نظرية الدوائر الثلاث … ‏قراءة معاصرة بعد نصف قرن: الجزء الثاني (مصر والعرب والعالم)

مؤسسة هنداوي مؤسسة هنداوي
الفصل السادس

انتصار لبنان

(١) تحية إلى لبنان١

ورُفِعَت الأعلام الحمراء والبيضاء ووسطها شجرة الأرز باسقة تهزها أيادي العرب في لبنان، وتُذكِّر بالثورة الفرنسية والعَلم المثلث الألوان، والمارسيليز، والاستيلاء على سجن الباستيل، وأين؟ في أصغر دولة حجمًا مساحة وسكانًا، صورتها في ذهن العرب الجمال والحب، والشِّعْر والغناء، والجبل والسهل والبحر، جمال الروح وجمال الطبيعة، وفي الوقت ذاته في أكبر دولة من حيث المقاوَمة والقدرة على العمل والإعمار؛ فقد حرر شعبها الجنوب المحتل بفضل تنظيماته السياسية وقواه الشعبية، وما زال صامدًا ضد كل محاولات نزع سلاحه وإنهاء مقاومته بدعوى السلام القادم مع العدو المحتل واستقلال الدولة وسيطرتها على المجتمع، في حين أنه في دول أخرى مركزية مثل مصر وسوريا تطالب الولايات المتحدة الأمريكية بتقوية المجتمع المدني وتخفيف الدولة قبضتها عليه، وهي لا تريد هذا ولا ذاك، لا مجتمعًا مدنيًّا قادرًا على مناهضتها، ولا دولة وطنية مستقلة ترفض التبعية لها. لبنان عقل الأمة في الفكر والأدب، طباعة ونشرًا، لغتها وشعرها ونهضتها منذ القرن التاسع عشر، وأدباؤها ومصلحوها المهاجرون من بر الشام إلى بر مصر، وقد كان حصار بيروت في ١٩٨٢م من شارون، رجل السلام الآن، هو حصار لعقل العرب بعد الجثو على جسد العرب في فلسطين والجولان، وكَتْم نَفَس العرب في مصر.

ولقد تساءل الناس من قبل: أين الشارع العربي؟ أين جماهير العرب؟ أين الأمة العربية التي كثيرًا ما خاطبها عبد الناصر لردع العدوان عنها وتوحيدها؟ لقد نزلت الملايين في عواصم الغرب ومدنه الكبرى، وفي قلب الولايات المتحدة الأمريكية، باريس ولندن وبراج وسياتل وفلورنسا وجنوه ضد الاحتلال الأمريكي للعراق رافعة أعلام العراق وفلسطين فوق الأعناق، ولم يتحرك الشارع العربي إلا في هبَّات وقتية ومظاهرات طلابية أعظمها الرباط، في أقصى المحيط، وأولها في الخليج الذي لم يتعود على حركة الشارع، وقلبها في جامعات مصر، ومع ذلك ظلت منذ عدة سنوات محدودة الأثر، وغلب على الشارع العربي السكون وكأن الأمر لا يعنيه، بعد أن أدار ظهره لنُظم الحكم التي احتكرت القرار السياسي على مدى نصف قرن، في الحرب والسلام، وفي الاشتراكية والرأسمالية، بل في الاستقلال والتبعية، والأمة يتزايد عددها منذ أن كان يشير إليها عبد الناصر في خُطَبه بمائة وخمسين مليونًا، وقد جاوزت الآن المائتين وخمسين، بل إن الأمة الإسلامية المحيطة تزيد على المليار، خُمس سكان العالم، وما زالت القدس محتلة، وأفغانستان والشيشان وكشمير أيضًا محتلة. أصبحت الأمة كالقلب أو الجوف المفتوح تُجري فيه القوى الدولية ما تشاء من عمليات جراحية وكأن الجسد بلا صاحب، جثة هامدة واراها التراب، صاحبه يخدره، وعدوه يقتله.

وأخيرًا تَحرك الشارع العربي في بيروت يحمل الأعلام الوطنية وليست الحزبية، ويترنم بالنشيد الوطني، ويقف في ساحة الشهداء يرثي شهداءه القدماء والجدد، وتُسْقِط الجماهيرُ الحكومةَ، وتفرض إرادتها على المجلس النيابي. فليست جماهير جورجيا وأوكرانيا وكولومبيا وشيلي بأفضل من الجماهير العربية. تجاوزت الجماهير ممثليها المنتخَبين، وتجاوز الممثلون حكومة الأغلبية. فالغليان في القلب قد طالت مدته. وتدافع الجماهير العربية عن كرامتها الوطنية، وتسأل عمن اغتال رئيسها ومُعمِّرها وموحِّدها، وتدافع عن استقلال الأوطان، وتطالب بانسحاب قوات دولة الجوار التي طالت على أكثر من عقد من الزمان بعد اتفاق الطائف وانسحاب الأجهزة الأمنية التي لم يتعود عليها لبنان الحر الطليق، بل الفوضوي العتيق، والتدخل الأجنبي في هذه الحالة من القوى الغربية التي تسيطر على المنظمات الدولية يصطاد في الماء العكر، وتصدر القرارات دفاعًا عن استقلال لبنان وسيادته وهو يهدف إلى السيطرة على المقاومة، وتوطين اللاجئين، وجر لبنان إلى مخططات التسوية في اتفاق ١٧ من مايو (آذار) جديد. ويركب الموجة، موجة الشارع اللبناني والوطنية اللبنانية باسم الشرعية الدولية، ومزارع شبعا ما زالت محتلة في الجنوب، والجولان ما زال محتلًّا في الشمال، بالرغم من صدور العشرات من القرارات الدولية بانسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة في يونيو (حزيران) ١٩٦٧م، وتم تشويه الحركة الوطنية اللبنانية التي استطاعت لأول مرة منذ الاستقلال وبعد الحرب الأهلية النزول إلى الشارع باسم الاستقلال الوطني وليس باسم الطائفية والعشائرية محققة بذلك، وعلى نحو تلقائي، أحد بنود اتفاق الطائف، وتم تشويهها بقسمتها إلى موالين ومعارِضين، موالين لسوريا والنظام في لبنان، ومعارِضين لهما، وكلاهما وطني عروبي قومي، إنما هي التعددية السياسية التي تصل إلى حد الصراع السياسي على حساب الوفاق الوطني الذي يعمل له «حزب الله» في الجنوب، والمتهم بالإرهاب والعنف، والمطلوب نزع سلاحه وكأنه ميليشيات تقاتل على الهوية، وليس محررًا للجنوب.

إن ما حدث في بيروت وتحرك الشارع العربي قابِل أن يتكرر في باقي العواصم العربية، يقلب موازين القوى في الوطن العربي لصالح الشعوب، ويفك أَسْر الأنظمة المحاصَرة بين المطرقة والسندان، مطرقة الخارج وسندان الداخل، فليست نظرية «الدومينو» في دول البلقان وأوروبا الشرقية وفي جنوب شرق آسيا مقصورة على الطوفان القادم بعد اغتيال رئيس وزراء لبنان السابق من أجل زعزعة المنطقة كلها، واختلاط الحابل بالنابل لإشعال فتيل حروب أهلية في العراق وفلسطين ولبنان والمغرب العربي ومصر وسوريا والسعودية طبقًا لمُخطَّطات القوى الكبرى، بل تنطبق أيضًا في الاتجاه المضاد، في حركة الشارع العربي ضد مخطَّطات التجزئة في الوطن العربي إلى فسيفساء عرقي طائفي، تكون فيه إسرائيل هي أقوى دولة عرقية طائفية في المنطقة، وتأخذ شرعية جديدة من طبيعة الجغرافيا السياسية فيها بدلًا من أساطير الميعاد وشعب الله المختار التي أعطاها لها هرتزل في «الدولة اليهودية» في أواخر القرن التاسع عشر، والتي ولم يَعُد يصدقها أحد. الاحتقان في الشارع العربي على أشده، بلغ الذروة، وينتظر الشرارة التي قد تكون قد وقعت في بيروت، ولن تستغرق وقتًا طويلًا حتى تمتد حركة الشارع إلى باقي العواصم والمدن العربية، تسترد زمانها بأيديها، وتدافع عن استقلال أوطانها، وتحمي كرامتها من الطعن في القلب باحتلال فلسطين والعراق، وقص الأطراف بالتلويح بالعدوان أو الهجر للنظم العربية التي لم تَسِر بعدُ في طريق التحول الديمقراطي أو التي تسير ببطء أو التي تعطي باليمين ما تأخذه باليسار، خطوة إلى الأمام وخطوتان إلى الوراء، انتخاب الرئيس بين أكثر من مرشح وليس الاستفتاء على مرشح واحد ثم وضع الضوابط التي تمنع من الترشيح، وإبقاء المدة بلا حدود، واستعمال إعلام الدولة وأجهزتها وراء المرشَّح الأوحد الذي تعوَّد عليه الناس على مدى نصف قرن. لقد حدث التراكم الكمي الضروري في الشعب العربي الذي أحدث في بيروت تغيرًا كيفيًّا، وبالتالي تصبح العواصم العربية زينة الحاضر كما كانت زينة الماضي، ويفك الحصار العربي عن الأنظمة بفعل الداخل وليس بفعل الخارج. فالنظم الشعبية قادمة بعد بيروت، تحرر الأوطان من العدوان الخارجي وتحرر الشعوب من القهر الداخلي، ومن ثم تنتهي موجة العقود العجاف وتبدأ موجة العقود السمان.

(٢) تبديد الوهم٢

للأسماء سحرها وللتعبيرات دلالاتها؛ لذلك تناقل الناس الأقوال المأثورة والأمثال العامية، وعلقوها على جدران المنازل والمحلات العامَّة، ويستشهدون بها في حياتهم اليومية لتفسير الأحداث وإعطاء شرعية لها.

وفي الحرب العربية الإسرائيلية السادسة الدائرة الآن بين فلسطين ولبنان من ناحية والكيان الصهيوني من ناحية أخرى، بدا سحر الكلمات ودلالة العبارات؛ فقد تم أَسْرُ جندي من جيش الاحتلال في عملية فدائية نوعية وقَتْلُ آخَرِين أطلق عليها «تبديد الوهم»، وساندت المقاومة اللبنانية ممثلة في حزب الله المقاومة الفلسطينية ولتخفيف الضغط عليها، وكانت بداية المواجهة المفتوحة في عملية «الوعد الصادق»، وأطلق العدو الصهيوني على العدوان على لبنان عملية «أمطار الصيف».

وأهم من الأسماء والتعبيرات هو مضمونها أي فن الحرب، وقد كتب فيه علماء الاستراتيجية؛ مثل كلاوشفتز وتسن سو والجنرال جياب وجيفارا تنظيرًا للممارسات العسكرية التي أدت إلى انتصار الجيوش، وضد الأساطير التي ينسجها الأعداء كنوع من الحرب النفسية لتحقيق النصر قبل أن تبدأ المعارك؛ فالمعارك ليست فقط بالسلاح حين المواجهة، بل أيضًا بالصور النمطية التي يخلقها كل طرف للطرف الآخر.

وقد نسج العدو الصهيوني حول نفسه أسطورة «العدو الذي لا يُقهر» اعتمادًا على الحروب العربية الإسرائيلية السابقة منذ ١٩٤٨م حتى ١٩٦٧م، مع أنه كان لكل حرب ظروفها. هُزم فيها العرب ليس لقوة العدو، بل لضعف العرب، ففي هزيمة ١٩٤٨م دخلت الجيوش العربية مُفكَّكة مُفرَّقة في مواجهة عصابات مُنظَّمة، أركان حربها أقرب إلى قوات الاحتلال البريطاني لفلسطين. أسلحتها فاسدة، ومع ذلك حافظت على نصف فلسطين بعد أن رفض العرب قرار التقسيم، وفي العدوان الثلاثي في ١٩٥٦م، كانت إسرائيل بمثابة دراجة ممسكة بعربة نقل كما صوَّر موشى ديان، ولم تحدث مواجهة بين الجيش المصري والجيش الإسرائيلي بعد الأمر بالانسحاب، وفي هزيمة ١٩٦٧م لم تحدث مواجهة أيضًا بعد الأمر بالانسحاب إثر تدمير سلاح الطيران المصري. أما حرب الاستنزاف في ١٩٦٨–١٩٦٩م فقد أوجعت إسرائيل. وفي حرب أكتوبر بدأت أسطورة العدو الذي لا يُقهر في الانقشاع؛ نظرًا إلى الأداء العلمي العسكري لعبور سيناء والتنسيق العسكري المصري السوري على جبهتَين في آنٍ واحد.

أقام العدو الصهيوني استراتيجيته العسكرية على الحرب الخاطفة بحد أقصى أسبوعًا، كما حدث في حرب الأيام الست. فلما طالت في حرب أكتوبر بدأ الانهيار التدريجي للأسطورة، وقامت خطتها على سلاح الطيران والقوة التدميرية الهائلة، الحرب عن بُعد ومن دون مواجهة. فلما صمم العرب دفاعاتهم الجوية على الصواريخ المضادة للطائرات في حرب أكتوبر، سقط سلاح الجو الإسرائيلي أمام حائط الصواريخ، وانتهت أسطورة الذراع الطويلة.

وبعد عَمليَّتَي «تبديد الوهم» التي قامت بها المقاومة الفلسطينية وعملية «الوعد الصادق» التي قامت بها المقاومة اللبنانية، غيَّر العرب استراتيجيتهم طبقًا لإمكاناتهم وتراثهم العسكري؛ فانهارت أسطورة العدو الذي لا يُقهر. ففي مقابل طيران العدو، ذراعه الطويلة، ظهر الصاروخ تجاه المدن، ولأول مرة تنتقل المعركة إلى داخل الأراضي المحتلة منذ ١٩٤٨م، وضُرِبَت نهاريا وعفولة وطبرية وصفد وغيرها من مدن الشمال، وحيفا وعكا من مدن الساحل. فسماء العدو مفتوحة. تعودت على الهجوم وليس الدفاع، ولم تستطع صواريخ باتريوت المضادة للصواريخ اقتناص صواريخ الكاتيوشا أو رعد لاختلاف مستويات الارتفاع، ونزل الإسرائيليون إلى المخابئ، وغادر السياح، وتحول مليونان من العاملين إلى عاطلِين، ونزحوا إلى الجنوب، وانتابهم الرعب، وذاقوا ممَّا ذاق منهم الفلسطينيون واللبنانيون؛ فالسماء مفتوحة للجميع، ليس فقط لطيران العدو بل لصواريخ المقاومة، بالإضافة إلى دقة التصويب باستراتيجية سياسية محسوبة، تتوقف على مدى استهداف طيران العدو المدنيين اللبنانيين، ومصافي حيفا ومصانعها البتروكيميائية والإلكترونية في المرمى، وتستطيع أن تنال ما هو أبعد من حيفا وعكا وطبرية، ومدن بير سبع واللد والرملة وعسقلان وإيلات قريبة من فلسطين ومصر والأردن والسعودية لو قامت الحرب الشاملة.

وتستطيع المقاومة الصمود شهورًا، والعدو الصهيوني لا يستطيع أن يصمد أسابيع؛ فالجند هم العاملون، والاحتياط يحارب ولا ينتج؛ وبالتالي انتهت استراتيجية الحرب الخاطفة، وقد كان الأسير الإسرائيلي الطيار يسأل بعد إفاقته: هل الحرب ما زالت قائمة؟ فيُقال له: نعم؛ فيصاب بالإغماء. فإذا فاق مرة ثانية يسأل: وهل مصر ما زالت تحارب؟ فيُقال له: نعم؛ فيُغشى عليه ولا يفيق، والآن تقوم المقاومة اللبنانية بدور مصر، ويقوم سماحة الشيخ حسن نصر الله بدور الزعيم الخالد جمال عبد الناصر، والشعب العربي من المحيط إلى الخليج يساند القائدين.

كانت الحروب السابقة جيشًا في مواجهة جيش، ودولة في مواجهة دولة، بل دولة في مواجهة دولتين أو ثلاث أو اثنتين وعشرين دولة عربية، وأقام العدو استراتيجيته على التفوق عليها جميعًا كيفًا وكمًّا في نوعية السلاح، والآن يقف شعب في مواجهة جيش، ومقاومة في مواجهة دولة، والشعب في كل مكان، والمقاومة تحت الأرض؛ لذلك لم يجد العدو أمامه إلا ضرب المدن وقتل المدنيين، أطفالًا ونساءً وشيوخًا وشبابًا، وتدمير البنية التحتية، جسورًا وطرقًا ومحطات طاقة وثكنات جيش ومحطات إرسال، بل شاحنات خشية من نقل الصواريخ، وعربات مدنية خشية من حركة المقاومة، ولم يجرؤ العدو حتى الآن على القيام بغزو بري للجنوب كما فعل من قبل عند احتلاله بيروت عام ١٩٨٢م، والقضاء على المقاومة الفلسطينية واللبنانية على الأرض. يخشى المواجهة الأرضية وجهًا لوجه، لا يقاتل إلا في حصون حديدية أو عن بُعد في عنان السماء أو في عباب البحر.

وإذا كانت الحروب العربية الإسرائيلية السابقة قد قامت على التخطيط من جانب العدو، والارتجال والخطابة والعنتريات التي ما قتلت ذبابة من جانب العرب، فإن العرب، مصريين وسوريين، منذ حرب أكتوبر عبروا القناة والجولان بناءً على تخطيط علمي دقيق لخط بارليف، تيارات المياه في القناة، وسد فتحات اللهب، واختراع مدافع المياه لشق الساتر الترابي، والقوارب المطاطية، وضرب مراكز القيادة المتقدمة في عمق سيناء، والرجل في مواجهة الدبابة، والصاروخ في مواجهة الطائرة؛ فالعلم العسكري ليس حكرًا على شعب من دون شعب، ولا تمتاز به حضارة على حضارة أخرى.

وإذا كان الإعلام العربي في الحروب العربية الإسرائيلية السابقة قد غلب عليه التهويل والكذب والخداع، في حين أن إعلام العدو كان أقرب إلى الصدق؛ فالمنتصر لا يحتاج إلى دعاية وخداع شعب؛ فإنه تحول منذ حرب أكتوبر ١٩٧٣م إلى إعلام دقيق وصادق يخبر عن حقائق، واستمر ذلك في الحرب العربية الإسرائيلية السادسة؛ إذ تميز إعلام المقاومة بالصدق والدقة من دون ادعاء حتى لو كان إسقاط طائرة للعدو. في حين لجأ إعلام العدو إلى الحرب النفسية لرفع معنويات جنوده حتى يقبلوا المواجهة مدفوعين بأسطورة العدو الذي لا يُقهر.

وبالرغم من استعمال العدو الصهيوني للأسلحة المحرمة دوليًّا مثل الصواريخ والقنابل التي تنفجر مرتين، والقذائف التي تُقطع الجسد أشلاءً أو تحرقه بحيث لا يمكن التعرف إليه، والمقذوفات السامة، فإنها في لحظة يأس قد تستعمل مخزونها النووي ولها في تراثها ما يبرر ذلك في عقدة «الماسادا» الانتحار ساعة الخطر وكما فعل شمشون؛ لذلك من مصلحة العرب التنسيق مع القوى النووية في المنطقة مثل إيران وباكستان من أجل ردع العدو.

ومن الواضح أنه لا فرق بين يسار ويمين ووسط في إسرائيل؛ فوزير الدفاع من اليسار، ورئيس الوزراء من الوسط، وزعيم المعارضة من اليمين، والكل يجمع على ضرورة الاستمرار في الحرب حتى تحقق إسرائيل شروطها: الإفراج عن الأسرى الثلاثة، نزع سلاح حزب الله، وضع قوات دولية في جنوب لبنان تقوم بدور جيش لبنان العميل السابق الذي قضت عليه المقاومة بعد تحرير الجنوب؛ فاليسار الإسرائيلي أسطورة، وإذا كان الرأي العام العالمي، وقرارات الأمم المتحدة، والدول الثماني، والاتحاد الأوروبي كله لصالح إسرائيل، ولا أحد يذكر العشرين ألف أسير عربي في سجون إسرائيل، وإذا كان الكل يعترف بحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، ولا أحد يذكر حق المقاومة لتحرير الأراضي المحتلة طبقًا لمواثيق الأمم المتحدة، فليس أمام العرب إلا أنفسهم، وكما جربوا الهزائم فإنهم قادرون على تجربة الانتصارات.

(٣) بشائر النصر٣

لم يَعُد السؤال الآن: الهزيمة أم النصر؟ بل بشائر النصر؛ ففي نهاية الأسبوع الثالث من المعركة الدائرة الآن بين المقاومة الوطنية اللبنانية وجيش العدو الصهيوني، بدأت بشائر النصر، العدو يصرخ ويتألم، وجيشه الذي لا يُقهر ينخرط لواؤه المختار باكيًا، وليس أمام العدو إلا قَتْل المدنيين، وتدمير البنى التحتية، واتباع سياسة الأرض المحروقة، وهي أفعال لا تُقْدِم عليها الجيوش ذات المبادئ التي تعتمد على شرف القتال وليس على الجُبْن وخِسَّة المقاتلين وضعفهم، وهروبهم من المواجهة.

لثالث مرة يحارب لبنان وحده بمجتمعه، ومقاومته، ومنظَّماته المدنية، جيشًا يُعتبر من أقوى الجيوش في العالم، تسليحًا وتدريبًا ومناورة، بعد محاولة غزو بيروت في ١٩٨٢م، ونجاح المقاومة في تحرير الجنوب في ٢٠٠٠م، وهذه المرة يأسر جنديين إسرائيليين لتبادل الأسرى مع تسعة آلاف جندي لبناني ومثلهم من الفلسطينيين وبضع مئات أخرى من العرب المقاتلين؛ فالمعركة قومية، وأراضي ثلاث دول عربية محتلة، لقد تدرَّب جيش العدو على مقاتَلة الجيوش بداية بالطيران، وبأسلوب الحرب الخاطفة وحركات الالتفات كما حدث في ١٩٥٦م وفي ١٩٦٧م، والآن يحارب شعبًا ومقاوَمة شعبية تتجاوز الدول ونظمها السياسية، لم يَتعوَّد إلى مواجهة رجال عراة من مخابئ الحديد والحصون، وكلما استردت الشعوب حريتها وكسرت احتكار الدول والنظم السياسية القضايا الوطنية زادت فرص النصر. فالنظام مهتم بالبقاء في كرسي الحكم حتى ولو احتلت الأوطان؛ فغرض العدو إسقاط النظام قبل احتلال الأرض! سقطت الجولان وبقي النظام، واحْتُلَّت سيناء وبقي النظام في ١٩٦٧م، فالنظام التقدمي أولى بالمحافظة من أراضي الوطن!

وقد أثرت الحرب الدائرة الآن بين المقاومة اللبنانية والعدو الصهيوني في حركة الشارع العربي؛ فقامت المظاهرات في معظم العواصم العربية: دمشق والقاهرة والخرطوم وصنعاء والرباط والمنامة وغزة ورام الله، بل في بعض العواصم الإسلامية في دكا وإسلام آباد وجاكرتا، قد يؤثر ذلك أكثر في حركات التحول الديمقراطي من الداخل، وقد يساعد ذلك على فك الحصار حول الأنظمة العربية المحاصرة بين مطرقة الخارج وسندان الداخل، وقد يستيقظ الحكام بعد مقتل كُلَيب أخي المهلهل: «اليوم خمر، وغدًا أمر.» وأين النتائج الإيجابية لتبعية الأنظمة العربية الموالية للولايات المتحدة في الضغط عليها باسم الصداقة والموالاة والتأييد في غزو العراق، وكذا الأنظمة الموالية لإسرائيل للمطالَبة بوقف إطلاق النار، وإدانة قتل المدنيين، وتدمير البنى التحتية؟ وأين الأنظمة العربية التي فاوضت وصالحت واعترفت بإسرائيل في الضغط عليها بإيقاف العدوان والتهديد بسحب السفراء العرب أو بقطع العلاقات الدبلوماسية أو بإيقاف التطبيع وتوريد الغاز والبترول والرمل والحديد، وهو ما تسير به المُرْكَبات والمُدرَّعات والطائرات الإسرائيلية للعدوان على لبنان وفلسطين وما تَبنِي به إسرائيل جدار الفصل العنصري؟ وهل نتائج الصلح والحلول السلمية تصفية المقاوَمة وضرب المدنيين وتدمير السلطة الوطنية الفلسطينية؟

إن ما يحدث الآن في الحرب العربية الإسرائيلية السادسة والتي كانت لبنان وحدها في ثلاث منها لَيَدُل في العمق وعلى الأمد الطويل على بشائر النصر، لقد تعوَّد الخطاب العربي على لغة الهزيمة: النواح والبكاء والصراخ، ونَعى مفردات العهر القديمة، وكتابة الهوامش على دفتر النكسة وشيوع مفردات النكبة والنكسة والهزيمة، واستصغار النفس وتضخيم الآخَر، ومن هذا الوضع النفسي بيننا وبين العدو نشأت الصور النمطية له ولنا، فهو العدو الذي لا يُقْهَر، القادر على الدخول في معارك على الجبهات العربية كلها في وقت واحد والنصر فيها كما حدث في حرب ١٩٦٧م، جيشه أكثر تدريبًا وتسليحًا وإمدادًا وخبرة وذكاء وحماسةً وقضية، ونظامه السياسي أكثر ديمقراطية وحرية وشعبية، وهو الذي يتوسع باستمرار من ١٩٤٨م حتى اليوم والذي بلغ أوجه في الاحتفال بمرور نصف قرن على تأسيس الكيان الصهيوني، أما نحن فالأقل تسليحًا واتحادًا وديمقراطية وتدريبًا، دفاعنا انسحاب في ١٩٥٦م ثم في ١٩٦٧م، وتحولت هزائمنا وانتصارات العدو إلى قَدَر لا يمكن الفكاك منه، ومصير محتوم لا يمكن الهروب منه.

واليوم في الحرب العربية الإسرائيلية السادسة، وهي بحق الحرب اللبنانية الإسرائيلية الثالثة، تبدو بشائر النصر، فلماذا استمرار لغة الهزيمة ونغمتها ومفرداتها ونَعْي العرب وعهر المفردات؟ هذه هي الحرب السادسة. كانت الهزائم في الحروب الثلاثة الأولى لأسباب عسكرية وسياسية واجتماعية وثقافية في ضياع نصف فلسطين في ١٩٤٨م، وفي العدوان الثلاثي على مصر في ١٩٥٦م، ثم في العدوان على مصر وسوريا والأردن، واحتلال أراضي ثلاث دول عربية، وضياع ما تبقى من فلسطين في هزيمة ١٩٦٧م. فكانت هي نهاية القاع، كان الخط منحدرًا من ١٩٤٨م نِصْف نصر ونِصْف هزيمة بالحفاظ على الضفة الغربية وقطاع غزة إلى ١٩٥٦م التي كانت هزيمة ثم تحولت إلى نصر بانسحاب الجيش الإسرائيلي من سيناء بعد الإنذار الروسي، إلى ١٩٦٧م التي كانت هزيمة كاملة واحتلال فلسطين كلها والجولان وسيناء، وكانت أكبر جرح غائر في الوجدان العربي، النكبة الثانية، وانتشر أدب الهزيمة، وثقافة الهزيمة، والموت في الروح، والسكون في التاريخ.

وبدأ الخط في الصعود مباشرةً بمعركة رأس العش والصمود في مثلث بورسعيد وإغراق المدمرة إيلات وبداية حرب الاستنزاف ١٩٦٨م–١٩٦٩م والتي لا يكاد يذكرها أحد بالمدافع والغارات الليلية في سيناء.

واستمر في الصعود في حرب أكتوبر ١٩٧٣م التي كانت نصرًا عسكريًّا بكل المقاييس؛ عبور أكبر مانع مائي في التاريخ، وتدمير خط دفاع لم تكن تقوى القنابل الذرية عليه. وتحرَّرت سيناء على مراحل، عسكريًّا في الأقل وسياسيًّا في الأكثر حتى طابا التي تم استردادها بحكم من محكمة العدل الدولية. كان الثمن المفاوَضة والصلح والاعتراف، وما زالت الضفة الغربية وقطاع غزة والجولان محتلة، وأضعفَ الصلحُ المنفردُ بين مصر وإسرائيل رُوحَ العمل الجماعي لقضية العرب؛ فتابعت الأردن والضفة الغربية ما زالت محتلة، وهرعت موريتانيا وهي لا لها في العير ولا في النفير، إنما فقط للحصول على الرضا الأمريكي، والوعد بالرفاهية والرخاء، واستثمار رءوس الأموال الأجنبية، وأعقبتها مكاتب تجارية في الخليج أو اتصال في تونس والمغرب، بل وتدريبات عسكرية مشتركة بين حلف شمال الأطلنطي وإسرائيل وبعض الأقطار العربية، والأخطر من ذلك كله اتهام المقاوَمة بأنها مغامرة غير محسوبة واستعداء أمريكا وإسرائيل على لبنان، وإعطاؤهما الغطاء الشرعي للعدوان عليه.

ثم استمر الخط في الصعود في صمود بيروت وفشل الغزو الإسرائيلي في جنوب لبنان عام ١٩٨٢م لإخراج المقاومة الفلسطينية منه، قاوَم الشعبُ الجيشَ وانتصر عليه وهُزَّت صورة جيش الدفاع، وسُمِّيت مغامرة شارون، وقضت على وزير الدفاع.

ثم استمر الخط صاعدًا في تحرير جنوب لبنان بفضل المقاوَمة اللبنانية عام ٢٠٠٠م وهروب جيش الدفاع ليلًا من جحيم المقاوَمة، وانتهى جيش لبنان الجنوبي في الشريط الحدودي، إما بالاستقرار لدى العدو وإما بالعودة إلى لبنان الوطن ومحاكمته بتهمة الخيانة الوطنية أو العفو عنه؛ فصَدْر الوطن قادر على احتضان حتى من يخطئ في حقه.

وبالرغم من انشغال العرب بالعدوان على العراق في ١٩٩١م بدعوى تحرير الكويت، ثم الغارات المتتالية عليه في ١٩٩٨م، وأخيرًا غزوه في ٢٠٠٣م بدعوى القضاء على الإرهاب وأسلحة الدمار الشامل، فإن الانتفاضة الفلسطينية قامت في ١٩٨٧م بالحجارة ثم بالسلاح منذ ٢٨ من سبتمبر ٢٠٠٠م يوم طواه النسيان لصالح ١١ من سبتمبر ٢٠٠١م. فالقوي هو الذي يُحدِّد مَعالم التاريخ والحوادث الفارقة فيه.

وأخيرًا ظهرت بشائر النصر في الحرب العربية الإسرائيلية السادسة الدائرة منذ ثلاثة أسابيع بمقاومة شعب ضد غزو جيش، وصواريخ ضد مدن، ورجل في مواجهة دبابة، ونقل المعركة إلى أرض العدو من شمال لبنان من دون الجبهة الشرقية في الأردن، والجنوبية في مصر والسعودية، وبئر سبع وإيلات واللد والرملة وعسقلان على مرمى صواريخ العرب، ولأول مرة يعيش نصف سكان إسرائيل في الملاجئ وتحت الأرض، يذوق ما ذاق منه العرب، وتم التخطيط للحرب بعيدًا عن العنتريات التي ما قتلت ذبابة، ومنطق الناي والربابة، وتطول المدة، وتنتهي أسطورة حرب الأيام الستة، والحرب الخاطفة؛ فالكيان الإسرائيلي لا يتحمل الحرب الطويلة؛ فجيشه شعبه تحت الاحتياط، وكلما طالت الحرب توقف الإنتاج، وتعطلت السياحة، وبدأت الهجرات المضادة.

لم يبقَ إلا السلاح النووي الإسرائيلي الذي يوازي السلاح النووي الإيراني والباكستاني جوار العرب؛ ردعًا بردع، والمهم أين العرب الذين يعرفون قيمة دول الجوار والدخول في دوائر تحرك جديدة بعيدًا عن أوهام الطائفية والحرص على كراسي الحكم؟

ويظل السؤال: أيُّ لحن يغرد العرب، هزائم الماضي أم بشائر النصر؟

(٤) الدواء أَم الداء؟٤

ماذا يحتاج لبنان؟ إرسال الدواء أم القضاء على الداء؟ فبعد أن تُرك لبنان وحيدًا يقاوم، يُذبح عدة مرات في تاريخه الحديث منذ إنشاء الكيان الصهيوني أمام صمت الأنظمة السياسية أو إعطاء غطاء شرعي للعدوان حتى لا تمتد المقاومة إليها ومناصرة الشعوب لها.

عُقد مؤتمر وزراء الخارجية العرب الأول تحت أسنة الرماح، وبعد موافقة الكيان الصهيوني على هبوط طائرة الوزراء. فالنظم السياسية لم تَعُد نظمًا حرة في أوطانها بل أسيرة الكيان الصهيوني وتحت مظلة الهيمنة الأمريكية، وكان أقصى جهده التأثير في قرار مجلس الأمن ١٧٠١ بجعله أكثر توازنًا بين الجلاد والضحية، بالاستعانة بفرنسا صديق لبنان التقليدي، وبأمريكا التي تحالفت بعض الأنظمة العربية معها، ولم يكن من بين الوفد وزير خارجية الشقيقة الكبرى بعد أن تنازلت عن دورها للشقيقة الصغرى. وحققت الدبلوماسية العربية نصرًا في أروقة مجلس الأمن لم يترجم القدر ذاته من النصر الذي حققته المقاومة اللبنانية على الأرض على مدى أكثر من شهر، أطول حرب عربية إسرائيلية منذ غرز الكيان الصهيوني في الوطن العربي منذ أكثر من نصف قرن، وبالتالي يؤدي العرب بعض الاستحقاقات للبنان وهو إيقاف العدوان بعد أن تخلوا عن مناصرته، والإبقاء على نَفَسه الأخير بعد أن أصبح الجسد مثخنًا بالجراح، وإن كان قلبه ما زال ينبض ويقاوم العدوان عليه.

وينعقد مؤتمر وزراء الخارجية العرب الثاني من أجل إعمار لبنان، وما أسهل أن يتم ذلك وبأقل التكاليف، بعض الملايين من عائدات النفط التي تراكمت بعد مضاعفة أسعاره منذ حرب أكتوبر ١٩٧٣م حتى الآن، وإن تخلى العرب عن الدفاع عن لبنان المقاومة، فعلى الأقل الإسهام في تضميد الجراح، وتوفير الدواء، وإعادة بناء البنية التحتية، والمنازل المهدمة، ودفن الموتى، وتجهيز الأنعاش، والسير في المآتم، وتقبل العزاء. وتعويضًا عن العجز عن مناصرة لبنان في ساحة القتال تتم المغالاة في التعبير عن مظاهر النشاط الإنساني بإرسال الوفود الرسمية والشعبية من المُثقَّفين والفنانين لإعلان التأييد، وتقديم العزاء، والترحم على الشهداء ممَّا لا يبعث الموتى من تحت الأنقاض ولا من ظلمات القبور، كأن أقصى طموح العرب، الرأفة بالضحية وإدانة الاستعمال المفرط للقوة، والحفاظ على البنية التحتية، وحماية المدنيين، وماذا يضير سلخ الشاة بعد ذبحها؟

أما التكليف الثاني للأمين العام للجامعة العربية في المؤتمر الأول لوزراء الخارجية العرب بالدعوة إلى عقد مؤتمر قمة عربي فقد طواه النسيان؛ فقد انفضت الحرب وآثر يرْبَع الفرزدق السلامة، فما زالت الخلافات السياسية قائمة، وهي الداء، بين من يناصر لبنان والمقاومة ولو بالقول وبين من يعتبرها مغامرة غير محسوبة خارج إطار الدولة، ومن دون تقديم طلب رسمي للموافقة عليها، وبدلًا منها تتقدم دول ثلاث تخلت عن واجبها الوطني والقومي لنصرة المقاومة خوفًا من إسرائيل «ماقدرش أحارب إسرائيل» أو «نحن الذين نحدد ساعة المعركة» لعقدة الهزائم المتكررة بالرغم من انتصارات العرب في حرب أكتوبر ١٩٧٣م، وفي صد العدوان على بيروت في ١٩٨٢م، وفي تحرير الجنوب عام ٢٠٠٠م، تتقدم بمشروع لإحياء عملية السلام بعد أن أعلن الأمين العام لجامعة الدول العربية موتها. لقد عجز النظام العربي من قبل عن مناصرة الانتفاضة الأولى، انتفاضة الأقصى في ١٩٨٧م، والانتفاضة الثانية انتفاضة السلاح في ٢٠٠٠م، وترك شعب فلسطين يُذبح بتصفية قادة المقاومة، وقتل الأبرياء، وهدم المنازل، وإقامة الجدار العازل، وإقامة المستوطنات مع مناداة شعوب العالم لمناصرة خارطة الطريق، والغاية منها كما بدا حتى الآن تصفية القضية الفلسطينية كجزء من عملية أكبر، الشرق الأوسط الجديد، بعد تصفية دوله الوطنية ومقاومته الشعبية في العراق وفلسطين ولبنان، والبقية تأتي على سوريا باسم الإرهاب، والسودان باسم دارفور، وعلى الخليج كله باسم حقوق السكان الآسيويين والعمالة المهاجرة، وعلى المملكة العربية السعودية التي خرج منها تنظيم القاعدة، والمغرب العربي باسم الأقلية البربرية وصولًا إلى مصر، بعد قص ريشها، وعزلها عن محيطها العربي، وإغراقها بالمعونات لتوفير الخبز لثمانين مليونًا من الأفواه.

وماذا عن الداء ذاته؟ ذبح لبنان منفردًا، والنظام العربي يتفرج، والشعوب العربية تصرخ، لا فرق بين نظام قومي وإسلامي، تقدمي ومحافظ، بين الجيش وقريش، بين العسكر والأئمة، بين آل القشلاق وآل البيت. إن الغاية من العدوان على لبنان الاستمرار في مهانة العرب في العراق وفلسطين، وغرز إحساسهم بالعجز وباستباحة الأوطان، والقضاء على مفهوم القومية العربية، وغرز مفهوم القُطرية قبل تفتيت الأقطار إلى دويلات طائفية وعرقية يكون فيها الكيان الصهيوني أقوى دولة طائفية عرقية في المنطقة يأخذ شرعيته من طبيعة الجغرافيا السياسية فيها بدلًا من أساطير التكوين الأولى في القرن الماضي، أساطير أرض الميعاد والميثاق وشعب الله المختار. غاية العدوان هو الاستمرار في هزائم العرب المتكررة منذ ١٩٤٨م في الحروب العربية الإسرائيلية السابقة، وجعل الهزيمة هي القاعدة والنصر هو الاستثناء، والدفاع العربي المشترك مجرد ورقة لا تعني شيئًا، والشقيقة الكبرى آثرت السلام بعد أن أثخنتها الجراح، ودول الطوق تعزل شعوبها عن ساحة القتال أكثر ممَّا تحاصر الكيان الصهيوني. الطوق لمن؟ وحول من؟ ودول الجوار الإقليمي، كل منها يبحث عن مصالحه، ويُغَنِّي على ليلاه، في الغرب أو الولايات المتحدة الأمريكية أو في ودائع البنوك أو في الحفاظ على المنصب ضد الخطر الداخلي والمد الشيعي وسط الأغلبية السُّنية.

الداء هو الشرق الأوسط الجديد الذي تتفتت فيه الأوطان، ويُقضى على مظاهر المقاومة الشعبية فيها؛ من أجل ضم الفتات داخل مشروع الهيمنة الأمريكية على المنطقة؛ فقد شن الكيان الصهيوني العدوان على لبنان بالوكالة، وليس بالأصالة؛ فقد تسلق الكيان الصهيوني على القوى الكبرى منذ نشأته استفادةً من سماحة الإسلام في العصر العثماني إلى الاستعمار البريطاني حتى قوة الإمبراطورية الأمريكية الجديدة.

قد يكون الداء هو الدفاع عن فكرة الكيان الصهيوني، وإنهاء مقاومة التطبيع، ورفض الاعتراف الشعبي بها. فالعدوان الصهيوني بالأصالة، وليس بالوكالة. يحقق مشروعه الخاص، وهو الدفاع عن الوجود الصهيوني في المنطقة وليس عن حدود دولة. فمصر، الشقيقة الكبرى، صالحتها وعقدت معاهدة سلام معها، وخرجت من المعركة منكفئة على ذاتها كما يخرج القلب من الجسد، ولبنان، الشقيقة الصغرى التي ما زالت تقاوم منذ ١٩٤٨م وإسقاط اتفاقية آذار حتى الدفاع عن بيروت في ١٩٨٢م وتحرير الجنوب في ٢٠٠٠م عليها أن تدخل بيت الطاعة، وسوريا وإيران اللذان يمدان المقاومة بالسلاح ستدور عليهما الدائرة. وبالتالي يصبح الكيان الصهيوني هو ركيزة الشرق الأوسط الجديد، قلبه ونموذج تحديثه. تقوم بدور مصر وإيران في آنٍ واحد.

ليست القضية هي تحرير أسيرين وقتل ثمانية في معركة عسكرية داخل الكيان الصهيوني. فقد كان العدوان مُبيتًا منذ شهور مضت وينتظر الذريعة. يريد رد الاعتبار إلى الجيش الإسرائيلي بعد انسحابه المذل من الجنوب عام ٢٠٠٠م، ويسهم في صنع الشرق الأوسط الجديد بعد أن تكفلت أمريكا بتفتيت العراق، وتتكفل إسرائيل الآن بتفتيت لبنان وابتلاع فلسطين، وتهديد أمريكا وإسرائيل بضرب سوريا وإيران. ليس الهدف من العدوان الصهيوني فقط رد فعل على فشله في غزو بيروت عام ١٩٨٢م بل القضاء على لبنان كله من الجنوب إلى الشمال، ومن الجبل إلى البحر، بل إثارة الحرب الأهلية في لبنان ضد المقاومة مع الاطمئنان لضعف العرب، وذبح المقاومة الفلسطينية. فحماس مثل حزب الله، والقضاء على القوة العسكرية الإيرانية. فالكل من جنس واحد.

والهدف البعيد من ذلك كله ترسيخ فكرة وجود إسرائيل؛ فقد وُجِدَت لتبقى مَهما عصفت بها حوادث الدهر، وتغيرت موازين القوى الدولية، ووقفت ضدها المقاومة في لبنان وفلسطين، ورفضت الشعوب العربية في مصر والأردن وموريتانيا التطبيع معها، ومهما تجرأت المقاومة على ضرب مدن إسرائيل، ووصول صواريخ المقاومة إلى حيفا وما بعد حيفا وما بعد بعد حيفا، وانهيار الجيش الذي لا يُقهر، وتهجير نصف سكان الكيان الصهيوني من الشمال إلى الجنوب، واهتزاز ثقة العرب به بما في ذلك الولايات المتحدة. فتكلفة بقائه عالية. الحفاظ على الأساطير المكونة للكيان الصهيوني ضروري من أجل الاعتراف به والاستسلام له، وخضوع العرب وعجزهم أمامه. يحتاج الكيان إلى نصر إعلامي للمحافظة على الصورة القديمة أمام الآخرين، هزيمة العرب الأبدية ونصر إسرائيل الأبدي. الحفاظ على الكيان الإسرائيلي الداخلي من التفكك هو الهدف من جولة قادمة وإلا انتقلت الحرب إلى الداخل بين العسكريين والسياسيين، وبدأت الهجرات المضادة، وتوقفت السياحة. واتجه الغرب والولايات المتحدة إلى حلفاء آخرين أقل تكلفة، وأكثر قبولًا لدى الرأي العام العالمي. يريد الكيان الصهيوني أن يحول اللاشرعية إلى شرعية وهو ما لا يرفضه النظام العربي في مبادراته باسم الواقعية السياسية التي تصل إلى حد الخيانة القومية، وهو ما ترفضه المقاومة الشعبية. المعركة، إذن، ليست معركة حدود، بل معركة وجود، ومن يدري، فربما يتحول يقين العدو بالنصر إلى شك، ويتحول شك العرب بالنصر إلى يقين.

(٥) إسرائيل والعالم٥

يعجب العرب كيف أن العالم كله مع إسرائيل؟! فهل اقتنع العالم بالصهيونية والاستيطان واحتلال أراضي الغير والتوسع والعدوان وقتل المدنيين الفلسطينيين ثم اللبنانيين وأصبح العالم كله صهيونيًّا؟ وأين الغرب المعروف بتعدديته واختلاف آرائه وتعارُض مصالح دوله وهو يتفق على رأي واحد بالنسبة إلى تأييد إسرائيل منذ بيان الدول الصناعية الثماني في موسكو حتى اعتراض أمريكا في مؤتمر روما الأخير على اتخاذ قرار بوقف إطلاق النار حتى تنتصر إسرائيل على المقاومة اللبنانية وتحتل شريطًا حدوديًّا في الجنوب حيث كان جيش لبنان الجنوبي والذي طُرِدَت منه إسرائيل عنوة وهربت منه تحت جناح الليل عام ٢٠٠٠م بفعل ضربات المقاومة؟ صحيح أن الغرب قد عُرف بأنه قوة بلا عدل منذ أوج الاستعمار في القرن التاسع عشر حتى العولمة الجديدة بعد نهاية عصر الاستقطاب، ثم قامت حركات التحرر الوطني لمقاومته وانتصرت عليه في القرن العشرين. وقضت في عقدين من الزمان، في الخمسينيات والستينيات، على استعمار الغرب لغيره من الشعوب في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية على مدى قرنين من الزمان، ولم يحدث أن أجمع الغرب الأوروبي على تَبنِّي المطالب الإسرائيلية كما يحدث هذه الأيام في المواجهة بين المقاومة اللبنانية والكيان الصهيوني وكأنه هو المجني عليه وليس الجاني، وكأنه هو الضحية وليس الجلَّاد! بل لقد استخدم الغربُ الأممَ المتحدة آخِر ملجأ للعدل من دون القوة لصالح إسرائيل، ولم تستطع وقف إطلاق النار أو حتى إدانة قتل أربعة من المراقبين الدوليين، ولأول مرة تكتفي بالأسف دون الإدانة، ولو أنهم قُتلوا بأيدي المقاومة لدُك لبنان أو ما تَبقَّى منه عن آخره، ويظهر المعيار المزدوج من جديد، السماح لإسرائيل بأن تفعل ما تشاء، وعقاب العرب إذا ما فعلوا أصغر شيء لتحرير أوطانهم من الاحتلال، ويترك لإسرائيل استمرار العدوان حتى تقضي على العرب، وتفرض شروطها على طاولة المفاوضات. فليس مسموحًا بانتصار العرب أو بهزيمة إسرائيل.

ويَعرض العالم كله على العرب شروط إسرائيل للتسوية وكأن العرب لا وجود لهم. يعرض العالم على العرب كشرط لوقف إطلاق النار الإفراج عن الأسيرين الإسرائيليين بلا مقابل وكأنه لا يوجد تسعة آلاف أسير لبناني في سجون إسرائيل، ومثلهم من الفلسطينيين وباقي الأقطار العربية. فإسرائيليان اثنان لهما أهل، وتسعة آلاف لبناني لا أهل لهم. ومنهم من قضى في سجون إسرائيل ربع قرن! وكم في الحياة من أرباع القرون؟ ولماذا تسمية عملية «الوعد الصادق» التي أسرت فيها المقاومة اللبنانية جنديين إسرائيليين وقتل ثمانية «خطف» جنديين وليس أسر جنديين في معركة عسكرية بين المقاومة اللبنانية وجيش الاحتلال الإسرائيلي لمزارع شبعا؟ ولماذا لا يُذكر خطف الفلسطينيين من سجن أريحا أو خطف إسرائيل مقاومين فلسطينيين من منازلهم في معركة غير متساوية بين جيش الاحتلال الإسرائيلي ومواطنين مدنيين عُزل؟

ومن الشروط الدولية وضع قوات طوارئ دولية أو من حلف شمال الأطلنطي في جنوب لبنان مُجهَّزة بأحدث الأسلحة، ومكلَّفة بمهام قتالية ضد المقاومة اللبنانية لحماية إسرائيل! ولماذا لا توضع القوات الدولية ذاتها في شمال إسرائيل وداخل حدودها لحمايتها، أو على الأقل على الجانبين على مسافة متساوية في آنٍ واحد؟ وهل يأتي العدوان فقط من لبنان على شمال إسرائيل، أم أنه يأتي من إسرائيل أيضًا بقصف قرى الجنوب؟ ومن ضمن الشروط إبعاد المقاومة اللبنانية من الجنوب إلى حدود نهر الليطاني دفاعًا عن شمال إسرائيل، ونزع سلاح حزب الله، وبسط سلطة الدولة والجيش اللبناني في الجنوب وليس انسحاب إسرائيل من مزارع شبعا حفاظًا على استقلال لبنان ووحدة التراب الوطني. ولماذا يكون لإسرائيل وحدها حق الدفاع عن نفسها وهي الدولة المحتلة وليس للبنان وفلسطين حق الدفاع عن نفسيهما وهما الدولتان الواقعتان تحت الاحتلال؟ ولماذا ضرورة تنفيذ كل بنود قرار مجلس الأمن رقم ١٥٥٩ الذي يدعو إلى نزع سلاح حزب الله وليس تطبيق مئات القرارات لصالح لبنان مثل القرار ٤٢٥ أو لصالح فلسطين مثل القرار ٢٤٢ أو ٣٣٨ الذي يدعو إسرائيل إلى الانسحاب من الأراضي المحتلة عام ١٩٦٧م؟

وماذا عن جوهر القضية ذاتها وهو احتلال أراضي لبنان وفلسطين وسوريا وإيقاف العدوان الإسرائيلي على المدنيين في لبنان وفلسطين وكأن إسرائيل لم تستطع القضاء على المقاومة فانبرت إلى قتل المدنيين وهدم المنازل وتدمير البنية التحتية في لبنان وفلسطين كنوع من العقاب الجماعي المعروف في تاريخ اليهود وفي عقائدهم؟ لماذا أَخْذ الأَعْراض، الحرب المتبادلة بين العرب وإسرائيل، وتَرْك الجَوهر وهو احتلال إسرائيل لأراضي ثلاث دول عربية، فلسطين وسوريا ولبنان؟

السبب في هذا الوضع، رؤية العالم الغربي كله لمصالح إسرائيل والميل نحو جانب واحد ليس فقط المعيار المزدوج، والاعتماد على القوة من دون العدل، بل غياب الطرف الآخر، العرب كلية. لا يعترف الغرب بأي أحد سواه، وعلاقته بالآخر علاقة المركز بالأطراف، السيد بالعبد، والمخدوم بالخادم. يخاف الغرب لاشعوريًّا من العرب المسلمين بسبب الهجرات من جنوب البحر الأبيض المتوسط إلى شماله، وسرعة انتشار الإسلام في أوروبا بعد أن أصبح الدين الرسمي الثاني فيها بعد المسيحية، وبقاء الدولة الإسلامية؛ مثل البوسنة والهرسك وألبانيا في أوروبا الشرقية، واحتمال دخول تركيا الاتحاد الأوروبي، ومخاطر تكوين قطب عربي إسلامي ثانٍ في عالم أحادي القطب منذ نهاية عصر الاستقطاب واتخاذ الإسلام عدوًّا بديلًا عن الشيوعية.

كل هذه المغالاة في حب إسرائيل، الطفل المُدلَّل للغرب، وتأييد عدوانها والتحدث باسمها، إنما هو ستار خارجي يخفي كراهية دفينة لهم لأسباب عقائدية وتاريخية وسياسية. فهم الذين أنكروا السيد المسيح، وتعاونوا مع الرومان في التخلص منه، وهم الذين سيطروا على رأس المال ومراكز إصدار القرارات في الدول الغربية، بل أسهموا في إسقاط الإمبراطوريات بأكملها مثل الاتحاد السوفييتي وانهياره. تاريخها في السيطرة على العالم من خلال القوة الكبيرة السيطرة، إنجلترا أولًا، ثم الولايات المتحدة ثانيًا، والآن تحاول التسلق على أكتاف الهند والصين. فمن يدري مستقبل الولايات المتحدة إلى أين وقد بدأ رد الفعل في العالم كله ضدها، شعوبًا بالمظاهرات، ونظمًا سياسية بوصول اليسار في بعض دول أمريكا اللاتينية إلى الحكم؟

إن هذا التأييد المطلق لإسرائيل في العالم سيُحدِث رد فعل عنيفًا ضد الغرب عامَّةً والولايات المتحدة خاصَّة، وكشف أن كل محاولات الحوار العربي الأوروبي أو الإسلامي المسيحي أو الديني أو حوار الحضارات أو الشمال والجنوب أو الشرق والغرب، كل ذلك مجرد كلام في كلام، وما زال إنكار الغرب أي وجود فِعْلي لغيره هو السائد، وهو إنكار بنيوي قائم على عنصرية دفينة أو مركزية وغرور، كما يكشف عن أن كل ما قيل عن حقوق الإنسان وإنسانية الغرب وفلسفة التنوير ما هو إلا زيف وبطلان، وقد يزيد ذلك أيضًا في انفصال النظم الغربية عن شعوبها. فالنظم تزداد يمينًا، والشعوب تتجه يسارًا باستثناء إيطاليا التي سقط فيها مرشح اليمين ونجح فيها مرشح يسار الوسط. فعصر الشعوب قادم. وهو مُعادٍ لنظم الغرب وهيمنة الولايات المتحدة.

لقد استولت دولة صغيرة الحجم مثل إسرائيل على العالم كله بالباطل، وانتصرت دولة صغيرة الحجم مثل لبنان عليها بالحق. فالتحية واجبة للمقاوَمة اللبنانية التي استطاعت كسر شوكة الكيان الصهيوني حتى لو سيطر على العالم كله، وتعويضًا عن عجز إسرائيل عن مواجهة المقاومة في الجنوب، وجهًا لوجه؛ فإنها تقوم بتدمير دولة بأكملها، وتشرد شعبًا بأكمله، وبالمَثل المصري العامي «اللي ما يقدرش على الحمار يقدر على البردعة.» وبالتالي يظهر للعالم أنه لا يهرب فقط من مواجهة الرجال، ولكنه أيضًا يقتل الأطفال والنساء والشيوخ، وفي غياب نصر فِعْلي تعوَّد عليه من قَبْلُ؛ يوهم بنصر مُزيَّف سوف يتعود عليه.

(٦) لبنان، الدولة والمقاومة٦

فرح الجميع عندما رفرفت أعلام لبنان في الشوارع وفي ميدان الشهداء فيما سُمِّي فيما بعد بحركة ١٤ آذار، وشجرة الأرز الخضراء وإطارها الأبيض والأحمر تملأ سماء لبنان وتنتشر فوق أرضه. نزلت الآلاف إلى الشوارع دفاعًا عن استقلال لبنان ضد وجود قوات «أجنبية» على أرضها، وتأكيدًا لسلطة الدولة والاستقلال السياسي، وكان العرب قد عانَوا من غياب الشارع العربي بالرغم من تفاقم الأزمة الوطنية إلى حد الكارثة في العراق وفلسطين لولا نزول المصريين أيضًا إلى الشارع ممثلين في الحركات الجديدة للمجتمع المدني؛ مثل «كفاية» و«الحركة المصرية من أجل التغيير» والكُتَّاب والفنانين والمُثقَّفين الوطنيين ضد التوريث والتسلط والفساد؛ ودفاعًا عن المقاومة في العراق وفلسطين.

واختلف الناس في دوافع الحركة الوطنية اللبنانية وأهدافها، وطنية أم تآمر؟ دفاع عن استقلال لبنان أم بداية تحقيق مشروع الشرق الأوسط الجديد بتقليص دور سوريا وإيران في المنطقة؟ بناء لبنان أم بداية تدمير لبنان؟ ولما انسحب الجيش السوري من لبنان كان يمكن لبطاريات صواريخه الدفاع عن سماء لبنان ضد العدوان الإسرائيلي الأخير الذي دمر لبنان الدولة والمجتمع. كان يمكن أن تدخل سوريا الحرب وتخفف العبء على المقاوَمة اللبنانية وعدم ترك لبنان وحيدًا، مسيحًا يُصلب في حديقة جتسماني، والحواريون نائمون. يختبره الشيطان وحيدًا في الصحراء.

كانت الحركة الوطنية فقط مُوجَّهة ضد وجود القوات السورية في لبنان من دون وجود القوات الإسرائيلية في مزارع شبعا وكفر شوبا، ومن دون العدوان المستمر عليه، واختراق أجوائه الفضائية، ومياهه الإقليمية، وعمليات الإنزال في مطار بيروت لتصفية المقاوَمة اللبنانية، ولم يكن من أهدافها الحفاظ على استقلال لبنان وهويته ضد التبعية للولايات المتحدة الأمريكية ومشاريعها في الهيمنة على المنطقة بداية بالعراق ثم فلسطين ثم لبنان ثم سوريا والخليج ونهاية بمصر، وكثيرًا ما نقد العرب المعيار المزدوج في الغرب، والكيل بمكيالين بين فلسطين والكيان الصهيوني، وتقع الحركة الوطنية الجديدة في لبنان في الفخ ذاته، استقلال وطني بالنسبة لسوريا، وتبعية ورضوخ بالنسبة إلى أمريكا وإسرائيل.

وبعد انتصار المقاومة الوطنية في الجنوب، وتبديد وَهْم الجيش الذي لا يُقهر، وسقوط الصواريخ على المستوطنات في شمال فلسطين المحتَلَّة، وعودة الثقة إلى المقاتل العربي في أطول حرب عربية إسرائيلية منذ نشأة الكيان الصهيوني، وتكبيده أكبر الخسائر البشرية والمادية في تاريخه، عادت حركة ١٤ آذار تُطالب ببسط نفوذ الدولة على كامل أراضيها، وتحولت الحركة من مناهضة سوريا إلى مناهضة المقاوَمة ممثلة في حزب الله والتي لم تشارك فيها الحركة ونخبها السياسية المتقلبة المزاج والأهواء والمصالح. فأين كانت سُلطة الدولة في أثناء احتلال الجنوب والشريط الحدودي وتكوين دولة داخل الدولة، وجيش داخل الجيش، جيش لبنان الجنوبي التابع لإسرائيل والذي انهار وفَرَّ مُعْظَمه إلى إسرائيل بعد انسحابها من الجنوب ليلًا تحت ضربات المقاومة؟ أين كانت سلطة الدولة على مزارع شبعا وكفر شوبا وعلى سماء لبنان ومياهه الإقليمية وكامل أراضيه الوطنية، بجباله وسهوله، ضد محاولات الاختراق والإنزال واحتلال الأراضي؟ أين كانت سُلطة الدولة في أثناء الحرب الأهلية التي دامت أكثر من خمسة عشر عامًا بين الميليشيات والقوى السياسية المتناحرة للسيطرة على الدولة لولا اتفاقية الطائف؟ ولماذا تكون سلطة الدولة موجهة فقط ضد المقاومة الوطنية في جنوب لبنان ممثلة في حزب الله وليس ضد باقي القوى الوطنية في كل الأراضي اللبنانية في الجنوب والشمال، قواعد الجبهة الشعبية، والجبهة الديمقراطية؟ وماذا عن السلاح المُخبَّأ والمنتشر لدى ما تبقى من ميليشيات الحرب الأهلية؟ وأين سلطة الدولة مع محاولات التطبيع مع إسرائيل وإثراء المرتزقة من تجار لبنان ومهربي البضائع؟

كانت الدولة على علم بنية المقاوَمة، أَسْر بعض جنود العدو الصهيوني للإفراج عن الآلاف من المعتقلين اللبنانيين والفلسطينيين والعرب في سجون العدو، وبعضهم قضى فيها أكثر من رُبع قرن. فحزب الله مُمثل في الحكومة، وله أعضاؤه في المجلس النيابي. ولم يرفض أحد الفكرة والأسلوب. أما الإخطار بتحديد الزمان والمكان للعمليات العسكرية، فهذا ما تأباه طبيعة الحروب في وقت لم تَعُد فيه أسرار عسكرية بسبب وسائل الاتصال الحديثة والقدرة على جمع المعلومات من كل طرف عن الطرف الآخر، وفرق بين بيروقراطية الدولة وأوراقها وأختامها والمقاومة الوطنية التي تقوم على عنصر المفاجأة.

وبدلًا من تهنئة المقاومة بالنصر ودرء العدوان الصهيوني على جنوب لبنان، بدأ التآمر عليها لتصفيتها وإنجاز ما لم يستطع العدو إنجازه بالسلاح ولا الولايات المتحدة من خلال مجلس الأمن. بدأت حركة ١٤ آذار وحلفاء سوريا السابقون قبل الانقلاب عليها بالدعوة إلى نزع سلاح حزب الله وهو ما لم يطالب به العدو الصهيوني بعد أن أدرك حدود قدراته مكتفيًا بإبعاده عن الجنوب أو إضعافه، وهو ما لا ينص عليه قرار مجلس الأمن الأخير ١٧٠١ المنحاز إلى إسرائيل أصلًا، وأرادت الحركة تحويل العرس إلى مأتم، والفرح إلى حزن، والوحدة الوطنية إلى حرب أهلية، والنصر إلى هزيمة.

المطالبة بنزع سلاح حزب الله الآن والحرب لم تضع بعد أوزارها، والعدوان الإسرائيلي ما زال مستمرًّا كما بدا في حركة الإنزال الأخيرة في البقاع، والجيش الإسرائيلي ما زال محتلًّا للجنوب، ومزارع شبعا وكفر شوبا لم تتحرر بعد خيانة وطنية وإدخال لبنان المدمر في مشروع الشرق الأوسط الجديد، ولا يُخفي قادة الكيان الصهيوني نِيَّاتهم الاستعداد للجولة الثانية لاستعادة هيبة الجيش، وأسطورة العدو الذي لا يُقهر، وهيبة الدولة القادرة على إملاء شروطها على العرب، وتدفعها أمريكا إلى ذلك، وتعد لها الغطاء الشرعي عن طريق قرار جديد من مجلس الأمن، يطالب بنزع سلاح حزب الله وجعل الجنوب اللبناني منزوع السلاح، وإعطاء قوات الطوارئ الدولية مهام قتالية دفاعًا عن إسرائيل؛ اعتمادًا على البند السابع من الميثاق. فدعوة حركة ١٤ آذار وحلفاء الأمس بنزع سلاح المقاومة هو تنفيذ للمخطط الإسرائيلي الأمريكي، وانحياز صريح لأعداء لبنان.

والأخطر من ذلك هو نزع صفة الوطنية عن المقاومة، وتصور حزب الله تابعًا لسوريا وإيران، والمقاومة الوطنية بطبيعتها لا تكون تابعة لأحد لوجود تناقض رئيس بين الاستقلال والتبعية، وهي قراءة أمريكا وإسرائيل ذاتها لنزع الشرعية عن المقاومة الوطنية للاحتلال الإسرائيلي للجنوب وكذريعة للهجوم على سوريا وإيران، وقد اتُّهم عبد الناصر بأنه عميل الاتحاد السوفييتي لمجرد أنه كان يمده بالسلاح لمقاومة العدوان الإسرائيلي، كما اتُّهمت من قبل كل الحركات الوطنية بالاتهام ذاته في كوبا وفيتنام.

إن عظمة لبنان في الوطن العربي أن المجتمع المدني فيها أقوى من الدولة، ويُضرب به المثل بالتعددية السياسية. فلماذا تريد حركة ١٤ آذار القضاء على أهم سمة في لبنان والتي نود نحن العرب أن نكون مثلها، وأن تكون مجتمعاتنا المدنية أقوى من نظمنا السياسية بدلًا من السيطرة شبه المطلقة للدولة على المجتمع المدني؟ وإذا كان لبنان يُمثِّل نموذج أولوية المجتمع المدني على الدولة فإن النظام العربي في مجموعه في مصر والسعودية وليبيا وتونس وعُمان يمثل أولوية الدولة على المجتمع المدني، وتشارك العراق وفلسطين الآن في النموذج اللبناني، أولوية المجتمع على الدولة؛ لذلك تزدهر المقاومة، وما دامت الدولة ممثلة في نظامها السياسي تابعة للعدو الأجنبي المحتل كما هي الحال في أفغانستان والشيشان وكشمير.

إن المقاومة اللبنانية الممثلة في حزب الله مقاومة وطنية عربية إسلامية تستعيد بها روح الخمسينيات والستينيات، روح جيفارا وعبد الناصر وروح الثورة الإسلامية في إيران. تجمع بين الوطنية والعروبة والإسلام في نظرية الدوائر الثلاث التي صغناها في عصر التحرر الوطني وتَخلَّيْنا عنها وتُطبِّقُها إسرائيل الآن. عدوها إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، وظهيرها العرب والمسلمون والمسيحيون ومجموع دول الشرق وأحرار الغرب، هدفها تحرير الأراضي العربية المحتلة وإزالة آثار العدوان، وإذا كان الشعب العربي في لبنان وفي باقي أرجاء الوطن العربي مع المقاومة فلا يضيره مؤامرات النُّخب السياسية عليها، وسيحافظ على وحدته وانتصاراته ضد دعاة التفرقة والهزيمة، وسيظل لبنان منارة للعلم والفكر منذ فجر النهضة العربية في بر الشام وبر مصر.

١  الاتحاد، ١٩ من مارس ٢٠٠٥م؛ الزمان، ١٧ من مارس ٢٠٠٥م؛ الدستور، مارس ٢٠٠٥م.
٢  الاتحاد، ٢٩ من يوليو ٢٠٠٦م؛ الدستور، ٩ من أغسطس ٢٠٠٦م؛ العربي الناصري، ٦ من أغسطس ٢٠٠٦م.
٣  الاتحاد، ١٩ من أغسطس ٢٠٠٦م.
٤  الاتحاد، ٢٦ من أغسطس ٢٠٠٦م؛ العربي الناصري، ١٠ من سبتمبر ٢٠٠٦م.
٥  الاتحاد، ١٢ من أغسطس ٢٠٠٦م؛ الدستور، ١٤ من أغسطس ٢٠٠٦م؛ العربي الناصري، ٢٠ من أغسطس ٢٠٠٦م.
٦  الاتحاد، ٢ من سبتمبر ٢٠٠٦م؛ الدستور، ٢٨ من أغسطس ٢٠٠٦م.