نجمة أغسطس

مؤسسة هنداوي مؤسسة هنداوي

الفصل الثاني

بدلًا من أن ينطلق الأوتوبيس في الطريق المؤدِّي إلى الخزان اتجه يسارًا. مررنا بمجموعة من المجمعات الصفراء في حي ذي طابع شعبي، ثم انطلقنا في الصحراء بين صفَّين من أعمدة النور والتليفون.

ظهرت مجموعة من المساكن الحديثة في الأُفق، وأبطأ السائق متسائلًا عمَّا إذا كان أحدٌ يريد النزول في «كيما»، وعندما لم يردَّ أحد ضاعف من سرعة السيارة. ومررنا بين عشراتٍ من المجمَّعات الأنيقة البنية اللون التي ظهرت أجهزة التكييف في واجهاتها. كانت مصفوفةً جميعًا بصورة متوازية في زاوية مائلة بالنسبة للطريق.

تلاشت هذه العمارات فجأةً كما ظهرت، وامتدَّت الصحراء أمامنا إلى ما لا نهاية، وتتابعت هياكل الصلب العالية لأبراج الكهرباء على مسافات متقاربة.

أشرفنا بعد ربع ساعة على أفنية مُسوَّرة تضم صفوفًا من الشاحنات الجديدة. كان لونها الأخضر يلمع بقوة في الشمس. ودرنا برابية صغيرة عليها لافتة تُعلن عن موقع للرمال الخشنة. كانت الرمال مكوَّمةً خلف اللافتة في تلال عالية.

برزت تِلال من الصخور على جانبَي الطريق. كانت متباعدةً في البداية، وما لبثت أن تقاربت وازدادت ارتفاعًا. وأصبحنا نسير فيما يُشبه الممر، وبدا أننا نجتاز منطقةً صلبةً صمدت لأعمال الحفر والتفجير.

أبطأت سيارتنا عندما انتهى الممر؛ فقد اعترضتنا شاحنة فارغة كانت تمضي ببطء، وانتقلت سيارتنا إلى يسار الطريق لتتجاوزها، وعندما مررنا بجوارها رأيت جانبها مُحطَّمًا ومقدِّمتها منزوعة الغطاء.

استوقفَنا رجال البوليس الحربي، ثم تُركنا نمر. وبرزت أمامنا مئذنة جامع وتحتها جموع من البشر لا حصر لها. وأبصرت باللوحة الشهيرة التي كانت تحدِّد يومًا بيوم ما تبقَّى على التاريخ المحدَّد لانتهاء المرحلة الأولى. كانت اللوحة الآن تحمل عبارات الشكر للعاملين والدعاء لهم بالتوفيق في المرحلة الثانية، وكانت الكتابة باللغتَين العربية والروسية بتوقيع كلٍّ من عبد الناصر وخروشوف.

***

الصحف تصل خلسةً وتُقرأ خلسة، والصورة تخاطب بُناة السد، بقي ٣٧٥ يومًا على تحويل مجرى النيل، بقي ٣٠٠، بقي ٢٦٠، وخلف السور الحجري والأسلاك الشائكة كانت الصحراء محيطةً من كل الجهات، لكن قامته الفارغة كانت تتراءى عندها كل صباح، مادًّا البصر إلى أقصاه، كأنما بوسعه أن يرى، وقال إنه يتمنَّى أن يشهد ذلك اليوم، لكنه لم يتمكَّن.

***

جاوزَت سيارتنا مبنًى حديثًا من طابق واحد أشبه بمستشفى، وانحنت في شارع جانبي، وتقدَّمت بين صفَّين من الأبنية الحجرية أُقيمت على قاعدة من الصخور مرتفعة عن الأرض بمقدار قامة إنسان. كانت جميعها تتألَّف من طابق واحد يُغطِّيه سقف خشبي، فبدت أشبه بالثكنات.

أوقف السائق السيارة وغادرها فتبعه الرُّكَّاب. وضعت قبعتي على رأسي وانطلقت خلفهم.

عُدت أدراجي إلى الطريق الرئيسي الذي تراكم التراب على جانبَيه. سرت على اليمين، ومررت بمبنًى صغير من طابق واحد سُويت الأرض أمامه ورُشت بالمياه وزُينت ببضع أُصص من الزهور. كانت هناك لافتة تعلو المبني تُعلن عن مكتب المباحث العامة.

ابتعدت بقدمَي إلى وسط الطريق لأتجنَّب التراب المتراكم على الجانبَين، لكن سيارةً مسرعةً خلفي أجبرتني على العودة وسط الأتربة.

توقَّفت عن المسير وتطلَّعت خلفي. كان هناك طابور من الشاحنات يقترب مني تتقدَّمه واحدة برتقالية اللون ترتفع مدخنتها من أمامها كالعَلم، وعندما مرَّت بي ألفيت إطاراتها تتجاوز قامتي ارتفاعًا.

انتقلت إلى الجانب الأيسر من الطريق لأسير في مواجهة السيارات، وسِرت حِذاء فناء مُسوَّر ازدحم بصناديق خشبية كبيرة تحمل حروفًا باللغة الروسية. انتهى الفناء ببائع طعمية وباذنجان اقتعد الأرض، ووقف بجانبه بائع آخر أمام إناء يتصاعد منه البخار لمحت به حبات البليلة.

شعرت بجفاف شديد في حلقي، ولمحت منصةً صغيرةً من الخشب على بُعد خطوات بها ألواح من الصفيح، وحولها تجمَّع عدد من العُمَّال الذين يرتدون القمصان والسراويل وآخرون من الصعايدة في الجلاليب والعمائم. وكان بعضهم يشرب الشاي الأسود من أكواب صغيرة، والآخرون يشدُّون أنفاس الجوزة وقد اتكئوا على ماسورة سوداء من الصلب.

انضممت إليهم، وأعطاني البائع كوبًا من الشاي حملته إلى الماسورة فاستندت إلى جدارها. كان قُطر الماسورة يرتفع إلى مستوى خصري، تصدر عنه خشخشة خافتة متصلة. واضطُررت بعد لحظة إلى الابتعاد عنها بسبب سخونتها.

انتهيت من كوب الشاي فأعدته إلى البائع وأعطيته قرشًا. أشعلت سيجارةً وجذبت منها أنفاسًا بلا مذاق لأنها كانت شديدة الجفاف. وتتبَّعت الماسورة بعينَي فرأيتها تمتد بعيدًا وتختفي أحيانًا وسط أكوام من التراب والصخور، ثم تظهر من جديد في مكان آخر.

نفضت صندلي من التراب واستأنفت السير مقتفيًا أثر الماسورة، وتوقَّفت لحظةً حتى مرَّت سيارة جيب ذات طلاء أصفر، ثم اتجهت إلى سياج حديدي تجمَّع عنده عدد من الناس يوحي شكلهم بأنهم زُوَّار. كانت بينهم سائحة أجنبية وضعت على رأسها غطاءً مضحكًا وأسندت الكاميرا إلى عينَيها، ومال عليها شاب نوبي يشرح لها شيئًا وهو يشير إلى أسفل.

اقتربت من السياج فوجدته يُطِل على مساحة واسعة على عُمق بعيد، وظهر في قاعها عددٌ من الهياكل الحديدية على شكل دوائر ترتفع منها سلالم حلزونية ضيقة إلى مستوانا. وحول الهياكل وفوق السلام كانت حبات كبيرة من الرمال دائبة الحركة، وإلى يمين هذه المساحة امتدَّت قناة هادئة المياه، وإلى اليسار كان هناك مبنًى مرتفع في قِمته هيكل أحمر اللون على شكل جواد مستقيم الخطوط.

انتبهت إلى شخص أنيق ذي ملابس كاملة وقف إلى جواري مباشرة. كان يغطِّي حذاءه بغطاء من الجلد يصعد إلى ركبتَيه فيحميه من التراب، وإلى جواره وقف شاب في قميص وبنطلون يتحدَّث مشيرًا إلى المعالم المختلفة حولنا وهو يردِّد كل برهة: «شوف سيادتك.» وفهمت من حديثه أننا نُطل على محطة الكهرباء، وأن الدوائر الحديدية ستحتوي التوربينات. وكانت القناة هي المجرى الجديد للنيل، أمَّا المبنى المرتفع فهو بوابات الأنفاق التي تعترضه.

أمسكت حافة السياج بيدي وانحنيت إلى أسفل. كان هناك طريق مرصوف يتلوَّى صاعدًا من قاع المحطة ويختفي وراء مرتفع على يميني، وتحت قدمي مباشرةً انحدر حائط من الأسمنت المستوي السطح إلى قاع المحطة بصورة شبه عمودية.

شعرت بشخص يدنو مني، والتفتُّ لأجد صعيديًّا باللفافة التقليدية حول رأسه يرفع طرف جلبابه الأبيض ويدسه في سرواله، ثم مرق من تحت السياج واستدار يواجهني وقد أصبحَت قدماه على حافة الهوة. تلمَّس بقدمَيه ماسورةً عمودية تمتد مع الحائط إلى القاع، ثم انحنى وأمسك بها بكلتا يدَيه، وبدأ يهبط وهو يتطلَّع إليَّ باسمًا.

تابعتُه ببصري وهو يبتعد ويتضاءل، ولم أعد أتبيَّن ملامح وجهه وإن كنتُ ما زلت أرى جسمه حتى صار نقطةً بيضاء نائية. واستقرَّت النقطة أخيرًا في القاع، وسرعان ما تلاشت بين مئات النقط الأخرى.

ابتعدتُ عن السياج وسرت بجواره حتى أصبحَت هُوة المحطة على يميني وبوابات الأنفاق على يساري. وأشرفت فجأةً على حافة مُنخفض امتلأ بالصخور المبعثرة، وتجمَّعت فيه عدة شاحنات فارغة. كانت هناك حفَّارة ضخمة احتمى بظِلِّها عدد من العُمَّال، وكانت ذراعها الطويلة مدلاة، واستقرَّت كباشتها الكبيرة على الأرض، وفوق الكباشة وقف أحد العُمَّال يُعالج شيئًا في طرف الذراع الذي ينتهي ببَكرة.

كانت الناحية المواجهة لي من المنخفض مفتوحةً تتجه إليها مقدِّمات الشاحنات، ووراءها امتدَّت سلسلة من التِّلال الصخرية التي لم يمسَّها أحدٌ بعد. أمَّا جوانب المنخفض الأخرى فكانت تحمل آثار المرحلة الأولى بوضوح.

بحثت عن الماسورة التي كنت أقتفي أثرها فوجدتها قد اختفت من جديد. تلفَّتُّ حولي أتأمَّل الأرض بعناية، وسمعت صوتًا يقول: ماذا ضاع منك؟

التفَتُّ خلفي فرأيت سعيدًا يُصوِّب إليَّ كاميرا ويضغط عليها بأُصبعه، ثم يُنحِّيها عن وجهه ويدير الفيلم. تقدَّم مني فاتحًا ذراعَيه لنتعانق، وكنت قد مددت يدي إليه فتصافحنا.

هزَّ يدي بقوة وهو يَعجب للمصادفة التي جمعتنا بعد سنوات طوال، وسألني عمَّا جاء بي فقلت: ما الذي جاء بك أنت؟

دفع صدره إلى الوراء قائلًا: أنا أمري مفهوم. السد العالي يستقبل الفيضان. تقرير مُصوَّر من مواقع العمل. قضى سعيد عبد الرحمن أيامًا طويلةً شارك فيها العاملين حرارة الصيف ومتاعبه. فهمتَ الآن؟

تطلَّع إليَّ فجأةً وقد بدا كأنه تذكَّر شيئًا، ثم صوَّب أصبعه إلى صدري قائلًا: أنت كنت …

أومأت برأسي.

هزَّ رأسه في وجوم، ثم استعاد مرحه وقال: أمَّا أنا فقد أصبحت أصغر مدير تحرير في الصحافة المصرية، وتزوَّجت وأنجبت ولدَين، وصار عندي سيارة نصر ١٣٠٠ سأدفع آخر أقساطها الشهر القادم.

دقَّق النظر إليَّ مرةً أخرى، ثم قال: ما زلتَ كما أنت لم تتغيَّر.

قلت: أمَّا أنت فقد امتلأ وجهك وترهَّلت. وشبكت ساعدي في ساعده مضيفًا: تعالَ نبحث عن الماسورة.

– أي ماسورة؟

– ماسورة ضخمة هنا ممتدة في كل مكان لا أدري هل هي عدة مواسير أم ماسورة واحدة.

قال: آه هذه غالبًا مواسير التجريف التي تنقُل الرمال إلى السد، وهي عِدة مواسير متصلة ببعضها، ولا تنقُل سوى الرمال الناعمة.

سرنا ونحن نتبادل الذكريات، ومررنا بجندي بوليس حربي ذكَّرنا بحرس الجامعة.

قلت: هل تذكر الليلة التي قضيناها في قسم البوليس؟

انفجر ضاحكًا وقال: وجعلنا ندق الجدران ونصيح إننا محتجزون بلا قانون، وإننا نريد النيابة. تصوَّر!

تذكَّرنا أستاذ القانون الدستوري الذي كان مُصرًّا على الاحتفاظ بطربوشه رغم أن الثورة ألغت الطرابيش. وكان يُحاضر بلهجةٍ فخمة، ضاغطًا على مخارج الألفاظ ونهايات الجمل كأنه يتكلَّم في البرلمان.

قال سعيد: لقد رأيته أخيرًا بلا طربوش ثملًا مُهدَّمًا.

بلغنا مساحةً واسعةً من الأرض تتدرَّج في مستوياتٍ على الجانبَين، وكان بعضُ هذه المستويات يتألَّف من أكوام الصخور، وبعضها الآخر من الرمال، وفوقها انتشرت عشرات الشاحنات والآلات المتحرِّكة الأخرى.

توقَّف سعيد بعد قليل ودقَّ الأرض بقدمه قائلًا: نحن الآن فوق جسم السد. طوال آلاف السنين كان النيل يجري هنا.

سرنا مسافةً على جسم السد، وكانت السيارات المُحمَّلة بالرمال والأتربة تأتي في اتجاهنا، ثم تنحرف إلى اليسار وتهبط إلى أحد المستويات الجانبية. وأعلن سعيد بعد فترة من الوقت أننا أصبحنا على الشاطئ الغربي للنيل، وأشار إلى مبنًى بعيد من عدة طوابق قائلًا إنه مقر الهيئة حيث يوجد الوزير المصري وكبير الخبراء السوفيات.

كنا نُشرف على طريقٍ مرصوف يمتَد أُفقيًّا إلى مبنى الهيئة، وأدركت أننا نقف في نفس المكان الذي بلغته بالسيارة منذ يومَين وعاقني التفجير عن اجتيازه.

تحوَّلنا يسارًا وانطلقنا وسط الأتربة والصخور، وتكاثرت الأخيرة فجعلت المسير صعبًا. لمحت الماسورة السوداء الضخمة فاعتليتها واقتدى بي سعيد، ومشينا فوقها يأتينا صوت ارتطام الرمال بجدرانها.

بدأت أشعر بدوار من شدة الشمس، وتوقَّفت أجفِّف عرقي، ومرَّ بنا روسي يرتدي خوذةً معدِنيةً ويتدلَّى من كتفه ترموس كبير الحجم.

قلت: يا سلام لو كان لدينا الآن كوبٌ من الشاي أو زجاجة كازوزة.

قال سعيد: كل شيء سيأتي في وقته، لا تتعجَّل. وألقى نظرةً على ساعته، ثم أضاف: هناك تفجير بعد نصف ساعة، وسألتقط بعض الصور. هل تأتي معي؟

قلت: لا بأس، ما دمت سأشرب شيئًا.

قفزنا على الأرض عندما أوشكت الماسورة على الاختفاء خلف كوم من الأتربة، ومررنا بمجموعة من العُمَّال انحنَوا بأجهزة اللحام أمام شبكة من الأسلاك المعدِنية، ثم اتجهنا صوب كشك خشبي يعلو مرتفعًا قريبًا.

سألني سعيد عن المدة التي أُزمع قضاءها في المنطقة.

أجبت: إلى أن تنتهي نقودي.

قال إنه لا يتكلَّف شيئًا لأنه يُقيم في استراحة تابعة للشركة، ولكنه سيعود القاهرة فورًا بعد أن يسجِّل استقبال السد لمياه الفيضان.

رأينا عَلمًا أحمر صغيرًا يرتفع عن الأرض بشبر وقد ثُبِّت إليها بعمود تسنده ثلاثة قضبان مائلة، ودائرة من الأحجار الصغيرة. كان العَلَم يحمل رسمًا يتألَّف من جمجمة وعظمتَين متقاطعتَين، وكان ثمة أعلام مماثلة حولنا تمتد منها خراطيم زاهية الألوان.

بلغنا المستوى الذي يعلوه الكشك، وكان يقف خارجه شاب أسمر مدكوك البنية كشف قميصه المفتوح عن صدر كثيف الشعر. كان يتطلَّع إلى منخفض هائل في الناحية الأخرى بدت في قاعه شاحنات وحفارة وعدد من العُمَّال.

أدار الشاب بصره فرآنا، وتأمَّلنا في غير اهتمام حتى لمح الكاميرا المعلِّقة في كتف سعيد.

ابتدرَنا عندما دنونا منه: الأساتذة صحفيون؟

أومأ سعيد بالإيجاب، فقال إن اسمه فوزي وإنه مهندس تفجير. ورآني أتطلَّع إلى داخل الكشك فدعانا إلى الدخول.

بدا داخل الكشك الذي كان بمنأًى عن الشمس مُشبعًا بالرطوبة المنعشة. جلسنا على مقعدَين يواجهان المكتب الذي استوى الشاب خلفه، وصاح مناديًا على شخص يُدعى حسين وهو يسألنا عمَّا نُحب أن نشرب.

نظر سعيد إليَّ وابتسم، وقلت إني أُفضِّل شيئًا مثلَّجًا.

جاءتنا الليمونادة على الفور. وقال فوزي ونحن نحتسيها: الصحافة لا تهتم بنا أبدًا رغم أن عملية التفجير هي الأساس الذي قام عليه السد.

قال سعيد: ولهذا جئنا. وخلع كاميرته عن كتفه وأخرجها من علبتها، ثم جعل يعبث بعدستها. وتابع فوزي باهتمامٍ حركة أصابعه، ثم ألقى نظرةً على ساعته ووقف قائلًا: حان الوقت.

تبعناه إلى خارج الكشك، واعتمدنا على حاجز حديدي يُطِل على المنخفض. وهناك كان العُمَّال ينزعون أعمدة النور بسرعة، بينما الشاحنات تقوم بمناورات مُعقَّدة لتغادر المكان، وتبعتها الحفارة.

دوَّت صفارة إنذار فجأة، وبدأ المنخفض يخلو من الناس، وجرى البعض وقفز غيرهم في سيارات مسرعة. دوَّت صفارة جديدة، واعتمد سعيد على الحاجز بمرفقَيه، ورفع الكاميرا إلى عينَيه، والْتقط صورة الرجل الوحيد الذي ظلَّ مكان التفجير. كان يُلوِّح بيدَيه للآخرين، ثم قفز في سيارةٍ كبيرة مرَّت من أمامه دون أن تتوقَّف. ولحقت السيارة بعدد من الرجال الذين كانوا يجرون، فقفزوا إليها وتعلَّقوا بجانبَيها. وما لبث الموقع أن خلا تمامًا ولم يعُد به رجل واحد أو آلة واحدة، ثم دوَّت ثلاثة انفجارات صغيرة متعاقبة، وأخيرًا انفجر الجبل.

ارتجَّت الأرض من حولنا، وأمسكت بالحاجز في قوة. طارت بضع صخور في الهواء، وتصاعد الغبار في سرعة فحجب المكان كله، وعندما طاولَت ألسنته السماء شرع يزحف نحونا منتشرًا في كل اتجاه.

الْتقط سعيد عدة صور متعاقبةً للغبار وسفح الجبل الممتلئ بالشقوق والبروزات من أثر التفجيرات السابقة. وتابع فوزي حركة الكاميرا في يده. وعندما اتجهت نحوه اعتدل في مكانه وتحرَّكت عيناه بسرعة وابتسم ابتسامةً عريضة. ولكن سعيدًا تجاوزه بالكاميرا والْتقط صورة مبنى الهيئة الذي كان يبدو صندوقًا صغيرًا على مبعدة. وتابع فوزي الكاميرا ببصره ويده تُسوِّي حافة قميصه، واتجه إلى الكشك يتبعه فوزي.

كانت سحابة الغبار التي أثارها التفجير قد بدأت تخف، وانقسمت أولًا إلى عدة مساحات متفرِّقة، ثم جعلت تتعدَّد وكثافتها تخف نتيجةً لذلك حتى أوشكت أن تتلاشى. وتجلَّى الموقع من جديد وقد انتشرت في أرجائه فتات الصخور المختلفة الأحجام.

لمحتُ الحفَّارة تتقدَّم عائدةً إلى موقعها في قاع المنخفض، وخلفها جاء طابور من الشاحنات الفارغة وسيارة أخرى تحمل عددًا من العاملين.

رأيت شِبه طريق على يميني يهبط إلى أسفل، فانحدرت فوقه مسافةً حتى انتهى بلسان مُدبَّب من الصخر. جلست فوق اللسان فأصبحت أُشرِف مباشرةً على موقع التفجير.

راقبت الجنزير الحديدي للحفارة وهو ينزلق على الأرض في صعوبة حتى توقَّفتُ أمام سفح المنخفض الذي تناثرت فوقه الصخور، وأحاط بها عدد من العُمَّال بدت أحجامهم ضئيلةً أسفل ذراعها، واختفى أحدهم داخل صندوقها، وما لبث هذا أن دار على محوره فوق الجنازير، ودارت معه الذراع الطويلة التي تنتهي بكباشة كبيرة الحجم.

صدر عن الحفارة صوتٌ أشبه بالزمجرة. وصرَّت تُروسها، ثم توقَّف صندوقها عن الحركة، واحتكَّت الكباشة بالأرض فارتدَّت إلى الوراء واهتزَّت الآلة كلها تبعًا لذلك.

تراجعت الكباشة إلى الخلف حتى أوشك قاعها أن يلتصق بالصندوق، بينما اتجهت حافة أسنانها إلى الأرض، وهجمت الكباشة لكنها أخطأت الهدف، فارتدَّت إلى الوراء لتعاود الهجوم، وفي هذه المرة أصابت كوم الصخور وصعدت فيه، واستقرَّت فيها بعض قطعٍ من الصخور، بينما تدحرجت على جانبَيها قطع أخرى كبيرة الحجم.

دار صندوق الحفارة فجأةً إلى اليسار دورةً سريعةً حملت الكباشة في الهواء حتى صارت تُطل على مؤخِّرة شاحنة. وتبدَّت في الصندوق فتحةٌ جلس خلفها السائق يحرِّك المقابض، وتقدَّمت الشاحنة بمؤخِّرتها في حَذَر حتى أصبحت في متناول الكباشة.

تحرَّكت الكباشة حركةً بسيطةً حتى أصبحت فوق الشاحنة مباشرة، وتوقَّفت لحظة في الهواء تتأرجح قليلًا، ثم انفرج فكُّها السفلي وسقطت الصخور مرتطمةً بقاع السيارة في ضجة، واهتزَّت الشاحنة الروسية الضخمة في عنف.

***

«رفع «أفاريوس» لوحًا من الصخر انتُزع من جانب الجبل. بيت «أوفيد» الذي أثار انفعال «ميكل أنجلو». معركة السنتور. الكائنات الأسطورية التي نصفها إنسان ونصفها جواد. لكنه لم يكن يعبأ بالأساطير. كان الواقع هو الذي يجتذبه. أقصى ما يمكن إدراكه من الواقع. وعندما شرع ينحت كان قد ترك موضوع المعركة الأصلية، وأصبح الصخر هو موضوعه. لقد عاش الإنسان ومات بالحجر. وتحوَّل عشرون رجلًا وامرأة ورجل وسنتور إلى جسم واحد يُعبِّر عن الطبيعة البشرية المتعدِّدة الجوانب، حيوانية وإنسانية، أنثوية وذكرية، وكل جزء يُحاول أن يدمِّر الأجزاء الأخرى.»

***

سمعت صوت سعيد يناديني. التفَتُّ فرأيته يدنو مني بحذر فوق الصخور، وجلس بجواري فوق اللسان الصخري وبدأ يلتقط بعض الصور.

كانت الكباشة رائحةً غاديةً بين كوم الصخور والشاحنات المتتابعة. كلما تمَّ تحميل إحداها صدرت زمارة قوية عن الحفارة. دار صندوقها على أثره حول نفسه، وعادت الكباشة خفيفةً سريعةً إلى مكانها وسط الصخور، بينما تنطلق السيارة بتثاقل إلى خارج المنخفض، وتأخذ شاحنة أخرى مكانها على الفور. كانت الكباشة تنفصل أحيانًا عن الجبل دون أن تمتلئ جيدًا أو بعد أن تسقط منها حمولتها، فتعود من جديد بإصرار، وأحيانًا أخرى كانت تعجز عن تفريغ حمولتها فوق السيارة، فتعود إلى الجبل وتُسقطها هناك لتُحمِّل غيرها.

توقَّفت الكباشة فجأةً عن الحركة، وتدلَّى فكُّها يروح ويجيء في حركة متتابعة. ولمحت السائق يرفع زجاجةً إلى شفتَيه، وشرع عددٌ من العُمَّال يُكوِّمون الصخور بفئوسهم المعدِنية أمام الحفَّارة.

هبَّ سعيد واقفًا مقترحًا الذهاب، فقمت وراءه، وسألني ونحن نشق طريقنا بين الصخور: أين ستذهب الآن؟

قلت: سأعود إلى فندقي.

– وتأتي هنا كل يوم؟ هذا مريع.

قلت: وما العمل؟

فكَّر قليلًا، ثم قال: ربما أمكنني أن آخذك معي في الاستراحة.

قلت: أين؟

– هنا في الموقع. غرفتي واسعة بها ثلاثة أَسِرة. اسمع … سأنزل معك الآن إلى أسوان، وبالليل نرتِّب كل شيء.

جعلنا نتلفَّت حولنا بحثًا عن وسيلة ركوب، وأقبلنا عند منحنًى على أوتوبيس كبير خالٍ من الرُّكَّاب. كان محرِّكه دائرًا وقد وقف السائق بجواره، وعندما أردنا الركوب منعنا قائلًا إن السيارة مُخصَّصة لمهندسي الشركة.

لمح سعيد بوكسًا رمادي اللون من طِراز فورد تُغطِّيه خيمة من القماش كما هو شأن سيارات الشرطة. كانت السيارة تهم بالمسير، فهتف بي وجرينا إليها، وعندما أردنا أن نقفز إلى مؤخِّرتها منعنا رُكَّابها وصاحوا بالسائق أن ينطلق، لكن الأمر التبس على السائق فأوقف المحرك، ودار بيننا وبينه جدل طويل انتهى بأن وافق على أن يأخذنا معه.

قفزنا فوق حافة السيارة ولم نجد مكانًا شاغرًا على المقعدَين الطويلَين المتقابلَين اللذَين احتلَّهما عدد من العُمَّال فاقتعدنا الأرض.

***

أمرونا بأن نقتعد القرفصاء ونحني رءوسنا حتى لا يرانا أحدٌ في الطرقات، وفي بهيم الليل انطلق موكب اللوريات إلى قلب القاهرة القديم، وهواء يناير القارس يضرب آذاننا. وبدأ الطريق يصعد إلى أعلى. وفي الظلام ظهرت مباني القلعة شامخةً تُشرف علينا كما تُشرف على المدينة كلها. وقال أحد ذوي التجربة إن في القلعة معتقلًا أنشأه الإنجليز ولم يُستخدَم من أيامها، ودخلنا واحدًا بعد الآخر من فتحة صغيرة في بوابة خشبية ضخمة، ولأن المكان من مخلَّفات الاستعمار كانت فيه أَسِرة مريحة، وأنبأ الهواء بأننا على ارتفاع كبير، وقال حسين إنهم أخذوه من حفل زواجه، فقال آخر إنه كان سيتزوَّج الأسبوع القادم. ورقدنا في صفَّين متقابلَين نتطلَّع إلى الجدران العالية والكُوَّات المسوَّرة في أعلاها، ولعلها كانت القاعة التي شهدت مذبحة المماليك، عندما أتوا بالملابس الرسمية لشرب القهوة، وعندما استعدُّوا للخروج ليسيروا في موكب ابن السلطان أُغلقت الأبواب، وذُبحوا جميعًا عن بكرة أبيهم، وفوق ممشًى يُشرف على ميدان المذبحة جلس محمد علي يُدخِّن النارجيلة، وقبلها كان يتبادل الزيارات العائلية مع زعيمهم شاهين بك.

***

بلغنا أسوان فغادرنا السيارة أمام فندق «جراند أوتيل»، وافترقنا على أن نلتقي بالليل، فولج سعيد الفندق بينما مضيت أنا إلى السوق.

اشتريت عدة ساندوتشات واتجهت إلى فندقي، ونادى علي صاحبُه وأنا أصعد قائلًا إن شخصًا سأل عني.

توقَّفت عن الصعود متسائلًا: مين؟

قال: ما رضي يقول اسمه.

قلت: طب مقالش عاوز إيه؟

– هو سأل إمتى جيت ونازل في أي أودة، وهل معاك حد.

سألت: طيب شكله إيه؟

قال: أفندي بقميص وبنطلون وله شنب تخين.

استأنفت الصعود حتى بلغت حجرتي. استحممت وأكلت الساندوتشات دون شهية حقيقية، ونمت على الفور.

استيقظت في السادسة واستحممت مرةً أخرى. ناديت على محمود فأحضر لي الشاي. جمعت ملابسي المتناثرة ورتَّبتها في حقيبتي، ثم ارتديت القميص والبنطلون ومشَّطت شعري، ثم وضعت المشط في الحقيبة، وأصبحت جاهزًا للانتقال إلى الاستراحة فيما لو نجحَت مساعي سعيد.

***

«قال له أساتذة القصر إن موضوعه الأول يجب أن يكون إغريقيًّا من أساطير اليونان، لكنه كان يعرف عن يقين أن موضوعه الأول لا يمكن أن يأتي من أثينا أو مصر أو روما أو حتى بلدته فلورنسا، وإنما من داخله هو. شيئًا ما يعرفه ويشعر به ويفهمه، واختار المادونا والطفل. في كل اللوحات التي رآها من قبلُ كانت العذراء تُبدي الدهشة التامة عندما أبلغها جبريل بنبأ الحمل، فهل يُعقل أنها لم تكُن تعرف، وأنها لم تكُن تملك حرية الخيار لترفض؟ وقرَّر أن ينحتها وهي تُرضع طفلها مدركةً المصير الذي ينتظرهما.»

***

أشرفت الساعة على الثامنة عندما بلغتُ فندق «جراند أوتيل». دفعت بابه الدوَّار، وتجمَّدت في إحدى الفجوات الفاصلة بين مصاريعه حتى قذف بي إلى الداخل، ورأيت سعيدًا على الفور مضطجعًا على مقعد في صدر البهو بالقرب من مروحة كهربائية مُثبتة على عمود.

قال وأنا أستقر على مقعد بجواره: جاءك الفرج يا عم. يمكنك أن تنقُل حاجياتك الآن إلى قصري. فراش وغسيل وثلاث وجبات يوميًّا دون مقابل.

أحضر لي الجرسون زجاجة بيرة، وقال سعيد إنه الْتقى في الظُّهر بوكيل الوزارة وحدَّثه عني، فقام هذا إلى التليفون واتصل بالشركة، ورحَّبت هذه باستضافتي لأنها تُريد تحسين العلاقات مع الهيئة، كما أنها تهتم بالدعاية لنفسها أكثر من بقية الشركات الأخرى المشتركة في المشروع.

سألته عن السبب فقال إنها تدخل معركة حياتها ليستمر إعفاؤها من التأميم بعد انتهاء السد؛ ولذلك تقوم ببناء فيلات فخمة لكبار رجال الحكومة بأسعار بخسة لا يتصوَّرها عقل.

قلت إن الانتقال إلى الاستراحة مشكلة لأن سيارات التاكسي تتقاضى أكثر من جنيهَين في هذه الرحلة.

قال: صبرك، سنجد حلًّا.

تأمَّلت الجدران التي وشت بقِدم المبنى، وكانت هناك بضع مراوح كهربائية تتدلَّى من السقف، وأخرى فوق أعمدة من الصلب في الأركان.

قال سعيد: كان بودي أن أنزل في فندق كتاراكت الذي كان ينزل فيه الملك، لكنه للأسف مغلق الآن.

وتطلَّع حوله، ثم أضاف: الجو اليوم هادئ فلا أثر لبنت.

لم يكن عدانا في البهو سوى عجوز أوروبي جلس في الركن، وكانت هناك قاعة مجاورة مضاءة بدت خالية، ومع ذلك كان صوت التليفزيون يصدر عنها. وخُيِّل إليَّ أنه يدور على الفراغ، لكني ما لبثت أن سمعت صوت تصفيق، وظهر مهندس التفجير على بابها، وجعل يُنادي بغضب على الجرسون طالبًا زجاجة بيرة.

لمحنا فتطلَّع برهةً دون أن يبدو عليه أنه عرَفنا، ثم حيَّانا، وهمس لي سعيد: أخشى أن يكون قد رأى الكاميرا.

اختفى فوزي في القاعة الداخلية، ثم ظهر من جديد حاملًا زجاجة بيرة في يد وكوبًا في الأخرى، واقترب مِنَّا سائلًا إن كان يستطيع الجلوس معنا. قرَّبت مقعدًا تهالك فيه وهو يضع الزجاجة على مائدة مجاورة، وأدركت من حركاته أنها ليست أول زجاجة يشربها الليلة.

أفرغ كوب البيرة في فمه وقال: لقد ضقتُ ببرامج المحطة السخيفة. أتعرفان أن شخصًا واحدًا هو الذي يعمل فيها؟ ينزل من بيته كل ليلة بالقبقاب ليُدير الأشرطة التي تأتيه من القاهرة.

وملأ كوبًا جديدًا: ولكن ماذا نفعل؟ ليس هناك من وسيلة أخرى لقضاء الوقت.

سمعنا دقَّات متلاحقةً فوق الدرج فتحوَّلنا نرقب فتاةً أوروبيةً تهبط في رشاقة وفستانها الواسع القصير يُحلِّق حولها في كل درجة فيكشف عن فخذَيها. جعلت تنقُل بصرها بين وجوهنا ودرجات السلَّم وهي تبتسم لنفسها حتى بلغت نهايته، وتهادت أمامنا تتبعها عيوننا حتى اختفت بين مصاريع الباب الخارجي.

قال سعيد وعيناه حائرتان بين مدخل الفندق والدرج المؤدِّي إلى الطريق العليا: أروع شيء هو اكتشاف نفق جديد.

انفجر فوزي ضاحكًا، ثم سألَنا إن كانت هذه أول زيارة نقوم بها للسد. قال سعيد: إنها الرابعة. وقلت إنها الأولى.

– لم تشهد المرحلة الأولى إذن؟

هززت رأسي نفيًا.

***

الحارس الملول في سترته الصفراء يقرع القضبان الحديدية بمفتاحه، وننطلق في طابور ينوء بحمل جرادل البول لتفريغها، ثم نعود بجرادل المياه لملئها، والتفتيش الدقيق بحثًا عن ورقة أو قلم أو جريدة، ثم يتتابع صوت المفتاح وهو يدور في أقفال الزنازين، يحبس في كل زنزانة جانبًا من ضجة العنبر حتى يسود الهدوء التام، ونجلس على الأرض مستندين بظهورنا إلى الجدران المثلجة نُتابع من قضبان الكُوَّة الصغيرة ضوء الغروب وهو يتلاشى بسرعة، والليل طويل طويل، لكنه مهرب من نهار مليء بالمفاجآت.

***

سمعت فوزي يقول: ليس ما يحدث الآن شيئًا. السد كان في المرحلة الأولى.

مسح آثارًا من رغوة البيرة البيضاء ظهرت على فمه وقال: كنا نخرج في الصباح دون أن نعرف إذا ما كُنَّا سنعود في نهاية اليوم؛ فكثيرًا ما كان الجبل ينهار فجأةً ويدفن تحته العشرات، أمَّا الآن فقد ألِفنا الجبل ولم تعد هناك أخطار المرحلة الأولى.

ظهرت فتاة الدرج عند الباب ودلفت إلى البهو ثم توقَّفت أمام طاولة قريبة، وجعلت تُقلِّب ما عليها من مجلات مُصوَّرة، ثم اتجهَت إلى البار.

مال عليَّ فوزي وهو يهز أصبعه في وجهي: لا تظن أننا لم نكن سعداء في المرحلة الأولى. لم نكن نملك وقتًا للتفكير لا في عائلاتنا أو في المستقبل أو النساء. كان لدينا عمل واضح محدَّد هو هدم الصخور ثم نقلها وإلقاؤها في النهر حتى تعترض مجراه. وكان هناك هدف محدَّد هو سد النيل وفتح القناة الجديدة في آنٍ واحد. كان النهر يعج بالحركة والحماسة طول الوقت. الجميع يتسابقون لِلَّحاق بيوم ١٤ مايو ١٩٦٤، وجميعهم على استعدادٍ للتضحية بحياتهم ببساطة.

***

ساعات الظلام الطويلة نلوك فيها حكايات معادة، ومحاولة ترداد نشيد قديم تُثير الضحك؛ لأن كل شيء تغيَّر، وفي الماضي كانت الجدران تهتز من الإيقاع، ويعتلي نزلاء الطوابق الأخرى أبواب زنازينهم ليوجِّهوا تحية المساء إلى زهرة شباب الحركة الوطنية، أمَّا اليوم فبلادنا أصبحت حُرة، وليس هناك غير صيحات استنجاد بالحارس من إحدى زنازين الطابق الأرضي التي حُشد بها صِغار النشَّالين واللصوص، ويأتي صوت الحارس من أقصى العنبر مطالبًا بالهدوء وبأن يستسلم كل صبي لِمَا يُراد به، لكن الصيحات تستمر، وتدور معركة تنتهي بالنهاية المحتومة.

***

كان فوزي يواصل الحديث: يوم التحويل مثلًا كان يومًا هائلًا. كنا سنُجن من الحماسة، وكان هناك سدَّان مؤقَّتان من الرمال في طرفَي القناة الجديدة. كان لا بد من نسفهما أولًا حتى تنطلق المياه في القناة، وعندئذٍ تُغلَق آخر ثُغرة في السد. وانفجر السد الأمامي ولكن الخلفي لم ينفجر، وأصبح كل شيء مُهدَّدًا في دقائق؛ فقد كان بوسع المياه أن تجتاح أساس محطة الكهرباء وتدمِّر السد الرئيسي.

ملأ كوبًا جديدًا من البيرة أفرغه عن آخره، ومسح فمه بظهر يده.

– كنت أنا المسئول عن تفجير السد الخلفي، وأدركت أنه لا بد من الغوص فورًا لمعرفة السبب بالرغم من أن الديناميت قد ينفجر في أية لحظة، فخلعت ملابسي وغصت، ووجدت الأسلاك مقطوعةً فربطتها.

ظهرت فتاة الدرج من جديد عند مدخل البار وهي تثرثر مع مصري أنيق صحبها إلى الخارج. ودار باب الفندق قاذفًا فتاةً أخرى مُتورِّدة الوجه ترتدي شورتًا قصيرًا. تهالكَت على مقعد أمامنا مادَّةً ساقَيها، واستقرَّت نظراتنا على فخذَيها الممتلئتَين. كان بياضهما مشربًا بحمرة الشمس يمر بتلك المرحلة السابقة على السمرة.

لم يبدُ على فوزي أنه رأى شيئًا من هذا كله، وتركَّزت نظراته على زجاجات البيرة كأنما يَعدها، وأوشك أن يغضب عندما جاء الجرسون يجمع الزجاجات الفارغة، وتبدَّت عيناه شديدتَي الاحتقان.

قال: لا أظن أن في إمكاني أن أفعل شيئًا كهذا الآن. لا أعرف لماذا، ربما لأن العمل تغيَّر في المرحلة الثانية. أصبح في أماكن متباعدة، ولم نَعد نتركَّز مجموعاتٍ كبيرةً فنوقد حماسة بعضنا بعضًا.

ولج البهو أربعة شُبَّان صاخبين انضمَّ أحدهم إلينا، وقدَّمه فوزي إلينا على أنه من مهندسي الشركة الأخرى التي تتولَّى أعمال الخرسانة، ثم استطرد: ربما كان السبب أننا تبيَّنا الكثير من أخطائنا في المرحلة الأولى، وأدركنا أنه كان بوسعنا تلافيها وتلافي كثيرٍ من الضحايا والخسائر.

استفسر مهندس الخرسانة عن موضوع الحديث، وقلت إننا نعقد مقارنةً بين المرحلتَين.

قال: العمل الآن أصبح فنيًّا أكثر ويحتاج إلى دِقة متناهية. لم تعد المشكلة مَن هو أسرع في النقل أو من ينقُل أكثر من غيره.

قال فوزي: هذا صحيح. نحن الآن نقوم بتوسيع مدخل القناة لتستقبل مياه الفيضان، وهذه العملية تستلزم تفجير الصخور على جانبَي القناة بدِقة متناهية حتى لا تسقط في المجرى وتسده فيرتفع الفيضان مرةً واحدة.

قال مهندس الخرسانة: لكن العمل الآن فقد لذَّته.

قال فوزي: الآن لدينا وقتٌ أكثر للتفكير.

سألته: في ماذا؟

أجاب: في أشياء كثيرة؛ مثلًا: هل كانت كل ضحايا المرحلة الأولى ضرورية؟ ألم تكُن هناك من وسيلة لتلافيها؟

قال مهندس الخرسانة: اليوم أوشك محوِّل المحطة أن يصعق عاملًا روسيًّا.

قال فوزي: العُمَّال الروس مُذهلون؛ رأيت مرةً واحدًا منهم عندما انهار النفق الثاني. كلنا جرينا وتركنا آلاتنا خلفنا، أمَّا هو فرفض أن يتحرَّك بدون الحفارة التي كان يسوقها، وظلَّ فوقها يُعافر بجنون ليُخرجها. تعرف ماذا فعل؟ دقَّ الكباشة في الأرض وجعل يقفز إلى الخلف بالحفارة حتى أخرجها من النفق.

وتحوَّل إلى سعيد وهو يهزُّ أصبعه: هذا لمعلوماتك فقط وليس للنشر؛ فنحن لا نُريد أن نُعطي صورةً سيئةً لعُمَّالنا ونبالغ في تقدير الروس.

قال سعيد: لا تخشَ شيئًا؛ فلست أُريد أن يُقال إني شيوعي أو إني مصاب بعقدة الأجنبي وعاجز عن رؤية المعجزة المصرية.

وضعَت فتاة الشورت ساقًا على ساق، فقال سعيد: كل شيء أصبح الآن ظاهرًا للعيان.

قال مهندس الخرسانة: أتعرفون أن الوقت الذي يستغرقه تعليق امرأة في فنلندا أقلُّ من ذلك الذي يتطلَّبه إخراج المنديل من الجيب.

سألته كيف عرف فأجاب بأنه كان هناك منذ شهرَين في بعثة تدريبية.

قال له سعيد: عبيط. لماذا لم تبقَ هناك؟

هزَّ رأسه: معك حق. الحياة هنا كالسجن، ولولا النقود ما بقيتُ لحظةً واحدة.

سألته عن مرتَّبه فقال إنه يأخذ سبعين جنيهًا ولا ينفق أكثر من عشرة ويدخر الباقي ليشتري سيارةً عندما ينتهي السد ويستغلها تاكسي.

اقترب مِنَّا أحد زملائه قائلًا إن السيارة التي ستُقلهم إلى الموقع قد وصلت. تطلَّعت إلى ساعتي فوجدتها قد تجاوزت الحادية عشرة. وعرض علينا مهندس الخرسانة أن يوصلنا إلى الموقع، فقلت إني أُريد أن أنقُل حاجياتي إلى الاستراحة. وأبدى استعداده لمعاونتي.

أقلَّتنا السيارة الجيب إلى فندقي، وحمل محمود حقيبتي إليها فأعطيته عشرة قروش ودفعت حسابي. وأبدى سعيد تعجُّبه من ضخامة حقيبتي قائلًا إنها تجعلني أبدو كالمهاجرين.

انطلقنا في طريق الكورنيش، ثم انحرفنا إلى اليسار. وتابعت الطريق المظلم الذي مضينا فيه وسط الصحراء، بينما كان مهندس الخرسانة يحكي عن زميل لهم كان يعمل مُدرِّسًا في مدرسة بنات، ولم يكن يدَع بنتًا دون أن يقبِّلها ويجعلها تلمسه بين ساقَيه.

تردَّد فجأةً غطيط مرتفع في المقعد الخلفي، وقال المهندس إن فوزي لن يستيقظ أبدًا وعليهم أن يحملوه إلى فِراشه حملًا.

قال زميله: أو نستخدم معه إحدى الصفائح.

ضحك مهندس الخرسانة وقال لنا أنا وسعيد: إذا جئتما في الصباح أريناكما مشهدًا لا يُنسى.

سأل سعيد: ما هي الحكاية؟

قال زميل المهندس: الحكاية حكاية ثأر … على رأي عبد الحليم.

قال سعيد: مَن اعتدى على شرف مَن؟

قال المهندس: ثأر ليس من أجل الشرف … إنه ثأر مياه.

قال زميله: عنابرنا ليست بها ثلاجات؛ ولهذا نقوم بتبريد المياه في أزيار، وتتبادل العنابر سرقة المياه الباردة والثأر لمياهها المسروقة.

قال المهندس: ولكن ثأر الغد لم يقَع مثله من قبل.

ضحك زميله، وسألت: كيف؟

قال: في كل عنبر يوجد عمدة مسئول عنه، وغدًا صباحًا يصل عمدة العنبر المدين لنا بالثأر من إجازته بالطائرة، وسنذهب لاستقباله في المطار بخمس صفائح من المياه المثلجة ونسكبها على رأسه.

انحدر الطريق بعد ارتفاع، وتجلَّت أمامنا مئات المصابيح الكهربائية المتناثرة، وبدا موقع العمل أشبه بحفل ساهر كبير، وبعد برهة ميَّزت مئذنة الجامع ومكتب المباحث. اتجهَت السيارة يمينًا وارتقت ما يُشبه هَضْبةً صغيرة، ثم توقَّفت أمام مبنًى صغير من طابق واحد.

عاونني سعيد في إنزال حقيبتي، وسألنا مهندس الخرسانة إن كنا نُحب أن نشهد عملية المياه في الغد، فاعتذر سعيد بأن لديه ارتباطات عدة. قال المهندس إنه يعمل في الخلاطة ونستطيع أن نزوره هناك.

انصرفَت السيارة وحملتُ حقيبتي وتبعت سعيدًا إلى الداخل. مررنا بباب انتشرت خلفه الموائد والمقاعد، ثم مضينا في ردهة إلى باب في أقصاها فتحه سعيد وأضاء النور.

ظهرت أمامنا حُجرة واسعة يتصدَّرها جهاز التكييف وبها ثلاثة أَسِرة متفرِّقة في أركانها. اتجه سعيد إلى نافذة تغطِّيها شبكة من السلك، فأغلقها وأدار جهاز التكييف فجعل يطن بصوت واضح، وما لبثت البرودة المنعشة أن بدأت تنتشر في الغرفة.

وضعت حقيبتي أمام أحد الأَسِرة وجلست على حافته، ثم فتحتها وأخرجت كتاب «ميكل أنجلو» فوضعته على مقعد بجوار الفراش، ورتَّبت حاجياتي الأخرى في أدراج صوان صغير مجاور.

كان سعيد قد انطلق إلى الحمام، وعندما عاد ذهبت بدوري وعدت إلى الغرفة فأشعلت سيجارةً واستلقيت على الفراش.

استلقى سعيد على فراشه يدخِّن وقال إنه سيجرِّب حظَّه غدًا مع فتاة الشورت. سألته كيف يغلق جهاز التكييف فقال إننا سنتركه دائرًا لأن الحر بدونه لا يُطاق، وقام فأطفأ سيجارته في المنفضة وحملها إلى جوار فراشه، ثم أغلق الباب بالمفتاح وأطفأ النور، والْتجأ إلى فِراشه مُشعلًا سيجارةً جديدة.

قال بعد لحظة إنه يُريد أن يكتب شيئًا يُعبِّر به عن الإنسان الجديد الذي وُلد مع السد العالي، وإنه فكَّر أمس في سيناريو للسينما؛ مهندس يأتي إلى السد ويترك فتاته الثرية في القاهرة على مضض، ويوشك أن يعود إليها بعد أن عجز عن احتمال الحر والإرهاق والوحشة، لكن العمل ما يلبث أن يغيِّره فيترك الفتاة ويستقر في أسوان السد.

قلت: ويتزوَّج ابنة رئيس العُمَّال.

ضحك وقال: ويعيشان في التبات والنبات. كلا، إني أتكلَّم جادًّا.

قلت: أذكر أنك كنت تتحدَّث دائمًا عن الكتابة للمسرح.

قال: كلنا بدأنا بأحلام عريضة، ثم ما لبث كل شيء أن جفَّ. أقول لك الحق؟ لم أعد أرغب في كتابة شيء على الإطلاق. أصبح كل ما أكتبه ممسوخًا مائعًا بلا روح. مقالات تتوه في سراديبها، ولا هدف لها إلا تبرير كل شيء.

قلت: لا تقل لي إنك لم تكن مقتنعًا بكل ما تكتبه.

قال: كنت أُقنع نفسي. لقد كانت هناك أشياء ضخمة، وكنا جميعًا نتجاهل الجوانب الأخرى عن عمد. ألم تكُن السجون حاشدة؟ وكنا أيضًا نجني شيئًا من الثمار.

قلت دون اقتناع قوي: المراحل الأولى دائمًا هكذا.

قال: ولكن الأمر يُصوِّر وكأننا حقَّقنا كل شيء. هل أقول لك شيئًا؟ ستسمع هنا بالتأكيد مَن يقول لك إننا نستطيع بناء السد بمفردنا دون مساعدة الروس.

رأيت شعلة سيجارته تتحرَّك في الظلام إلى أسفل حيث وضع المنفضة على الأرض، ثم ترتفع من جديد بعد أن ازدادت توهُّجًا.

استطرد: أنا آتي إلى هنا بأمل وحيد؛ أن أعيش بضعة أيام خارج كل ما ترمز إليه القاهرة. أظنك رأيت تلك النشوة المتشنِّجة التي تظهر على وجوه بعضهم عندما يَرِد ذكر السد العالي؟ كأنما جفَّت أرواحنا ولم تَعُد قادرةً على الوقوف بمفردها، ولا بد من تعليقها على شيء.

***

وجهه حليق منتعش كأنما استيقظ توًّا من نوم عميق، أو كأنما كنا في عصر يوم من أيام الصيف بعد قيلولة طويلة، وكنا في الفجر، والشهر يناير.

– رأيك في الحكومة؟

كأنما يمكن أن تُخاطب بالمنطق رأسًا جُنَّت بالسلطة.

– هل تنوي استخدام العنف؟

الكتب بيني وبينه هي الدليل الوحيد.

***

عادت السيجارة مرةً أخرى إلى أسفل، وفي هذه المرة ضغطها في المنفضة مُعلنًا أنه يريد أن ينام.

قال: تُصبح على خير.

قلت: وأنت من أهله.

***