نجمة أغسطس

مؤسسة هنداوي مؤسسة هنداوي

الفصل الأول

وضعت حقيبتي فوق الرفِّ ووقفت أتأمَّل الديوان الخالي. وخلفي في الممر الضيِّق كان الرُّكَّاب يُهرعون إلى أماكنهم. وفي الخارج كان الناس يتزاحمون أمام نوافذ القطار.

تقدَّمت من النافذة فألفيت مِصراعها الزجاجي محكم الإغلاق. ورأيت من خلاله زحام المودِّعين أمام نافذة الديوان التالي. كانت شفاههم تتحرَّك بسرعة وقد مالت رءوسهم إلى الأمام وانتفخت رقابهم. ولا بد أنهم كانوا يصيحون حتى يسمعهم المسافرون من أقاربَ وأصدقاء، لكن الزجاج كان سميكًا لا يَنفذ منه الصوت؛ فقد كان القطار واحدًا من تلك القطارات الحديثة المُكيَّفة الهواء، وهي لذلك محكمة الإغلاق.

جلست إلى جوار النافذة. وبعد لحظة شعرت بوطأة الحر. وتجمَّع العرق على وجهي ففككت أزرار قميصي. وعندئذٍ تحرَّك القطار دون أن ينضم أحدٌ إلى قُمرتي. وبدأ جهاز التكييف يعمل فتسلَّلَت إلى الديوان برودة خفيفة.

مددت ساقَي أمامي مستسلمًا للمقعد. وكنا قد خلَّفنا شوارع القاهرة. ومرَّ القطار بمجموعة من المساكن الشعبية بلونها الأصفر الباهت وزواياها البارزة المتجاورة، وزحام الغسيل في شرفاتها، وأكوام القاذورات أسفلها. وجاءت بعدها العشش، ثم ظهرت بعض الحقول فجأة. ومِلت على النافذة لأرى محطة الجيزة. ومررنا بها في لمحة، ثم انطلقنا وسط خضرة كاملة على الجانبَين.

أحسست بحركة على باب الديوان فالتفت لأرى رجلًا في سترة صفراء. نهضت واقفًا. اقترب الرجل مني، ثم انحنى على المقعد دون أن يفوه بكلمة. وفي ثانية تحوَّل إلى فِراش من طابقَين.

قال مشيرًا إلى باب صغير في الحائط: الغطاء هنا.

واعتدل باسطًا قامته، ثم قال: لو عزت حاجة اندهلي.

قلت: حاضر يا فندم.

تطلَّع إليَّ مندهشًا قبل أن يغادر الديوان ويغلق الباب من خلفه.

اقتربت من الباب وأدرت مقبضه المعدِني، ولدهشتي دار في يدي وتحرَّك مِصراع الباب نحوي. أعدت إغلاقه وثبَّته بالسلسلة المعدِنية المدلاة منه. وعدت إلى مكاني بجوار النافذة.

كان هناك رفٌّ صغير إلى جوارها فوقه كوب وتحته صنبور مياه ولوحة معدِنية جذبتها نحوي فتحوَّلت إلى حوض. ملأت الكوب ورفعته إلى فمي. كانت المياه ساخنةً فاكتفيت برشفة واحدة. وتركت ماء الصنبور يتجمَّع في الحوض حتى امتلأ فدفعته إلى مكانه. وسمعت صوت المياه وهي تنصرف إلى الخارج.

أعدت الكوب إلى مكانه وجلست على حافَّة الفراش. أشعلت سيجارة وأنا أتطلَّع من النافذة دون أن أتبيَّن شيئًا مُحدَّدًا؛ ربما لأن القطار كان يسير بسرعة فائقة.

نهضت واقفًا وغادرت الديوان. كان الممر هادئًا يُضيئه نور الغروب في النوافذ. مررت بدواوين مغلقة وأخرى مفتوحة تنطلق منها ثرثرة رتيبة، وأمام إحداها جلس شاب على مقعد صغير من القماش يتحدَّث إلى الجالسين في الداخل. اختلست النظر إلى السيدة التي كان يتحدَّث معها فرمقني بنظرة عدائية وأنا أمُر من خلفه.

انتقلت إلى العربة التالية التي تناثر رُكَّابها أمام نوافذ ممرها. كان بينهم عددٌ من الأجانب. اصطدمت وأنا أمُر بفتاة أوروبية شقراء ترتدي سروالًا أسود. أحسست على ساقي بملمس جسمها اللين، وظَلِلت أُحِس به وأنا أتقدَّم إلى نهاية العربة وأعبرها إلى عربة الطعام.

اخترت مائدةً إلى جوار النافذة، وطلبت من الجرسون النوبي زجاجة بيرة. احتسيتها وأنا أتأمَّل الحقول الخضراء الخالية من أي إنسان. أُضيء نور العربة، وأصبحت النافذة مرآةً سوداء لا تعكس غير وجهي.

احتلَّ المائدةَ المجاورة لي عجوز من أوروبا وزوجته المزوَّقة في رصانة، وولدان أحدهما بلحية طويلة. ثم دخلت فتاة البنطلون الأسود الشقراء في حركة مندفعة وتوقَّفت برهةً تتلفَّت حولها. كان وجهها ضاحكًا. نظرت أنا إلى المقعد الخالي في مواجهتي ولكنها أعطتني ظهرها، وانضمَّت إلى مجموعة أوروبية أخرى تتألَّف من شابَّين وفتاة.

طلب شاب أسمر في الركن زجاجة بيرة جديدة. كان يبدو أنه من العاملين في السد العالي. وأوحت ملابسه بأنه عامل ترقَّى إلى مرتبة ملاحظ.

طلبت زجاجةً أخرى بدوري، لكن الجرسون اعتذر بأن البيرة نفدت، فغادرت العربة عائدًا إلى قُمرتي. كان القطار يهتز بشدة فاعتمدت بيدي على جدران الممر دون أن أرفع عينَي عن أبواب الدواوين، لكني لم أرَ غير جانب من فخذ امرأة كانت تُغيِّر من وضع ساقَيها.

أضأت نور قُمرتي، وأخرجت منامةً ومنشفة، وأحسست بثِقل مفاجئ في معدتي، فغادرت الديوان إلى التواليت.

أنزلت قاعدة الحمام الخشبية وجلست فوقها بعد أن رفعت ملابسي. وعندما انتهيت ضغطت رافعةً معدِنيةً صغيرةً إلى جوار يدي اليمنى، فتسلَّلت المياه تغسلني برفق. واعتدلت واقفًا أُرتِّب ملابسي، ثم استدرت أتأمَّل ما فعلت.

تذكَّرت شقة مصر الجديدة الرطبة التي أقمت فيها عدة شهور. لم تكن الشمس تدخلها إلا لِمامًا، وكان حَمَّامها معطوبًا تعجز مياهه عن إزالة الإفرازات مهما جُذب السيفون. وكانت إفرازاتي تظل في مكانها ساعات طويلةً تُطالعني كلما احتجت إلى الحوض المجاور.

ضغطت رافعةً معدِنيةً بجوار المقعد فانفصل قاعه وسالت المياه على جوانبه، واختفت إفرازاتي بثانية، ثم عاد القاع إلى وضعه نظيفًا لامعًا.

تحوَّلت إلى الحوض ففتحت الصنبور، ورأيت كرةً معدِنيةً بجواره لها طرف دقيق بارز في أسفلها. تحسَّسته بطرف أصبعي فانسابت منه دفقة خفيفة من الصابون السائل.

عدت إلى ديواني فاستبدلت ملابسي بالمنامة، وشعرت بالبرد فأخرجت الغطاء، وأخذت من حقيبتي كتابًا مُصوَّرًا عن «ميكل أنجلو»، ثم تمدَّدت على الفراش.

أحسست بجفافٍ في حلقي، وتُقت إلى زجاجة كوكا كولا فضغطت الزر المخصَّص لاستدعاء الفراش. انتظرت مدةً ولكن أحدًا لم يأتِ، فضغطت الغطاء حول أطرافي وأطفأت النور، ثم أشعلت سيجارةً جذبت أنفاسها بلذة في الظلام الذي رطَّبه جهاز التكييف.

كان الظلام شاملًا يقتحمه أحيانًا نور مصباح وحيد على الخط الحديدي، أو أنوار بلدة صغيرة نمر بها بسرعة. وتخيَّلت أني أمُر من جديد في الممر، وأن الزحام شديد. وعندما أصبحت خلف الشقراء ذات السروال الأسود لم أتمكَّن من الحركة، وانحنت هي إلى الأمام تتأمَّل شيئًا في الطريق، فانحنيت فوقها لأرى ما جذب اهتمامها.

أشعلت سيجارةً ثانيةً وأنا أحدِّق إلى النافذة، ومررت بيدي على ساقي، وفجأةً انغمر الديوان بالضوء، وألفيتني أُحدِّق إلى رَجُل يتأمَّلني من النافذة، فجذبت يدي بسرعة من فوق ساقي، وأدركت بعد لحظة أن قطارنا توقَّف بجوار قطار آخر.

تحرَّك الرجل مبتعدًا، وتبيَّنت أن الحركة من قطارنا الذي استأنف سيره، فالتففت بالغطاء جيدًا وتكوَّمت على نفسي.

***

أيقظتني أشعة الشمس في الصباح، وظَلِلت ممدِّدًا أتطلَّع إلى فضاء موحش تلوَّن بلون الرمال. غادرت الديوان إلى قاعة الطعام، وبحثت بعينَي عن فتاة الأمس الشقراء فلم أجدها، ولم أرَ أيضًا العجوز الأوروبي وامرأته والولدَين، ولا بد أن يكونوا قد غادروا القطار في الأقصر.

شربت الشاي وأنا أتطلَّع من النافذة، وبدأَت المرتفعات المجاورة تصطبغ باللون الأحمر بتأثير مناجم الحديد ولا شك، ومن ملامح المسافرين وحركاتهم أدركت أننا أشرفنا على أسوان.

ذهبت إلى ديواني وحملت حقيبتي إلى باب العربة. كان القطار قد توقَّف في المحطة وفُتحت أبوابه. وعند الباب شعرت لأول مرة منذ أربع عشرة ساعةً بحرارة الصيف والجو الخانق المترَّب.

ساعدني شيَّال في إنزال حقيبتي وحمْلها إلى خارج المحطة حيث اصطفَّ طابورٌ من سيارات التاكسي يرتدي سائقوها الجلاليب. أعطيته أجره وحملت الحقيبة وعبرت الميدان الذي تجمَّعت في أنحائه سيارات رُكَّاب كبيرة.

مشيت ببطء أنوء بحمل الحقيبة، وأجبرتني أشعة الشمس القوية على أن أُطبق من جفوني بعض الشيء.

انحرفت إلى اليسار في طريق ضُيِّق محاذٍ للنيل ومزدحم بحركة المرور. بحثت عن تليفون حتى وجدت واحدًا في دُكَّانٍ على الشارع تبيَّن أنه مكتب محامٍ. أعطاني المحامي رقم هيئة السد العالي، لكنهم قالوا لي إن لمعمل الأبحاث الجيولوجية رقمًا منفصلًا.

طلبت الرقم الجديد فجاءني صوت صبري، وعندما اكتشف أني أُكلِّمه من أسوان لم يصدِّق، وطلب مني أن أركب الأوتوبيس على الفور إلى منطقة تُدعى «صحارى» وأسأل عن مسكنه إلى جوار الجامع.

تركت حقيبتي في مكتب المحامي ومضيت إلى ميدان المحطة. أرشدني الناظر إلى سيارة «صحارى» التي تحرَّكت بعد نصف ساعة. سرنا بمحاذاة النيل الذي برزت في منتصفه صخور سوداء ضخمة. وبعد قليل عبرنا خزَّان أسوان القديم. بعدها امتدَّت الصحراء أمامنا تعترضها بين الحين والآخر سيارات مُثقلة بأحمالٍ من الصخور والرمال.

أشرفنا فجأةً على مجموعة من المجمَّعات السكنية الحديثة المتوازية، تشقُّها شوارع فسيحة مرصوفة. ووقفَت السيارة فغادرها الرُّكَّاب، وتبعتُهم عندما أبصرت الجامع.

بحثت عن عنوان المنزل الذي وصفه لي صبري فوجدته في آخِر صفٍّ من المجمَّعات. وفتح لي الباب نوبي قصير القامة عريضها، باسِم الوجه، تنحَّى عن الباب بحركة عسكرية قائلًا: تفضَّل.

ولجت صالةً صغيرةً بها مائدة معدِنية وعدة مقاعد تفتح عليها حجرتان إحداهما مغلقة استقرَّ جهاز تكييفٍ في حائطها فوق الباب. أمَّا الثانية فكانت مفتوحةً وقد بدا مكانُ جهاز التكييف فارغًا احتلَّه لوحٌ من الكرتون.

قال لي النوبي إنه يُدعى «البرديسي»، وإن «الباشمهندس» يريد مني الذهاب إلى النادي الروسي ومقابلة شخص يُدعى سليم.

دلفت إلى الحجرة المفتوحة ووقفت أتأمَّل وجهي في المرآة. وناديت على البرديسي قائلًا إني أُريد أن أحلق ذقني. ثم تحوَّلت أتأمَّل الحجرة، ورأيت أعدادًا من مجلة «الكواكب» مصفوفةً بعناية على طاولةٍ إلى جوار الفِراش. وفوق الفراش استقرَّت إحداها مفتوحةً على صورة لسعاد حسني كشفت عن جانب كبير من ثديَيها.

أحضر لي البرديسي ماكينة حلاقة وموسى وأنبوبة معجون. وضعت المعجون على وجهي فأحسست بلسعة غريبة. تأمَّلت الأنبوبة فاكتشفت أنها تحتوي على معجون أسنان، وناديت على البرديسي فأحضر لي واحدةً أخرى ألفيتها للأسنان أيضًا.

ذهبت إلى الحمام ودعكت الفرشاة في صابونة الحوض وحلقت، ثم خلعت ملابسي ووقفت تحت الدش، واستحممت بماء يقرب من درجة الغليان، ثم وقفت حائرًا لا أدري كيف أُجفِّف جسمي. وأخيرًا أخرجت منديلًا من ملابسي مسحت به جسمي. وبقيت برهةً وسط الحمام وما لبث جسدي أن جفَّ تمامًا. فارتديت ملابسي وخرجت إلى الصالة. شربت كوب الشاي الذي أعَده لي البرديسي، ثم غادرت المنزل.

بحثت عن النادي الروسي كما وصفه لي البرديسي، فألفيته مبنًى أنيقًا أُقيمَ في مدخله كشك امتلأ بالكتب والمجلات الروسية. كان المطعم في الجزء الخلفي من المبنى. وكان واسعًا نظيفًا امتلأ بالآكلين وجُلهم من المصريين. وتبيَّن أن سليم هو مدير المطعم، وقال لي إن صبري حجز لي طعام الغداء.

جلست إلى مائدة، وسرعان ما جاءني الطعام، وكان يتألَّف من ربع دجاجة بالخضار والأرز، تبعتها شريحة من البطيخ المثلَّج.

أتيت على محتويات المائدة وغادرت المطعم إلى مسكن صبري. فتح لي البرديسي بحركته العسكرية، وألفيت صبري في الصالة يتناول الطعام مع شخص آخر قدَّمه لي على أنه مهندس كبير وزميله في المسكن.

جلست في حجرة صبري أنتظره حتى جاء بجسمه المترهِّل وشعره الذي امتلأ بالبياض.

قال: لم أتوقَّع أبدًا أن تفعلها وتأتي.

قلت: ظننتَ أني أمزح.

قال وهو يجلس بجانبي على الفراش: لكن أين ستقيم؟

أشعلت سيجارةً وأجبت: لم أُقرِّر بعد. أنا في انتظار نصيحتك.

قال إنه لا يستطيع أن يأخذني إلى مسكنه لأن لزميله طباعًا صعبةً، ممَّا جعله يدعوني إلى المطعم، كما أنه من الممنوع استضافة أحدٌ في مساكن الهيئة.

قلت إني سأجد طريقةً ما.

مال عليَّ وهمس: أكل شيء على ما يرام؟

قلت: أجل. لماذا؟

قال: لا شيء. فقط هنا مكان حساس، وأنا الآن في الخمسين ولا أريد متاعب. لست أدري ما تريده بالضبط.

قلت: لا أكثر من الفرجة.

قال: وماذا تنوي الآن؟

قلت: معي بعض النقود وعنوان شخص آخر ربما تمكَّنت من الإقامة معه.

قال: وإن لم تتمكَّن؟

قلت: بحثت عن فندق رخيص.

قال: إن أسعار الفنادق الآن رخيصة؛ فلا أحد يَفِد إلى أسوان في أغسطس.

وأخرج علبة سجائره وقدَّم لي واحدة، فاعتذرت بأني لا أشرب السجائر ذات الفلتر.

شعرت بحرارة الغرفة وجوِّها الخانق. وقال صبري إنه رفع جهاز التكييف لأنه لا يحتمل برودته.

قلت: آن لك أن تتزوَّج يا صبري. ماذا تفعل؟

تنهَّد: كما يفعل الجميع.

وأشار إلى صورة سعاد حسني.

– والروسيات؟

– هذا آخر ما يجب أن تفكِّر فيه وإلا وجدت نفسك في القاهرة ووُضعت هي على الطائرة الذاهبة إلى موسكو.

أحضر البرديسي أكواب الشاي. ورويت لصبري قصة المعجون فضحك قائلًا إنه بالرغم من ذلك يتميَّز بالأمانة الشديدة ككل النوبيين. وروى لي كيف عمل مرةً في منزلِ كبير الخبراء السوفيات، وعندما كسر هذا لوحًا من الزجاج في المنزل ذهب البرديسي إلى الهيئة وقدَّم بلاغًا ضده.

استفسرت منه عن أسعار الطعام في النادي الروسي، فقال إن سعر الوجبة الممتازة لا يتجاوز ثلاثة قروش. وقال إن المطعم مُخصَّص للمهندسين فقط، ولكنه يستطيع أن يدبِّر لي الأمر بحيث أتناول فيه بعض وجباتي، أمَّا في أسوان نفسها فليس أمامي غير نادي التجديف.

فرغنا من الشاي فعرض عليَّ أن أصحبه إلى مكتبه. واستقبلنا الهواء قويًّا ولطيفًا في ظلِّ المبنى، لكن الحرارة ما لبثت أن حاصرتنا عندما تحوَّلنا إلى اليسار وعبرنا الطريق.

سألني ونحن نقف أمام شجرةٍ في انتظار السيارة التي تُقلُّه عادة: كيف حال الناس في القاهرة؟

أجبت: كما هي.

ثم ضحكت وأردفت أني ذهبت أول أمس لزيارة الرحماني في منزله. وجدته بمفرده وأمامه طبق به سمكة، وعندما أخبرته بسفري قال إن الأمور ستتحسَّن عند عودتي.

– وبماذا أجبته؟

قلت إني لا أعتقد.

– وحسنين؟

– لا يجد اللقمة؟

– وسامي؟

– يكتب في الصحف.

– لا أقرأ مقالاته.

قلت: ولا أنا.

لمحت عددًا من النوبيين بالجلاليب والعمائم بينهم صعيدي في «أفرول» الميكانيكيين الأزرق أسفل الشجرة التالية حيث محطة السيارات. كان أمامهم أوتوبيس أنيق فارغ. قال صبري إنه مُخصَّص للروس، وإنهم في البداية كانوا يركبون مع المصريين، ثم طلبوا أن تُخصَّص لهم سيارات مستقلة.

سألته عن السبب فقال: ألَا تعرف أبناء بلدنا؟ الواحد منهم يفقد السيطرة على نفسه إذا ما اصطدم باللحم الأبيض في الزحام.

راقبتُ سيدةً روسيةً ممتلئةً تقترب من الأوتوبيس، ثم ترفع قدمها وتضعها على درَجه فينبعج ردفها. وأقبلَت علينا سيارة رُكَّاب مسرعة خلت بعض نوافذها من الزجاج. تمهَّلَت أمامنا فجرى نحوها المنتظرون الذين تضاعف عددهم، لكن السائق تجاوزهم مواصلًا السير، ثم توقَّف ودار بسيارته عائدًا إلى المحطة، فتدافعوا خلفه من جديد وتزاحموا على بابَي العربة.

توقَّفت أمامنا جيب روسية تُقِل عددًا من المصريين، فركبنا إلى جوار السائق، وانطلقنا في طريق مرصوف حتى بلغنا شاطئ النيل. غادرنا العربة أمام مبنًى قديمٍ أبيض اللون تُحيط به الخضرة من كل جانب. وقال صبري إن السائق سينزل أسوان بعد ساعة، ويمكن أن يأخذني معه. فاتفقت معه على أن ينتظرني.

قادني صبري إلى مكتبٍ يُطِل على النيل. ووقفت في النافذة أتأمَّل المياه التي بدت ساكنة. أشار إلى خطٍّ من التراب ناحية اليمين تنتهي عنده المياه، وقال: هذا هو السد.

كان التراب تتخلَّله قِطع من الصخور الرمادية والزرقاء المختلفة الأحجام، وكان يرتفع إلى مستوًى منبسط من الرمال تعمل فوقه عدة آلات متحرِّكة، وينتهي بخطٍّ من البراميل المتجاورة يبدأ خلفها مستوًى جديد مرتفع من الصخور.

لحظ صبري دهشتي فقال: السد ليس أكثر من قطاعات من الصخور والرمال المختلفة الأحجام المرتبة بنظام خاص. والناحية التي نراها الآن هي الجزء الخلفي الذي يواجه القاهرة.

لم تكن ثمة حركة أمامي فوق السد فيما عدا الآلات المعدودة التي كانت تتحرَّك ببطء شديد فوق الرمال.

قلت: كنتُ أتصوَّر أني سأجد السد يموج بآلاف العُمَّال والمكن.

قال: هذا كان في المرحلة الأولى، أمَّا الآن فالعمل كله مُركَّز في قلب السد.

تحوَّلنا عن النافذة وبدأنا جولةً في أنحاء المعمل. ورأيت جهاز الجس الصوتي الذي يقيس أعماق النيل بالموجات الصوتية. ثم وقفنا أمام رفٍّ من الخشب صُفَّت فوقه قِطَع من الصخور المختلفة الألوان تُمثِّل عيِّنات من صخور المنطقة ومعادنها.

سألتُه عن أنواع الصخور فقال: إنها جميعًا من الجرانيت الذي يتكوَّن دائمًا من عِدَة معادن مختلفة الألوان ويتأثَّر لونه باختلاف نِسبها. وقادني إلى ميكرسكوب على مائدة مجاورة وقال وهو يضع شريحةً رمادية اللون من الصخر أسفله: يمكنك أن ترى بنفسك.

انحنيت على المنظار فرأيت عددًا لا يُحصى من المساحات الدقيقة المتداخلة المتباينة اللون. كان بعضها أسود اللون وبعضها الآخر ورديًّا، وكان لأغلبها شكل هندسي مُحدَّد، وبدت شريحة الصخر أشبه بلوحة تجريدية.

انتقلنا إلى عددٍ من الصناديق الصغيرة صُفَّت بجوار الحائط. كانت تضم أحجامًا مختلفةً من الرمال تبدأ من الزلط والحصى، وتتدرَّج منتهيةً بالتراب. وقال صبري إن قطاعات كاملةً من الرمال الخشنة تستخدم في بناء السد، وتُستخدَم الرمال الناعمة في تلبيس الصخور، أمَّا التراب أو الطَّمْي فيُصنع منه قلبُ السد الذي يُطلق عليه اسم النواة الصماء.

قلت ونحن نعود إلى مكتبه: يبدو أنك وجدت أخيرًا عملًا مهمًّا.

قال: أنت تمزح لكن هذه هي الحقيقة؛ فأعمال الحفر والتفجير تجري في غابة من المكوِّنات المتباينة، وأي خطأ في التكوين قد يُؤدِّي إلى كارثة.

وضرب مثلًا بمستشفى شرق أسوان الذي أُقيم خطأً فوق نوع خطير من الطين يمتص الماء بشراهة وينتفخ حجمه. ولم يلبث المبنى أن تشقَّق وانهار بعد أشهر قليلة من بنائه.

حان موعدي مع السائق فودَّعت صبري واعدًا بالاتصال فيما بعد. نزلت إلى حيث كان السائق في انتظاري، فركبت إلى جواره. سألني وهو يُدير المحرِّك عمَّا إذا كنتُ قد رأيت السد، فأجبت بالنفي. قال إني سأراه الآن لأنه سيذهب إلى أسوان عن طريقه.

انطلقنا في طريق مرصوف بين صفَّين من التلال الترابية والسفوح الجبلية. وبدأ الطريق يضيق، ثم كشف عن انحناءة إلى اليسار. أدار السائق مِقود السيارة في اتجاهها، وظهر أمامنا بغتةً أحد جنود البوليس الحربي يُشير لنا بالوقوف.

صاح فينا عندما توقَّفت السيارة أن المرور ممنوع الآن بسبب إجراء تفجير في المنطقة، فتحوَّل السائق إلى جانب مبتعدًا عن الطريق الرئيسي الذي كانت شاحنات الصخور والرمال لا تكف عن عبوره، وأوقف محرِّك السيارة.

قدَّمتُ إليه سيجارةً وأشعلت واحدة، ومضيت أرقب عددًا من العُمَّال أحاطوا بحامل فوق عجلات تعلوها بَكَرة. كانت هناك ماسورة عمودية تتدلَّى من البَكَرة وتنتهي بعمود يعمل في حركة متتالية صعودًا وهبوطًا وهو يتقدَّم إلى أسفل ينطلق منه صوت أشبه بالحشرجة. وما لبثَت أن سرَت في الآلة كلِّها عِدة اهتزازات سريعة، ثم ارتعش العمود وتوقَّف عن الحركة تمامًا، وظهر شيء من البلل عند نقطة التقاء العمود بالماسورة.

سألت السائق عن الآلة، فقال إنها من آلات التخريم التي تصنع خُرومًا عميقةً في الصخور توضع فيها أصابع الديناميت.

أخرج العُمَّال العمود، ورأيته ينتهي بقضيب كبير مُدبَّب الطرف، واستبدلوا العمود بآخر أكثر سمكًا تنتهي فُوَّهته السفلى بِكُرة، وأدَلُّوا العمود الجديد في الحفرة. وما لبثت الآلة أن استأنفت العمل، ثم توقَّفت. وارتفع العمود من باطن الأرض، وما إن وصل إلى السطح حتى ابتعد سريعًا عن الحفرة والمياه المشبَّعة بالطين تسيل من الكرة المثبَّتة في نهايته.

لحظت بين العُمَّال وجهًا أجنبيًّا أدركت أنه لا بد وأن يكون روسيًّا. كان ضخم الجثة مثل الصورة المعهودة في السينما، ويبدو أنه كان يرأس المصريين. ورأيت هؤلاء يستعدون للانصراف. وسمعت أحدهم يطلب منهم البقاء، فردَّ الآخرون بأن موعد ورديتهم قد انتهى. وانصرف الجميع فيما عدا الروسي الذي واصل العمل بمفرده.

ألقى السائق بعقب سيجارته من النافذة وأدار المحرِّك قائلًا إنه لا يطيق الانتظار أكثر من ذلك، وسيذهب من الطريق الآخر عبر الخزَّان القديم. وتراجع بالسيارة مستديرًا بمؤخِّرتها ناحية اليمين حتى أصبحنا على الطريق الرئيسي، فانطلقنا من حيث جئنا.

سألت السائق عمَّا إذا كان يُقيم في الموقع، فأجاب بالإيجاب.

قلت: ومستريح هناك؟

هزَّ كتفه: أهو أحسن من حتت تانية كتير، بس لو ما كنش الحر … تصوَّر يا بيه بنرش المراتب بالمية عشان نرطب الجو.

سألته كم يدفع إيجارًا لمسكنه فقال إنهم يقيمون في عنابر مجانية.

وصلْنا الخزَّان فعبرناه إلى الضفة الشرقية، وبعد قليلٍ أصبحنا في أسوان. كانت المدينة ما زالت تستمتع بقيلولة الظهر رغم أن الساعة أشرفت على السادسة. ولحظت لأول مرة الفنادق الفخمة الجديدة في كل مكان، وكانت كلها مغلقةً بسبب الصيف.

انطلقنا في الشارع الذي يمتد موازيًا للنيل حتى ظهر صفٌّ من المباني الحديثة تفصل بينه وبين النهر. وأنزلني السائق في ميدان المحطة، فوقفت أتأمَّل الميدان الواسع ومدخل المحطة الهادئ الذي تجمَّعت أمامه سيارات الأجرة وعربات الحنطور. وتقدَّمت من كشك صغير فاشتريت علبة سجائر، ثم اتجهت إلى مقهًى بجوار المحطة فجلست خارجه وطلبت من الجرسون فنجانًا من القهوة.

أشعلت سيجارةً وبدأت أرتشف قهوتي عندما التقَت عيناي بعينَي رجل طويل القامة يجلس على مقربة. كان يرتدي قميصًا داكن اللون وبنطلونًا رماديًّا. وخُيِّل إلي أنه يحدِّق إليَّ بدِقة. تطلَّعت إليه بعد برهة فالتقت عينانا مرةً أخرى.

تناولت رشفةً من قهوتي وأنا أتطلَّع إلى السماء، ولمحته من ركن عيني يُغادر مقعده ويقترب من مكاني. اهتزَّ فنجان القهوة في يدي، وطارت منه نقطة استقرَّت على قميصي، ووضعت الفنجان على المائدة.

أصبح الرجل بجانبي وتجاوزني وواصل السير على الإفريز. جذبت نفسًا عميقًا من سيجارتي، ثم أنهيت قهوتي ودفعت حسابي، ثم سرت على مهل في اتجاه شارع النيل.

لمحت ممرًّا وسط صفٍّ من المباني الحديثة فاتجهت إليه. توقَّفت في مدخله لحظةً ريثما تطلَّعت خلفي، لكني لم أرَ أثرًا لرفيق المقهى.

اجتزت الممر إلى الشارع المطل على النيل، وجلست على مقعد في مواجهة النهر.

كانت الشمس قد غربت لكن الضوء كان ما يزال منتشرًا. وتطلَّعت إلى فندق حديث يجري بناؤه فوق جزيرة وسط النهر، ظهرت إلى جواره مجموعة من الصخور السوداء الضخمة تتخلَّلها فجوات واسعة.

اقترب مني شاب وفتاة أجنبيان حافيا القدمَين. تهالكا بجواري، وجلسا بصمت يتطلَّعان إلى النهر.

نهضت واقفًا وعُدت إلى الميدان، وفي هذه المرة التزمت الجانب الآخر البعيد عن المقهى حتى بلغت كشك السيارات. سألت الناظر عن مكان بيت الشباب، وإذا به في نهاية شارع صغير إلى جوار المحطة مباشرة.

ألفيت البيت منزلًا صغيرًا. قرعت جرس الباب عدة مرات قبل أن يفتح لي صبيٌّ صغير. ودون أن يوجِّه إليَّ أية كلمة قادني إلى صالة خافتة الضوء جلس بها رجل ذو عُوينات أمام مائدة.

قدَّمت للرجل سيجارةً وقلت إني أُريد الاشتراك. فطلب مني أن أدفع جنيهًا. قلت: والمبيت؟

قال: عشرة قروش في الليلة، على ألَّا تزيد على ثلاث ليال.

قلت: ثلاث فقط؟ هل يمكن أن أبيت الليلة؟

مال إلى الأمام محدِّقًا إليَّ: هذا ليس فندقًا.

قلت: أعرف، وأنا دائمًا كنتُ أُريد أن أشترك، لكن الظروف لم تسنح لي.

سألني عن عملي فقلت إني أشتغل بالصحافة.

قال: لا يمكن أن تبيت قبل أن أُعد لك بطاقة الاشتراك، وهذا يستغرق وقتًا.

قلت إني أُريد أن أبيت الليلة.

سألني: هل معك صورة؟

قلت: كلا. بوسعي أن أحصل عليها غدًا.

هزَّ رأسه وتأمَّلني برهة، ثم قال: بيوت الشباب لها رسالة وليست فندقًا.

تجاوزته ببصري إلى باب بدت منه أَسِرة خالية متجاورة.

قلت: أعرف وأنا أطلب منك خدمة.

قال: أعطِني قيمة الاشتراك الآن واترك لي بطاقتك ويمكنك أن تبيت.

وقام إلى خزانة خشبية فأحضَر منها مجموعةً من النشرات وبدأ يحدِّثني عن رسالة بيوت الشباب. وأخرجت جنيهًا وبطاقتي وأعطيتهما له.

تأمَّل صورتي بدِقة وقارن بينها وبين وجهي، ثم قرأ البيانات المدوَّنة في البطاقة. وتوقَّف عند خانة المهنة الخالية: أنت قلت إنك تعمل؟

قلت: صحفي. لم أكن أعمل عند إخراج هذه البطاقة.

سألني عن المجلة التي أعمل بها فذكرت له اسم واحدة، فهزَّ رأسه ببطء وهو يتأمَّلني من جديد بنظرة فاحصة.

نهضت واقفًا وأنا أقول: اتفقنا إذن. سأذهب لإحضار حقيبتي.

– أين هي؟

قلت: تركتها في دكان.

سألني عن السبب فقلت إنها كبيرة الحجم، ومددت إليه يدي مصافحًا وأنا أطلب منه بطاقتي.

قال: اتركها معي، ألست عائدًا؟ ونظر إليَّ نظرةً غريبة.

قلت: أجل. وانطلقت إلى الخارج.

كان الظلام قد حلَّ أخيرًا. سرت بضع خطوات، ثم توقَّفت واستدرت عائدًا، ثم توقَّفت مرةً أخرى، وبعد لحظة تقدَّمت من باب المنزل وطرقته ففتح لي بنفسه.

قلت: لقد غيَّرت رأيي، سأبيت في مكان آخر عند أصدقاء، وسأشترك فيما بعد.

قال: ولماذا لم تذهب إلى أصدقائك منذ البداية؟ ما الذي جعلك تُغيِّر رأيك؟

قلت: لم أكن أُريد أن أُثقل عليهم.

أعطاني الجنيه والبطاقة وهو يضحك، ثم أغلق الباب. وقطعت الطريق المظلم بخطوات سريعة وأنا أتطلَّع خلفي، وعندما بلغت الميدان اتجهت إلى الطريق الذي قدمت منه متحاشيًا المقهى. كان حلقي جافًّا والعرق مُتجمِّدًا على وجهي. وشعرت برغبة جارفة في حمام بارد وكوب من الشاي.

بحثت عن مكتب المحامي الذي تركت به حقيبتي فأخذتها، وسألته عن فندق رخيص فدلَّني على واحد يحمل اسم «ماجستيك».

تركت شارع النيل وانحرفت في شارع جانبي إلى اليسار، وتوقَّفت ريثما نقلت الحقيبة إلى يدي الأخرى، ثم استأنفت السير، وبعد خطوات ألفيت نفسي في سوق مزدحم.

تجاوزت سينما متواضعةً من دور الدرجة الثالثة. وعثرت على الفندق الذي وصفه لي المحامي. قال لي صاحبه إن السرير في الليلة بثلاثين قرشًا. وضعت حقيبتي على الأرض وقلت إني لن أدفع سوى عشرين. واتفقنا في النهاية على خمسة وعشرين.

نادى صاحب الفندق شخصًا يُدعى محمودًا، فأقبل علينا شاب أسمر يرتدي جلبابًا حمل حقيبتي. تبعته على درج متآكل عبر ثلاثة طوابق شبه خالية. وولجنا شقةً في الطابق الرابع كان بابها مفتوحًا على مصراعَيه.

عبرنا صالةً بها مائدة وكنبة إلى حجرة مفتوحة تضم سريرَين ومائدةً معدِنيةً ودولابًا صغيرًا بمرآة. كانت أغطية الفِراش قذرة، فطلبت من محمود تغييرها. وفتحت حقيبتي وأخرجت منها منامةً وملابس داخليةً نظيفةً ومنشفة، ثم ذهبت إلى الحمام. وعندما عُدت إلى الحجرة وجدت محمودًا يُغيِّر الملاءات، فطلبت منه أن يحضر لي شايًا.

جلست على حافة الفراش. كان جو الحجرة خانقًا، واكتشفت أن الدولاب وُضع في مدخل شرفة صغيرة، فقمت إليها وفتحت بابها بصعوبة.

جاء محمود بالشاي فارتشفته على مهل، وأشعلت سيجارة، ثم أطفأت النور واستلقيت على الفراش.

***

نهضت في الصباح ينتابني شعور قديم بعدم الرغبة في الاستيقاظ. اغتسلت وارتديت قميصًا وبنطلونًا، وانتعلت صندلًا، ثم وضعت قبعةً من القماش على رأسي، وغادرت الفندق حاملًا كتاب «ميكل أنجلو» في يدي.

سِرت في حذر بين أكوام التراب والقاذورات حتى بلغت شارع النيل. ابتعت الصحف واخترت مقهًى ظهر به ركن للساندوتشات فجلست في مدخله.

أحضر لي جرسون غاضب ساندوتشًا رديئًا من الفول وكوبًا من الشاي لا طعم له. أشعلت سيجارةً وطلبت فنجانًا من القهوة، وأخذت نفسًا عميقًا من سيجارتي أحسست بعده بشيء من الدُّوَار.

ناديت على الجرسون ليأخذ حسابه. أعطيته عشرة قروش فردَّ لي اثنَين. سألته عن السبب فقال إن ثمن القهوة ثلاثة قروش. أعطيته قرشًا هبةً فاحتفظ به في يده وهو يتطلَّع إليه في استهانة، ورفع بصره إليَّ وقد ازداد وجهه غضبًا. أعطيته قرشًا ثانيًا وغادرت المقهى.

مشيت بتثاقل أبحث عن تليفون في مكان غير مكتب المحامي، وأرشدني أحد الباعة إلى مكتب التلغراف. طلبت من الموظَّف أن يَصِلني بشركة المقاولات التي تشترك في المشروع. وسألت عن نبيل فردَّ عليَّ شخص قال إنه صديقه، وإن نبيلًا غير موجود الآن. قلت له إني أحمل إليه رسالةً من أمه، وأعطيته عنوان فندقي ليتصل بي.

حاولت عبثًا عبور الطريق إلى الرصيف الآخر المطل على النيل؛ فلم تكن حركة المرور تهدأ لحظةً واحدة. وتتابعت أمامي السيارات المختلفة من عربات الرُّكَّاب الضخمة إلى الشاحنات وسيارات الركوب الخاصة، وكانت جميعًا تحمل لافتات القطاع العام أو السد العالي.

تمكَّنت أخيرًا من العبور. وتمهَّلت بجوار فتاة أوروبية في بلوجين أزرق وبلوفر أخضر بلا أكمام أبرز استدارة كتفَيها وضغط على صدرها البارز القوي. كانت قدماها متسختَين في صندل أبيض تبرز منه أظافر مطلية في عناية بلون قرمزي لامع. وكانت تضع نظارةً سوداء كبيرةً أحاطت بها بَشرة خوخية. وإلى جوارها وقف رجل بدين ملتحٍ يرتدي شورتًا ويحمل كاميرا. وكانا مستغرقَين في تأمُّل الشاطئ المقابل الذي لم يكن يبدو منه سوى الجبال والرمال.

لمحت الفتاة طابورًا من الجِمال يتحرَّك بعيدًا بين هَضْبتَين فصاحت بالفرنسية: فوالا رينيه، شامو!

والتفت رينيه على الفور وقد استعدَّ بالكاميرا ليصوِّر المعجزة المصرية.

بحثت عن النادي الذي حدَّثني عنه صبري فوجدته بناءً دائريًّا من طابقَين يمتد داخل النهر. اجتزت معبرًا خشبيًّا أوصلني إلى مدخل الطابق الأول، وصعدت درجًا حلزونيًّا إلى الطابق الثاني الذي انتشرت به الموائد وأحاطت به أبواب زجاجية عريضة تؤدِّي إلى شُرفة دائرية.

وجدت جانبًا من الظل في الشرفة تهب عليه نسمة خفيفة من الهواء. وأحضر لي صبي ممشوق القوام زجاجة بيرة. ملأت كوبًا ارتشفته وأنا أتأمَّل قاربًا يتقدَّم على مهل فوق المياه وقد انتصب شراعه ناصع البياض معترضًا الهواء بقوة.

أعدت ملء كوبي وأنا أُتابع الصبي يتحرَّك بين الموائد الخالية يُسوِّي أغطيتها ومقاعدها. لم يكن يتجاوز الخامسة عشرة، وبدا وجهه شاحب البياض، تحمل عيناه نظرةً مُتعَبةً سأمانة.

استرخيت في مقعدي الواطئ الذي صُنِع من القش، وأسندت قدمَي إلى الحاجز الحديدي المُطل على النيل، وفتحت الكتاب الذي تجعَّد غلافه بتأثير العرق الناتج عن ضغط يدي.

***

الرغبة الملتهبة في رسم الجسم العاري. ألَا يكون القديسون عراةً عندما يُصلبون؟ وقالوا إن أجسادنا قبيحة مليئة بالبثور والإفرازات. وقال إنه يجب أن يجسِّدها بالصورة التي خلق بها الرب آدم.

***

لم يكن الجانب المواجه لي يضم شيئًا آخر غير المرتفعات الصخرية التي غطَّتها الرمال، ولكني تبيَّنت ما يُشبه دَرجًا ضيقًا يصعد في الجبل إلى فُوَّهةٍ مظلمة قرب القمة.

أشعلت سيجارةً وطلبت من الصبي زجاجةً أخرى من البيرة. واحتسيت كوبي وأنا أصعد بعينَي المرة بعد الأخرى فوق درجات السلَّم الرملي حتى الفُوَّهة المظلمة.

***

شقَّ بسكينة صدر الجثة التي التفَّت من رأسها إلى قدمها في ملاءة الدفن؛ فلا غنى عن معرفة جسم الإنسان من الداخل. والكائنات البشرية يجب ألَّا تخترع، وكل قطعة جديدة من النحت يجب أن تتخطَّى التقاليد القائمة. وأدرك أن الأمر سيكلِّفه حياته كلها.

***

تناولت طعام الغداء في الشرفة. وتلاشى الظل فانتقلت إلى الداخل. وأحضر لي الصبي مزيدًا من المياه المثلَّجة وفنجانًا من القهوة، ثم دفعت حسابي وغادرت النادي.

كانت أرض الطريق ملتهبةً تسلَّلَت حرارتها إلى قدمَي من خلال الصندل. ومشيت بجوار الشاطئ. كان الرصيف الآخر يمتد بحذاء مسجد حديث ارتفعَت شجرة في فنائه. وتطلَّع نحوي رجل في قميص وبنطلون وقف مرتكنًا إلى جدار المسجد. لم يكن هناك من إنسان غيره على مرمى البصر، وبدت المدينة هاجعة.

مررت بمربع صغير من العشب الأخضر ارتمى فوقه فتًى وفتاة أجنبيان وقد بسطا سواعدها على مداها. وانحرفت في أحد الشوارع الجانبية المؤدية إلى البلدة القديمة. تطلَّعت خلفي لكني لم أرَ أحدًا.

مضيت من أمام عشرات المحلات الصغيرة التي تبيع كل شيء سويةً من الورق إلى الملاءات والطعمية. لمحت مبنى جمعية تعاونية بواجهته الخضراء التقليدية المؤلَّفة من عدة أبواب فولجته، ودفعت عند المدخل ثمن أربع قطع من الصابون، وأخذت إيصالًا قدَّمته إلى أحد الباعة، فأحضر كيسًا رصَّ فيه الصابون. ورأيته يُسقط قطعةً منه على الأرض في الفراغ الفاصل بينه وبين طاولة البيع. ظننتها زائدة. وعندما وصلت الفندق اكتشفت أني عُدت بثلاث قطع فقط.

أخذت حمَّامًا ثم تمدَّدت على الفراش بملابسي الداخلية وأشعلت سيجارة. كان جو الحُجرة خانقًا رغم أني فتحت النافذة. ورحت في النوم، ثم استيقظت على صوت محمود يناديني. فتحت عينَي لأجد شابًّا طويلًا أسمر ذا شارب كثٍّ يقف في وسط الحجرة.

اعتدلت جالسًا. وقال الشاب إن اسمه عويس، وإنه صديق نبيل.

غادرت الفراش وأنا أشعر بدوار، وطلبت منه أن يجلس، فجلس على حافة الفراش دون أن يرفع بصره عن ساعدي وساقَي العاريتَين.

جذبت منشفتي وملابسي وانطلقت إلى الحمَّام، والتقيت بمحمود في الصالة فطلبت منه أن يُحضر لنا شايًا.

قال لي عويس عندما عُدت إلى الحجرة إنه حضر ليأخذني إلى نبيل. سألته عن الوسيلة التي سنذهب بها، فأجاب سيرًا على الأقدام.

قلت: إلى السد سيرًا على الأقدام؟

قال: كلا. لن نذهب إلى السد. المنزل قريب من هنا.

قلت: كنت أظن نبيلًا يسكن في موقع العمل.

قال: كان في الأول، ثم انتقل إلى أسوان من شهرَين.

شربنا الشاي، ثم غادرنا الفندق، ومضينا في حواري ضيقة قذرة، ثم ولجنا منزلًا حديث البناء أُقيم على طراز البيوت القديمة.

طرقنا بابًا في الطابق الثاني والأخير، وفتح لنا شاب ممتلئ وسيم أبيض البشرة قدَّرت أنه نبيل.

قادنا نبيل إلى صالون أنيق تُزيِّنه ديكورات خشبية وشِلت شرقية. واستأذن منا عويس وغادر المسكن. وقال نبيل وهو يجلس أمامي إن عويس يسكن في المنزل المجاور، وهو الذي أقنعه بالانتقال إلى هنا لأن المسكن من أملاك عمه.

أعطيته خطاب أمه وقلت له إني التقيت بها عند جيران لها من أقاربي. سألني إن كنت التقيتُ بزوج أمه، فأجبت بالنفي.

فضَّ الخطاب واستغرق في قراءته، ورحت أتأمَّل رفًّا مزدحمًا بالكتب يحمل معظمها اسم عويس بحروف ذهبية. علَّق نبيل بعد أن فرغ من الخطاب بأن عويس سيأخذ الليسانس بعد سنتَين، أمَّا هو فقد فشل في الحصول على التوجيهية، لكنه يذاكر الآن من جديد.

عاد عويس يحمل مروحةً كهربائية، ولمحت ثلاث قطط صغيرة بيضاء تحاول اقتحام ثلاجة وُضعت بجوار الباب. فتح عويس الثلاجة وأخرج إناءً من اللبن للقطط وهو يقول: عذَّبتنا هذه القطط؛ فهي لا تتركنا عندما نُريد أن ننام.

قال نبيل: في السد لا يمكن أن ترى قطةً واحدة. وقد كدت أُجن من الوحشة في البداية، وهذا ما جعلني أترك عنابر الموظَّفين إلى أسوان.

قال عويس إن السد ساعد الكثيرين على بناء حياتهم، وإن ابن عمه كان طالبًا في الكلية الحربية وفُصِل فجاء للعمل هنا.

لم تصنع المروحة شيئًا للحرارة الشديدة، فاقترح نبيل أن نخرج إلى مكان على النيل، واخترقنا الأزقة إلى الشارع الرئيسي.

رأيت امرأةً زنجيةً اقتعدت الأرض أمام كَوم من الفول السوداني في إناء من الصاج الأبيض. كانت تُحيط رأسها بطرحة بيضاء ويتدلَّى من أنفها حلق نحاسي. أعطيتها قرشًا فملأت كوزًا صغيرًا من الصفيح أفرغته في كفي، فاشتريت منها بقرشَين آخرَين لنبيل وعويس.

صادفنا واحدةً مثلها بعد خطوات وأمامها إناء الصاج الأبيض المليء بالفول. وقال نبيل إنهن يهجرن نيجيريا سيرًا على الأقدام ووجهتهن الكعبة، ثم يتساقطن في الطريق عاجزات عن الاستمرار.

مررنا بمحطة أوتوبيس تجمَّع عندها عدد كبير من السيدات الروسيات.

قلت: حتى الآن لم أرَ مصريةً واحدة.

قال نبيل: المصريات لا يظهرن إلا في الشتاء عندما تأتي المدرسات.

قال عويس: هناك بنت أو بنتان في المحلات الجديدة.

تحوَّلنا إلى اليسار في طريق صاعد، وولجنا مكانًا مؤلَّفًا من عِدة مدرَّجات من الخضرة. جلسنا إلى مائدة على حافة أحد هذه المدرَّجات، وأصبحنا نُشرف على المدينة، وكانت الشمس قد اختفت مُخلِّفةً غيمةً حمراء فوق الجبل.

أحضر لنا الجرسون زجاجات البيرة، وولج المحلَّ شابان انتحيا ركنًا بعيدًا. شممت رائحة الحشيش النفاذة تتصاعد من سيجارة في يد أحدهما. وقال عويس إن الشاب يعمل ملاحظًا بالشركة. وقال نبيل إنه رأى الحشيش لأول مرة في حياته هنا.

قلت: والبنات؟

قال: لا توجد لأحد منا فرصة. هناك كلام عن زوجات بعض السائقين في حيٍّ اسمه السيل، لكنه مجرَّد كلام.

قال عويس بفخر: نبيل ليس ممن يعبثون.

قال نبيل: الفراغ الآن مشكلة لم تكن موجودةً في المرحلة الأولى من العمل.

قلت: لكنك تستطيع النزول إلى القاهرة عندما تريد.

ظهرت في عينَيه نظرة قاسية لم ألمحها من قبل. وقال: في أول السنة نزلت إلى القاهرة ووصلت المنزل في الثانية صباحًا، ولم يفتح لي أحد، وفيما بعد قالت لي ماما إنهم جميعًا كانوا قد تناولوا حبوبًا مُنوِّمة. ولم أنزل من يومها.

قلت: كانت والدتك تظن أني أستطيع الإقامة معك.

ردَّ عويس على الفور: هذا صعب الآن؛ فالشقة ضيقة، وكان الأمر يختلف لو كان ما زال في الموقع.

قال نبيل: هناك استراحات في الموقع مُخصَّصة للزوار والصحفيين، فلماذا لا تُجرِّبها؟

قلت إني سأحاول.

غادرنا المحل في منتصف الليل، وكان طريق النيل هادئًا خاليًا من المارة، وفوق شريط من الخضرة يمتد بطوله في الوسط استلقى عشراتٌ من عُمَّال التراحيل الذين يعملون في بناء الكورنيش.

مشَينا على حافة الإفريز عند أقدامهم. كانت أجسادهم متلاصقةً تعرَّى بعضها فتبدَّت أجزاؤها الحميمة للعيان.

افترقنا بالقرب من فندقي، وصعدت إلى حجرتي فأخذت حمَّامًا، ثم أخرجت قلمًا وورقةً وكتبت قليلًا. قرأت ما كتبته، ثم مزَّقت الورقة.

***

مشى بين الصخور يطرقها بمطرقته بحثًا عن الشقوق والعيوب والفقَّاعات. كانت القطع الصلبة تُعطي صوتًا كرنين الأجراس، أمَّا المعيبة فكان رجعها باردًا. وكانت هناك صخرة تعرَّضت للجو فترةً طويلة، فتكوَّن لها جلد سميك. وبالمطرقة والإزميل أزال الغلافَ ليصل إلى المادة النقية من تحته.

***

شعرت بحركة عند باب الحُجرة والتفَتُّ فرأيت محمودًا يراقبني. سألني إن كنت أحتاج إلى شيء فأجبت بالنفي. قمت فأغلقت الباب وأطفأت النور، واستلقيت على الفراش أدخِّن في الظلام.

استيقظت متأخِّرًا في الصباح، ورأيت وجهي في المرآة ممتلئًا بالبثور من أثر البعوض. وعندما جاءني محمود بالشاي سألته عن وسيلةٍ لغسل ملابسي، فقال إن هناك غسالةً تأتي إلى الفندق كل يوم. جمعت ملابسي القذرة على الفراش وانطلقت إلى الخارج.

سرت إلى ميدان المحطة فلم أجد أوتوبيسًا واحدًا، وقال لي الناظر في تجهُّم إنه لا توجد سيارات الآن إلى الموقع. سألته عن سيارات الشركة، فقال إنه مسئول فقط عن التابعة للهيئة، أمَّا الشركة فسياراتها تقف عند الجمعية.

عبرت الميدان إلى شارع السوق وسرت حتى الجمعية. وجدت أمامها عددًا من السيارات الكبيرة الخالية بلا سائقين، وعثرت على أحدهم في مقهًى قريب، فقال لي إنهم لا يتحرَّكون قبل ثلاث ساعات. واقترح عليَّ أن أذهب إلى كشك الشركة في الناحية الأخرى من الميدان.

عُدت أدراجي وأنا أمسح العرق عن وجهي. عبرت ميدان المحطة مرةً أخرى. سِرت مسافةً بحذاء النيل حتى بلغت كشك الشركة المطلي باللون الأصفر. كان به موظَّف شاب يقرأ في أحد كتب الجامعة، وقال لي إنه لا توجد أية سيارات ذاهبة إلى الموقع الآن، ونصحني بالعودة إلى موقف الميدان.

درت عائدًا بتثاقل والعرق يسيل من مرفقَي، وألفيت الميدان خاليًا من السيارات تمامًا، ومرَّت بي عربة حنطور اضطجعت فتاتان أوروبيتان في مقعدها الخلفي. كان وجهاهما شديدَي الاحمرار، أو هكذا خُيِّل لي؛ فقد كان كل شيء أمامي مصطبغًا بهذا اللون.

شعرت بدُوَار وجفاف في حلقي، ولجأت إلى بقعة من الظل تكوَّنت أمام محل حديث لبيع الملابس. ولمحت من الزجاج إحدى البائعات فولجت المحل. وقفتُ أمام فتاة سمراء ذات عينَين واسعتَين. تأمَّلت عينَيها فابتسمَت لي بحذر.

قالت: أي خدمة؟

تطلَّعت حولي فوجدتها تبيع قمصانًا. اشتريت واحدًا وغادرت المحل، ثم ابتعت عدة ساندوتشات من الجبن والبسطرمة، وعُدت إلى الفندق بصداع حاد.

صعدت الدرج بجهد، وبدأت أخلع قميصي على باب الحجرة، ورأيت فوق المائدة ورقةً مثبَّتةً بكوب زجاجي سُطر عليها بخط رديء: «الغسالة لم حضرَة اليوم».

تمدَّدت على الفراش بالبنطلون وعينَي على الشرفة.

***

«ضربة الإزميل العشواء في الصخر تُحطِّم بلوراته. والبلورة الميتة تدمِّر النحت. وتعلم كيف ينحت قطعًا ضخمةً دون أن يسحق البلورات؛ فالصخر هو السيد وليس الرجل. القوة والمتانة في المادة الصمَّاء لا في الذراعَين والأدوات. وإذا ما ضرب بعنف وجهل؛ فقدت المادة الغنية الدافئة توهُّجها وماتت. وأمام التعنيف والهرولة تلتف الصخرة بنقاب حجري صلب. من الممكن تحطيمها بالعنف، ولكن يستحيل إرغامها على أن تعطي؛ فهي تستسلم للحنان وتزداد تحت تأثيره إشعاعًا ولمعانًا.»

***

استيقظت على لدغات البعوض والعرق والصداع. تناولت الساندوتشات وبدأت آكل، وخلعت ساعتي التي بلَّلها العرق ولم تكن قد تجاوزت الخامسة.

قمتُ إلى الشُّرفة متلمِّسًا شيئًا من الهواء، لكن رائحةً خانقةً عَفِنةً كانت تهب من خارجها. انحنيت فوق السياج فرأيت فضلات المجاري تُغطِّي فناء المنزل الخلفي.

خرجت إلى بهو السلم وناديت على محمود ليُحضر لي الشاي، ودخلت الحمَّام ووقفت عاريًا تحت الدش عشر دقائق، ثم عدت إلى الحجرة وتناولت مفكرتي. كان العرق قد بلَّلها وأتلف بعض صفحاتها، فجلست في الصالة وبدأت أنقل ما تلف في صفحة نظيفة.

أحضر لي صبي القهوة والشاي، وشعرت بدوار من أثر الحر، فقمت أتمشَّى بين الصالة والغرفة، ثم عُدت إلى مقعدي وواصلت الكتابة، وطفق العرق يسيل على ساعدي فيبلِّل الورق. وأخيرًا قمت فاستحممت مرةً ثانية. وعندما عدت إلى الصالة وجدت محمودًا قد سكب كوبًا من الماء على الصفحة الجديدة التي انتهيت من نسخها، فقرَّرت الخروج.

انطلقت إلى نادي التجديف. كان به بعض الشبَّان الذين تمدَّدوا في خمولٍ على مقاعد الشرفة. اخترت مقعدًا في مواجهة الشاطئ المقابل واضطجعت فوقه مُسنِدًا قدمَي إلى قضبان السياج.

أحضر لي الصبي زجاجة بيرة، وملأت كوبًا ارتشفته وأنا أتأمَّل الفجوة المظلمة في الجبل والدرجات الضيقة المؤدية إليها وسط الرمال.

***

كانت محطة الجيزة قد أُخليت لنا تمامًا، وهبط عليها سكونٌ شامل لا يقطعه غير صليل السلسلة الوحيدة التي تُقيِّدنا جميعًا، وفحيح القاطرة التي تنتظرنا. وفي مدخل البناء الذي تُضيئه مصابيح باهتة كانت بضع رءوس تتطلَّع بفضول ولا تجسر على الاقتراب، وعندما حانت اللحظة أخذوا يدفعوننا بعنف والقيود تحز في أيدينا، وصعدنا العربة المظلمة بلا مصابيح أو مقاعد، وظَلِلنا وقوفًا طول الليل، إذا أراد أحدنا أن يجلس جرَّ الآخرين معه ووقعوا على وجوههم، وإذا أراد أن يتبوَّل سحبهم معه إلى الركن حيث يحفون به عن يمين وعن يسار، والقطار يترك القاهرة وينطلق إلى الصعيد في خط مستقيم، ومصر تمتد من أدناها إلى أقصاها من فتحات صغيرة تعترضها القضبان كما في عربات الكلاب، والشريط الأخضر يضيق باستمرار وتزحف عليه الرمال، وفي الفجر يرتفع قرص الشمس الأحمر كبيرًا فوق خضرة نائمة، والمنظر يتكرَّر دائمًا؛ المباني الطينية والأنوار الخافتة، ثم المحطة بمبانٍ متقاربة حولها، ومقهًى يحتسي الناس فيه الشاي بهدوء ودَعة، يتابعون في غير مبالاة القطار المظلم الذي لا يتوقَّف، ثم السجن في كل مدينة. كتلة صفراء من الظلام بعيون متقاربة صغيرة، يقوم في نفس الاتجاه دائمًا، وتدخله الشمس من نفس المكان في كل مدينة، وتقع على جدران الزنازين في نفس الموعد، دون أن تُفلح في تبديد البرد الجاثم.

***