يونس في بطن الحوت

مؤسسة هنداوي مؤسسة هنداوي

القط

هل كان في وسعنا أن نفعلَ غيرَ ما فعلناه؟

أليس هو الذي جنَى هذا على نفسه؟

من كان يصدِّقُ أن هذا المخلوقَ الصغير، المغمض العينين، المرتعش الأطراف، سينقلب بين يوم وليلة طاغية مُخيفًا؟ إن أحدًا منَّا لم يكن يتنبَّأُ له بهذا المصير!

كان لا يزال في علم الغيب حين وصَّينا عليه الجيران؛ فالقطة الرومي التي نحسدهم عليها قد اختفت منذ أسبوع، لم تعدْ تقفز من على الساتر الخشبي إلى سطح بيتنا، أو تجلس كالراهب الوقور على السلم لتتشمَّس، إن بطنها كبرت، ونحن نعرف هذا، ولا بد أنها تلدُ الآن. في كل يوم أفوت على الجيران بعد عودتي من المدرسة، لأسألَهم عنها. ويخرج لي صاحب البيت بنفسه، فيجيبني قبل أن أسألَه: لا يا ابني، لسه ما ولدتش، سلِّم على الجماعة. وأمي قد وصَّت جارتَنا بنفسها؛ فحين طلعتْ على السطوح لتنشرَ الغسيل أطلَّتْ عليها من خلف الساتر وبعد السلامات والطيبات قالت لها: «الولد ميت على القطة، والنبي يا أختي تحجزي له واحدة.» ولم تتأخَّرْ جارتُنا الطيبة: «حاضر يا حبيبتي، من عيني الاثنين.» وانتظرتُه على شوق؛ قط رومي يصبح ملكي، ينام في حضني وأبوسه من عينيه، وينط ويلعب معي، ويأكل من طبقي، ويقفز على مكتبي، ويذاكر معي، ما أجمل هذا! يوم يصل إلى بيتنا سيكون يوم عيد.

وحين عدتُ من المدرسة — وكان يوم خميس — وجدتُه قد سبقني إلى البيت. الخادمة أعلنت لي الخبر وهي تفتح الباب، كانت تصرخ وتكاد تبكي من الفرح، فرميتُ حقيبة الكتب وجريت والخادمة قدامي وأنا أصيح: فين؟ فين؟

وفي غرفة الفرن وجدتُ أمي تلاعبه. قط رومي أصيل، رومي بحق وحقيق؛ شعره أسود من الليل، ذيله مكور ومنفوش، عيناه — وإن لم يفتحهما بعدُ — لا بد أن تكونا خضراوين، والتففنا حوله، نتأمله ونراقب حركاتِه. كان جسدُه ينتفض من البرد، وأطرافه ترتعش، وكان من ضعفه يقوم ويقع ولا يستطيع أن يخطوَ خطوة على بعضها، ومددتُ يدي فسلمت عليه، إنه ضيف البيت، أعزُّ من كل الضيوف.

وجرت الخادمةُ فأحضرتْ طبقًا فيه لبن، ولكن القط لم يفتحْ عينَيه، ولم يبدُ عليه أنه رأى شيئًا. لا شيء إلا ناو، ناو. تخرج منه خافتة متقطعة كالكتكوت الصغير.

قالت أمي: يا عيني، عاوز يروح لأمه.

وتنهدت الخادمة: يا ستي، ده هايموت من الجوع.

فقالت أمي: ما تخافيش عليه، القطط بسبع أرواح.

وانقطع مواؤه بعد قليل، وخرج منه صوت آخر ممدود بطيء كالنوم، فسألت: أمي، هو بيعمل كده ليه؟

فقالت: ده بيسبح.

وقالت الخادمة: القطط بتشوف الملايكة بالليل.

هتفتُ: صحيح يا أبي؟

وكان أبي يتدفأ على نار الفرن فقال: القطط من الشيطان.

ولن يعجبني قولُه. لقد كان منذ البداية غيرَ راضٍ عنه، وكان يتجنبه ويسخط عليه وينفر منه وكأن بينهما ثأرًا قديمًا.

أصبح القط موضعَ اهتمامنا. كنا نلتفُّ حوله في ليالي الشتاء، كأنه مركز الكون. صحيح أن أبي كان يكرهه منذ البداية، ولا يكاد يقترب منه أو يتمسح في قدميه حتى يقبض عليه ويقذفه بعيدًا وهو يصيح: «ارموه في الخرابة، ده كله براغيث.» غير أنني كنت أضعه في حجري دائمًا وأضمه إلى صدري، وأفرح وأنا أراقب عينيه المذعورتين حين ينظر إلى الأرض من فوق كتفي وكأنه يقف فوق قمة جبل، حتى أمي التي كانت تقول لي في كل مرة تراه معي: «يا ابني هو أنت مالكش شغلة ولا مشغلة إلا القط.» كانت كثيرًا ما تطعمه بنفسها، وتتحسس ظهره بيديها، وترصد نموه يومًا بعد يوم، وتحلم بمستقبله: «بكره ده اللي ينضف البيت من الفيران.»

أبدًا لم يحظَ قِطٌّ بمثل الرعاية التي حظي بها مسرور — كان هذا هو الاسم الذي اخترْناه له — كنتُ لا أدخل من الباب حتى أسألَ عليه، وإذا عدتُ بالليل وجدتُه ينتظرني، فلا أكاد أفتحُ بابَ حجرتي حتى يموء، ويلفَّ حولي، ويتمسَّحَ في قدمي ويتثاءب، ثم يسبقني إلى السرير، ويدخل من نفسه تحت اللحاف، ويظل يراقبني بعينيه الواسعتين حتى أخلع هدومي وآخذَه في حضني وأنام.

إن المخلوقاتِ الجميلةَ لا تنسى أبدًا أنها جميلة، فالجمال هو وجودها؛ إنها تحيا عليه، ومن أجله. وكان مسرور كلما كَبِرَ ازداد جمالُه، وتكوَّر ذيلُه، وربَّى فروةً ناعمة. فإذا رآني أقف أمام المرآة يتسلَّلُ إلى جانبي، ويُطيل النظر في خياله، ثم يرفع عينيه الخضراوين إليَّ وكأنه يقول: «ناو، ناو، من أجمل مني؟» الواقع أنه كان على حقٍّ في كبريائه. ألم يكن يتيه بنفسه على القطط الضالة التي تدخل بيتَنا بحثًا عن الطعام، فإذا رآها نظر إليها باستكبار وتطلعتْ إليه بانكسار، وكأنها من طينة غير طينته؟ لقد كان يختال في مشيته كأنه شبل مغرور.

وعدتُ يومًا فلم أجد «مسرور». بحثت عنه في غرفتي، تحت السرير، فوق الدولاب، في الفرن، وعلى السطوح فلم أعثر له على أثر، ورأيتُ أمي تضع يدَها على خدِّها. قالت: «أبوك رماه في الخرابة.» كنا بالليل، والدنيا كحل، وصرختُ والدموع تخنقني: «القط لازم يبات هنا.» فقالت: «يا ابني الصباح رباح.» ولكنني لم أنتظر؛ أيقظتُ الخادمة من نومها، وأشعلتُ المصباح نمرة خمسة ونزلت والخادمة تتمطَّى وتتثاءب من خلفي، وأمي تَلعن القطط وسيرتها وتنادي من على رأس السلم: «طيب خد عليك حاجة من البرد.» ونزلت أجوس في الخرابة، وأفتش بين أكوام القمامة والتراب المتراكم حتى سمعتُ مسرورًا يموء، ورأيتُ شبحَه الصغير يجري نحوي، فلما اقترب مني تمطَّى وقوس ظهرَه، ونفض الترابَ عن جسده. وانحنيتُ عليه وحملتُه بين يدي، كأنه كنزي.

قد يكون هذا هو السبب الخفي الذي جعلنا نحوطُه بمزيد من الرعاية والحنان. أصبحنا كلما اجتمعْنا حول الطعام نسأل: «فين مسرور؟» وإذا كان اليوم يومَ السوق والحالة مفترجة هتفتُ بأعلى صوتي: «حوشوا كوم مسرور.» أما إذا تصادف وكانت الأكلةُ أكلةَ سمك فيا بختك يا مسرور! إننا نجمع العظام والرءوس كلها له، وقد أمدُّ له يدي خلسة من تحت الطبلية بسمكة بحالها

غير أن السمكَ الذي كان مصدرَ فرحه كان أيضًا سببَ غمِّه. اجتمعنا ذات ليلة على العشاء، وأبي كعادته يحكي لنا عن أيام زمان، التي كانت كلها خيرًا ونغنغة، وكانت العائلة تتغدى وتتعشى بقرشين صاغ. وفتحتْ أمي غرفة الفرن لتأتيَ لنا بالعشاء، وسمعْناها تخبط على صدرها وتقول: بسم الله الرحمن الرحيم! راحت فين يا أولاد؟

فنادي أبي عليها: خير يا أم إبراهيم؟

– الصحفة يا أبو إبراهيم.

– صحفة إيه؟

– صحفة السمك.

أجاب أبي كأنه يمسك بتلابيب الجاني الأثيم: مفيش غيره! الله يقطع خبره!

وقفت أمي على باب الفرن: مين؟ القط؟

فأسرعتُ أقول: وهو ده معقول يا جماعة؟ ده حتى مسرور طيب خالص.

فعادت تقول كأنها تندب عزيزًا عليها: والنبي ما في غيره، الصحفة سيباها بخيرها دلوقتي، وقارية آية الكرسي عليها.

قلتُ كأني أدافع عن متهم بريء: طيب دوري هنا ولا هنا.

فقالت: أبدًا يا ابني، والنبي ما فاتته، آه يا ناري لو أشوفه كنت أكله بأسناني.

وكأنما جاء القط على السيرة، فقد سمعْنا وقْعَ أقدام خفيفة تهبط على الدرج، ورفعنا عيوننا فوجدنا مسرورًا يندفع نحونا وهو يلعق شفتيه بلسانه، وكأن الدنيا ليست على باله. صرختْ أمي وجرت نحوه، وهجمت عليه بجريدة طويلة كانت قد أعدتْها لمثل هذه المناسبة. ونظر إليها مسرور نظرة استغراب، وحاول أن يفهمَ حقيقة الأمر، فلمَّا وجد أن المسألة جدٌّ وليس فيها هزار، هرب بجلده عائدًا إلى السطوح، وهي تجري وراءه بالجريدة وتصيح: تعال يا خاين، يا قتَّال القتلة، منك لله.

كان القط قد تمكَّن من القفز على الساتر الخشبي وأصبح في مأمن من أن تنالَه يدُ أمي أو جريدتها التي لسعت ظهره لسعتين طيبتين. فلما أيقن من نجاته التفت وراءه كأنه يريد أن يتفاهم ويعرف سرَّ هذه الثورة عليه. وراحت أمي تلاحقه بلعناتها: «روح ربنا ينتقم منك بحق دي الليلة. كده تبيِّت العيلة من غير عشا.»

ولقد بتنا حقًّا من غير عشاء، وصعبت علينا صحفة السمك، وازدادت شماتة أبي بمسرور، وأخذ يدلل على بعد نظره قائلًا: «مش قلت لكم، دي القطط كلها من الشيطان.» وجلست أمي على الحصيرة ووضعت يدها على خدها، وجاءت الخادمة فجلست إلى جوارها كالكلب المجهد المريض، وهي تلهث من النط والجري وراء القط. وراح أبي يقول: ده عامل زي ناكر ونكير، أصل القطط كلها كده، تاكل وتنكر.

قالت أمي في حزن: كنت فاكراه من جنس تاني، أمال رومي ليه؟

فعاد أبي يقول: شوفي يا أم إبراهيم، إن شالله يكون قط من الجنة، عارفة الجنة، ولا حتى من الهند، أهو قط والسلام.

قالت أمي: قسمتنا، واللي كان كان.

فقال أبي: يا شيخة ده حتى القطط ملعونين من عهد سيدنا سليمان عليه السلام.

يومها داريت وجهي خجلًا. وماذا أقول دفاعًا عنه؟ وهل هذه عملة تعملها يا مسرور؟ القصد، أكلنا من الحاضر، والليلة فاتت والسلام.

وغاب مسرور، يوم، اثنين، ثلاثة، أسبوع، ومسرور لا يظهر له أثر ولا نعثر له على دليل، يا ترى أين أراضِيك يا مسرور؟ هل أنت حي أو ميت؟ هل دهسك قطارٌ أو وقعت في بير؟ شغلنا عليه وبدأنا نستوحش طلعته، ونشتاق إلى جلسته في الشمس، وجريه على السلم، ونومه على حصيرة الصلاة، وناو، ناو، ناو، كأنها بكاء طفل.

وبدأت أمي تحن إليه: «والله يا ابني كان مالي علينا الدار.» وتنظر إلى السلم وتتذكر صورته: «ما أحلى طلعته نازل كده يتهز زي سبع الليل!» وبدأت تستحضر في مخيلتها كلَّ مآثره وأفضاله: «والنبي ده كان عاقل خالص، لما كنت أقعد أشرب القهوة يتسحب جنبي بشويش ويبص لي قوي، سبحانك يا خالق يا عظيم، زي ما يكون واحد عجوز.»

فأقول لها: مش عارف إيه اللي غيَّره على الآخر.

ويدفعها حنانها الفطري، فتقول: «ربنا اللي يعرف الظالم من المظلوم، يمكن يا ابني كان بريء واحنا اللي ظلمناه.»

فأضحك قائلًا: «إحنا ليه؟ إنتي لوحدك اللي ظلمتيه.»

فتقول أمي: «أي والنبي يا ابني، ندر عليَّ يا مسرور لو رجعت تاني لأعملك صحفة سمك لوحدك!»

وعاد مسرور أخيرًا. إنه مثل كل القطط، يأتي على السيرة. وقف على الساتر الخشبي قليلًا كأنه يتعرف على الجو، فلما رآنا نشخص إليه مذهولين، وندعوه ونُطمْئِنُه على نفسه، هرول يجري نحونا، وهات يا ناو، ناو.

ولكن «مسرور» كان قد تغير، صارت كبرياؤه المحبوبة مع الزمن شيئًا حزينًا مجروحًا، وبدأ يميل إلى العزلة، كنتُ أعود إلى البيت فأفتش عليه في كل مكان حتى أعثرَ عليه فوق السطوح، أو في بير السلم، رأسه بين ذراعيه، ونظرته كسيرة، وجسده ممدد كأنه أبو الهول، فإذا رآني مقبلًا عليه يرفع عينيه الحزينتين الواسعتين إليَّ قليلًا ثم يعود إلى إطراقه وصمته، وإذا انحنيتُ عليه لأصالحه وأربت على ظهره، وأتحسس فروته الناعمة، طفق يموء مواء متقطعًا مبحوحًا كأنه يريد أن يقول: لِمَ لا تتركونني وحدي؟ واعتدنا مع الأيام أن نراه راقدًا على الساتر الخشبي كأنه تمثال فرعوني صامت، حتى الأصناف التي كانت تُعجبه لم تعدْ تحرك فيه ساكنًا؛ فلا السمك ولا اللحم يؤثر فيه، وازداد عطف أمي عليه وكأنها تعتذر عن ذنبها في حقِّه، ولكنه لم يكن يزداد إلا نفورًا، حتى أصبح كما قالت أمي في ربع حاله، جلد على عظم.

وانقلب حزنُه وصمته مع الزمن عصبية وتحفزًا، إذا اقترب أحد منه ليدلله أو يداعبَه كشر عن أسنانه، وإذا زاد فيها وقف شعره كالإبر وتقوس ظهره، وزمجر وزام، وربما خربشه وعض يده، لم يسلم أحدٌ من شرِّه، ولم يَعدْ أحدٌ يتجاسر على الاقتراب منه، وصار كما قالت أمي مثل ضبع الليل.

إلى أن كان يوم ارتكب فيه جريمتَه التي لا تُغتفر؛ كانت لأمي صومعةٌ كبيرة في حجرة الفرن، وضعت فيها الأرنبة الكبيرة التي ولدت سبعة صغار كالكتاكيت، كلها لحم في لحم، كانت ترعاها بنفسها، وتدس لها الأكل في الصومعة، وتغلق عليهم باب الفرن في عناية وحذر، لا لم تكن العِرسة هي السبب، إن القط، بقدرة قادر، هو الذي اقتحم الصومعة ذات ليلة، ليلة أسود من وجهه، وراحت أمي تفتش على الأرانب الصغيرة، وتدس لها حزمتين من البرسيم وإذا بها ترى «مسرور» خارجًا كالنمر المفترس، وفي فمه أرنبان، وجرت وراءه ولكنه كان قد اندفع أمامها كالوحش وهرب بفريسته إلى السطوح «الحقوا يا أولاد، القط أكل الأرانب!» وجرينا وراءه ولكنه أفلت من أيدينا. فعدنا إلى الصومعة نفتش على بقية الأرانب، كان القط قد أتى عليها جميعًا، ليلة في ليلة، ولا من شاف ولا من دري.

كانت كل محاولة للصلح مع مسرور قد تبدَّدَت.

أصبحنا أمام وحش حقيقي، ومن يدري؟ إذا تركناه في هذه المرة فهل يقف عند حد؟ لقد أصبح حبيبُنا وأملنا ولعبتنا هو عدونا الأول.

ووضعنا الخطط للقبض عليه. وكان أبي أكثرَنا حماسًا، وراح يردد قوله: ده مش قط، أنا عمري ما شفت قط بالشكل ده؟

وظهر مسرور أخيرًا، نزل على السلالم يتهادى بخطواته المتزنة، وما كان لأحد منا أن يتأخر أو يهرب، وتأهبنا للانقضاض عليه، كل واحد من ناحية، وفي يد كلٍّ منا ما يتيسر: غابة طويلة، أو مقشة، هجمنا عليه. كنتُ أنا الذي قبضتُ عليه، وبيدي هاتين اللتين طالما طوقناه في حنان وضعته في زكيبة وأغلقتها عليه، وصاحت أمي: خذوه على طول على الترعة.

وحملتُ الزكيبة على ظهري، ومسرور يتلوى في داخلها كأنه وحش مقيد بالسلاسل، وسارت الخادمة ورائي، تمد يدها لتضربه على رأسه فيهبط إلى قعر الزكيبة وهو يموء مواء متقطعًا مبحوحًا.

كانت مهمة قاسية، لقد كان عليَّ أن أُغرق مسرورًا، وأرسلتُ الخادمة تبحث عن حجر كبير، فعادت تحمله بين ذراعيها فرِحة متحمسة مقتنعة بأنها تقوم بعمل رائع وعظيم، وقذفتُ بالحجر في داخل الزكيبة، وارتطم برأس «مسرور» المحبوب فصرخ صرخة ضعيفة ضاعت في أعماق سجنه الصغير، ويظهر أنه أحسَّ بمصيره، وعرف ألَّا فائدة من مقاومته فلم يَعُد يتحرك أو يستجير، ورفعتُ الزكيبة وقذفت بها في الترعة فارتطمتْ بالماء ثم غاصت إلى قرارٍ سحيق، ومع أني كنتُ مقتنعًا بما فعلت، وما ندمتُ عليه يومًا، إلا أن الحزنَ يعصر قلبي حين أذكر أن «مسرور» المسكين قد مات على يدي أنا دون غيري.

هذا المخلوق العزيز المغمض العينين، من كان يصدق أنه سيصبح طاغيةً مخيفًا؟!

ولكن هل جنى عليه أحد؟

وهل كان في وسعنا أن نفعل غير ما فعلناه؟!

١٩٥٥