توطئة
«إن فنَّ الرسم لا يُظهر فقط. إنه يُفكِّر.»
«أن تكون فنَّانًا، كل ضربة من فرشاتك هي معادل لمأساة عانيتها.»
هذا السؤال: «فيمَ تفكِّر الحواسُّ عند المحدثين؟»، والذي يجمع شمل فصول هذا الكتاب، ويبسط نفوذه الدلالي عليه، كما لو كان يمسك بغيمة عابرة، لا يدَّعي إمكانية السير في كلِّ ثنايا الحداثة وطيَّاتها. ربَّ ثنايا تطوي الأسئلة وتخفيها عن الكاتب وعن القارئ معًا. هل تفكِّر الحواسُّ وقد منعها معظم الذين ساروا على طريق الفكر الفلسفي من التفكير؟ هل تفكِّر الحواسُّ وهي التي تخدعنا وتضلِّلنا بالمظاهر العابرة؟ هل تفكِّر الحواسُّ وهي مشحونة برغبات الجسد وانفعالاته وصوره ورؤاه وتوتُّراته؟
هذا الكتاب يحلم بأن يخترق خطوط الصمت الثاوية في تجاعيد هذه الأسئلة التي تؤجِّجها الحواسُّ، لكنَّه قد يتعثَّر في الوصول إلى المدى البصري لأحلامها … هل سيكون كتابًا في حجم الحواسِّ في كثافتها وشدَّتها وصمتها وسرعة انطباعاتها وتقلُّب أمزجتها؟ ربَّما لن يفعل هذا الكتاب في غالب الحالات غير الارتماء في أحضان إجابات استقرَّت لدى أهلها. لكنَّه سيبطئ أحيانًا أسئلته، وأحيانًا أخرى لن يفعل غير تأجيلها. وقد يحدث أن ينسى في استسلامه إلى خارطة المحسوس الجاهزة الحواسَّ المندفعة نحو ثنايا غير متوقَّعة وغير مسجَّلة في ذاكرة الأحاسيس الكونية. ومن فرط هوسه بنظريات وأفكار تدَّعي استقلالها عن المحسوس قد يعطِّل انفعالات الحسِّ الفني من أجل السير على طريق مغايرة في معالجة مسائله.
فيمَ تفكِّر الحواسُّ؟ وهل تفكِّر على طريقة الكوجيطو؟ هل ثمة كوجيطو خاص بالحواسِّ أم أن حواسَّ المحسوس متحرِّرة من كل أشكال الكوجيطو: كوجيطو التأملات أو كوجيطو التأويلات أو كوجيطو المكبوتات؟ كوجيطو الحواسِّ هل هو كوجيطو مجروح أم كوجيطو في صحة جيِّدة؟ رُبَّ أسئلة لن نتركها يتيمة أو بلا ذاكرة بل سنجعل منها مسارات كثيفة مكتظة دومًا بحواسَّ فلسفية وفنِّية متنوِّعة: باستعارات حائرة أو بلوحات تكتب صمتها المزلزل … أو بفلسفات تدفع بالمحسوس إلى ورشات تجريب بعيدة المدى.
إن الفنَّ يفكِّر في صمت مهيب. لكنَّ الفلسفة وحدها استطاعت أن تهتك سرَّ هذا الصمت وأن تكتبه. إن صمت الحواسِّ لا يعاني من العزلة. إنه صمت مثقل بكتل من الفلسفة، بل هو مثقل بكتل من لحم الفلسفة وشهوة الفكر إلى ملامسة الألوان والأشكال وتجاعيد النصوص الفنية …
للحواسِّ تاريخها الخاصُّ. ثمة تاريخ للحواسِّ مثلما ثمة تاريخ للعقل وتاريخ للجنون وتاريخ للجنس وتاريخ للسجن. ثمة تاريخ للحواسِّ؛ لأن الصمت يفكِّر في صمت، ولأن للغياب الحقَّ في كتابة تاريخ غيابه … وربَّما يحقُّ لنا أن نتكلَّم في نوع من التصنيف النيتشوي عن تاريخ تراجيدي وتاريخ نظري للحواسِّ. ونحن نقصد هنا بالأوَّل الخطَّ الذي ينطلق من التراجيديا اليونانية ويمرُّ عبر تجارب عميقة في تراث الشعر والنثر العربي كي يصل إلى أهمِّ ما حدث في حقل الفنون الحديثة والمعاصرة. وهو تاريخ تراوح بين أحاسيس الآلهة كما صوَّرتها إلياذة هوميروس ونشوة ديونيزوس وخمريات أبي نواس وغزليات امرئ القيس وليالي الإمتاع والمؤانسة لأبي حيَّان … وشطحات المتصوفة حيث يتحد لديهم الحسُّ البشري بالعقل الإلهي … وعذابات جحيم دانتي وألف ليلة وليلة لشهرزاد …
ونقصد بالتاريخ النظري للحواسِّ مواقف الفلاسفة منها منذ محاورة تيتاتوس لأفلاطون مرورًا بأرسطو ومن بعده إلى هوبز ولوك وهيوم وبوركا ثمَّ كانط ونيتشه وأخيرًا فلاسفة الحسِّ المشترك. (نكتفي هنا بالتذكير فقط بأهمِّ المحطَّات الفلسفية في تاريخ الحواسِّ: أفلاطون على لسان تيتاتوس يقرُّ بأن «العلم إحساس»، أرسطو في كتاب التحليلات الثانية يكتب «من فقد حسًّا فقد علمًا». مع هوبز «إن الفكرة هي دومًا فكرة ملموسة». مع ديكارت «الحواسُّ تخدعنا ولا يمكن أن نطمئنَّ إلى من يخدعنا ولو مرة واحدة»، أما كانط فهو يقرُّ «أن الحواسَّ لا تخطئ لأنها لا تحكم»، لكنَّه رغم ذلك يعتبر أن «الحسَّ المشترك» هو الاسم الآخر لملكة الحكم على الجميل.)
هذا الكتاب يطمح إلى إعادة المرور بتاريخ الحداثة الذي لم يُكتب كفاية من وجهة نظر أحداث الصمت والغياب والغير. منذ صمت المسرح عن حكي القصص (أرتو) إلى صمت اللوحة عن تمثيل الواقع (فوكو ودولوز) وصولًا إلى صمت العيون (دريدا) عن قول ما قيل دومًا في لغة مركزية اللوغوس الغربي منذ أفلاطون إلى بول ريكور.
من رهانات هذا الكتاب الدفاع عن الحياة الإبداعية في زمن يكاد فيه الحلم بعالم مغاير يصير أمرًا نادرًا إن لم نقل مستحيلًا. إن شعبًا بلا مبدعين هو شعب بلا مستقبل؛ ذلك أن الإبداع هو الحلم، والحلم هو الحرية، وإن تحرير المحسوس يغدو بهذا المعنى حاجة ملحة مثل تحرير المعقول … نحن شعوب تطمع في انتماء جيِّد إلى هذا العصر، وهذا أمر لا يقتضي فقط انتماءً ناجحًا إلى العقل الإنساني الكبير، بل علينا أيضًا أن نتقن الانتماء إلى حواسِّنا بما تحمله من رغبة خلَّاقة ومن محبة للحياة على نحو مغاير.