المشفى العام
ماذا عن «الاعتقال الكبير»، ذلك الحدث المفاجئ الذي كان له وقع الصاعقة والمتمثل في إنشاء المشفى العام بباريس في عام ١٦٥٦؟ وما علاقة الحمقى بكل هذا؟ يُعد عام ١٦٥٦ عامًا هامًّا في تاريخ الجنون والطب النفسي؛ مما يستوجب التوقف عنده بالبحث والتقصي والاستكشاف العميق. في الفترة نفسها تقريبًا، انتشرت لوحة تحمل نقشًا باللغات الفرنسية والهولندية والألمانية. وكانت تحمل العنوان التالي: «معلم الحجاج التنابلة، حضرة رئيس دير المُعْدَمين الماكرين»، نرى في هذه الصورة متسولًا قصير القامة، مُلْتَحيًا وماكرًا، متشحًا بلباس غريب أشبه بزي الحج، عبارة عن قبعة واسعة ووشاح مزدانين بزخارف كثيرة على هيئة محار سان جاك. تبدأ الرباعية بالبيت الشعري التالي: «يا له من حاج غريب يصلي بتراخٍ!» هذا الرسم الكاريكاتوري وغيره من الصور الهزلية والرسوم الساخرة التي طافت أرجاء أوروبا المسيحية تبدو غير متوافقة مع الروح الإنجيلية، ومتناقضة تمامًا مع الحماسة المتقدة لفعل الخير والإحسان، التي كانت دافعًا أساسيًّا وراء إنشاء المشافي الأولى في القرون الوسطى، والتي كانت تنظر إلى الفقراء باعتبارهم أعضاء متألمة في جسد المسيح. فماذا حدث؟
احتجاز المتسولين
في أواخر القرون الوسطى وفي النصف الأول من القرن السادس عشر، أدت المصائب التي انتشرت في ذلك الزمان إلى تضاعف عدد الفقراء في جميع أنحاء أوروبا. فيما يتعلق بمنطقة حوض البحر المتوسط، يُقدِّر فرناند بروديل عدد الفقراء في ذلك الوقت بما يتراوح ما بين ١٢ و١٤ مليونًا؛ أي ما يعادل ٢٠٪ من السكان. بالطبع، ليس هؤلاء جميعهم متشردين ومتسولين، بيد أنه حتى لو لم يكن هناك إلا عُشر هذا العدد، لما كانت مشكلة الشرطة — التي طرأت بالتبعية — لتصبح أقل حدة: مَن هم هؤلاء المتشردون؟ تشمل هذه الفئة — على سبيل المثال وليس الحصر — الأفراد الذين يعانون من البطالة الموسمية والعاطلين «المحترفين»، والحجاج سواء أكانوا حقيقيين أم زائفين، أو الواعظين، و«الأوغاد» [الجنود المشتتين]، والعاهرات، و«الشيوخ الهرمين»، والمعوَّقين، والمكفوفين، والمصابين بالجرب وغيرهم من «المُشوَّهين» (ومن بين هذه الطائفة الأخيرة نجد المختلين عقليًّا والمصابين بالصرع)، والبوهيميين، «المصريين» والغجر الذين هاجروا إلى أوروبا الغربية في أعقاب الغزو التركي، والذين تم إقصاؤهم وطردهم من مواطنهم الأصلية، والفرنجة الحقراء المتَّصِفين بالوضاعة والخسة و«مراقبي الطريق»، والأطفال المهجورين … إلخ.
وقد وجهت السلطات العامة والنُّخبُ الكثيرَ من اللوم إلى هؤلاء المتشردين: فكان يُنظر إليهم باعتبارهم السبب في جلب الطاعون أو الزهري، ذلك الوافد الجديد الذي نشر الخراب والدمار، وباعتبارهم مسئولين عن ارتكاب كافة أنواع الجرائم وأقلها التسول «بكل وقاحة» (أي بالتهديد)، والمشاركة في حركات التمرد المتعلقة بتوزيع حصص الحنطة وفي جميع «الثورات الانفعالية» الشعبية بصفة عامة، بل والتجسس لصالح جهات خارجية. ولكن بالأخص وُجِّه إليهم انتقادان أساسيان؛ أولهما: أنهم يعيشون بلا دين (إن لم يكونوا وراء نشر البدع والهرطقات). وثانيهما، وهو السبب الأكثر أهمية: أنهم عديمو النفع وكسالى. هذا «المنظور السلبي» للفقر أدى إلى الانهيار التدريجي للنظام التقليدي للصدقة الفردية، ولا سيما أن فِكَر الإصلاح (الكالفينية تدين التسول والتَّصدُّق) شهدت انتشارًا واسعًا وامتدت إلى الدول الكاثوليكية. وهكذا «بدأت أيديولوجية جديدة للاحتجاز تتعارض مع النظرية اللاهوتية القديمة المتعلقة بالصدقة» (جون بيير جوتن). ألم نرَ البابا بيوس الخامس يصدر مرسومًا باباويًّا بمنع التسول في روما، وإلا يقع المذنب تحت طائلة القانون وتتم معاقبته بالسجن، أو بالنفي أو بالأشغال الشاقة؟ ألم يفكر أيضًا في إنشاء معزل للفقراء في المدينة الخالدة؟
وهكذا، بدأت السلطات العامة تحل تدريجيًّا محل الاختصاص الكنسي في جميع أنحاء أوروبا من خلال الإجراءات التالية: علمنة المشافي، وتفويض مسألة تقديم المساعدات إلى قضاة الدوائر المحلية، وإنشاء مكاتب للصدقات في المدن الكبرى. خلاصة القول أن «الفقر المدقع أصبح مشكلة تمس النظام العام» (جون بيير جوتن)؛ ومن ثم، أصبح من الضروري مراقبة وتنظيم عملية الإحسان، وذلك باتخاذ التدابير التالية: مَرْكَزة المعونات وإعادة تنظيم المشافي، ومضاعفة المراسيم المَلَكية أو القرارات الصادرة من مجالس البلدية بشأن منع التسول، والقول بعدم وجوب إعانة الفقراء إلا في محال إقامتهم (وفقًا لمرسوم مولان، الصادر في فبراير ١٥٦٦). هل هذا يعني أن التيار السياسي-الإداري قد تفوق بالفعل على التيار الديني؟ بالطبع لا، ولن تبقى الحال على ما هي عليه في القرن السابع عشر. بل على العكس من ذلك، الرجوع إلى الكتب المقدسة في عصر النهضة يقتضي، ضمن أمور أخرى، إغاثة ومساعدة الفئات المحرومة. لكن أصحاب نظرية المساعدة، أمثال فيفيس أو ميدينا، نجحوا في تطوير الفكرة القائلة بأن الإحسان لا يمكن ويجب ألا يُمارَس دون تمييز؛ ومن ثم تتجلى ضرورة التفريق بين الفقراء الحقيقيين ومحترفي التسول، وبين العاجزين والأصحاء. فالفئة الأولى تستحق الصدقة، أما الثانية فتستحق الحبس.
بيد أن هذه النظريات لم تلقَ قبولًا بالإجماع. وقد حاولت بعض الكتابات الاعتراض والرد على ذلك بالقول بأنه من الصعب عمليًّا التمييز بين الفقراء الجيدين والفقراء السيئين، وأن إلغاء التوزيع المباشر للمعونات والتبرعات على الفقراء ينطوي على مجازفة فقد يؤدي إلى نضوب مَعِين الصدقات (حيث إن أي رغبة في مركزة المساعدات من شأنها أن تفترض حظر هذه الممارسة التقليدية). فما أهمية أننا نتعرض للخداع عندما نتصدق أو نعطي الفقير؟ يقول القديس توماس الفيلانوفي: الأمر لا يعنينا في شيء كما أننا، بالمنطق نفسه، لا نستحق الثواب الأبدي الذي نناله كمكافأة عن هذا الفعل.
ولكن هذا لا يمنع أن قمع الضالين والمتشردين، وبالأخص احتجازهم، بدأ يدخل حيز التنفيذ، ومن جديد برزت إيطاليا في الصدارة. هذه هي الحال في روما، التي كان المتسولون يتدفقون عليها من جميع أنحاء إيطاليا، إلى الحد الذي جعل مونتين يقول مازحًا في كتابه «دفتر يوميات الرحلة إلى إيطاليا»: إن «كل فرد، كان يأخذ حصته من إعانات البطالة الكنسية.» وفي عام ١٥٨١، أُنشِئ أول مستشفًى في عهد البابا غريغوريوس الثالث عشر، واحتُجِز به ما لا يقل عن ٨٥٠ شخصًا ما بين متسول وعاجز وكفيف. عقب الانطلاقة الحماسية التي رافقت التأسيس، لم تدم هذه المشافي العامة لوقت طويل، ويرجع ذلك لأسباب مالية. في نهاية القرن السابع عشر، كانت روما بصدد إنشاء المشفى الثالث للفقراء، الذي سرعان ما وصفه «عامة الناس» بأنه مأوًى للهالكين الميئوس منهم (حيث لا ينال الشخص إلا اليسير من العناية بانتظار موته). وقد أوفد البابا إينوسنت الثاني عشر واحدًا من طلائع اليسوعيين، وهو الأب جيفار، لمواجهة الرأي العام. ورد هذا الأخير على ذلك الادعاء قائلًا: إن هذا الكلام ليس صحيحًا، وحتى إذا ثبتت صحته، فإن ذلك الأمر لن يعدو أن يكون في النهاية إلا عقابًا على خطيئة التسول.
فرضت هذه المسألة نفسها بقوة في فرنسا، خصوصًا أن هذه الدولة كانت هي الأكثر اكتظاظًا بالسكان في أوروبا (فقد بلغ عدد السكان في أوائل القرن السادس عشر ١٦ مليون نسمة)، وبالتالي كان عدد الفقراء بها كبيرًا مقارنة بالمناطق الأخرى. ورغم ذلك كان لا بد من الانتظار فترة طويلة بما فيه الكفاية إبَّان ولاية الملك فرانسوا الأول حتى تتضاعف المراسيم المَلَكية بهذا الخصوص. فالإعلان الملكي الصادر في ٧ مايو ١٥٢٦ تصدى في البداية لمشكلة أكثر أهمية، كما هي الحال بالنسبة إلى روما، تتعلق بالعاصمة. هناك العديد من النماذج البشرية التي كان يجري الزج بها في السجن أمثال «المتشردين العاطلين، والأشخاص سيئي السلوك والتصرف، والأفَّاقين، ولاعبي الورق والنرد، والمُجدِّفين على اسم الله، والقوادين، والشحاذين سليمي الجسد القادرين على العمل الذين بإمكانهم كسب معيشتهم بطريقة أخرى غير التسول …» وقد سار برلمان باريس على الدرب نفسه حين أصدر في عام ١٥٣٢ قرارًا يقضي بإرسال المتسولين الأصحاء لتسليك وتنظيف مصارف المياه بباريس، ولتنظيف الشوارع والمجاري، وللعمل في المناطق المحيطة بالحصون والأسوار. وسيتم إطعامهم وإيواؤهم، ولكن مع الحرص على «إخضاعهم بشدةٍ وقسوةٍ قدرَ الإمكان». وقد صدر مرسوم ملكي مماثل في ٢٦ مايو ١٥٣٧، وتم تعميم سريانه على المملكة بأكملها.
أما هنري الثاني، الذي تولى المُلك في عام ١٥٤٧ خلَفًا لأبيه، فقد أصدر في العام نفسه لتوليه الحُكم بيانًا أشد قسوة وصرامة أوضح فيه أن الفقراء الحقيقيين المعاقين جسديًّا محرومون من الصدقات بسبب المتسولين والشحاذين سليمي البنية؛ لذا سيتم إجبار هؤلاء المدَّعين على العمل في الأشغال العامة، وسيتم وضع المعاقين المشردين الذين لا مأوَى لهم في المشافي. غير أن الإصدار المتكرر لقرارات الحظر وتغليظ العقوبات يُظهر بشكل واضح أن هذه المعركة لا نهاية لها.
في الوقت نفسه، أصبحت المساعدات منحصرة في مقرات مركزية: ففي عام ١٥٣١، أُنشِئ المركز العام لتوزيع الصدقات في ليون، كما تم تأسيس مكتب للفقراء في روان في عام ١٥٣٤، ومكتب كبير للفقراء في باريس في نفس العام. واجتيحت باريس من قِبل المتسولين، وﻻ سيَّما أنهم كانوا يأتون من جميع أنحاء المملكة. وكانت هناك مخاوف من انتشار الطاعون «الذي طالما حفظ الله المدينة منه». وتمثل الابتكار الأعظم في تعيين منشأة خاصة للشريحة الواسعة من المتشردين العاجزين، والتي تنقسم ما بين «الفقراء الحقيقيين»، المراد إبقاؤهم في المناطق الرعوية التابعين لها على أن يتم إرسال المعونات لهم في مقارِّ إقامتهم؛ والمتسولين سليمي الجسد المراد طردهم من باريس. ومن الجدير بالذكر أن مَجْذَمَة سان جرمان (الخالية من المجذومين)، التي كانت مهجورة منذ عام ١٥٤٤، أُعيد «تأهيلها» في عام ١٥٥٧، وتحولت إلى مشفى سان جرمان المخصص «لإيواء وحجز وإطعام الرجال والنساء والفقراء غير القابلين للإصلاح والتقويم أو المعاقين أو العاجزين». مساعدة واحتجاز … هكذا نشأ المشفى العام — حتى لو لم يكن تحت هذا الاسم نفسه — في فرنسا، وبالأخص في باريس، في منتصف القرن السادس عشر.
تشكل المادة ٧٣ من مرسوم مولان (مارس ١٥٦٦) أول قانون عام يصدر بشأن التسول. وقد نص على أن الفقراء التابعين لكل منطقة يجب إطعامهم ورعايتهم والاعتناء بهم «من قِبل سكان المدينة، أو البلدة أو القرية التي ينتمون إليها، سواء أكانوا من سكانها الأصليين أم من القاطنين بها، ويحظر عليهم التسكع أو الاستجداء خارج نطاق المكان الذي ينتمون إليه.» بالإضافة إلى ذلك، نص هذا القانون أيضًا على أن المراسيم الخاصة بإصلاح المستشفيات ستدخل حيز النفاذ، وهو ما يسهل قوله عن فعله، كما سيظهر ذلك مرة أخرى من خلال تكرار هذه الأحكام في العقود التالية.
في باريس، تكررت أول محاولة لاعتقال المتسولين، والتي تعود إلى عام ١٥٢٦، في عام ١٦١١ مع تأسيس، أو بالأحرى نشر، اللوائح الخاصة ﺑ «مشافي الفقراء المُحتجَزين». وتولى العشرون رقيبًا الذين جرى تعيينهم لهذا الغرض مهمة «القبض على جميع الفقراء الشاردين بالمدينة». المستهدفون بالطبع هم الفقراء المتشردون سليمو البنية، ولكن هذا لا يلغي القرار الذي ينص على إيواء العاجزين والمرضى الميئوس من شفائهم في مكان منفصل. من المرجح أن هذه المحاولة الأولى لاعتقال المتسولين على نطاق واسع في باريس كانت قد بدأت على نحو هزلي، استنادًا إلى ما ورد في المُذكِّرة الهجائية والمتبصرة إلى حد بعيد، والتي صدرت لاحقًا بعد خمس سنوات تحت عنوان («مذكرة بشأن الفقراء المحتجزين»، ١٦١٧). أُعِدت القضية من خلال حملة ملصقات في زوايا الشوارع، لإلزام «المتشردين، والكسالى المتبطلين، والمتسولين والمُسْتَجْدين، والأصحاء والعاجزين، والغرباء والأجانب» الذين ليسوا من السكان الأصليين لباريس؛ بمغادرة المدينة. ثم عُلِّقت لافتات جديدة وتم التنويه عن إعلانات في أثناء العظات التي ألقيت في الكنائس الرعوية تتعلق بإصدار أوامر استدعاء لأولئك الذين بقوا، مع التنبيه على ضرورة وجودهم يوم الثلاثاء في ساحة معرض سان جرمان في تمام الساعة الثامنة صباحًا. وقد كان تعداد المتسولين في هذه المدينة، طبقًا لما ورد في المذكرة القانونية المشار إليها سابقًا، يتراوح ما بين ٨٠٠٠ و١٠٠٠٠، ولكن لم يحضر منهم في اليوم المحدد إلا ٩١. وقد انتظر كلٌّ من رئيس مجلس النواب والنائب العام، اللذين ذهبا إلى الساحة، طوال اليوم ولكن دون جدوى. أما عن المتسولين، فقد رأوا أنه من الأفضل الاختفاء: «عُد الأمر بمنزلة معجزة، أن ترجع المدينة خالية من الفقراء كما كانت، وأن ينسحب منها المتشردون، والسائلون المُعدَمون، والفقراء السيئون.» وفي نهاية المطاف، بادر الفقراء الأكثر احتياجًا والذين يعانون من اعتلال صحي بتسليم أنفسهم في الأسابيع التالية، ليتم احتجازهم على النحو التالي: احتُجِز الرجال سليمو البنية في ضاحية سان فيكتور؛ حيث تم الشروع في بناء مشفَى لا بيتييه (الرحمة)، بينما جرى احتجاز النساء والأطفال الصغار في ضاحية سان مارسيل بسيبيون، أما العاجزون، فقد وُضِعوا في الدور الصغيرة (التي سنتحدث عنها فيما بعد). يُرجح أن العدد الإجمالي لهؤلاء المُحتجَزين كان ٨٠٠، ثم زاد تدريجيًّا حتى بلغ ٢٢٠٠ في عام ١٦١٦. وهو ما يعد نجاحًا، ولكنه نجاح نسبي، بالنظر إلى العدد الأصلي، وعلى وجه الدقة نجاح وقتي وسريع الزوال. فكما يلاحظ مؤلفنا المجهول ويقول مازحًا: «الأشياء الجيدة تحدث دائمًا في البداية وتذبل وتضمحل في النهاية!» نظرًا لأن الخُدَّام والساسَة قاوموا عمليات الاعتقال، قام المفوضون بالمكتب الكبير للفقراء بشن حرب إدارية على مديري مشافي المُحتجَزين، وإذا أضفنا إلى ذلك نقص الموارد المالية، فسنجد أن هذه الأسباب كانت كافية كي تفضي في نهاية المطاف إلى فشل عملية الاحتجاز في عام ١٦١٢. خلاصة القول أن العناصر المختفية عاودت الظهور بينما استعاد المُحتَجَزون حريتهم.
لا يسعنا دون مجازفة استخلاص الكثير من هذه المذكرة المعادية بعنف للمتسولين الذين تكتظ بهم العاصمة، ولكنها تخبرنا من خلال هذه اللهجة الحادة بتفاصيل مثيرة للاهتمام بشأن الحِيَل التي يلجأ إليها المتسولون للتنكر والظهور بمظهر العاجزين أو المعوَّقين على النحو التالي: «البعض يظهرون في صورة كُتْعٍ وقُطْعٍ، أو عُرْجٍ أو مصابين بقروح في أجزاء متفرقة من جسدهم، والبعض يجعلون بشرتهم تبدو وكأنها مشوهة، ويضعون على جلدهم دم بهائم، ويُحدِثون آثار انتفاخ وتورم ويرقان بفعل الكبريت، ويعرضون مناظر مخيفة لجسدهم، وبخاصة للأعضاء التناسلية، وغير ذلك من وسائل الغش والخداع التي لا نهاية لها، والتي يبتدعونها بهدف استغلال مصطلح «الفقر»، والاحتيال على فاعلي الخير لكسب تعاطفهم والاستفادة بالمكر والخديعة من إحسانهم، وخداع الجميع.» ومن هنا جاء تعريف ساحة المعجزات: «هي عبارة عن مكان أُطلق عليه هذا الاسم؛ لأن أولئك الصعاليك المتسولين لا يَبدون في الحقيقة عُرجًا ولا مصابين بقروح إلا خارج هذه الساحة.» تخبرنا هذه المذكرة أيضًا عن جريمة تدنيس المقدسات التي تَجاسَر هؤلاء المتسولون على ارتكابها بمنتهى الوقاحة والسفاهة: «لقد كانت الكنائس والشوارع مكتظة بالجنود، والخدَّام العاملين في صفوف الجيش، والتابعين، والفلاحين، والرجال والنساء المتسولين، إلى الحد الذي يستحيل معه التحدث عن أي أعمال أو تلاوة الصلاة الربانية دون التعرض للمقاطعة ثلاث أو أربع مرات من قِبل أولئك المتسولين، الذين كانوا يشكلون مصدرًا للإزعاج والضيق بإلحاحهم الشديد، وما يطلقونه من شتائم وتجديف على اسم الله، وسباب بأقذع الألفاظ؛ وهو ما جعل الشعب يتمتم متسائلًا باستغراب عن هذا العدد الكبير الذي يراه من المتسولين والشحاذين، وعن أقوالهم المليئة بنبرات السخط والتجديف والسباب بالألفاظ النابية والإهانات، وتراه لا يستطيع أن يصدق أنه يوجد آخرون في دور الحجز، فضلًا عن إشاعة خبر، نشره بعض من الفقراء المذكورين، يفيد بأنه قد فُتحت لهم الأبواب.»
منذ إصدار مرسوم مولان، لم تعد المشكلة باريسية فحسب، وإنما أصبحت «قومية». نذكر في هذا الصدد بيان ريشيليو الذي صدر في عام ١٦٢٥ وقضى ﺑ «ضرورة إحلال النظام وإقرار لوائح خاصة بالفقراء في جميع المدن التابعة للمملكة»، وكذلك المرسوم الملكي المعروف باسم «قانون ميشو» الذي صدر في يناير ١٦٢٩ ونَصَّ على ما يلي: «في جميع المدن التابعة لمملكتنا، يتعين الالتزام بالنظام وتطبيق القانون في مدينتي باريس وليون، فيما يتعلق باحتجاز ورعاية وتغذية الفقراء»، بالإضافة إلى المرسوم الذي أصدره لويس الثالث عشر في عام ١٦٣٩، غير أن صرامة هذا القرار الأخير (الحكم بالسجن مع الأشغال الشاقة) وجدت ما يبررها، أو على الأقل ما يفسرها في سياق حركات التمرد الشعبية التي هزت أرجاء المملكة (١٦٣٥، ١٦٣٦-١٦٣٧، ١٦٣٩ …) في نهاية عهد الملك لويس الثالث عشر، بدا وكأن المتشردين والفقراء باتوا يمثلون «فئة خطيرة» أكثر من أي وقت مضى.
استجابةً لهذه التعليمات المختلفة، قامت المدن الهامة في النصف الأول من القرن السابع عشر بتخصيص مشفًى عام، مثلما حدث بداية في مدينة ليون؛ حيث أنشئ في عام ١٦١٤ المشفى العام. ذلك البناء الذي كان يُعد نموذجًا في عمل الخير والإحسان ومساعدة الغير، ولكن هذا لا ينفي أن الاحتجاز كان حقيقة واقعة، إضافة إلى العمل الإجباري (غزل الحرير) والنظام الصارم (العقاب البدني والحبس الانفرادي). ثم جاء الدور في عام ١٦٤١ على مدينة مرسيليا «لتجهيز دار للبر والإحسان بغرض حجز الفقراء المتسولين، الرجال والنساء والأطفال اليتامى وغيرهم من المحتاجين الذين لا يملكون أي وسيلة لكسب لقمة العيش بها، حيث تتم رعايتهم وتربيتهم في مخافة الله، ويتم تكليفهم بالأعمال المتوافقة مع قدراتهم.» كما شُيدت العديد من المشافي العامة الأخرى في بعض المدن الأقل أهمية.
تأسيس المشفى العام بباريس
لا بد من دراسة المرسوم الصادر في عام ١٦٥٦، في ضوء هذه الفترة الزمنية الطويلة، المليئة بمجموعة من الإخفاقات الجزئية المتتالية، مع الحرص على فصل ذلك المرسوم عما سبقه أو تبعه من مراسيم أخرى، التي لا يقل عددها، في الواقع، عن عشرين مرسومًا ملكيًّا تقريبًا، فضلًا عن قرارات وأحكام المجالس النيابية التي حاولت — طيلة حكم النظام القديم، ولكن دون جدوى — حظر التسول وإصدار أوامر باعتقال المتسولين الأصحاء سليمي البنية.
كان عدد السكان في باريس يبلغ بالفعل ٣٠٠ ألف نسمة. وقد كانت هي المدينة الأكثر اكتظاظًا بالسكان في أوروبا والأكثر شهرة في الوقت نفسه. ولكن، كم كان عدد المتسولين في الشوارع وفي ساحات المعجزات؟ أهو ٣٠ ألف؟ نجمت عن هذا الوضع مشكلة خطيرة تتعلق بالشرطة؛ ذلك أن المتسولين، من كثرة عددهم، أصبحوا أكثر جرأة من ذي قبل، فبدَوا وكأنهم يطالبون بقوت يومهم أكثر من كونهم يستجدونه. بيد أن حالة الكلل والضجر العامة التي تفشت في أرجاء المملكة في أعقاب اضطرابات لافروند قد منحت السلطة الحاكمة فرصة استثنائية؛ لاستعادة السيطرة التي كانت متركزة في ذاك الوقت في أيدي الوَصي عَلى العَرْش، ومازاران، وكولبير أكثر من كونها في يدي لويس الرابع عشر الذي لم يكن عمره يتجاوز، في عام ١٦٥٦، ثمانية عشر عامًا. باتت الظروف مواتية، ولا سيما أن السلطة السياسية لم يكن عليها فرض إرادتها بقدر ما كان لزامًا عليها إعطاء قوة قانونية للعمل الدءوب الذي تقوم به بعض الشخصيات، التي كرست نفسها — منذ الفشل الذي حدث في عام ١٦١٢ — لمشروع إحياء «مشافي الفقراء المحجوزين» الذي سيتخذ فيما بعد اسم المشفى العام. غير أن كلمة «فشل» ليست هي الكلمة المناسبة. إن مستشفى سان جرمان موجود منذ منتصف القرن السادس عشر، وقد أسفرت المحاولات التي بُذلت في عام ١٦١٢ عن بقاء بعض الدور مثل: دار لا بيتييه (الرحمة)، وهي عبارة عن مأوًى للعاجزات المُسِنَّات والأطفال، ودار سيبيون للمسنين العَجَزَة أو ذوي العاهات والإعاقات، ودار بون سوكور (المعونة) للعاهرات، ودار سافونري؛ حيث كان يجري إلحاق الصبيان اليافعين بالعمل في مصانع السجاد والمفروشات. وتجدر الإشارة بشكل عابر إلى أنه أُجري فصل صارم بين هذه الفئات المختلفة.
أخيرًا، استعاد أنصار سياسة اعتقال المتسولين نشاطهم مع موجة حركة أعمال الخير والإحسان التي نمت في فرنسا، خاصة في الفترة ما بين ١٦٤٠ و١٦٤٩. وهكذا رأينا قضاة باريسيين بارزين يحرصون، في عام ١٦٥١، على المساهمة في إنشاء «متاجر خيرية»، ولكن الدور الرئيس اضطلعت به جماعة سان ساكرمن (القربان المقدس)، التي أُنشئت في عام ١٦٢٩. فلجنة العمل الكاثوليكية هذه — التي كانت نوعًا ما سرية — كرست كل جهودها من أجل مشروع معين يتمثل في العمل على اجتثاث التسول والقضاء على البطالة؛ مما يعني باختصار إنشاء المشفى العام، ولكن بنجاح هذه المرة. ومن الجدير بالذكر أن دوقة إيجويون، وهي ابنة أخت الكاردينال ريشيليو وكانت على صلة وثيقة بجماعة سان ساكرمن، ستلعب دورًا رئيسًا في هذا الصدد. فهي التي أرست، في عام ١٦٣٤، دعائم مستشفى جالير في مارسيليا، ثم أثارت اهتمام كلٍّ من بومبون دو بليافر، رئيس مجلس النواب بباريس، ونيقولا فوكيه، النائب العام وناظر المالية، بخصوص مشروع تأسيس مشفًى عام كبير في باريس. ومع ذلك، رأى كثيرون أن هذا المشروع غير قابل للتحقق ووصفوه بأنه «حلم يقظة يراود الأتقياء.» بعيدًا عن تأييد ما قاله ميشيل فوكو بأن العصر الكلاسيكي اخترع الاعتقال، ربما يكون من المهم أن نشرح كيف كانت محاولة ١٦٥٦ باروكية أكثر منها كلاسيكية.
جاء الإعلان الملكي الصادر في أبريل ١٦٥٦ في صورة مرسوم ملكي ينص على «إنشاء مشفًى عام يوضع فيه فقراء ومتسولو مدينة باريس وضواحيها.» يبدأ هذا الإعلان بديباجة طويلة تقر وتعترف بشكل صريح وواضح بفشل التدابير التي اتُّخذت منذ القرن الماضي «لمنع التسول والبطالة باعتبارهما مصدر كل أشكال الفوضى»، وخاصة محاولة الاحتجاز في عام ١٦١٢. ويرجع السبب في هذا الإخفاق إلى نقص الموارد المالية وعدم وجود قيادة قوية بما فيه الكفاية لتولي زمام الأمور. «وصل انحلال المتسولين إلى حدوده القصوى بفعل انغماسهم في كل الجرائم التي تستثير لعنة الله على الدول إذا لم يوضع حد لهذه الأعمال»، فضلًا عن أن العديد من هؤلاء المتسولين كانوا يعيشون في غفلة من الدين. وقد نُظِر بعين الاعتبار إلى هذه المسألة «استنادًا إلى الدافع الخيري وحده» وليس «تنفيذًا لأوامر بوليسية»؛ (إذ ننظر إلى هؤلاء الفقراء المتسولين باعتبارهم الأعضاء الأحياء للسيد المسيح لا باعتبارهم أعضاء غير نافعين للدولة.) بعيدًا عن هذا التمهيد الرائع، فإن الجزء المخصص في هذه الديباجة للحديث بإسهاب عن مروق وزندقة المتسولين، واحتقارهم للشعائر، وعلاقاتهم التي يقيمونها دون زواج، وأطفالهم غير المُعَمَّدين؛ يُظهِر — على الرغم من ذلك — أن مسألة البر وعمل الخير لم تكن هي الدافع الوحيد وراء ما تم اتخاذه من تدابير. كيف يمكن لملك «مسيحي شديد التدين» (وهي صفة شرفية مدعاة للفخر كان يمنحها الباباوات لمن يختارونه من الحكام) في سياق زمن تتمجد فيه قوة الله وتعلو قدرته، وفي ظل مملكة بدأ يجري فيها اضطهاد أعضاء الطائفة البروتستانتية وملاحقة معتنقي مذهب الجَنْسينية؛ أن يُظهِر تسامحًا إزاء فضيحة كُفر المتسولين، أولئك الذين ليسوا أفرادًا نافعين للدولة؟ كيف يمكن الاستمرار في تحمل وقاحة وتجاسر هؤلاء المتسولين وتدنيسهم للمقدسات في الكنائس، «فهم أناس يعيشون كوثنيين تحت مظلة المسيحية، يزنون طوال الوقت، ويتساكنون من دون زواج، أو يعيشون بشكل مختلط ضمن مجتمعات جنسية»؟ [تغذية وتهذيب الفقراء]، هذا ما سوف نقرؤه على الوجه الآخر للميدالية التذكارية التي صُنِعت احتفاءً بذكرى إنشاء المستشفى العام.
ولكن ما الذي ينص عليه مرسوم ١٦٥٦؟ لا شيء إلا الأوامر المعتادة بخصوص منع التسول وإلقاء القبض على المتسولين واعتقالهم، غير أن ما يعتبر أمرًا جديدًا في الواقع هو الأهميةُ التي احتلتها المؤسسات التي تحمل اسم المشفى العام، وعددها الذي أخذ يتزايد منذ ذلك الحين. ما يعد أمرًا جديدًا أيضًا هو تخصيص دخول ثابتة لا يستهان بها قادرة — بصرف النظر عن التبرعات المنتظمة — على تمويل نشاط هذه المؤسسات. بالإضافة إلى ذلك، تتجلى هذه الرغبة في الفعالية من خلال الإعداد المتزامن للائحة بغرض مساعدتنا على أن نتبين بشكل أفضل ما هي الفئات المستهدفة التي كانت تُحجَز في المشفى العام على النحو التالي: الفقراء المتسولون كافة سواء أكانوا سليمي البنية أم عاجزين، ولكن باستثناء أولئك المتزوجين (لن يتم قبولهم في سالبيتريير إلا لاحقًا)، والمجذومين، والمصابين بالأمراض التناسلية أو غيرهم من المصابين بأي مرض معدٍ. لن يتم استقبال المتسولين المكفوفين إلا بصورة مؤقتة في المشفى العام، ريثما ينضمون إلى المؤسسات التي أُعِدت خِصِّيصَى لهم (كانز فن وإنكورابل). أما الحمقى، فلم يرِدْ لهم أي ذكر، ولِمَ ينبغي ذكرهم؟ «فالمشفى» لم يكن يُقصَد به مكانٌ للرعاية والعناية الطبية. هذا صحيح، والدليل على ذلك أن الإجراء المتبع حيال المرضى بالمشفى العام يقضي بأن يجري إما نقلهم — خلال فترة تلقيهم للعلاج — إلى أوتيل ديو، وإما وضعهم في المستوصف التابع للمشفى العام (حيث سيقوم جراحان واثنان من رفقائهما الصيادلة على رعاية هؤلاء المرضى وخدمتهم مجانًا). ولكن واقع الحال أن الحمقى مرضى.
هناك مشكلة أخرى تتمثل في تمويل العملية. في البداية، كان التنافس قويًّا، على نَسَق الهبات التي قُدِّمت من قِبل الملك، أو الملكة، أو مازاران (فقد كان الملك يتبرع ﺑ ١٠٠ ألف فرنك، وهو ما يُعد مبلغًا ضخمًا، لاستقبال المتسولين المتزوجين في مبنًى منفصل عن مؤسسة سالبيتريير). ولكن النفقات الضرورية كانت كبيرة للغاية، كما كان من المتوقع أن تتزايد المصروفات مع تزايد عدد المحتجزين. وربما تُقدَّر التكلفة الأصلية للعملية ﺑ ٤٠٠ ألف جنيه، أو بالأحرى ﺑ ٤٥٠ ألف جنيه؛ نظرًا لزيادة عدد المحتجزين عما كان متوقعًا. بيد أن نصف هذا المبلغ كان لا يزال مفقودًا في عام ١٦٥٧، وقد تضاعفت خلال السنوات التالية النداءات التي تحث على العمل الخيري العام. يتناقض كل هذا مع فرضية المستشفى العام الذي يُعتبر ثمرة الحكم الملكي المطلق؛ إذ إن هذه المَلَكية، التي تَرَسخ نفوذها وتأكدت سطوتها في عام ١٦٦١، ستكون فيما بعد مسئولة بشكل جزئي عن انحسار فورة الحماس الرائعة التي كانت قد رافقت تأسيس ذلك المشروع الكاثوليكي العظيم، الذي أطلقته جماعة سان ساكرمن، والمتمثل في إنشاء المستشفى العام. في الواقع، كان القلق يساور مازاران، قبيل وفاته، ومن بعده كولبير حيال تأثير ونفوذ الجماعة، التي كانت تستأثر بجميع الوظائف الإدارية بالمشفى العام؛ حيث كان المديرون يُعَيَّنون مدى الحياة. وقد دأب كولبير بصورة منهجية على أن يتولى المناصب التي تصبح شاغرة رجالٌ لا ينتمون من قريب ولا من بعيد إلى الجماعة. هذه العلمنة وهذه النزعة إلى إقامة البيروقراطية ساهمتا في إبطاءِ ثم في إخمادِ حركة المحبة والإحسان، التي كانت قد أسهمت بقوة في ميلاد المشفى العام.
المؤسسات الاستشفائية في الأقاليم
في بداية صيف ١٦٦٢، إثر وقوع أزمة دورية ضربت بشدة النصف الشمالي من فرنسا، اكتظت مدينة باريس من جديد بالمتسولين الذين اضطرتهم المجاعة إلى ترك المقاطعات التي كانوا يعيشون فيها. وهو ما دفع السلطة المَلَكية إلى تعميم المرسوم الصادر في أبريل ١٦٥٦، على نحو رسمي هذه المرة، على جميع المدن والبلدات بالمملكة، وذلك من خلال إصدار إعلان يونيو ١٦٦٢. يكشف هذا الإعلان على الفور عن وجود اختلاف بينه وبين المرسوم السابق من حيث الحجم: فلم يُذكر في هذا البيان إلا المتسولون العاجزون؛ مما يعني أن السلطة الحاكمة وَعَتْ جيدًا الدروس المستفادة من سنوات الاحتجاز الخمس في مستشفى باريس العام، وسجلت وجود أعداد هائلة من العاجزين والمعاقين، ووصل الأمر إلى درجة إخفاء الوجود الكثيف للمتسولين الأصحاء سليمي البنية والقادرين على العمل ووضع مسألة المساعدة في الصدارة.
في بادئ الأمر ظل إعلان ١٦٦٢ حبرًا على ورق في العديد من المدن ويُعزى ذلك إلى نقص الموارد بالطبع، ولكن أيضًا إلى تنازع الاختصاص بين الأساقفة، والمجالس النيابية، والقضاة الطبيعيين، والعُمَد وقضاة البلديات، وغيرهم. وهذا هو السبب وراء تجديد الأوامر الرسمية الصادرة في عام ١٦٦٢ بقرار من مجلس الدولة صدر بتاريخ ٣ يونيو ١٦٧٣، وبخطاب تعميمي أرسله الملك في عام ١٦٧٦ إلى الأساقفة والنُّظار وأرفق طيه نسخة من إعلان ١٦٦٢. وفقًا لما ورد في الخطاب الملكي، توجد حقًّا صعوبات فيما يتعلق بإنشاء تلك المشافي العامة، ولكن الوسيلة الأولى لتذليل هذه العقبات تكمن في أن يكون لدينا إيمان قوي بأننا نستطيع بالفعل التغلب على هذه المعوقات. ولذا مجددًا، بعد مرور عام، أرسِلت مذكرة طويلة إلى جميع المدن التابعة للمملكة «حتى يرى الناس أنه من السهل بناء مشافٍ عامة». تجدر الإشارة إلى أنه ببناء المشفى العام، أصبح الأصحاء من جديد موضع اهتمام وعناية، مثلهم مثل العاجزين: «من خلال هذه الوسيلة، يحصل جميع الفقراء على العون أيًّا كانت الفئات التي ينتمون إليها؛ الأصحاء والمرضى، والمتسولين، والذين يُنظر إليهم باعتبارهم مصدرًا للخزي والعار، والسجناء، والهراطقة، والمرتدِّين.»
بيد أنه لم تتضاعف عمليات إنشاء المشافي العامة في جميع أنحاء المملكة إلا اعتبارًا من ١٦٧٠–١٦٨٠. وكانت تتم في الأغلب بناء على مبادرة من اليسوعيين، المبشرين الحقيقيين للاحتجاز. أما بالنسبة إلى أولئك المتشككين وأصحاب الرؤى الذين كانوا يتنبئون بفشل هذه المؤسسات على المدى القصير، فقد كان اليسوعيون يردون عليهم ببراعة قائلين إنه حتى لو لم تدم هذه المشافي «القائمة على التقوى» (أي على الدافع الخيري وحده) إلا أربعًا وعشرين ساعة، فإنها ستكون قد أمدت الفقراء بالخبز طوال ٢٤ ساعة. وهكذا سيكون اليسوعيون — خلال العقود الأخيرة من القرن السابع عشر — وراء إنشاء أكثر من مائة مشفًى عام، سواء عن طريق البناء أو عن طريق إصلاح وترميم عدد لا بأس به من المنشآت الكائنة بالفعل. ولكن يجب ألا تخدعنا مثل هذه الأرقام؛ إذ سرعان ما ستُطرَح مسألة قابلية هذه المؤسسات للبقاء والاستمرارية. بالإضافة إلى ذلك، فإن المشافي العامة المحلية غالبًا ما تكون ذات مساحة متواضعة للغاية؛ ومن ثم لا يمكن أن تستقبل إلا بضع عشرات من الأفراد.
الحركة في أوروبا
إن احتجاز المتشردين في أماكن يقترن فيها المساعدة والقمع تعد ظاهرة أوروبية واسعة النطاق. فقد سبق أن رأينا هذه الظاهرة في إيطاليا، حيث امتدت هذه الحركة لتشمل البندقية، وتورينو، وروما، تلك المدن التي كان يحتجز المأوى الرسولي بين جنباته ١١٠٠ شخص في عام ١٧٢٦ (أغلبهم من المسنين المُعْوِزين والأطفال الفقراء).
وفي إسبانيا، تعد أيضًا ملاحقة المتسولين ممارسة قديمة للغاية، بالنظر إلى التدابير الأولى التي اتُّخذت في هذا الصدد والتي تعود إلى القرن الرابع عشر. في القرن السادس عشر، صدر عدد لا يُحصى من المراسيم؛ مما يدل على أن الإجراءات المنصوص عليها في القوانين لم تدخل حيز النفاذ في إسبانيا، كما هي الحال في فرنسا. في نهاية القرن السادس عشر، أنشئت ملاجئ لإيواء الفقراء حيث كان يجري تجميع الفقراء في الليل مع السماح لهم بطلب الصدقة في أثناء النهار. كما تأسست منازل الرحمة، وإلحاقها، على نحو متزايد خلال القرن الثامن عشر، بإصلاحيات مخصصة للمتسولين الأصحاء سليمي البنية، وذلك مع رسوخ الفكرة القائلة بأنه من الضروري، وفقًا للفكر المسيحي، التفريق بين البؤساء الحقيقيين والبؤساء المزيفين مع الاعتراف بأن أولئك الذين ينتمون إلى الفئة الأولى هم وحدهم من يستحقون العطف والشفقة العامة. وفي الواقع، كانت هذه المنشآت متواضعة المساحة وقليلة العدد. من بين جميع البلدان الأوروبية، تعد إسبانيا بالتأكيد واحدة من البلدان التي لم يُطبَّق فيها الاحتجاز على نطاق واسع. ولكن أيتعين أن نرى في ذلك إدراكًا أكثر تقليدية لمفهوم المحبة المسيحية؟
في إنجلترا، بإمكاننا إحصاء صدور ٤٤ قانونًا ضد التسول والتشرد في الفترة ما بين ١٣٣١ و١٤٩٢ وحدها. تعددت مراكز الاعتقال وتنوعت ما بين السجون، والإصلاحيات (سجون صغيرة بالمقاطعات)، ومؤسسات التأديب والتهذيب والإصلاح الشبيهة إلى حد كبير بالمشافي العامة الفرنسية، وأخيرًا دور العمل وهي عبارة عن دور لتشغيل الفقراء. في عام ١٦٩٧، أنشئ أول بيت للعمل في بريستول. وقد نتج عن نجاح هذه المؤسسة ظهور منافسين لها، لدرجة أن معظم المدن في إنجلترا صارت تمتلك، منذ العقود الأولى من القرن الثامن عشر، بيوتًا للعمل لإعالة الفقراء وتشغيلهم، ولا سيما بعد أن أضفى القانون الذي أصدره جورج الأول في عام ١٧٢٢ طابعًا رسميًّا على هذه المؤسسة، ونصَّ أيضًا على أن أي شخص يرفض دخول بيت العمل سيتم شطبه من سجل المعونات الرعوية. وقد اتَّبعت الإصلاحيات ودور العمل (في الواقع، ثمة تشابه كبير بين هاتين المؤسستين) نظامًا صارمًا يتمثل في عدم تقديم غذاءٍ كافٍ للأفراد، وتكليفهم بأعمال إلزامية شاقَّة، وفرْض عقوبات بدنية عليهم. في أواخر القرن الثامن عشر، بدأت دور العمل تتحول إلى ملاجئ للفقراء مخصصة لاستضافة العاجزين، والمسنين، والمعوقين، والأطفال. وهنا أيضًا امتلأت هذه الملاجئ بالعاجزين المعوقين أكثر من الأصحاء سليمي البنية.
ظهرت في المقاطعات المتحدة (هولندا) مؤسسات قريبة من دور العمل، حيث يسود النظام الصارم والعمل الإجباري والعقوبات. كانت إحدى هذه العقوبات تتمثل في وضع المتسول السليم البنية العائد للإجرام في جوف بئر تمتلئ ببطء بالماء. وهكذا يتعين على المتسول أن يضخ الماء بلا توقف، لكي ينقذ نفسه من الغرق، مكتشفًا في الوقت ذاته إن لم يكن مذاق الجهد فعلى الأقل قيمته. وربما يكون هذا المنهج قد تم اختباره جيدًا لتحقيق فاعلية استثنائية. في أمستردام، وجنت، وبروكسل، وإيبر، سميت هذه الإصلاحيات بمنازل التأديب. كما كان يُطلق عليها أحيانًا منازل صقل الأخشاب، في إشارة إلى العمل الإجباري الذي كان يقتضي قشط نوع من الأخشاب المكسيكية كان يُستخدَم كصبغة حمراء. استنادًا إلى المبدأ نفسه، سميت دور أخرى بمنازل الغزل. وامتدت الحركة عينها إلى السويد، وبولندا، وروسيا …
بالطبع، لم يكن عدد المجانين داخل هذه المؤسسات أكبر منه خارجها، وفقًا للهدف الأصلي. وعلى أي حال، يبين هذا إلى أي مدًى لم يأتِ مرسوم ١٦٥٦ كحدث مفاجئ أشبه بالصاعقة، كما يوضح أن السلطة الحاكمة لم تكن «تستهدف» (لاتخاذ لغة معاصرة لا تمتُّ بصلة لروح العصر) «الجنون»، بل الكسل، وما ينتج عنه من كُفر وخطورة.
مختلُّون عقليًّا في المشفى العام
وما شأن المجانين بكل هذا؟ لم يرِدْ أي ذكرٍ لهم؛ لا في المراسيم المتعددة، ولا في الإعلانات، ولا في اللوائح الداخلية، ولا في التقارير والمراسلات. من الواضح أنهم لم يكونوا مستهدفين. وعلى الرغم من ذلك، نجد أن وضع المختلين عقليًّا المُعْوِزين هو نفسه كما كان في العصور الوسطى. ما زلنا لا نعرف أين يجب أن يوضعوا. نادرةٌ هي المدن التي استطاعت التوصل إلى حلول بهذا الشأن، كما هي الحال في سانت أومير؛ حيث تم إيداع المجانين بدايةً، خلال القرن السادس عشر، في مبنًى بعيد ملحق بالمشفى الرئيس ومخصص للمصابين بالطاعون. بالطبع، كان هناك فصل تام بين القسمين، بيد أن تلك الجيرة بدت صادمة بما فيه الكفاية بالنسبة إلى السلطات المحلية إلى الحد الذي أدى — في عام ١٦١١ — إلى بناء بعض المباني على أرضٍ مستقلة من أجل «إيواء المعاتيه والاعتناء بهم».
وبدءًا من عام ١٦٦٠، تقرر أن «يُخصص مكان لاحتجاز المجانين سواء الموجودون بالفعل بالمشفى العام أو الذين سيلتحقون بالمشفى المذكور فيما بعد.» وفقًا لما ورد في «إحدى الخرائط الخاصة بتصميم المشفى العام»، والتي أعدت في عام ١٦٥٨، كان هناك اقتراح يقضي بجمع «المُحتجَزين» في مُجَمَّع معماري واحد. ولكن مشروع التنظيم المكاني هذا لم يرَ النور قط؛ نظرًا لأن مؤسسة سالبيتريير عنيت فيما بعد باستضافة النساء والأطفال حديثي السن، بينما عنيت مؤسسة بيسَتْر باستقبال الرجال. ولكن هذا لا ينفي أن الهدف كان مثيرًا للاهتمام إلى حد كبير. كان هناك جدار متوسط ومن الأمام كنيسة واسعة مبنية على شكل صليب، وهي نفسها منقسمة إلى جزأين، يفصل بين الجنسين بشكل متماثل. وقد خُصِّص القسم الأكبر من المباني للمُحتجَزين العاملين (في البستنة، والأعمال اليدوية والنجارة وصناعة الأقفال، بالإضافة إلى تخصيص قسم مهم للمصانع)؛ مما يدل على أننا ما زلنا نعيش في وهم احتجاز المتسولين الأصحاء. ومع ذلك، كانت هناك بعض الفئات التي تمثل أقليات، والتي لم يكن يُسمح باختلاطها بالفئات الأخرى. نشير في هذا الصدد إلى أنه كان يتم، في المؤسسات الخاصة بالرجال، تخصيص أقسام منفصلة لإيواء «العاجزين»، و«المصابين بالتهاب العقد السُّلي» (بشكل عام المصابين بالأمراض الجلدية المعروفة في ذلك الوقت على اختلاف أنواعها ووخامتها: الجَرَب، والسَّعْفَة، والتورم الالتهابي سُلِّيِّ المنشأ أو ما يُعرف بسل العقد اللمفاوية، وغيرها)، والمكفوفين، وأخيرًا «المختلين عقليًّا» والمصابين بالصرع الذي يطلق عليه «داء القديس يوحنا»، كل على حدة. ونلاحظ أنه جرى بالفعل التفريق بعناية بين الصرع والجنون. كما نلاحظ أن المكانة التي احتلها الجنون بين الأمراض الأخرى تُظهر إلى أي مدًى أصبح يُنظَر إليه وفق معيار طبي.
فيما يتعلق بالمؤسسات الخاصة بالنساء، كانت النسوة «المعتوهات والمصابات بالصرع» يتشاركن الفِناء نفسه، ولكن يَسْكُنَّ في مبانٍ منفصلة بعضها عن بعض.
في منتصف القرن الثامن عشر، وصلت مؤسسة سالبيتريير إلى أعلى مستوًى سكاني لها؛ حيث بلغ عدد المقيمين بها ٧٨٠٠ سيدة وطفل في عام ١٧٦٩، من بينهم ٧٠٠ امرأة مجنونة (بلغت النسبة إذنْ حوالي ١٠٪). وهو ما يعد عددًا إجماليًّا ضخمًا في هذه الفترة، ويشكل بالتأكيد أعلى نسبة تركز في أوروبا، حتى لو لم يكن ممكنًا النظر إلى مؤسسة سالبيتريير باعتبارها بمنزلة مشفًى كبير للمجانين (ففي نهاية الأمر، ٩٠٪ من نزلاء سالبيتريير لم يكونوا من المختلين عقليًّا). سوف نتطرق فيما بعد إلى الآليات التي أدت إلى وجود هذا العدد الكبير، ولا صلة لها بآليات المشفى العام في حد ذاته. وهكذا فرض بناء جديد نفسه في كل الأحوال. في عام ١٧٦٠، بدأ تأسيس أولى الغرف الفردية في الطابق الأرضي؛ حيث كان يجري احتجاز الهائجين المضطربين، بينما كان «المختلون عقليًّا» والمصابون بالصرع يبقون في المهاجع القديمة.
وعلى أي حال، لم تكن الرعاية الطبية تحتل موقع الصدارة في مؤسسة سالبيتريير؛ بدليل وجود مطالب في عام ١٧٦٩ لتأسيس مشفًى جدير بهذا الاسم. لقد اجتاح الجَرَب المهاجع. أما فيما يتعلق بالمجنونات والمصابات بالصرع، فإذا كان أحد لم يفكر في التشكيك في إصابتهن بالمرض، فإن أحدًا لم يفكر أيضًا في علاج مرضٍ يُعد عضالًا إذا لم تتم معالجته في بدايته (في المشفى الرئيس على وجه الخصوص). وأقل ما يمكن قوله في هذا الصدد هو أن المجنونات المحاصرات في دوامة الاحتجاز لَسن في المراحل الأولى من الإصابة بالمرض. وأخيرًا، فإن الأخوات ومدبرات المنزل البالغ عددهن مائة، بالإضافة إلى الخادمات البالغ عددهن ٣٥٠ (واللواتي عُيِّنَّ من بين الفتيات المحتجزات وكُنَّ يَتقَاضَيْنَ أجرهنَّ بحصولهنَّ على حصة مُضاعفة من الغذاء) كان لديهنَّ بالفعل ما يكفي من المهام التي يتعين القيام بها فيما يتعلق بتوزيع العمل في المهاجع (العجائز كُنَّ يقُمن بغزل القِنَّب، والشابات كُنَّ يتولَّيْنَ «الحياكة والتطريز»)، وقوافل المرور الطويل على العنابر لتغيير الشراشف وتجميع الملابس المُعَدَّة للغسيل وتوزيع الأطعمة داخل مؤسسة سالبيتريير المترامية الأطراف، هذا بالإضافة إلى الإشراف والمراقبة، دون أن ننسى أيضًا المحافظة على الطقوس الخاصة بالصلاة في كل مكان، والاهتمام بالقراءات الدينية، وإقامة القداسات اليومية …
كانت منطقة «المختلين عقليًّا أو المجانين»، المعروفة على وجه التدقيق باسم («القطاع» السابع، أو حي سان بري)، «تتألف من غرف متعددة». في المنطقة التي كان يطلق عليها «المبنى الجديد» («القطاع» السادس)، نجد عنبرًا مخصصًا للمصابين بالخَرَف بالطابق الأرضي، وآخر للمعاتيه بالطابق الثاني (سان فرانسوا)، وآخر للمصابين بالصرع بالطابق الثالث (سان فياكر). وتجدر الإشارة إلى أن المصابين بالصرع، كان يُنظر إليهم على أنهم «ليسوا مجانين على الإطلاق»، علاوة على أنهم الوحيدون الذين كان لديهم الحق في حضور القداس. ومع ذلك، نجد في مكانٍ آخر داخل مؤسسة بيسَتْر مهجعين؛ أحدهما مخصص ﻟ «السذج الأبرياء»، والآخر ﻟ «المكفوفين والمغفلين». كما هي الحال في مؤسسة سالبيتريير، يُقصد بالمصابين بخرف الشيخوخة (وهو مصطلح حديث للغاية بالطبع) أولئك المُحتجَزون الذين لم يدخلوا مؤسسة بيسَتْر بصفتهم حمقى، وإنما أصيبوا بهذا الخلل العقلي مع تقدمهم في العمر.
لقد تحدثنا عن الكثير من الأمور، بعضها شديد البشاعة، فيما يتعلق بالأوضاع المعيشية، أو بالأحرى ظروف البقاء، في مؤسسة بيسَتْر. وسوف نعود فيما بعد إلى بيسَتْر للحديث عن الخطاب الخيري بها. ومما لا شك فيه أن الأوضاع في بيسَتْر كانت أكثر تدنيًا عما هي عليه في مؤسسة سالبيتريير. وقد شُددت الحراسة وفرض ممارسات وحشية؛ نظرًا لأن الرجال كانوا يشكلون خطورة كبيرة، سواء على صعيد المجرمين والجانحين أو على صعيد المجانين الذين كان يتم احتجازهم في حجرات ضيقة لا تتعدى مساحتها مترين مربعين، موجودة غالبًا في القبو حيث لا تصلها تدفئة ولا تهوية جيدة، وكان يتم تكبيلهم بالحبال بل وبالأغلال عند أول بادرة تدل على الهياج، وكانوا ينامون في معالف حجرية ملاصقة للجدار ومفروشة بقش الشَّيْلَم الذي نادرًا ما كان يجري تجديده أو تزويده بأغطية. والمجانين الذين كانوا يقومون في أغلب الأحيان بتمزيق ملابسهم، كانت لا تُوَزَّع عليهم إلا الملابس المستعملة من قِبل السجناء. قلة نادرة هم مَن كانوا يملكون القدرة على التنزه في أفنية الحي، ولم يكن ذلك بدافع القسوة بقدر ما كان ناجمًا عن نقص في الموظفين (فلم يكن هناك إلا ستة أفراد يعملون بدوام جزئي في خدمة أكثر من ١٥٠ مجنونًا، بالقطاع السابع). وكثيرون كانوا يجدون أنفسهم مضطرين في فترات الازدحام إلى تشارك غرفة واحدة مع نزيل آخر، أو إلى النوم في أسِرَّة كبيرة يتقاسمها أربعة أو خمسة أو حتى ستة أشخاص في العنابر. وتعطي اللوائح الداخلية الانطباع بأنه كان يتم تقديم كمية مناسبة من الغذاء، ولكن في هذا المجال على وجه الخصوص، شتان ما بين الوعود والواقع، كما سوف نرى فيما يتعلق بالمصحات في القرن التاسع عشر.
كما هي الحال في مؤسسة سالبيتريير، لم تكن التغطية الطبية تتسم لا بالاستقرار ولا بالجودة، على الرغم من وجود مستوصفَين أُنشئا في وقت لاحق، ولا يُعزى ذلك إلى أسباب صحية بقدر ما يُعزى إلى متطلبات أمنية. في الواقع، كان نقل المرضى بين بيسَتْر والمشفى الرئيس لتلقي الرعاية الطبية يمثل في كثير من الأحيان فرصة سانحة للقيام ﺑ «حركات تمرد» أو عمليات هروب. ولم يكن المجانين يتلقون أي علاج طبي خاص يزيد عما كان يُقَدم في مؤسسة سالبيتريير. بيد أن المخطط الكلاسيكي الذي يُظهر أن معالجة المجانين لم تكن تتم إلا في المشفى الرئيس ولم تكن تستغرق إلا فترة زمنية قصيرة، وأن أولئك الذين كان يتم وضعهم في المشفى العام كان يُنظر إليهم باعتبارهم حالاتٍ مستعصيةً ميئوسًا من شفائها؛ جدير بالدراسة من منظور نسبي بحت؛ نظرًا لأن نقل أحد الحمقى إلى المشفى الرئيس لتلقي العلاج لم يكن بالأمر النادر. كما كان يحدث أيضًا أن يُطلَق سراح بعض الحمقى المحتجزين في بيسَتْر بعد التحقق من شفائهم، أو على الأقل بعد التأكد من خمود المرض وخفوت حدته لديهم. وهناك قرار صادر عن البرلمان في عام ١٧٨٤ يُذكِّر بهذه الوقائع، وهو بخصوص فرد محتجز في بيسَتْر بسبب الاختلال العقلي، وقد ورد عنه أنه «لم يعد يعطي الفرصة لأحد للشكوى من سلوكه.» هذا لا يعني أن تلك هي النتيجة الطبيعية لتلقي العلاج وفقًا للأصول الواجبة، ولكنه يثبت على الأقل إلى أي مدًى كان هناك اعتراف بالوضع الطبي للجنون على حاله كما يتجلى من خلال الحالات المحتجزة في المستشفى العام. وقد نص القرار نفسه على أنه قبل إصدار الأمر بإخلاء سبيل أحد المجانين، يتعين على الأطباء والجراحين المنتدبين من قِبل المحكمة (التابعة لمجلس النواب) أن يقوموا بزيارة هذا المختل عقليًّا المُعافى، ثلاث مرات كل خمسة عشر يومًا.
لم يكن اعتقال المختل عقليًّا في المشافي العامة في الأقاليم يسير على الوتيرة نفسها التي تحدث في باريس، كما أن الأوضاع تختلف في هذا الشأن من مدينة لأخرى، أو تتفاوت بالأحرى وفقًا لكبر أو صغر المدينة. ففي المشافي العامة بالمدن الصغيرة، كان المديرون غالبًا ما يرفضون قبول الحمقى بحجة أن مراسيم الاعتقال المختلفة لم تأتِ على ذكرهم. ولقد كان عدم توافر أقسام مخصصة للمجانين معزولة جيدًا ومُهيَّأة على نحو ملائم يشكل عائقًا جذريًّا. في عام ١٧١٢، أعلن في مدينة ليزيو عن «إيداع أحد المجانين السجن الصغير التابع للمشفى العام. وكان هذا المجنون قد أتى إلى تلك المدينة منذ فترة وجيزة، فاتُّخِذ ضده هذا الإجراء بهدف إرغامه على العودة من حيث جاء.» فما كان احتجازه إلا لحثِّه على الذهاب إلى مكان آخر غير ليزيو ليمارس به تصرفاته وأفعاله الجنونية. وقد كان هناك العديد من المشافي العامة الصغيرة، كمشفى بايو، حيث كان المختلُّون عقليًّا يُتركون على حريتهم وكانوا يتلقون يوميًّا رغيفًا من الخبز من المشفى العام.
أما في المدن الكبيرة، مثل كليرمون فيران، فقد كان المشفى العام يجتذب، رغمًا عنه وبصعوبةٍ، المختلين عقليًّا المُحوَّلين من منطقة أوفيرني الإدارية؛ وذلك نظرًا لأنه مزود (إذا جاز القول) بأقسام خاصة؛ حيث كان يُعهَد بالمجانين إلى «سجان» لم يكن يحتجزهم عادةً إلا في الليل، وكان يتولى تنظيف الأفنية والغرف، وتغيير القش المفروش على الأسِرَّة، وتقديم الطعام لهم ومعاملتهم «برفق وإنسانية قدر الإمكان». أما المجنونات، فكان يُعهَد بهن إلى إحدى الأخوات. وقد كانت غرف المجانين قريبة للغاية من أقسام الأطفال، أما غرف المجنونات فكانت تقع بالقرب من أقسام الفتيات ذوات السمعة السيئة. ولم يكن واردًا في ذلك الوقت التفكير بأي معالجة طبية. في مشفى روان العام، كانت هناك منشآت ضخمة تضم ٢٠٠٠ محتجز (حيث كان عدد النساء ضعف عدد الرجال)، وكان المجانين والمصابون بالصرع قليلي العدد على النحو التالي: حوالي عشرة رجال وستين امرأة «مريضات بالسَّوْداوِيَّة ومجنونات». في مدينة رين، انتقل عدد الحمقى المحتجزين من حوالي عشرة في القرن السابع عشر إلى حوالي مائة في أواخر عهد النظام القديم. وفقًا لما جاء بالعديد من الكشوف الصادرة في القرن الثامن عشر، اشتملت المؤسسة على قسم مخصص للمجانين، وآخر للمجانين الهائجين يتميز عن سابقه بكونه مجهزًا بكمية هائلة من القضبان الحديدية المحيطة بالنوافذ، والأقفال والرزَّات الداعمة للأبواب من أسفل، والكلاليب المزروعة حول أسِرَّة المرضى لتقييدهم، والجنازير المُعَدة لاحتواء فورات الهياج.
في جنوب فرنسا، ولا سيما في بروفانس، يبدو أن استقبال المختلين عقليًّا سواء في المشافي العامة أو في غيرها من المؤسسات هو ثمرة بذل جهد متواصل في سياق حياة اجتماعية محلية أكثر نشاطًا وفعالية، على نسق إيطاليا وإسبانيا، وربما أيضًا أكثر اهتمامًا بأعمال الخير والإحسان. وسوف تعطينا الأمثلة التي ستقدمها مدينتا مارسيليا وإكس، وهي أمثلة لا يُستهان بها، لمحة عن مدى تعقد الصلات التي تربط بين استقبال المختلين عقليًّا الذي يعود غالبًا إلى زمن بعيد في جنوب فرنسا، وتأسيس المشفى العام …
إفلاس المؤسسة
لم يستطع مرسوم ١٦٥٦ إيجادَ حلٍّ أفضل من سابقيه لمشكلة التسول في باريس، بعد زوال النجاح العابر والنسبي للسنوات الأولى لاشتغال المشفى العام. في أعقاب حدوث مجاعة في عام ١٦٦٢، اجتاح المتسولون من جديد شوارع باريس. وفقًا لما ورد في واحد من الكتيبات العديدة التي نشرها المحافظون، «مقابل كل متسولَين اثنين كان يجري اعتقالهما، كان يأتي أربعة أو ستة للتسول في المدينة.»
إن تكرار المراسيم المَلَكية ما هو إلا دليل على فشل الاحتجاز. بدءًا من عام ١٦٦١، ورد في أحد المراسيم اعتراف بفشل عملية الاعتقال في عام ١٦٥٧ وتذكير بالهدف المزدوج من إنشاء المشفى العام والمتمثل في: «إظهار قدر من الشفقة والحنو تجاه الضعفاء يقابله قدر معقول من القسوة والصرامة تجاه الكسالى الماكرين.» ودائمًا ما كانت تُفرض عقوبات صارمة متصاعدة على المتسولين الأصحاء في حالة اقتيادهم للمرة الثالثة إلى المشفى العام، وهو ما يناقض الدليل على أنه كان يتم إطلاق سراحهم. وتعكس عمليات إطلاق السراح هذه الغير المناسبة — وهي التي أُدينت بشدة من قِبل السلطة المَلَكية الحاكمة في السنوات التالية — الضائقة المالية التي ترزح المؤسسة تحت وطأتها.
تكررت البيانات المَلَكية دون كلل أو ملل. وقد أحصى أحدها على وجه الخصوص، ضمن فئات أخرى، «العاجزين المصابين بالصرع»، ولكن لم يرد أي ذكر للحمقى (ولن يرد أبدًا في نهاية المطاف). أطلقت السياسة القمعية الفعلية التي اتبعها المشفى العام تجاه المتسولين الأصحاء سياسة المساعدة العاجلة. أصر الإعلان الصادر في عام ١٧٢٤، أكثر من غيره، على إحياء ديناميكية المشفى العام في جميع أنحاء المملكة، وذلك من خلال الإشارة بوضوح إلى اعتقال المتسولين الأصحاء. ثم أصبح إعلان ١٧٢٤، بعد هذه الانطلاقة القوية، حبرًا على ورق اعتبارًا من عام ١٧٣١، في أعقاب المجاعة التي ألمَّتْ بالبلاد في عام ١٧٢٥ وتسببت في تشريد عدد كبير من التعساء. في منتصف القرن الثامن عشر، حان الوقت لمعالجة قضيتي العاجزين (الذين كانوا يحتلون في الواقع المشفى العام) والمتسولين الأصحاء (الذين كان لا بد من إيجاد مؤسسة جديدة لإيوائهم) كلٍّ على حدة. لقد حان الوقت أخيرًا للتفريق بين المساعدة والشرطة.
في الأقاليم، كان الفشل أكثر وضوحًا؛ لأن المشافي العامة لم تحقق نجاحًا؛ لا فيما يتعلق باعتقال الأصحاء ولا فيما يتعلق باعتقال العاجزين. ومع ذلك، فقد حاولت هذه المشافي تطبيق ما جاء في إعلان ١٧٢٤، ولا سيما أنه كان قد قطع وعدًا متهورًا بالتكفل هذه المرة بجميع النفقات على حسابه. وهكذا أراد مشفى كوتانس العام، الذي أنشئ متأخرًا، أن يدبر مكانًا للمتسولين الأصحاء. ومن ثم أبدى اعتراضًا على فرسان المارشالية حتى لا يُظهِروا تعنتًا عبر إلقاء القبض على العاجزين فقط: «سيكون من الملائم […] ألا يُؤذَن لهم باقتياد جميع الفقراء على اختلاف أنواعهم من الأبرشيات المجاورة دون تمييز، وإلا فستجد المشافي أنفسها مكتظة بالمجانين، والمعاتيه، والعاجزين، وغيرهم. أولئك ليسوا بالضبط المتسولين المحترفين ولا المتشردين الذين يراد قمعهم.» لقد قيل ما فيه الكفاية. وإذا وُجِد مجانين، كما هي الحال ها هنا؛ فذلك لأنهم «سرقوا» الأماكن المخصصة للمتسولين الأصحاء. بل والأفضل من ذلك، أن بعض المشافي العامة المحدودة المساحة والمكتظة بالعاجزين من شتى الأنواع رفضت بالفعل احتجاز الأصحاء.
في معظم الأحيان، كانت المشافي العامة، التي تأسست على عَجَلٍ، تكابد صعوبات مالية خطيرة. لقد كان الوضع مترديًا، خاصةً إذا وضعنا في الحسبان مآسي الدهر. بالإضافة إلى ذلك، لم تستطع السلطة المَلَكية الوفاء بالتزاماتها على الرغم من وعودها. أما فيما يتعلق بحركة العمل الخيري التي مهدت الطريق لميلاد المشفى العام، فقد نضب معينها؛ سواء من جهة الأثرياء، أو من جهة الأناسي المتواضعين الذين كان يُطلَب منهم في كثير من الأحيان دفع مبالغ مالية معينة في نطاق ما يُسمى ﺑ «جباية الأموال». «لقد تباطأ إيقاع العمل الخيري، وأصابه الجمود، وكاد يخبو»، تلك هي العبارة التي رددها بمنتهى الرقي مديرو مشفى بايو العام في سنة ١٧٧٢.
في المشفى العام الكائن بمدينة سان لو، كان ينبغي زيادة عدد الأسِرَّة المتاحة بمعدل ثلاثة أضعاف. فقد تعين على المسئولين وضع «ثلاثة أو أربعة أو خمسة أو حتى ستة من الفقراء معًا ليناموا في سرير واحد»، علمًا بأن عدد الفقراء كان يبلغ ٢٠٧، في حين أنه كان يجب توفير مكان يسع ٦٠٠ فقير. وقد كتبت إحدى الراهبات العاملات في المشفى خطابًا إلى الوكيل الموفد في السابع عشر من ديسمبر ١٧٢٤ قالت فيه: «لقد مرضت رئيستنا منذ ثلاثة أسابيع بالحمى وأصابها الحزن من رؤية الفقراء بمشفانا يعانون، وَتَقَطَّعَتْ أحشاؤها حُزْنًا؛ لأنها ترى نفسها عاجزة عن التخفيف من آلامهم. وأؤكد لكم يا سيدي أن الإنسان الذي لا يتأثر بأوجاعهم وشقائهم ولا تتحرك مشاعره لدى رؤيتهم شبهَ عرايا في ذلك الفصل الذي نحن فيه […]، لا بد من أنه يمتلك قلبًا من حجر. أود أن أضيف فيما يتعلق بمتسولينا، أنهم أناسي مرضى، جميعهم مصابون بالصرع [؟] ومع كل هذا، فإننا نجد شيئًا من التعزية إذا استطعنا توفير مسكن وملبس لهم.» نقرأ في خطاب آخر يعود تاريخه إلى أبريل ١٧٣٣ العبارة التالية: «لقد استُهلِك تقريبًا كل المخزون لدينا من الخشب، والزبد، والشحم. واستُعمِلت البياضات (قماش قطني أو كتاني يستعمل للملابس الداخلية وسواها) بالكامل، كما ينقصنا خمر التفاح.»
في منتصف القرن الثامن عشر، لم يكن الوضع أفضل حالًا في المؤسسات الكبرى. بيد أن هذه المؤسسات كانت تمتلك دخلًا عبارة عن مبالغ مالية مخصصة لها لا يُستهان بها (متمثلة في جزء من رسوم الدخول المفروضة على بعض السلع والبضائع، والغرامات على وجه الخصوص) بالإضافة إلى الناتج الذي كانت تحصل عليه من المصانع التابعة لها. وعلى الرغم من ذلك، تجاوزت المصروفات بكثير الإيرادات، وكانت هناك محاولات في كل مكان لسد هذا العجز الضخم. فقد قام مشفى روان العام، الذي كانت تُقدَّر خصومه في ذلك الوقت ﺑ ٢١٦ ألف جنيه، بطرح قرض للاكتتاب. أما مشفى ليل، فقد تنازل عن ملكية جزء من أصوله، كما فعلت العديد من المؤسسات الأخرى. في ظل هذه الظروف، لم يكن هناك مجال لتمويل إنشاءات جديدة أو حتى لترميم وإصلاح المنشآت القائمة بالفعل. في كل مكان تقريبًا، كانت المباني التابعة للمشافي العامة، والتي لم تكن تتم صيانتها، على شفا الانهيار.