهي أساطير، وما بعده وهي تاريخ أو قريب من التاريخ.
قبل عهد الساسانيين
ثم سأل الطباخ سيده أن يأذن له في تقبيل كتفيه، فقبلهما ثم ساخ في الأرض فلم يعرف أثره، ونبت على منكبي الضحاك سلعتان كأنهما حيتان، فذُعر لذلك واستدعى الأطباء فلم يهتدوا في أمرها إلى دواء، وكان الضحاك يحس لهما وجعًا، فتمثل الشيطان في صورة طبيب وأشار على الأمير أن يطلي السلعتين بأدمغة البشر، ففعل وسكن الألم، فدأب على ذلك لا يستريح إلا أن يقتل بعض الناس فيدهن بدماغهم حيتيه.
وكان جمشيد ملك الفرس قد عتا وتجبَّر وادعى الألوهية، ففزع الفرس إلى الضحاك يستغيثونه، فسار إليهم في جند كثيف وتعقب جمشيد حتى قتله. ثم تسلط على بلاد الفرس وسام الناس ألوان العذاب حتى ثار به جاوه الحداد (كاوه آهنگر) ودعا الناس إلى تمليك أفريدون.
وإذا نظرنا إلى تواريخ الشاهنامة وجدنا الضحاك يتملك على إيران قبل الميلاد بألفين وثمانمائة سنة، وذلك يوافق عهد الدولة البابلية. فإن كان وراء هذه الأسطورة حقيقة فهي تسلط الساميين على إيران. ويؤيد هذا أن كتاب الأبستاق يجعل مقر الضحاك مدينة بَورْي وهي بابل، وكذلك نجد في نزهة القلوب للقزويني أن بابل كانت مستقر الضحاك ونمروذ وقد أشار إلى قصة الضحاك أبو تمام إذ قال:
وافتخر أبو نواس بالضحاك في قصيدته التي يفخر فيها بقومه القحطانيين:
وفي الشاهنامة وغيرها من الكتب العربية والفارسية أن أفريدون زوَّج أبناءَه الثلاثة تورا وسلما وإيراج من ثلاث بنات لأحد ملوك اليمن. وأفريدون عند الآريين يشبه نوحًا عند الساميين، نسل من أبنائِه الثلاثة خلق كثير، فتورا أبو ملوك توران، وإيراج أبو ملوك إيران وسلم أبو ملوك الروم، فالمصاهرة بين أفريدون وملك اليمن تجعل العرب أخوال كل من نسل من بني أفريدون.
وكذلك نجد في الأساطير الفارسية أن مهراب ملك كابل في عهد الملك منوجهر عربي من نسل الضحاك، وإن زال بن سام تزوج بنت مهراب فولدت لهُ رستم بطل أبطال الفرس، فرستم إذن لهُ خئولة في العرب.
ومن الروايات التي هي أقرب إلى التاريخ مما تقدَّم حرب كيكاوُس وملك هاما وران (حمير) وأسر كيكاوس في بلاد اليمن، وتنازع أفرا سباب ملك التورانيين، والعرب على ملك إيران، ثم ذهاب رستم إلى اليمن وتخليص كيكاوس. ويقول أبو نواس في القصيدة التي ذكرتها آنفًا:
وكان كيكاوس، في القرن العاشر قبل الميلاد في حساب الشاهنامة.
وفي بعض الكتب العربية أن ملك اليمن إذ ذاك كان ذا الأذعار بن أبرهة ذي المنار بن الرائش.
ومما تقصه الروايات في هذا العهد عهد الكيانيين، الحربُ بين دار أب وبين رجل عربي اسمه شعيب بن قتيب. ودار أب هذا هو، في غالب الظن، دار يوس أخوس (٤٢٤–٤٠٤ق.م).
وأما روايات عهد الساسانيين فهي أقرب إلى التاريخ وكثير منها واقعات تاريخية:
في عهد الساسانين
لا يكاد يخلو عهد ملك ساساني من أخبار لهُ مع العرب سلمًا أو حربًا.
ففي عهد أردشير مقيم الدولة الساسانية نرى هجرة قبائل تنوخ من العراق كراهية الخضوع لسلطانه.
وفي عهد سابور الأول (٢٤١–٢٧٢م) نجد قصته مع ملك الحضر وهو الضيزن بن معاوية القضاعي، أو الساطرون كما في بعض الكتب، وذلك أن الضيزن أغار على فارس وأسر أخت سابور أو عمته، فسار سابور إليه وحاصر الحضر حتى استولى عليه، ثم استصلح سابور العرب وأحلَّهم أرضًا بفارس وغيرها.
والحضر كان مدينة بالجزيرة الفراتية على أربعين ميلًا من دجلة نحو الغرب إزاء تكريت، وعلى مائتي ميل إلى الشمال من بغداد، ولا تزال أطلالها شاهدة بما كان من عظمها ومنعتها.
ويقول الهمذاني في كتاب البلدان: «وكانت مبنية بالحجارة المهندمة بيوتها وسقوفها وأبوابها، وكان فيها ستون برجًا كبارًا، وبين البرج والآخر تسعة صغار.»
ويقول ياقوت: «فأما في هذا الزمان فلم يبقَ من الحضر إلا رسم السور وآثار تدل على عظمه وجلاله.»
ومن أبيات الأعشى:
ومن ذلك ما وقع بين أذينة ملك تدمر وسابور الأول أيضًا: فقد أغار أذينة على جيش سابور وهو راجع مظفرًا من حرب فلريان إمبراطور الروم، فانهزم الجيش الفارسي وتعقبهُ أذينة إلى أسوار المدائن، وقد اغتبط الروم بما فعل أذينة فأثابوه ولقبوه (أغسطس).
ومنهُ قصة سابور ذي الأكتاف (٣٠٩–٣٧٩م):
يُرْوى أن بعض العرب أغار بلاده فحاربهم في خوزستان ثم عبر الخليج إلى البحرين وهجر اليمامة، ثم سار إلى الشمال فحارب بني بكر وغيرهم، وأنزل بعض القبائل غير منازلهم.
أنزل بني تغلب بدارين والخط، وبعض بكر بصحاري كرمان، وبعض عبد القيس وتميم في هجر واليمامة، وبني حنظلة بالصحاري التي بين الأهواز والبصرة.
ويقال إنهُ سمي ذا الأكتاف لأنهُ خرق أكتاف الأسارى من العرب ونظمهم في الجبال.
ولذلك عاون العرب جيش الروم حتى هزموا سابور وأخذوا المدائن إلى حين.
وكذلك كانت أحداث بين العرب ولا سيما إياد وبين سابور بن سابور ذي الأكتاف.
ذكر بعضها المسعودي في الجزء الأول من المروج وفيها يقول بعض الشعراء:
ويقول الحارث بن جنده (الهرمزان) يفتخر بالفُرس:
وتكثر الأحداث بين الفرس وقبائل الشمال عامة ولا سيما ربيعة التي كانت تسمى ربيعة الأسد لجرأتها على الأكاسرة.
والصلات بين أمراء الحيرة والفرس منذ نشأت الدولة الساسانية في القرن الثالث الميلادي ليست في حاجة إلى البيان، فحسبي أن أذكر من الحوادث ما يبين عن مكانة المناذرة في دولة الفرس وقوتهم:
عَهِد يزدجرد (٣٩٩–٤٠٢) إلى المنذر الأول بتربية ابنه بهرام، فنشأ في الحيرة حتى بلغ الثامنة عشرة وتعلم الفروسية والرماية حتى صار مضرب المثل في الرمي بالنشاب، ولا يزال التصوير الفارسي يمثل وقائع بهرام في الصيد ومهارته في الرمي، ثم رجع إلى أبيه فغلبهُ الشوق إلى الحيرة، حتى توسل برسول ملك الروم إلى أبيه ليأذن له في العودة إليها فبقي بها حتى توفي يزدجرد. وأزمع أعيان الفرس ألا يولوا من بني يزدجرد أحدًا، فأيد المنذر وابنهُ النعمان بهرامَ وأمدَّاه بالجند حتى أرغما الكارهين على تمليكه.
وقد حارب المنذر الرومان انتصارًا للفرس وهزم جيوشهم سنة ٤٢١م، وكذلك حاربهم المنذر الثالث بن ماء السماء وتعقبهم إلى أنطاكية حتى استنجد جستنيان الحاري الأعرابي الغساني، فكانت وقائع بين الأميرين العربيين أسر فيها المنذر ابنًا للحارث فقربهُ للعزِّى (الصنم) وانتهت بقتل المنذر في موقعة عين أباغ أو يوم حليمة.
وفي عهد قباذ حينما اضطرب أمر الفرس بفتنة مزدك أغار الحارث بن عمرو الكندي على الحرة وأخرج منها المنذرين ماء السماء وصادف ذلك هوى في نفس قباذ فأيَّد الحارث.
ويروى أنهُ أرسله لحرب أحد تبابعة اليمن فلما ولي كسرى أنوشروان وفتك بمزدك وأنصاره رد إمرة الحيرة إلى المنذر.
وفي عهد كسرى برويز حوالي ٦١٠م كانت موقعة ذي قار، وذلك أن كسرى برويز قتل النعمان أبا قابوس وطلب ودائعه عند هانئ بن مسعود الشيباني فأبى إسلامها، وكان كسرى قد ولى إياس بن قبيصة الطائي على الحيرة، فسار إياس في جموع من بكر، ووقعت الحرب وتمادت ثلاثة أيام آخرها يوم ذي قار، ودارت الدائرة على الفرس وأنصارهم من العرب.
وفي يوم ذي قار يقول أبو تمام يمدح أبا دلف الشيباني:
ويقول مادحًا يزيد بن مزيد الشيباني:
هذه صلات الفرس وعرب الشمال، كان للفرس مع هذا سلطان على ساحل الجزيرة الشرقي واليمن:
حاول الجيش الاستيلاء على اليمن في القرن الثاني الميلادي وأتيح لهم أن يستولوا على بعض مدنه في القرن الثالث، ثم أخرجهم الحميريون، فلما تنصر الجيش في القرن الرابع أيدهم الرومان على الحميريين ففتحوا اليمن ٣٧٤م، ويظهر أن الفرس طمحوا إلى اليمن منذ ذلك الحين، فقد كان النزاع الذي شجر بينهم وبين الروم منذ قامت الدولة الساسانية حريًّا أن يلفَّهم إلى اليمن بعد أن تألب عليهِ الروم أعداؤهم الألدَّاء والحبش. ولسنا ندري من أخبار الفرس في اليمن شيئًا قبل القرن السادس الميلادي إذ تهوَّد تُبَّعٌ ذو نواس وأكره النصارى على التهوُّد وعذَّبهم فغضب لهم الروم والحبش، وأمد الإمبراطور جستنيان الحبش وسلَّطهم على اليمن حتى استغاث سيف بن ذي يزن كسرى أنوشروان فأمده بجيش حملتهُ السفن في الخليج الفارسي إلى عمان، ثم سار في البر وانحاز إليهِ أهل اليمن فهزموا الحبش وتولى على البلاد سيف بن ذي يزن حتى قتله حرسه الحبشي، فاستقل بأمر البلاد ولاة من الفرس توالوا عليها حتى جاءَ الإسلام والوالي يومئذ باذان، وفي هذه القصة يقول أبو الصلت الثقفي:
… إلخ.
وإلى هذه القصة أشار البحتري في قصيدته التي وصف فيها إيوان كسرى، قال بعد أن وصف الإيوان وما أصابهُ من الحدثان:
والبحتري طائي قحطاني فهو يعترف بما أسدى الفرس على قومه ويقول: أيدوا ملكنا … إلخ.
وبقي كثير من الفرس في اليمن واستعربوا وكانوا يسمون الأبناء، ولما جاء الإسلام أسلموا وأخلصوا لله إسلامهم، وكانوا من بعدُ عونًا على الثائرين في حروب الردة، وهم قتلوا الأسود العنسي، وقد روي أن الرسول قال حين ذلك: «قتله الرجل الصالح فيروز الديلميُّ»، ويروى أن فيروز وفد على النبي، ورويت عنهُ أحاديث وعرف من رؤسائهم غير فيروز الديلمي. ويقال له فيروز الحميري أيضًا النعمان بن بُزُرك ومركبود، وهو أول من حفظ القرآن في صنعاء فيما يقال.
ولما ارتدت بعض قبائل اليمن بعد وفاة الرسول صلوات الله عليهِ كتب الخليفة أبو بكر إلى بعض رؤساء اليمن: «أما بعد فأعينوا الأبناء وحوطوهم واسمعوا من فيروز وجدوا معهُ فإني قد وليَّتهُ.»
وقد رأى قيس بن عبد يغوث زعيم الثائرين أن فيروز والأبناء عقبة في طريقه فدبَّر لإخراجهم من اليمن ولكن فيروز لجأ إلى أخواله من قبيلة خولان وكتب إلى غيرهم من القبائل فأفسدوا على قيس تدبيره.
وكذلك كان للفرس سلطان على البحرين وجاءَ الإسلام وفي البحرين فرس مستوطنون ومرزبان اسمهُ سيبخت، ويروى أن الرسول صلوات الله عليه وسلامه كتب إليهِ فأسلم، وكان لفيروز المعروف بالمكعبر زعامة في حروب الردة هناك.
وكانت التجارة تتردد بين بلاد الفرس واليمن في خفارة قبائل لها جُعل من ملوك الفرس.
هذا إلى ما ضمنتهُ كتب التاريخ والأدب من وفود رؤساء العرب في الحين بعد الحين على ملوك فارس، واستعانة الفرس بهؤلاء الرؤساء فيما يهمهم من أمور العرب.
وفي الأغاني جملة من هذا في أخبار كسرى أنوشروان وكسرى برويز، وليرجع إلى أخبار هوذة بن علي الحنفي، وقيس بن مسعود، وإياس بن قبيصة الطائي وعبد الله بن جدعان الذي يقال إنهُ وفد على كسرى فأعجبه بعض الأطعمة فأخذ إلى مكة طباخًا ليصنع له هذا الطعام، ولو جمعت هذه النتف المتفرقة لصورت لنا بعض التصوير علاقات الفرس والعرب في ذلك العصر.