وضع المجنون في المجتمع إبَّانالعصور الوسطى
لم يكن الجنون الوارد في المقالات البحثية الطبية مماثلًا بالطبع لذلك الجنون الذي يتعامل معه المجتمع بشكل ملموس؛ فالمجنون الذي نقرأ عنه في الكتب مختلفٌ عن منظر المجنون الذي نراه «على أرض الواقع». ما هي ممارسات الغرب في العصور الوسطى إزاء الجنون، ذلك الجنون الحقيقي المُجرَّد من أي زخارف بلاغية؟
المحبة والضعف
الإحسان والمساعدة فضيلتان أساسيتان في الديانة المسيحية في العصور الوسطى، وتعني كلمة الضعف بمعناها الشامل: المريض، والمُعْوِز، وعابر السبيل، وبالرجوع إلى الأصل اللغوي والاشتقاقي للكلمة، نجد أنها تعني «الضعفاء» بوجه عام. يرى القديس توما الأكويني أن الإحسان يربطنا بالله من خلال المحبة، في حين أن الرحمة أو الرأفة (التي يتبعها تقديم العون والمساعدة) تجعلنا نتمثل بالله. وهكذا نقرأ في كتاب «القاعدة»، الذي كُتِب حوالي سنة ٥٤٠م على يد القديس بنوا (بنديكتوس)، ما يلي: «لا بد قبل كل شيء من الاهتمام بمساعدة الضعفاء والعاجزين، فنخدمهم كما لو كنا نخدم المسيح بذاته.»
اعتبارًا من القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلادي، تزايدت أعداد المؤسسات الاستشفائية، في الوقت الذي شهدت فيه بعض المدن تطورًا ملحوظًا (مثل إيطاليا على وجه الخصوص). كما تأسس العديد من الأخويات لخدمة المرضى في المدن الكبرى، مثل رابطة الروح القدس التي أُنشِئت في مطلع القرن الثالث عشر الميلادي وكانت مراكزها الرئيسة تقع في روما ومارسيليا. وكانت هذه الملاجئ تستقبل المُعْوِزين من كل الفئات، وهم في أغلب الأحيان من المتشردين والمتسولين، ومن ضمنهم عدد قليل من المجانين … وكانت اللوائح تنص على «القيام، في جميع أيام الأسبوع، بالبحث عن المرضى الفقراء والمساكين في الشوارع والميادين.» ولكن، في الواقع، هذا لا ينبغي أن يدفعنا للظن بأن المُعْوِزين، على الرغم من كثرة عددهم في العصور الوسطى، كانوا يتهافتون على التوافد بأعداد غفيرة على هذه المشافي المنشأة حديثًا. كما أن هناك فئتين، على الرغم من التعارض الموجود بينهما إلى أقصى درجة، فإنهما رفضتا «الاحتجاز» في المشفى، وهما: «الفقراء المستورون» (يطلق هذا الاسم على أَعِفَّة الفقراء الذين تأبى كرامتهم أن يظهروا في صورة مُعْوِزين؛ ولذا يحاولون إخفاء فاقَتهم)، والمتشردون، وهم في حالة صحية أفضل من العَجَزة، بل لِنقُلْ: إنهم عَجَزة مزيفون، ولكنهم مع ذلك، أشبه بالذئب الهزيل المذكور في الحكايات الرمزية، يسعون إلى «التحرك حيث يريدون دون أن يقيد حريتهم شيءٌ». بالنسبة إلى أولئك الذين ينتمون إلى الفئة الأولى، والأكثر أحقية بالشفقة والعطف، كانت المشافي تتولى تقديم الصَّدَقَات وخدمات الرعاية إليهم في المنازل.
ومن وقت لآخر، تكشف السجلات الطبية للمشافي الرئيسة عن دخول حالات من فاقِدي الرُّشْد. في مشفى مولن، ورد في سجلات الحسابات الخاصة بنهاية القرن الرابع عشر بعض النفقات التي صُرِفت لرعاية المجانين على النحو التالي: ٣٠ فلسًا (عملة نقد معدنية) «لتغذية، وإشباع، وإعالة رجلٍ مسكينٍ وفقيرٍ مجنونٍ وفاقدٍ لعقله»، أيضًا أُنفِقَ مبلغ ٢٠ فلسًا لعمل سرير صغير لتنام عليه راهبة «مصابة بجنون الهياج [و] لتقييدها إليه». في مشفى باريس، خُصِّص للمختلين عقليًّا أسِرَّة معينة مغلقة بالكامل بحيث تكون شبيهة بالزنزانة، مع عمل نافذة صغيرة لمراقبة المريض وأخرى كبيرة لتقديم خدمات الرعاية الطبية والتغذية. كما تم تزويد بعض الأسِرَّة الأخرى بأحزمة قوية (لتقييد المريض عند الضرورة). كان الاهتمام منصبًّا بشكل عام على التفكير في كيفية احتواء المريض والسيطرة على هياجه. «يقتضي الطب، كما يقول بارثولوميوس الإنجليزي، وهو اختصاصي في تبسيط العلوم في القرن الثالث عشر، أن يُقيَّد المجانين حتى لا تكون هناك ذرة شك في إمكانية إيذائهم لأنفسهم أو للآخرين.» وهذا لا يعني التعامل بقسوة من باب التخاذل في رعاية المريض، وإنما كإجراء وقائي لاستحالة مراقبته بصفة مستمرة.
إذا كانت نهاية العصور الوسطى قد شهدت ظهور مصطلحات جديدة فيما يتعلق بالمشافي، وذلك مع الاتجاه نحو «التخصص»، و«عَلمَنة» الوظائف وتقديم مزيد من الخدمات الطبية والصحية؛ فإن الطبيب قلما كان موجودًا في المشافي التي أُنشِئت في العصور الوسطى؛ فلم يكن يشكل ركنًا أساسيًّا من أركان المؤسسة الطبية. وإذا أردت أن ترى طبيبًا وهو يمارس مهام عمله، فلتبحث عنه في مكان آخر، «في المدينة»؛ حيث ستجده مشغولًا بتقديم خدماته لقِلة نظير أجر، أو مُكرِّسًا كل وقته وجهده للعمل كطبيب خاص لإحدى الشخصيات من ذوي النفوذ. إن واجب المحبة يفرض على الطبيب معالجة الفقراء بالمجَّان، ولكن هل من الوارد أن تقوم أي أسرة باستدعائه دون أن تكون قادرة على دفع أجرته، بل ودفع تكاليف الأدوية التي لم تخلُ منها حقبة العصور الوسطى؟ وفي الواقع، زخرت هذه الفترة بالعديد من المؤلفات في مجال الصيدلة، نذكر منها على سبيل المثال كتاب «فضائل الأعشاب» أو كتاب «مخزن الدواء والترياق» لنيكولاس ساليرنيتانو، الذي توالت طبعاته منذ القرن الثالث عشر الميلادي، بالإضافة إلى نسخة شبه رسمية من الأقرباذين؛ أي دستور الأدوية المعروفة في ذلك الزمن.
الهوس، السَّوْداوِيَّة، الصرع، النوام، كل هذه الأمراض نجد لها أدوية، وبأنواع متعددة: مواد مستخلصة بالإغلاء، نقيع، شراب، حبوب أو أقراص، وكذلك زيوت، مراهم، لبخات، لزقات طبية توضع على رأس حليق، ومُعَطِّسات [أدوية مسببة للعطس]. وتنقسم أدوية الجنون الموروثة عن العصور القديمة إلى نوعين كما يلي: المهدئات والأفيون والمَغْد (جنس من النباتات من الفصيلة الباذنجانية) مثل اليبروح أو البلادونا؛ والمُقَوِّيات أو المُنَشِّطات مثل الأفسنتين، والينسون، والقُرَّاص، والنعناع البري، والكزبرة، والقويسة أو المَرْيَمِيَّة، والهال، وغيرها. كانت هذه النباتات، والتي نادرًا ما تُستخدم وحدها دون إضافات أخرى، تدخل في تركيب مستحضرات طبية معقدة. فعلى سبيل المثال، يدخل في تركيب الدواء المضاد للكآبة أو السَّوْداوِيَّة ما لا يقل عن مائة مادة، من بينها مَسْحَةٌ مِن مادة مستخلصة من أنواع من الصراصير في بيزنطة. وتندرج المُعَطِّسات المضاف إليها الفلفل تحت فئة المُقَوِّيات أو المُنَشِّطات (وليس كما قد نتخيل، فئة الأدوية المُفَرِّغَة). نضيف إلى ما سبق مضادات التشنج التي تؤخذ في صورة لَعُوق عن طريق الفم [مستحضر طبي طري أو لين كالمعجون]، وكان يجرى تركيبها من خلال وصفات معقدة، ولكنها كانت تحتوي دائمًا على عنصر أساسي؛ وهو إفرازات القندس (وهي مادة مستخلصة من الغدد التناسلية لحيوان القندس الواقعة بجوار الخصيتين)، أو المسك (ويُستَخلَص من غدة كيسية في بطن نوع من الظباء يسمى غزال المسك). وأخيرًا، نضيف إلى القائمةِ الأدويةَ المُفَرِّغَة؛ نظرًا لاستمرار الاعتقاد في نظرية الأخلاط البشرية. وفي بعض الأحيان كان يوصف الخربق الأبيض والخربق الأسود (الأقل حدة) معًا كدواء مضاد للسوداوية، ولكنهما لم يحققا نجاحًا كبيرًا، ولم يلقيا الاهتمام نفسه مثلما حدث في العصور القديمة؛ فقد ظهر منافس آخر لهما، وهو الأدوية المُقيِّئة مثل الجوز المقيِّئ، وفطر الغاريقون، وجذر زهرة البنفسج، وغيرها. ولكن ابتداءً من عصر النهضة، انتقل الخربق تدريجيًّا إلى مجال الصور الاستعارية والمجازية. فها هو المُعلِّم تيودور «يجري عملية تطهير وفقًا للقواعد المتبعة» للشاب جارجانتوا باستخدام «خربق من مدينة أنتيسيرا»؛ حتى يخلصه بهذه الوسيلة من أي «تشويه أصاب المخ أو أي عادة سيئة استقرت به.» وعلى الرغم من ذلك، ظل هناك مؤيدون من بين الأطباء لاستخدام الخربق.
كما أُدرِجَت أدوية أخرى، وهي مضادات التشنجات التي كان يتم إعدادها عن طريق الاستخلاص بالإغلاء أو الحقن الشرجية، بالإضافة إلى استخدام العَلَقَات، وعمليات الفصد، في قائمة العلاجات المُفَرِّغَة. وفيما يتعلق بعمليات الفصد، فقد كانت شائعةً للغاية في القرون الأخيرة من العصور الوسطى، وكانت خاضعة لقواعد صارمة، وفقًا لسن المريض والموسم ومرات تكرارها. على سبيل المثال، اختيار الوريد الذي يُشَق لإجراء عملية الفصد، يختلف تبعًا لحالة المريض، إذا كان مصابًا بالسَّوْداوِيَّة أو مصابًا بجنون الهياج.
ولم تتوقف أدوية الجنون عند هذا الحد، بل نجد أيضًا المعالجة المائية، سواء بحمامات الماء الساخن أو الفاتر أو البارد، ورغم أنها لم تنل الاهتمام نفسه الذي نالته في العصور الوسطى، فالأطباء كانوا يصفونها كعلاج للاضطرابات العقلية؛ فقد كَتَب جيلبرت الإنجليزي (القرن الثالث عشر الميلادي) أنه «في جميع الأحيان، يعتبر الحَمَّام مفيدًا بالنسبة إلى مرضى السَّوْداوِيَّة؛ لأنه يُبدد الأبخرة التي تحيق بهم وتعذبهم، مما يطرد الأخلاط الزائدة ويصحح المزاج.» كما أخرج هذا الطبيب نفسه من إطار التفكير النمطي حينما نَصَح بأن يُجرى إيقاظ المصابين بالنوام عن طريق الصراخ في آذانهم مع نطق اسمهم والنفخ في البوق و… جرِّ إناث الخنازير من أرجلها أمام أسِرَّة المرضى.
هكذا نقترب من الطرق العلاجية القوية التي ستبلغ فيما بعد، مع تقدم طب الأمراض النفسية، أَوْجَ «مجدها». يقترح أرنو دي فيلنوف إجبار المصابين بالهوس على البكاء إما بتخويفهم وإما بضربهم بالسوط أو بالعصي. عمليات الكي [بإحداث شَق على شكل علامة الصليب] التي تُجرَى على رأس حليق، يمكن تمديدها، في الحالات القصوى وخاصة في نوبات الصرع المتكررة، بإجراء عمليات ثَقب لعظام الجمجمة. وأخيرًا، كما كتب بارثولوميوس الإنجليزي «إذا كانت عمليات التطهير أو العلقات الطبية غير كافية، نلجأ حينئذٍ إلى فن الجراحة لشفاء المرضى.»
بعيدًا عن هذه الحالات القصوى، نجد كل النصائح المتوارثة من العصور القديمة فيما يخص قواعد الحفاظ على الصحة والنظافة، واتِّباع أنظمة غذائية متوازنة، وممارسة التمارين البدنية بشكل معتدل، ومقاومة أفكار الهوس والهذيان، والعلاج بالموسيقى. وقد كان «العلاج النفسي» أقل حظوة في العصور القديمة. نجد أن الشخص المصاب بالسَّوْداوِيَّة، إضافة إلى اتباع نظام غذائي، وتناول العقاقير، والخضوع لعمليات الفصد، وتهيئة مناخ ملائم له وموسيقى مفرحة؛ كان يُنصَح قبل كل شيء بالخضوع لمعالجة سيكولوجية. غير أنه في العصور الوسطى كان الاهتمام منصبًّا على العلاج الجسدي أكثر من «المعالجة النفسية»؛ لأن هذه النصائح كانت تُسدَى إلى المريض من أجل «تدفئة القلب والمخ والكبد».
وعلى أي حال، نحن بعيدون كل البعد عن الاعتقاد السائد في العصور الوسطى فيما يتعلق بعدم جدوى معالجة الجنون. علاوة على ذلك، هذه الترسانة الطبية لا تُعد شيئًا بالمقارنة مع رواج رحلات الحج العلاجي. وقد كانت هذه الرحلات شائعة للغاية في اليونان القديمة، ثم انتشرت على نطاق واسع في سياق الإيمان العميق بالمسيحية؛ فقد كانت العلاجات التقليدية باهظة الثمن، بينما رحلات الحج، وخاصة المحلية منها، في متناول الجميع. وكان هناك لكل مرض، ولكل جزء مصاب بالجسد، قديسُه الشافي. بل كان البعض يربطون بين المرض واسم القديس الشافي؛ فنجد على سبيل المثال «داء القديس يوحنا» كناية عن الصرع. وتعَدَّد القديسون الذين اشتهِروا بشفاء الجنون، ولا يتسع المجال الآن لذكرهم جميعًا. كان هناك قديسون على الأصعدة «المحلية» و«الإقليمية» و«الدولية»، وكان الناس يأتون للتضرع إليهم من جميع أنحاء أوروبا. كان عددهم حوالي خمسين قديسًا، هذا دون احتساب القديسين «العموميين»، الذين لم يكونوا متخصصين في شفاء مرض ذي طابع خاص كالجنون.
وبالطبع، كانت مدينة جيل (بلجيكا حاليًّا) أكثر الأماكن التي يقصدها الحُجَّاج شهرة. ويعد هذا المكان مكرسًا للقديسة ديمفنا، تلك الأميرة الأيرلندية التي عاشت في القرن السابع الميلادي، والتجأت إلى هذا المكان حينما لاذت بالفرار لتهرب من ملاطفات أبيها لها. ولكن للأسف! وجدها الوحش وقطع رأسها. ثم جاءت الملائكة وثبتت رأسها على عنقها قبل دفنها، ومنذ ذلك الحين سرعان ما أصبح ضريحها مزارًا مبجلًا ومقصدًا يحج إليه أولئك الذين «فقدوا عقلهم»؛ أي المجانين الذين أصبحت هذه القديسة بمنزلة شفيعة لهم اعتبارًا من القرن العاشر الميلادي. وأمام تدفق الحجاج المتزايد على هذا المكان، بُنيت به كنيسة واسعة في القرن الثالث عشر الميلادي. وشُيِّد مبنًى ملحقٌ بالكنيسة لإيواء المجانين الذين يحُجون إلى هذا المكان. غير أن الحُجَّاج كان عددهم كبيرًا لدرجة أنهم كانوا يقيمون في بعض الأحيان لدى أحد السكان، وهكذا، أصبحت جيل أول مستعمرة للمختلين عقليًّا في الغرب.
ومن الأماكن الأخرى التي كان يقصدها الحُجَّاج، بلدية لارشان، في منطقة جاتينيه، وكان هذا المكان مكرسًا لشفيع آخر للمجانين، وهو القديس ماتورينوس، الذي كان يهتم بهذه الفئة أيضًا خلال حياته في روما. برز تخصص هذا القديس في شفاء الجنون في وقت متأخر، ولكن سرعان ما ترسخ الاعتقاد في شفاعته حينما اعتاد المستشفى الرئيس بباريس إرسال فاقدي العقل إلى مزاره. وقد تم إنشاء العديد من «المزارات الفرعية» — وذلك بتخصيص كنيسة صغيرة على اسم القديس داخل الكنيسة الكبيرة ووضع تمثال بسيط للقديس بها — بحيث تكون بمنزلة مزارٍ محلي لأولئك الذين لا يستطيعون القيام برحلة الحج إلى لارشان، وخاصة أن السفر لم يكن بالأمر الهين في ذلك الزمن. فما كان يهم بشكل أساسي هو «اقتياد المريض إلى القديس ماتورينوس». وسرعان ما أصبح الأمر معروفًا، لدرجة أنه ظهر تعبير شعبي دارج له مدلول سلبي أو بالأحرى ازدرائي، فكان يقال كناية عن شخص مجنون أو غير متزن في أفعاله: «لا بد من اقتياده إلى القديس ماتورينوس!» وبالطبع يمثل هذا التعبير إهانة إذا كان الخطاب موَجهًا بشكل مباشر إلى الشخص المعني. أما الحِج، بمعناه الذي ظهر في المجمع الفاتيكاني الثاني، فكان يتم دائمًا في عيد العنصرة (يُعرَف أيضًا بعيد حلول الروح القدس على تلاميذ السيد المسيح).
كما كان يجري اصطحاب المجانين إلى بلدية هابر، في شمال فرنسا؛ من أجل التضرع إلى القديس أكير (حيث كان يقال هناك «داء القديس أكير»). وقد أدى نجاح رحلات الحج إلى مزارات القديسين، اعتبارًا من القرن الثاني عشر الميلادي، إلى إنشاء «مشفًى» لعلاج المجانين في عام ١٢١٨م. وكان المجانين يأتون إلى بلدية سان مينو، في مدينة بوربونيه؛ طلبًا لشفاعة القديس مينو (أو مينولف). كما كانوا يذهبون إلى بلدية سان ميان (إقليم إيل وفيلان حاليًّا) للتضرع إلى القديس ميان، وإلى بلدية لوكمينيه (إقليم موربيهان حاليًّا) الواقعة أيضًا في منطقة بريتاني بفرنسا للتضرع إلى القديس كولومبان. كما كان كثيرون يتوافدون على ضريح القديس ديزييه في منطقة الألزاس، وهناك أيضًا، كان بإمكانهم الإقامة في منازل القرويين. نذكر أيضًا، حتى لا يتبقى إلا الأضرحة الرئيسة والكبرى في فرنسا، مزار القديس فلورنتين في بلدية بونيه (في إقليم الموز بفرنسا)، ومزار القديس جرا في إقليم أفيرون، ومزار القديس فرونت في بيريجو (حيث كان التشفع بهذا القديس أمرًا معروفًا وثابتًا، ثم أضِيف إليه قديس آخر يُدعى القديس ميموار)، ومزار القديس هيلدفرت في بلدية جورنيه-أون-بريه. وفي هذه الكنيسة، كان المرضى يتشفعون برفات القديس؛ طلبًا للشفاء من الجنون ومن الصاعقة، يا له من ترابط «مستنير» بين الاثنين!
كانت رحلات الحج العلاجي للاستشفاء من الجنون تمثل في العصور الوسطى مشهدًا مذهلًا ومخيفًا في الوقت نفسه. وبالطبع لم يكن المرضى يأتون بمفردهم، وإنما كان يصطحبهم بقوة وبحزم أناس آخرون. وبطبيعة الحال، كان هؤلاء المرضى إما مصابين بالذهول وإما هائجين وإما غاضبين وساخطين. وكان يتم دفعهم بشدة، أو حملهم بشكل يعيقهم عن الحركة، على مِحفَّات أو نَقَّالات، أو أيضًا على نوع آخر من الأسِرَّة يشبه النعوش بشكلها المزعج والمحزن. وكان يجري تهديد المرضى الأكثر عندًا وتمردًا بضربهم بالسوط. أما الممسوسين (وسنتحدث عنهم لاحقًا)، فقد لعبوا دورهم باقتناع؛ حيث كانوا يتخبطون ويطلقون صرخات حادة ويتفوهون بألفاظ تجديف (الكفر بنعمة الله والكلام عليه بالشتم) وسباب. وكان سكان هذه المناطق يخرجون من منازلهم ليتمتعوا برؤية ذلك المشهد المدهش. وكانت الدعابات التي يطلقها هؤلاء القرويون وتعليقاتهم الساخرة، إضافة إلى صراخ الأطفال ونباح الكلاب وقرع الأجراس في بعض الأحيان، كل هذه الأصوات، تضفي مزيدًا من الصخب والفوضى على هذا المشهد.
وبالطبع، لم تكن هذه المراسم الطويلة تتم في هدوء؛ فالمجانين، الذين كان يتم عادة إلباسهم رداءً باللون الأحمر أو الأبيض، تذكيرًا بالرداء الذي وضعه المسيح وقت الصلب والآلام؛ لم يكونوا جميعًا يخضعون بسهولة وعن طيب خاطر إلى كل هذه الطقوس، فكان أولئك الأكثر هيجانًا يبقون مُلجَّمين في أسِرَّتهم أو مقيدين إلى جدار مزود بحلقات حديدية على «دَكَّة المجانين». وكانوا كثيرًا ما يُجلَدون بالسوط؛ وذلك لشيوع الاعتقاد بأن المجانين يسكن جسدَهم شيطانٌ، وبناءً على ذلك، لا يُوجَّه الضرب إلى المريض، وإنما إلى الشيطان المستقر في غلافه الجسدي.
إقصاء
ولا يتعلق الأمر بالخوف من المجنون، وإنما باحتياجه إلى الرعاية، وبضرورة مراقبته عندما تتجاوز أعراض مرضه حد القصور النفسي والعقلي لأولئك الذين يُطلق عليهم «المساكين بالروح». وتعد عائلة المجنون، أو مجتمع الأهالي الذين يعيش بينهم إذا كان وحيدًا، مسئولة عنه مسئولية مدنية، في حالة شروده أو تركه هائمًا على وجهه، مثل الحيوانات التي يقارنه القانون العرفي بها إلى حد كبير، ولكن مع فصل أحدهما عن الآخر بالطبع. وتجدر الإشارة إلى أن المجنون، حتى وإن لم يكن بالضرورة خطيرًا، قد يرتكب عمليات تخريب أو سلب ونهب، وقد يُخِلُّ بالأمن العام، أو يزعج الآخرين على أقل تقدير، حتى إن بعض الأقوال المأثورة في العصور الوسطى تشهد على ذلك؛ فنجد مثلًا: «مِن المجنون، لا بد من أن نحترس»، أو «في اليوم الجيد، تخلص من المجنون.» كما كان المجنون بمنزلة مُتنفَّسٍ لأفراد المجتمع. فبعيدًا عن تعاليم الإنجيل، كان الناس يسخرون منه والأطفال يركضون وراءه، هذا إن لم يقذفوه بالحجارة؛ مما يقلب الآية التي كانت سائدة في العصور القديمة، حيث كان المجنون هو مَن يقذفهم بالحجارة، أما في العصور الوسطى فأصبح الناس هم الذين يطاردون المجنون، (ولكن، هل هناك احتمال في أن يكون الاثنان مجانين؟)
وهكذا، نجد أن المجانين على اختلاف أنواعهم — سواء أكانوا هائجين أم خائري القوى، يمارسون العنف أم لديهم نزعة للانتحار، مُخربين ومُشعِلين للحرائق أم وقحين (لم يكن هناك اهتمام بتشخيص نوع الجنون، بقدر ما كان يهم مراقبة السلوكيات الناجمة عنه) — كان يجري حبسهم واحتجازهم من قِبل عائلاتهم، سواء بشكل مؤقت أو بشكل دائم، إما في زاوية بالإصطبل، وإما في حجرة صغيرة رُتِّبَت على عَجلٍ تحت سلالم مخزن الغلال، وإما في كوخ صغير في آخر الحديقة. وإذا كان أحد الأقارب (ذلك أن العائلات كانت أكثر عددًا فيما مضى) يمتلك المال اللازم، فقد كان يعهد بقريبه المجنون إلى إحدى الجماعات الدينية. وتخصصت الأديرة البنديكتية في قبول الحالات المماثلة. وبعضهم كان يعيش بمفرده في مسكن متداعٍ أو كوخ حقير بعيدًا عن القرية؛ حيث كانوا يعيشون على السرقة والنهب بدلًا من استجداء المعونات والمساعدات الخيرية. وبطبيعة الحال، لا نجد في السجلات المحفوظة أي تعداد لأولئك المجانين. هل كان عددهم كبيرًا؟ على الأرجح لا، ولكنهم كانوا موجودين بالفعل.
وبخلاف القتل الفعلي، يمكن أن يؤدي جنون الهياج إلى أن يتخذ المجتمع قرارًا بتقييد وحبس أحد أفراده في السجن، خاصة إذا لم يستطع أي شخص من عائلته أو من المحيطين به رعايته وكفالته. ففي عام ١٤٠٦، في مدينة كارنتان، كُلِّف حداد ﺑ «إحكام غلق زنزانة بها جيوم موجييه، وهو مجنون وأبله وفاقد لعقله. وتم إيداعه السجن بعد أن أُلقِي القبض عليه من قِبَل ضباط تابعين للملك؛ وذلك للحماقات والتصرفات الشاذة والغريبة التي كان يقوم بها، فضلًا عن رفض أي أحد من أصدقائه استقباله.» وفي مدينة أميان، في ١٣ يوليو ١٥٠١، قام أعضاء مجلس البلدية بحبس «شخص مجنون» يُدعى جيهان كوشي في أحد أبراج بوابة أوتوا؛ وذلك لأنه حاول قتل رقيب.
أما فيما يتعلق بتقييد المجانين المصابين بالهياج والسيطرة عليهم، فقد تدفق الحبر غزيرًا من أقلام فاعلي الخير في نهاية القرن الثامن عشر الميلادي، ومن بعدهم من أقلام العديد من المؤرخين المعاصرين، ليروي بشاعة هذا المشهد بما يشمله من حلقات حديدية ثقيلة تُدمي الأجساد، وصوت قعقعة الأغلال الكريه (ناهيك عن البرد والجوع والحشرات الطفيلية القذرة)، بالإضافة إلى سادية الحراس، والقسوة المفرطة في التعامل، وذلك في عصر لم يكن يُرى في المجنون إلا «طبيعته الحيوانية»؛ تلك الطبيعة الحيوانية الشهيرة. وهذا تفسير خاطئ. فيما بعد، تداعت السجون التي شُيِّدَت في هذا العصر، وأصبحت الأبراج أثرًا بعد عين. أما عن الحراس، فقد كانوا قليلي العدد وفي الغالب عاجزين. ومن ثم بات من السهل الهرب. وكان الحبس المشدد المتمثل في استخدام الأقفاص الحديدية لاحتجاز السجناء السياسيين، (في سجن الباستيل على سبيل المثال أو في سجن جبل القديس ميشيل)؛ يمثل «سجونًا داخل السجن»، خاصة بالنسبة إلى أولئك الذين هربوا من قبل. مثلما حدث مع كولاس فافيرول؛ ذلك المجنون الهائج الهارب الذي أُلقِي القبض عليه حين كان «يجوب الشوارع»، ثم وُضِع في قفص حديدي «حتى لا يؤذي الناس».
ومن الجدير بالذكر أن حبس المجانين المصابين بالهياج لم يكن يتم كعقابٍ لهم، وإنما كإجراء احترازي. وكان هناك إدراك من جانب المجتمع لعدم مسئوليتهم عن أفعالهم، كما يشهد بذلك القانون العرفي لبلدة بوفيزيه كما يلي: «لا يُحاكَم المجانين مثل الآخرين؛ لأنهم لا يدركون ما يفعلون.» ويعدُّ العددُ الإجمالي لمرتكبي جرائم القتل، الذين جرت محاكمتهم وحُكِم عليهم في أغلب الأحيان بالإعدام، ثم قَدمت الأسرة طلبًا إلى المحكمة «لتخفيف الحُكم» بدعوى إصابة المتهم بالجنون وما يترتب عليه من عدم مسئوليته عن أفعاله (بحسب ما ورد في المادة ٦٤ من القانون الجنائي)؛ يُعدُّ عددًا كبيرًا نسبيًّا. ومع ذلك، نجد أنه في بعض القضايا، نظرًا لفداحة الجريمة المرتكبة ولشدة تأثر الرأي العام بها؛ كان القضاة ينسون طرح السؤال المتعلق بمسئولية الجاني عن أفعاله، وكانوا يصدرون حكمهم بإرسال المسكين إلى المحرقة أو إلى ساحة التعذيب على عجلة الموت. وهكذا، تُعد الجريمة، نوعًا ما، في حد ذاتها هي التي نبتغي معاقبتها بشدة، ولكن يتم ذلك من خلال المجرم، غير المسئول عن أفعاله.
بعيدًا عن هذه الحالات المتطرفة، اختص القانون المدني بالنظر في الوضع القانوني للمصابين بالجنون. وفقًا للمادة المستمدة مباشرة من القانون الروماني، كان يصدُر في أغلب الأحيان حكم بعدم الأهلية المدنية ضد المجانين من ذوي الأملاك. وبالتالي، لم يكن في وسعهم الاحتفاظ بهذه الأملاك أو توقيع أي عقود. كما لم يكن باستطاعتهم المثول للشهادة أمام المحكمة. غير أن بعض الأطباء، مثل موسى بن ميمون الذي عاش في القرن الثاني عشر الميلادي (ولكنه مارس الطب في الشرق، في بلاط السلطان صلاح الدين الأيوبي)، شَدَّدوا على مفهوم فترات الصحو والاستنارة التي يتعين أن يُعطى المريض خلالها كل حقوقه المشروعة كأي مواطن. ومن جانبه، أقر القديس توما الأكويني بأهمية مفهوم فترات الصحو. وقد اهتم القانون العُرفي الإنجليزي اهتمامًا بالغًا بحماية أموال وممتلكات المختلين عقليًّا، أما عن القيِّمين عليهم، في حالة الحَجْر، فلم يكن يتم تعيينهم إلا عقب الانتهاء من إجراء تحقيق وافٍ ودقيق.
كما كان القانون الكنسي يحد من ممارسة المجانين للأسرار المقدسة. فلم يكن بمقدورهم إبرام عقد زواج أو إبداء الموافقة الشرعية اللازمة لإتمام مثل هذا الاتحاد بين الزوجين. وفي بعض الأحيان، كانت تُرفَع دعاوى بطلان في هذا الصدد. ولكن، أيمكن منعهم من المعمودية؟ هذا سؤال نموذجي؛ نظرًا لأن الأغلبية الساحقة من الأطفال يتم تعميدهم بعد فترة وجيزة من ولادتهم. ولكن الإجابة شائقة. كلا، يجيب القديس توما الأكويني؛ وذلك لأن البشر — على عكس الحيوانات — يملكون روحًا عاقلة. وإصابتهم بالجنون ليست إلا حدثًا عرضيًّا أدى إلى فقدانهم للعقل. وهي نفس الإجابة التي أعطاها القديس توما الأكويني فيما يتعلق بالتناول من القربان المقدس (سر الإفخارستيا). وعلى الرغم من ذلك، كان الخوف من تدنيس قدسية خُبز الذبيحة أو القربان المقدس عظيمًا لدرجة أن المجانين، وقت ممارسة هذا السر الكنسي، لم يكونوا يتقدمون للتناول منه، إلا إذا كانوا على شفا الموت.