نجمة أغسطس

مؤسسة هنداوي مؤسسة هنداوي

الفصل الثالث

في الصباح ظهر على باب حجرتنا نوبي عجوز قال سعيد إنه المسئول عن تنظيف الحجرة. ورحَّب بي العجوز قائلًا إنه يُدعى فقيرًا. سألته عن مصير الملابس المتسخة، فطلب مني أن أتركها على الفِراش ليأخذها إلى المغسلة.

كانت الساعة قد تجاوزت التاسعة؛ ولهذا ألفينا المطعم خاليًا. وأحضر لنا نوبي آخر إفطارًا قويًّا من الزبد والمربَّى والفول المدمَّس.

أشعل سعيد سيجارةً وقال: عندي موعد بعد ساعتَين مع كبير الخبراء السوفيات. تأتي معي؟

هززت رأسي موافقًا، فقال: اليوم هنا يبدأ بالبحث عن وسيلة ركوب.

قلت: كنت أتصوَّر هذه المشكلة محلولةً بالنسبة لك.

قال: في البداية أعطَوني سيارةً وسائقًا، ثم سحبوهما لاحتياجات العمل. لم يبقَ إلا أن نعتمد على أنفسنا.

قلت: نمشي؟

قال: لا بد لنا من سيارة؛ فالمسافة كبيرة، فضلًا عن أن معالم المكان تتغيَّر كل يوم.

دفع مقعده إلى الوراء ونهض واقفًا وهو يقول: تعالَ نبذل محاولة.

أخذنا قبعتَينا من الحجرة وغادرنا الاستراحة بعد أن علَّق سعيد كاميرته على كتفه. مشيت بتثاقل من أثر الطعام والحرارة، وتوقَّفنا أمام كشكٍ للصحف وابتعنا الجرائد التي وصلت من القاهرة توًّا.

ألقيت نظرةً على العناوين الرئيسية، ثم طويت الصحيفة وتبعت سعيدًا إلى داخل مبنًى مستطيل من طابق واحد. وقال سعيد ونحن نتقدَّم في ممر رطب اصطفَّت على جانبَيه الأبواب المغلقة: سنجرِّب حظَّنا مع صديق من أيام المدرسة.

طرق سعيد أحد الأبواب وأدار مقبضه، ثم دفعه. ودلفتُ وراءه إلى الحجرة التي تُصدرها مكتب خشبي كبير جلس خلفه شاب على شيء من الوسامة، ويبدو أنه كان على بينة من هذه الوسامة فقد مشَّط شعره بعناية، وجعل في جانبه الأيسر فاصلًا واضحًا.

عرَّفني سعيد بصديقه الذي كان يُدعى عباس، وقال ونحن نجلس في مقعدَين متقابلَين أمام المكتب إنهما كانا معًا في مدرسة القرية وغادراها إلى القاهرة في يوم واحد.

سألني عباس عن موعد قدومي وعمَّا إذا كان هناك جديد في السياسة، ثم قال إنه سمع اليوم أنهم يعتقلون الإخوان المسلمين في القاهرة.

قال سعيد: نحن لم نأتِ للتحدَّث في السياسة، نُريد سيارة.

قال عباس إنه ترك سيارته الخاصة في أسوان مع زوجته، أمَّا سيارة الشركة المخصَّصة له فهي معطوبة، وبوسعه أن يرسلها إلينا في الغد.

قال سعيد: إذن نذهب الآن ونلتقي فيما بعد.

قال ونحن نعود إلى الطريق المشتعل من الحرارة: أراهن أنه لن يستطيع النوم الليلة.

قلت: لماذا؟

قال: بسبب إشاعة الاعتقالات؛ فعندما كان في المدرسة كان مُتصلًا بالإخوان، ورغم أنه قطع صلته بهم منذ زمن بعيد، إلا أنه يرتجف من الرعب عندما تتردَّد أنباء اعتقالهم.

انطلقنا في التراب نحو الموقع، وعندما تجاوزنا الجاراج تحوَّلنا إلى اليسار وعبرنا خطًّا حديديًّا، وقال سعيد إن الخط ينقُل الأسمنت إلى خلاطة الخرسانة. وأشار إلى مبنًى حديدي ضخم من عِدة طوابق يصطف أمامه طابور من القلابات الروسية الخضراء. كانت طوابق المبنى عاريةً بلا جدران، وتتألَّف من شبكة من المواسير والأقماع والمعدَّات، وحول المبنى انتشرت عدة خزَّانات وقواديس وأكوام من الرمال أمامها شريط طويل من المطَّاط فوق قوائم حديدية تجري عليه الأحجار الصغيرة.

كنا نمر بجوار كوم من الرمال عندما برز فجأةً من فجوة في وسطه عدة أشخاص يرتدون الكمامات. أشار إلينا أحدهم أن نتوقَّف، ونزع الكمامة فألفيناه مهندسَ الخرسانة الذي تعرَّفنا به بالأمس.

أصرَّ أن يرينا الخلاطة فصحبناه إليها، وصعدنا خلفه إلى طابقها العلوي. قال إنها تعمل بالإدارة من بعيد، وإنها كانت تستقبل يوميًّا في المرحلة الأولى كميةً من الأسمنت تكفي لبناء عشرة منازل في خمسة طوابق، أمَّا الآن فهي تستقبل ثُلث هذه الكمية فقط، تُستخدم بعد خلطها بالرمال والصخور في أساسات محطة الكهرباء وقلب السد.

اعتمدتُ على سياج حديدي يُطل على طابور القلابات الفارغة، وتأمَّلت واحدةً منها تتقدَّم لتقف تحت قُمع ضخم من المطاط في طرف الخلاطة، وبدت القلابات ضئيلةً للغاية أسفل القُمع الضخم.

انفرج فاه القُمع فجأةً وانهمرَت منه كتلة الخرسانة مرةً واحدة. اهتزَّت القلابة وهبط جسمها قليلًا نحو الأرض، ثم عاد إلى وضعه، وانغلق القُمع كما انفتح، واهتزَّت القلابة مرةً أخرى وهي تنتزع نفسها من الأرض وتتحرَّك مبتعدةً ببطء، وانسابت العربة التالية مكانها.

تابعت القلابات وهي تنساب واحدةً وراء الأخرى أسفل القُمع. كان بعضها يتجه بعد ذلك إلى اليمين ويختفي خلف أحد المنحنيات، وكان بعضها الآخر يتجه إلى اليسار، ثم يتوقَّف بعد مسافة. وترتفع ظهورها لتُلقي بحمولتها في وعاء ضخم على الأرض، وما لبث الوعاء أن ارتفع في الهواء ودار دورةً واسعةً في اتجاه محطة الكهرباء. ومِلت إلى الأمام لأرى المكان الذي سيستقر فيه ولكني لم أستطِع.

ظهر الوعاء بعد قليل عائدًا إلى مكانه السابق فوق سطح الأرض، وتبيَّنت سلكًا يربطه ببرج حديدي بالغ الارتفاع ينتصب خلف الخلاطة. كان ارتفاعه يتجاوز ارتفاعها بمراحل، وبدت في قمته حُجرة ذات جدران زجاجية. وقال لي المهندس إن البرج عبارة عن رافعة هوائية.

وقف سعيد إلى جواري معتمدًا بمرفقَيه على السياج، وسمعته يغمغم لنفسه: رائع. عظيم.

والتَفتُّ إليه فرأيته يُدير عينَيه حوله وهو يحرِّك شفتَيه.

قال إنه يُريد أن يلتقط بعض الصور للموقع من قِمة الرافعة، فتركنا الخلاطة واتجهنا إلى الآلة التي استقرَّت فوق أربع عجلات تجري على قضبان.

ارتقينا سلمًا عموديًّا حتى وصلنا القمة ونحن نلهث، ووقفنا في مدخل الحجرة الزجاجية التي كان بابها مواربًا تنبعث منه برودة جهاز التكييف، ورأيت من خلاله ميكانيكيًّا مصريًّا أبيض شعر الرأس يجلس أمام عدة مقابض.

تحوَّل إلينا العامل ببصره فطالعني وجه شاب في مقتبل العمر، وعاد يتطلَّع إلى المقابض أمامه مباشرةً متجاهلًا إيانا كلية، لكنه ظلَّ يتابعنا بطرف عينه. وعندما شعر بسعيد يرفع الكاميرا، بسط قامته ومضى يحرِّك المقابض في اعتداد.

شعرت بالرافعة تتحرَّك بينما دقَّ جرس قوي، وتطلَّعت من الحائط الزجاجي فرأيت ذراع الرافعة تتجه في الهواء إلى محطة الكهرباء.

ظلَّت يدا الميكانيكي تعملان فوق المقابض، وتحرَّك ذراع الرافعة من جديد، واستدار سعيد يلتقط بعض الصور للموقع.

توقَّف الميكانيكي عن العمل لحظةً وتحوَّل إلينا مبتسمًا. ولم تبدُ عليه الدهشة عندما سأله سعيد عن اسمه وعن الدافع الذي جاء به للعمل في السد؛ فقد حدَّد هُوية سعيد بالخبرة.

قال بصوت من يتحدَّث أمام ميكرفون الإذاعة ويعرف بالضبط المطلوب منه: جئت لأخدم وطني. وابتسم.

بدا سعيد راضيًا وهو يدوِّن اسم العامل وكلماته في مفكرته، وقال هذا إنه تدرَّب مدةً أولًا على إدارة الونش على يد عامل روسي، ومنذ شهرَين أصبح يُديره بمفرده، وكان يعمل قبل ذلك في إحدى وِرَش السيارات في طنطا.

كنت أنقُل بصري بين وجهه الشاب وشعر رأسه الأبيض عندما لمح سؤالًا في عينَي، فرفع يده إلى شعره قائلًا: الونش هو السبب. أول ما جيت هنا ما كانش فيه شعرة واحدة بيضة في رأسي.

قلب سعيد صفحةً جديدةً في مفكِّرته طالبًا من العامل أن يحكي ما حدث. وقال هذا إنه كان يُدير الرافعة عندما احتكَّت بكابل كهربائي يجره عدد من العُمَّال يسيرون في بعض المياه، وأدَّى الاحتكاك إلى نزع جزء من قشرة الكابل الخارجية فتكهرب على الفور، وصُعِق جميع العُمَّال.

أغلق سعيد مُفكِّرته، وشدَّ يد الميكانيكي شاكرًا، وصافحته بدوري، ثم هبطنا السلَّم العمودي في حذر ونحن نتجنَّب التطلُّع إلى أسفل.

سرنا بين العربات المختلفة حتى بلغنا سورًا يقف أمامه جندي، ومن فوق السور كان جسم السد يمتد أمامنا بأكمله؛ فإلى اليسار كان الجزء الأمامي المواجه لمنابع النيل، تغطِّيه الرمال وتتحرَّك فوقه البلدوزرات، وإلى اليمين كان الجزء الخلفي المواجه للقاهرة يرتفع عاليًا بكميات هائلة من الصخور الضخمة، ثم ينحدر نحو صفٍّ من البراميل التي أُقيمت بصورة عمودية على حافة المياه، وفي الوسط امتدَّ شبه طريق يتدفَّق فيه الناس والعربات.

كان ثمة مجموعة من المباني الخشبية على مقربة. اتجه سعيد نحوها قائلًا: لنجرِّب حظنا مرةً أخرى.

وَلَجْنا بابًا عُلِّقت فوقه لافتة تُعلن عن إدارة المركبات. سرنا في ردهة ضيقة، ثم طرق سعيد بابًا في أقصاها وهو يهمس: هذا هو المدير، وهو من رجال الجيش.

كان هناك شخص في الداخل يصيح بصوت غاضب. وتوقَّف الصياح فجأة، ثم ارتفع الصوت الغاضب قائلًا: ادخل!

ودفع سعيد الباب وأنا خلفه، ورأيت مجموعةً من العُمَّال تقف واجمةً أمام مكتب جلس خلفه رجل طويل القامة يرتدي قميصًا كاكيًّا ويُخفي عينَيه وراء نظارات شمسية داكنة.

قال بنفس الصوت الغاضب: أفندم؟

أوضح سعيد هُويتنا فلانت قسمات الغاضب على الفور، وأشار إلينا بالجلوس، ثم تحوَّل إلى العُمَّال الواقفين قائلًا: زي ما قلت. روحوا دلوقت وبعدين أبعتلكم.

قال بعد أن انصرفوا: هؤلاء هم المصريون، يخافون ولا يختشون.

وتأمَّل سعيدًا لحظة، ثم أضاف: أظن أننا الْتقينا من قبل؟

قال سعيد وهو يبتسم في رِقة شديدة: أجل أخذت من سيادتك حديثًا منذ ستة أشهر. وأشار إليَّ واستطرد: زميلي يزور السد لأول مرة وقد أصرَّ على مقابلتك ليُعِد مقالًا عن دور العسكريين في بناء السد من واقع تجربتك الشخصية.

تحوَّل إليَّ قائلًا: أنا تحت أمرك.

فكَّرت بسرعة، ثم سألته: ما هو في رأيك سرُّ النجاح الذي سجَّله العمل في السد حتى الآن؟

أجاب على الفور: السر هو النظام والطاعة المبنيان على الخوف. لا تظن أني ضد الديمقراطية. خُذ هؤلاء العُمَّال مثلًا؛ إنهم يستطيعون دخول مكتبي في أي وقت.

أخرجت مفكرتي وتظاهرت بتدوين أقواله. اعترضني بيده قائلًا: لا داعي لكلمة الخوف هذه. الأفضل أن تقول النظام والطاعة المبنيان على الإقناع؛ حتى لا يُسيء أحد الفهم.

قلت: مفهوم.

قال إن السوفيات أعطَوه وِسامًا، ومدَّ يده إلى درج مكتبه فأخرج مجلةً روسيةً قائلًا إن بها مقالًا بهذه المناسبة.

نهضنا واقفَين وانحنينا على مكتبه لنرى المقال. كان قد بسط المجلة على صفحة تحمل صورته، وجعل يقرأ لنا الترجمة العربية التي دُوِّنت بالقلم الرصاص على هامش الصفحة وأنا أُدوِّنها في مفكِّرتي.

تطلَّع سعيد فجأةً إلى ساعته، ثم قال إن الحديث يحتاج إلى وقت أكبر لأهميته، وإننا للأسف لا نملك وقتًا كافيًا؛ فلدينا موعد في الهيئة. وكتم مضيفنا شعورًا بالاستياء ظهر على وجهه، وقال إننا نستطيع الاتصال به في أي وقت نُحب.

اعتدلنا واقفين، ووجَّه سعيد حديثه إليَّ وهو ما زال يتطلَّع إلى ساعته: لقد تأخَّرنا بالفعل، ولن تنقذنا إلا سيارة. وحوَّل بصره إلى الرجل متسائلًا.

قال هذا على الفور: أُعطيكما ورقةً تأخذان بها سيارةً من الجاراج.

قال سعيد في ضيق: ولكن جاراج الهيئة على ما أذكر يبعد عنا مسافة. لو أمكن أن تعطينا سيارةً الآن يكون أفضل.

هزَّ رأسه قائلًا: ليس هناك غير سيارتي، لكن السائق غير موجود الآن للأسف.

حزم سعيد أمره أخيرًا: ليس أمامنا إلا أن نمشي ونعتمد على الحظ.

صافحناه واعدَين بالاتصال به خلال يومَين، ثم انطلقنا إلى الخارج.

وعندما أصبحنا في الطريق تبادلنا النظرات وانفجرنا ضاحكَين.

مضينا نضرب في الأتربة، ودُرنا بعِدة منحنيات ونحن نتطلَّع خلفنا كل لحظة أملًا في سيارة عابرة. أقبلَت علينا شاحنة ثُبِّتت في مقدِّمتها ماسورة بالعرض، وقال سعيد إن الشاحنة تُدعى بأبي شنب، وقد أطلق عليها الصعايدة هذا الاسم عندما رأوها لأول مرة.

وجدنا أنفسنا على الطريق الدائري المؤدِّي إلى محطة الكهرباء، فبدى لنا النيل يجري هادئًا في قناته الجديدة، وفي كل مكان انتشر الصعايدة حاملين مقاطف الأتربة. تجاوزنا محطة الكهرباء، وواصلنا السير حتى أشرفنا على جسم السد.

رأيت وسط الشريط العريض من الصخور والرمال بنائَين طويلَين متجاورَين يصلان بين الضفتَين، كانا مقوَّسَي السطحَين تعترضهما ثغرات ضيقة على مسافات متساوية. وقال سعيد إنهما ممرَّا التفتيش، وإن ثالثًا سيعلوهما، ثم يغطَّى الثلاثة بالطمي إلى الأبد.

بلغت حرارة الشمس أوجها وثقلت حركتي. شعرت بالرغبة في العودة إلى الاستراحة، ولكني استأنفت السير إلى جوار سعيد في صمت.

بلغنا أحد المنحنيات فتوقَّفنا حتى مرَّت سيارةٌ لرشِّ المياه تلتها حفارة صغيرة، استقرَّ صندوق سائقها في مقدِّمتها بدلًا من مكانه المعهود في الخلف، فبدت كأنما تسير بظهرها، ثم ظهرت سيارة جيب أشار سعيد لسائقها فتوقَّف إلى جانبنا، ولكنه قال إنه ذاهب حتى الكشك القريب وحسب.

مشينا بضع خطوات، ثم وقفنا ننتظر. سألت سعيدًا عن سر اهتمامه بمقابلة كبير الخبراء الروس. قال إنه كان يتحاشاهم دائمًا حتى لا يُثير الشكوك من حوله، لكن رئيس التحرير طلب منه هذه المرة موضوعًا عنهم، ويبدو أن أحد مسئوليهم اشتكى من تجاهل الصحافة لهم.

مرَّت بنا سيارة فيات تابعة للشركة استقرَّ رجل بدين في مقعدها الخلفي. قال سعيد إنها ذاهبة إلى الهيئة، ولا شك وأن راكبها يبدو شخصًا مهمًّا ولن يقف السائق لنا. ومرَّت دقائق طويلة لم يظهر فيها سوى سيارة تبريد، تبعتها سيارة من طراز «فولجا» يعلو هيكلُها عن الأرض أكثر من المعتاد، وكان سائقها الروسي يقودها بسرعة أثارت عاصفةً من الغبار.

أوشكنا أن نستأنف السير عندما ظهرَت سيارة جيب روسية أوقفها سائقها المصري عندما رآنا وسألنا إذا ما كنا ذاهبَين إلى الهيئة. تطلَّع سعيد إليَّ، ثم قال للسائق إننا لا نمانع في الذهاب.

مضت السيارة تتدحرج بنا فوق جسم السد غير الممهَّد، وجعلت تهتز وترجُّنا رجًّا. مدَّ سعيد يده إلى مقبض الباب على أُهبة القفز في أية لحظة، وظلَّ في هذا الوضع وعيناه على الطريق حتى أصبحنا على الضفة الغربية.

قلت له: أظنك وجدت بداية المقال؟

سأل: كيف؟

قلت: تبدأ هكذا: كدت أفقد حياتي على جسم السد.

لم يضحك فالتزمت الصمت، وانطلقت السيارة في الطريق المرصوف الذي يؤدِّي مباشرةً إلى أسوان، وعند مفترق طرق تحوَّلت إلى اليسار حتى أشرفنا على مبنى الهيئة، فصعدت طريقًا دائريًّا وتوقفت أمامه.

سأل سعيد السائق عن موعد عودته، فقال إنه سيأخذ أحد المهندسين وينصرف توًّا.

قفز سعيد إلى الطريق، وعندما أردت أن أتبعه وجدت سروالي قد الْتصق بجلد المقعد، وابتلَّ من العرق في أكثر من مكان.

ألقى سعيد نظرةً على ساعته وقال: لقد وصلنا بمعجزةٍ في الموعد.

تقدَّمني إلى بابٍ على يسار المبنى، ووقفت في المدخل حتى تعوَّدَت عيناي اختفاء ضوء الشمس، ثم سرنا في ردهة هادئة تنبعث منها رطوبة خفيفة منعشة.

خلعت قبعتي ومسحت عرقي بمنديلي. بلغنا بابًا جلس أمامه فرَّاش نوبي أشار لنا إلى باب آخر دون أن يفوه بكلمة، فطرقناه ودخلنا.

التقَت عيناي بعينَين زرقاوَين واسعتَين تُحيط بهما هالة من الشعر الأحمر تدلَّت أطرافه فوق آلة كاتبة. كانت صاحبتهما قد رفعتهما إلى الباب عند دخولنا، ثم خفضتهما على الفور.

تحوَّلت ببصري إلى صورة كبيرة للينين على الحائط، ثم شقراء ممتلئة لوَّحت الشمس بشرتها جلست أمام عدة تليفونات. تطلَّعَت إلينا متسائلة، فقال سعيد بالإنجليزية إننا صحفيان ولدينا موعد مع أبراسيموف.

ابتسمت وقالت: باجلستا. وأشارت إلى مقعدَين بجوار مكتب جلس إليه شاب ذو ملامح آسيوية يدق على الآلة الكاتبة في استغراق.

قال سعيد في صوتٍ خافت ونحن نجلس: ها هنا نفق تتوه فيه أعظم القضبان.

تأمَّلتنا الشقراء باسِمةً وهي تُسوِّي خصلةً من الشعر وزَّعتها في خطوط رأسية متوازية فوق جبهتها، وقدَّرت أنها في الأربعين من عمرها.

أخرجتُ علبة سجائري وقدَّمت لها سيجارةً فتناولتها قائلة: سباسيبا.

تحوَّلت إلى زميلتها فرفعَت عينَيها إليَّ وابتسمت قائلةً بالإنجليزية إنها تفضِّل البلمونت، وأخرجَت علبةً من حقيبتها تناولت منها سيجارةً أشعلتها لها.

كان فمها واسعًا في وجه مستطيل تُحيط به خطوطٌ تنم عن الإرهاق، وبدت شفتاها جافتَين توشكان على التشقُّق.

اعتذر الشاب بأنه لا يدخِّن، فعدت إلى مقعدي، وكان سعيد منهمكًا مع الشقراء في حديث متقطِّع بكل اللغات، وسمعتها تقول في إنجليزية ركيكة إنها تُدعى إليونا، وإنها ستعود إلى موسكو بعد شهرَين، وقالت إن زميلتها تُدعى تانيا، وإنها وصلت منذ شهر فقط.

قال سعيد: كم نود الذهاب إلى موسكو!

هتفت الشقراء ضاحكةً وهي تُلوِّح بيدها في الهواء: من فضلكم تعالَوا.

واختلست النظر إلى صاحبتها في خجل مفاجئ فضحكنا.

وجمت فجأةً وأشارت بيدها مرةً أخرى، ثم تناولت سماعة التليفون. تكلَّمت بالروسية وسمعنا اسم أبراسيموف يتكرَّر، ثم كلمة جورناليست، ثم نحَّت السمَّاعة عن فمها وسألتنا: باروسكي نييت؟

فهمت أنها تقصد اللغة الروسية، فقلت: نييت.

عادت تتكلَّم في السمَّاعة وهي تحتد حينًا وتبتسم حينًا آخر، واعتمدت تانيا بمرفقَيها على الآلة تتأمَّل زميلتها باسمة. وأخيرًا وضعت الشقراء السمَّاعة مكانها وتنهَّدَت، ثم أشارت بيدها إلى باب بجوارها وقالت وهي تنهض واقفة: مستر أبراسيموف خراشو. باجلستا.

نهضنا بدورنا، وتقدَّمتنا إلى الحجرة الداخلية وعينا سعيد على عجزها الممتلئ، وتبعناها إلى قاعة طويلة بها مائدة اجتماعات وحولها عدد كبير من المقاعد، وفي نهاية القاعة جلس رجل قصير القامة مدكوكها أبيض شعر الرأس إلى مكتب صغير.

كنت قد رأيت صورة أبراسيموف عدة مرات في الصحف، وتعرَّفتُ فورًا على الوجه المربع القوي الذي انتشرت فوقه شبكة هائلة غير عادية من التجاعيد.

وقف أبراسيموف عندما رآنا، وأحسست بشخص خلفي. التفَتُّ فرأيت شابًّا نحيلًا محتقن الوجه أنيق الملابس قدَّم نفسه إلينا على أنه مترجم واسمه فكتور.

انسحبَت إليونا وتحدَّث أبراسيموف بالروسية وهو يُشير إلى المقاعد المحيطة بمكتبه فجلسنا. تكلَّم سعيد وفكتور يترجم من الإنجليزية إلى الروسية. قال إننا نريد أعداد بعض المقالات عن حياة الروس في السد، لكننا عاجزون عن التفاهم مع أحدٍ بسبب اللغة، وكلما حاولنا أخذ بعض المعلومات المحدَّدة قيل لنا إنه لا بد من أمر من أبراسيموف شخصيًّا.

قال أبراسيموف من خلال فكتور إنه سيُعيِّن لنا واحدًا يقدِّم لنا كل ما نحتاجه من معلومات ويساعدنا في مقابلة مَن نشاء.

التفت سعيد ناحيتي وقال بالعربية: آه لو عينوا النفق.

رفع أبراسيموف سمَّاعة التليفون وتحدَّث قليلًا، ثم أعادها مكانها. كانت كل حركاته تنم عن ثقة شديدة بالنفس.

تحوَّل إلينا مبتسمًا وقال: إننا أحسنَّا صُنعًا بالمجيء في أغسطس؛ فهم يستعدون الآن للفيضان، كما أن العمل يمر بأهم مرحلة وهي تشييد النواة الصماء في قلب السد.

خاطبه سعيد: مستر أبراسيموف، لقد عاصرتَ بناء السد منذ بدايته، فماذا كانت أخطر لحظة مرَّت بك في تلك المدة؟

فكَّر الروسي لحظة، ثم ابتسم: اللحظات الخطيرة كثيرة؛ أثناء بناء الأنفاق كان كل يوم يمثِّل لحظة خطر بسبب الانهيارات التي كانت تحدث فيها، وفي بداية سنة ٦٣ عندما أوشك السد المؤقَّت الذي أقمناه أمام قناة التحويل أن ينهار.

قال سعيد: وأخطر هذه اللحظات؟

قال أبراسيموف: ربما كان فيضان العام الماضي هو أخطر لحظة مرَّت بي هنا؛ فقد جاء الفيضان عاليًا وارتفع الماء بسرعة، وفي لحظة رأيت كل عملنا مُهدَّدًا بالغرق. لكن تعرف؟ لولا السد لكانت بلادكم قد تعرَّضت لمخاطر جسيمة؛ فقد تمكَّن من احتجاز الجزء الأكبر من المياه.

سألت: هل يمكن أن يتكرَّر الخطر هذا العام؟

أجاب: التقديرات الأولية تقول إن فيضان هذا العام لن يكون عاليًا.

عدت أسأل: ولو كان فماذا يكون العمل؟

قال: الأمر بسيط؛ نفتح كل الأنفاق في وجه المياه، وبذلك نحول دون وقوع شيء للسد نفسه أو للوادي.

سأله سعيد عن تاريخ تخرُّجه فقال: سنة ٢٧؛ أي بعد الثورة بعشرة أعوام.

– وما هو أهم ما تذكره عن تلك الفترة؟

فكَّر الروسي لحظة، ثم قال: الحماسة التي كُنَّا نعمل بها في أول مشروعٍ للري في آسيا الوسطى. كان هذا هو أول مشروع أشترك فيه، وجاءت بعده مشروعات أخرى في أماكن متفرِّقة من البلاد، ثم نشبت الحرب واشتركتُ بها في سلاح المهندسين.

– وبعد الحرب؟

– عملت في إعادة إنشاء الجسور ومحطات الكهرباء التي دمَّرتها الحرب، والمؤلم أنها كانت هي ذاتها التي اشتركت في إنشائها قبل الحرب.

– وبعد ذلك؟

– في سنة ٥٥ تولَّيت مسئولية عدة مشروعات كبرى، وعملت في عدة بلاد في الخارج.

تدخَّلت في الحديث قائلًا: تعني بعد انتقاد عبادة الفرد؟

بدا وجهه جامدًا لا يُعبِّر عن شيء، وأجابني في صوت بارد: لا أعني شيئًا.

سأله سعيد عن رأيه في الجيل الجديد من الشباب السوفياتي.

قال: الجيل الجديد يُريد تلافي الأخطاء التي وقع فيها الجيل الذي سبقه، وهذا شيء طبيعي في كل مكان.

وجَّه إليه سعيد عدة أسئلة عن اهتماماته الشخصية وهواياته. وجلست أستمع إلى إجابته وأنا أفكِّر في المراحل المختلفة التي مرَّت بها حياته، والأخطار التي تعرَّض لها وأفلت منها.

أحضر لنا فرَّاش نوبي زجاجتَين من الصودا المثلَّجة، ثم طرق الباب ودخل رجل ضئيل الجسم شرقي الملامح يرتدي ملابس كاملة. اتجه الرجل إلى أبراسيموف مباشرةً وانحنى أمامه في احترام شديد، وهمس لنا فكتور أنه كبير المصمِّمين، وهو أرمني يُدعى أوجنسيان.

تحدَّث أبراسيموف إلى الأرمني، ثم قدَّمه لنا على أنه الذي سيتولى مساعدتنا، ونهض واقفًا مُعلنًا انتهاء المقابلة.

غادرنا الغرفة برفقة أوجنسيان من باب غير الذي دخلنا منه، وتبعناه إلى غرفته، وبدأ يتحدَّث بالروسية فور جلوسنا، فقاطعه سعيد قائلًا: باروسكي نييت.

تطلَّع إلينا في وجوم، ثم غادر الغرفة، وعاد بعد ربع ساعة بصحبة رجل طويل القامة أصلع الرأس مشمأنط الوجه. خاطبنا القادم الجديد بالإنجليزية كالتي يتكلَّمها الأمريكان، وقال إنه يُدعى زولوجدين.

أفسحنا مكانًا لمقعده بيننا، وتحدَّث إليه أوجانسيان، ثم تحوَّل هذا إلينا وطلب منا أن نوضِّح ما نريده.

قال سعيد إننا صحفيان ونريد كتابة بعض المقالات عن حياة الروس في السد ومشاكلهم.

ترجم زولوجدين كلمات سعيد، فقال الأرمني على الفور: لا توجد لدينا أية مشاكل.

كانت لهجة زولوجدين عندما نقل إلينا هذه الإجابة توحي بأنه ضيق بنا وبالأرمني وبكل شيء.

قال سعيد في صبر إننا نريد مقابلة عدد من المهندسين والعُمَّال الروس والاطلاع على حياتهم الثقافية والاجتماعية والحصول على بعض الأرقام والبيانات الخاصة بذلك.

فكَّر أوجانسيان برهة، ثم نهض واستأذن منا مغادرًا الغرفة. وجلسنا في صمت حتى عاد برفقة رجل باسم الوجه رمادي الرأس، ودار حديث سريع بالروسية بين الثلاثة، ثم تحوَّل إلينا زولوجدين وقال في لهجته الجافة مشيرًا إلى القادم الجديد: مستر بيوتر ياكونوف سيتولَّى الإجابة على كافة أسئلتكما، وهو يتكلَّم الإنجليزية.

رفع ياكونوف يده معترضًا: قليل منها فقط. وابتسم كاشفًا عن سن ذهبية.

اقترح أن ننتقل إلى مكتبه، فأحنينا رأسَينا لأوجنسيان وقلنا له: سباسيبا. وصعدنا خلف ياكونوف إلى الطابق الثاني يتبعنا المترجم.

ولجنا غرفةً تضم ثلاث طاولات عالية للرسم جلس إلى إحداها رجل نحيل مُتقدِّمٌ في السن، ووقف خلف الثانية شاب ضخم البنية. جمع ياكونوف ثلاثة مقاعد حول المائدة الثالثة واحتلَّ مكانه خلفها.

وضع مرفقَيه على المائدة وتحدَّث في لهجةٍ شبه رسمية وإن ظلَّ محتفظًا بابتسامته، وتطلَّعنا إلى زولوجدين، فقال إنه يريد منا أن نكتب له اسمَينا. كتبت له الاسمَين فقرأها بإمعان، ثم قال: مستر سعيد، ماذا تريدان بالضبط؟

كرَّر سعيد ما سبق أن قاله للأرمني.

قال ياكونوف: مستر سعيد، أنا موجود هنا منذ بدأ العمل في ١٩٥٩؛ ولهذا أعرف كل شيء، وسأزوِّدكما بكل ما تريدان من معلومات.

قلنا في نفس واحد: سباسيبا.

قال: مستر سعيد، لا بد أن نضع برنامجًا دقيقًا لكل شيء.

قال سعيد: أوكي.

استأذن منا وغادر الغرفة، ثم عاد بعد دقائق ودار خلف مائدته وهو يتطلَّع إلينا بابتسامة سعيدة: مستر سعيد، رئيسي وافق على خطتنا.

تبادلت وسعيد نظرةً متسائلة، وواصل ياكونوف: غدًا نضع البرنامج. ثم نهض واقفًا.

اضطُررنا للوقوف بدورنا ونحن نقول في نفس الوقت: سباسيبا.

تبادل ياكونوف وزولوجدين حديثًا طويلًا بالروسية، ثم تحوَّل إلينا الأخير قائلًا إن ياكونوف سيكون غدًا في إدارة التركيبات بالموقع، وهو يقترح أن نلتقي هناك. وصف لنا المكان وغادرنا الغرفة.

مشينا في ردهة طويلة في اتجاه الجانب الآخر من المبنى، وقال سعيد إنه من الضروري أن نمر على وكيل الوزارة وإلا غضب إذا عرف أننا كُنَّا هنا ولم نزره. صعدنا إلى الطابق الثالث. استمهلنا مدير مكتبه بعض الوقت، ثم أشار لنا بالدخول.

كان الدكتور فريد سلامة رجلًا طويل القامة تخلَّل المشيب رأسه وبدا قريبًا من الستين، وكان يجلس أسفل خريطة كبيرة للسد تعلوها صورة لعبد الناصر.

وقف يرحِّب بنا كأنما يعرفنا جيدًا، وقال له سعيد عندما جلسنا إنه تلفن له منذ يومَين فلم يجده. قال إنه كان مشغولًا في أحد الاجتماعات التي لا تنتهي هذه الأيام استعدادًا للفيضان، وفتح درج مكتبه وأخرج منه ملفًّا قدَّمه لسعيد قائلًا إنه كتاب فرغ من وضعه عن تاريخ مشروع السد، وإنه أثبت فيه أن مهندسًا مصريًّا هو أول من فكَّر في هذا المشروع في الأربعينيات.

تناول سعيد الملف، وعندما فتحه سقطت منه صور فوتوغرافية على الأرض. انحنيت فتناولتها ورأيتها لعددٍ من المصريين والأجانب يرتدون الطرابيش، وأشار فريد ضاحكًا إلى أطول المصريين قائلًا: هكذا كنت أبدو منذ عشرين عامًا.

ملنا على الصورة نتأمَّل الأجانب الذين غطَّوا رءوسهم بالطرابيش، وقال فريد إنه يعمل في الري منذ كان وزراؤه وكبار موظِّفيه من الإنجليز.

قلب سعيد صفحات الكتاب في اهتمام مصطنع، ورفعت عينَي إلى الخريطة. كانت تمثِّل قطاعًا عرضيًّا في السد مقسَّمًا بالألوان إلى قطاعات متعدِّدة متباينة الأحجام تشير إلى المواد المختلفة التي يتكوَّن منها السد. كان بعضها يمثِّل الصخور، وبعضها الآخر الصخور الملبسة بالرمال الناعمة، والثالث الرمال الخشنة، وفي الوسط حيث يرتفع السد في شكل هرمي مثلث رمادي اللون يشير إلى النواة الصمَّاء التي تتكوَّن من الطمي. كان هذا المثلث يمتد في شبه عمود أسفل مستوى السد إلى قاع النهر، وكان يمتد منه خط أُفقي إلى الجزء الأمامي من جسم السد المواجه لمنابع النيل.

حوَّلت عينَي إلى وجه وكيل الوزارة. لحظت عينَيه الضيقتَين وآثار الجدري التي انتشرت على صفحته، وبدا وجهه مجرَّدًا من الحيوية كما كان صوته.

سمعته يقول لسعيد إن البيجوم آغاخان تتصل به دائمًا عندما تأتي إلى أسوان. وقال إنه يفكِّر في جمع المحاضرات التي يُلقيها عن الاشتراكية في أعضاء الاتحاد الاشتراكي بصفته رئيسًا له وإصدارها في كتابٍ ليستفيد منها بقية المواطنين في القُطر.

***

آثار الجدري والجسد الفارع الضخم يذكِّران به، ومحاضرات الاشتراكية أيضًا، سوى أن الوجه كان يفيض حيوية، وأنه تمرَّد على عبودية الإنجليز، وخُيِّر بين أوروبا والجحيم فارتضى الجحيم، واستقبل الليمان أول نزيل من نوعه قيَّدت السلاسل الحديدية قدمَيه بأمر الملك، وانحنى بين عُتاة القتلة والمجرمين يكسر الصخر، الفك صلب عريض، والأنف تصنع معه خطَّين حادَّين، وقامت الثورة وذهب الملك، لكن مجرمي الأمس هم أيضًا مجرمو اليوم، وعندما خرج فرضوا عليه أن يبقى حبيس منزله من غروب الشمس حتى شروقها، ثم جاءوه في الفجر، اليوم أول، والشهر يناير، والعام تسع وخمسون، وانطلقَت السيارة السوداء في شوارع المدينة النائمة التي نسي كيف تبدو بالليل، واقتادوه حائرًا واجمًا من سجن إلى آخر، وتفجَّر العنف من الفرات إلى النيل بمثل ما لم يتفجَّر من قبل، فسحلوا الأجسام العارية في الموصل، وأذابوا اللحم والعظام بالأحماض في دمشق، ومن فوق مآذن القاهرة طالبوا بالدماء.

***

طرق الباب ودخل أبراسيموف برفقة عدد من الروس والمصريين، فغادرنا الحجرة، وقال سعيد إن دخولهم أضاع علينا فرصة طلب سيارة من الدكتور فريد.

هبطنا إلى الطابق الأرضي، واقترح سعيد أن نمر على السكرتيرتَين قبل انصرافنا، فمضينا إلى حجرتهما. طرقنا الباب، ثم أدرنا مقبضه، لكننا لم نجد غير الشاب ذي الملامح الآسيوية، فانسحبنا على الفور.

غادرنا المبنى ووقفنا في ظله نبحث عن سيارة تُقلنا. لمح سعيد سيارة جيب تستعد للمسير، فجرى نحوها وتبعتُه متشكِّكًا. انحنى على سائقها، ثم ما لبث أن ابتعد عنه مفسحًا له الطريق.

اتجهنا إلى الطريق الدائري في بطء، وتسلَّلَت حرارة الأرض المرصوفة إلى قدمي. مرَّت بنا سيارة جيب فلوَّحنا لسائقها دون جدوى، وعندما انتهى الطريق الدائري استدرنا إلى اليمين في الطريق المؤدِّي إلى السد.

قال سعيد ونحن ننقُل أقدامنا في بطءٍ على الأسفلت الملتهب: كنت أُفضِّل أن أكون في الإسكندرية الآن.

قلت: الشتاء بها أروع.

قال: لم أرَها في الشتاء.

قلت: أمَّا أنا فرأيتها.

***

الشوارع أنيقة هادئة، والجو رمادي، ومن خروم السلك الذي يغلِّف السيارة كلها لاح البحر على مبعدة، وتطلَّع إليه في لهفة قائلًا إنه يعشق هذه المدينة ففيها وُلد وقضى أيام صباه قبل أن يبدأ هذا كله، وارتفع البحر أمامنا حتى غطَّى صفحة الأفق بأمواج خضراء يغلِّفها زبد أبيض، ولانت قسمات الوجه الذي يبدو أحيانًا كأنه قُدَّ من الجرانيت، وابتسمت عيناه في عبث الأطفال وأشواقهم، وتلاشت آثار الجدري كأنما بفعل السحر. عندما رفع رأسه يستنشق بلهفة الهواء الذي أتت نسماته مشبعةً برائحة الأسماك، وأراح يده المقيَّدة على السلك قائلًا إنه أشرف على الخمسين لكن ما زال أمامه الكثير، ورغم الهواجس لم يحدس أنه لم تتبقَّ سوى أشهر قليلة.

***

سمعنا هدير قلابة خلفنا، فتنحَّينا جانبًا حتى تمر، وأقبلت في بطء تنوء بحملها من الصخور وقد ارتفع الشاكمان أمامها في الهواء، والْتمع طلاؤها البرتقالي في الشمس.

حاذتنا القلابة فلوَّحت للسائق الذي كان يجلس في مستوى رءوسنا، وقال سعيد إنه لا يُعقل أن يقف لنا. واصلَت السيارة مسيرها لكن سرعتها بدأت تتناقص حتى وقفت أخيرًا على مبعدة ربع كيلو.

جرينا حتى بلغناها ونحن نلهث، ووقفنا إلى جوار إطارها الذي تجاوز ارتفاعه قامتَينا. تطلَّعنا إلى السائق الذي بدا عاليًا للغاية، وهتف قائلًا إنه ذاهب حتى ممرَّات التفتيش فقط.

ارتقيت سُلَّمًا حديديًّا صغيرًا من عِدة درجات، وعالجت الباب فلم ينفتح. فكَّرت بالدخول من النافذة. كدت أفعل، لكن السائق مال نحوي ومدَّ ذراعًا قويةً مُغبرةً ففتح الباب.

ترنَّحت موشكًا على السقوط، ثم تهاويت فوق صندوق حديدي صغير بجوار قدمَي السائق. انكمشت في مكاني مُفسحًا مكانًا لسعيد، وواصلت العربة سيرها وهي ترتَج بصورة متواصلة.

راقبت يدَي السائق اللتَين قبضتا على المقود الكبير في قوة. كانت عروقها نافرةً من أثر الجهد الذي يبذله للسيطرة على القلابة.

قال سعيد مُتودِّدًا إليه: الله يكون في عونك. كأنك بتحرك جبل.

لم يردَّ السائق بشيء، وضغط البوق الذي كاد صوته يُصيبنا بالصمَم.

عاد سعيد يقول: هو كل حاجة الروس كده. تطهق.

قال السائق: دي رولز إنجليزي مش روسي.

قال سعيد: وإيه اللي جابها هنا؟

قال السائق: أهوه فيه ناس تحب تشتري من بره بالعملة الصعبة.

قال سعيد: يمكن تكون أحسن من العربيات الروسي.

هزَّ السائق كتفه: مفيش فرق كبير.

قال سعيد بعد لحظة صمت: أظن الحكاية دي ما هي مزعلة الروس؟

– أكيد. تعرف عملنا إيه لمَّا جه خروشوف؟ دهنَّا كل العربيات الإنجليزي باللون الأخضر بتاع العربيات الروسي.

تساءل سعيد في دهشة: ليه؟ عشان ما يزعلش لو شافها؟ يعني هو مش عارف؟

– تلاقي الروس اللي هنا مخبيين عليه.

وصلنا النقطة التي يبدأ عندها جسم السد، فدار السائق إلى اليسار ومضى بصعوبة فوق الطريق الترابي، وبعد قليل أوقف القلابة قائلًا إنه سيهبط إلى جوار ممرَّات التفتيش، ومن الأفضل أن نُغادره هنا.

غادرنا السيارة ووقفنا نرقبه يُدير المقود في جهد وقد مال فوقه بكل جسده، واستدارت القلابة إلى اليمين، ثم هبطت إلى مستوًى آخر من جسم السد في الطريق إلى ممرَّي التفتيش.

واصلنا السير حتى نهاية جسم السد، واتجهنا إلى محطة الكهرباء ونحن نتطلَّع حولنا في كل خطوة. عبرنا جسرًا يُطل على قطار تزاحم العُمَّال من حوله، واعتلَوا سطحه حتى كاد يختفي أسفل القمصان الملوَّنة والجلاليب والعمائم واللبد والقبعات والبيريهات.

توقَّفنا بجوار أحد رجال البوليس الحربي، وأراه سعيد بطاقته الصحفية طالبًا معونته في إيجاد سيارة لنا، فأوقف الجندي عدة سيارات، لكن واحدةً منها لم تكن ذاهبةً في طريق الاستراحة.

مرَّت بضع دقائق لم تظهر فيها سيارة واحدة. اعتمدت بظهري على عمود خشبي شاعرًا بإنهاك شديد، ولمحت طرف ورقة بيضاء لصقَت بجوار رأسي على العمود. قرأت عليها بيانًا بتوقيع الوزير يحذِّر من قراءة مجلة الصداقة التي توزِّعها السفارة الأميركية.

أقبلت علينا شاحنة إنجليزية خفيفة من طراز تايمز ذات مقدِّمة ضيقة للغاية. أشار لها الجندي فأوقفها سائقها على مبعدة عدة خطوات، وتقدَّم الجندي من الشاحنة وانحنى على نافذتها، ثم أشار لنا بالاقتراب قائلًا إن الشاحنة ستذهب إلى أحد مراكز التجريف أولًا، وبعد ذلك تذهب في اتجاه الاستراحة.

تكوَّمنا أنا وسعيد في الحيِّز الضيِّق الذي ترك بجوار السائق، وانطلقَت الشاحنة في سرعة وخِفة، ودارت في عدة منحنيات، وإذا بنا نتجه إلى جسم السد من جديد، وعندما أشرفنا عليه اتجه السائق إلى اليسار في طريق شبه مهجور، ومضى في سرعةٍ شديدة حتى بلغنا حوضًا واسعًا من المياه احتلَّت أكوامُ الرمال جانبًا منه، فتوقَّف وغادرنا الشاحنة.

قال سعيد: هنا تبدأ تلك المواسير التي كنت تبحث عن سِرها.

تطلَّعت إلى ساعتي فوجدتها أوشكت على الرابعة. قلت: أخشى أن يكون طعام الغداء قد ضاع علينا.

قال: لا تقلق. ليس هناك وقت محدَّد للوجبات بسبب الورديات المختلفة.

حوَّلت بصري إلى الحوض. كانت هناك رشاشات قوية من المياه مُسلَّطة على الرمال بحيث تجرفها إلى أسفل، وكان خليط المياه والرمال ينحدر إلى فتحتَي ماسورتَين ضخمتَين وقف أمامهما عدد من الصعايدة مشمِّري الجلاليب ينتقون الأحجار الصغيرة من الخليط ويقذفون بها بعيدًا.

عاد السائق بصحبة عددٍ من العُمَّال يحملون صناديق خشبية، وعندما فرغوا من وضعها في مؤخِّرة الشاحنة قفز إلى مقعده فتبعناه، وانطلقت الشاحنة في الطريق الذي جئنا منه.

أرحت رأسي على مسند المقعد، ونقلت ثِقَل جسدي من فخذ إلى آخر بعد أن تصلَّب الأول، وأوشك الثاني أن يتصلَّب أيضًا عندما توقَّف السائق على مقربة من الاستراحة.

مشينا في تثاقل حتى الباب، ومضينا في الممر الرطب المؤدِّي إلى حجرتنا ففتحتها، واتجهت على الفور إلى جهاز التكييف فأدرته، ثم تناولت ملابس نظيفةً من حقيبتي وذهبت إلى الحمَّام. كان ماء الدش شديد السخونة، وتجمَّع تحت قدمَي في لون الطين.

أحضر لنا فقيرٌ ليمونًا مُثلَّجًا في الترموس، وسمعته ينعي لسعيد أخلاق هذه الأيام، قال إنه رأى بنفسه الفستان القصير في أسوان.

مضى سعيد إلى الحمَّام فتناولت منشفتي وطردت بها الذباب، ثم أغلقت مصراعَي النافذة وصببت لنفسي كوبًا من الليمون. جلست أرتشفه على حافة الفراش بعد أن أشعلت سيجارة.

عندما جاء سعيد غادرنا الحجرة إلى صالة الطعام، وكان بها عددٌ من المهندسين الشُّبَّان يأكلون في صمت.

اخترنا مائدةً بالقرب من الباب أملًا في نسمة هواء، وأقبلنا على الطعام في شهية، ولحظت أن أحد الجالسين يرقُبنا في اهتمام. كان أصلع الرأس ذا شارب كث، وعندما التقت عيناه بعينَي أبعدهما واستغرق في الأكل، لكني شعرت بعينَيه بعد لحظة مسلطتَين علينا.

فرغنا من الأكل فأسرعنا إلى الغرفة، واستبدلنا ملابسنا بالمنامات، واستلقى كلٌّ مِنَّا في فراشه يدخِّن، وسرعان ما غفونا.

استيقظنا بعد ساعة، ونادى سعيد على فقير، وأعطاه الترموس ليُحضر لنا قهوةً من النادي. قلت إني أفضِّل الشاي، فقال سعيد إن شاي النادي كالماء، ولا بد أن نشتري شايًا ونُعده بأنفسنا. قال فقير إن نوع الشاي الذي نريده غير متوفِّر في الموقع، وربما وجدناه في كيما أو أسوان.

كانت سجائرنا قد فرغت، فاقترح سعيد أن ننزل إلى كيما لشراء الشاي والسجائر، ثم نذهب إلى السينما.

شربنا القهوة وارتدينا ملابسنا في اعتناء، ووجدنا فقيرًا واقفًا على باب الاستراحة. تطلَّع إلى ملابسنا، ثم قال إننا تأخَّرنا. ولو كنا بكَّرنا قليلًا للحقنا بالسيارة المخصَّصة للمهندسين التي تُقلهم كل مساء ليسهروا في أسوان وتعود بهم في منتصف الليل.

انطلقنا إلى الطريق العام ووقفنا على جانبه ننتظر. كان هناك غيرنا من المنتظرين ميَّزت بينهم الأصلع الذي راقبنا باهتمام في المطعم، وكان يقف مع شابَّين متأنقي الملابس.

مرَّت بنا عدة سيارات دون أن تقف كالعادة، ومرَّت سيارة جيب من أمامنا، ثم توقَّفت على مبعدة، وتحفَّز الواقفون للحاق بها، لكن أحدهم كان أسبقهم للحركة، وبدا أنه على معرفة بسائق السيارة، وتابعه الباقون في حسد وهو يقفز إلى السيارة التي استأنفت سيرها.

لمح سعيد أحد جنود البوليس الحربي فتقدَّم منه وأراه بطاقته، وشعر بعض العُمَّال الواقفين بما سيحدث، فدنَوا منا، لكن الجندي نهرهم فابتعدوا في بطء.

تطلَّع الجندي في بطاقة سعيد، ثم طلب منا في أدب أن ننتظر على جانب، وتحوَّل يرقب الطريق، وعندما لمح سيارةً مقبلةً تحمل شارة القطاع العام تراجع خطوةً ومدَّ أصبعه السبابة إلى الأمام في مستوى السيارة وحركة إلى أسفل في هدوء وحزم.

توقَّفت السيارة قبل أصبعه بنصف متر، فتقدَّم في بطء من نافذتها، وتبادل مع السائق بضع كلمات، ثم طلب منه أن يفتح باب السيارة، وتطلَّع داخلها، ثم تراجع مبتعدًا وأشار له بالانصراف.

اقترب الجندي منا وقال لسعيد إنه لا بد من تفتيش كل سيارة تُغادر الموقع فمحاولات السرقة لا تتوقَّف، وأضاف لا تقلقا، سأجد لكما مكانًا حالًا.

ظهرت إحدى السيارات التشيكوسلوفاكية الضخمة التابعة للشركة، وبدا سائقها واضحًا خلف واجهتها الزجاجية العريضة.

كرَّر الجندي الإشارة الموجزة من أصبعه فتوقَّفت السيارة.

تطلَّعت خلفي بحثًا عن الأصلع فرأيته يقترب مع زميلَيه من السيارة. خاطب الجندي السائق ملقِّبًا إياه بالحاج، وقال إننا صحفيان ونُريد الذهاب إلى كيما، فهتف بنا السائق بصوت جهْوري أن نصعد، ومدَّ يده إلى باب السيارة المغلق وفتحه لنا.

صعدت يتبعني سعيد، وجاء في أعقابنا عامل صعيدي ذو شارب ضخم يرتدي جلبابًا ملوَّنًا، وعندما حاول أن يصعد خلفنا جذبه الجندي من ذراعه وسأله عمَّا إذا كان قد سمح له بالصعود.

توقَّف الصعيدي واجمًا، ورفع الجندي يده وهوى بها على قفاه، ثم سأله عن بلده فقال وقد انحنى رأسه تحت كفِّ الجندي إنه من قوص.

تقدَّم الشاب الأصلع من باب السيارة يتبعه زميلاه، وأفسح الجندي لهم الطريق وهو يصيح في الصعيدي أن أهالي قوص جميعًا لصوص.

هتف بنا السائق: تفضَّلوا جوه. مدَّ يده فأغلق الباب، وانتقل الأصلع وزميلاه إلى داخل العربة المزدحمة، وبقيت أنا وسعيد خلف السائق.

أشار الجندي للسائق بالانطلاق دون أن يلتفت نحوه. تحرَّكت السيارة فتطلَّعت إلى الخلف. رأيت الجندي يمد يده محاولًا جذب شارب الصعيدي.

سألنا السائق عن الصحيفة التي نعمل بها قائلًا إنه يراسل صحيفةً يومية، وأضاف أنه يرأس نقابة العُمَّال في الشركة ولجنة الاتحاد الاشتراكي فيها، وأنه حصل على ستة آلاف صوت في انتخابات الاتحاد الاشتراكي.

سأله سعيد عمَّا إذا كان أجره يكفي لتغطية كل هذه النشاطات، فقال إنه لا يشكو من شيء، وإنه يملك قطعة أرض في قرية أبي الريش المجاورة.

قلت لسعيد على مسمع من السائق: الحاج نموذج مشرِّف للعاملين في السد، ولا بد أن نكتب شيئًا عنه.

أمَّن سعيد على قولي وقال إنه يفكِّر بالفعل في ريبورتاج كبير، ثم تحوَّل للسائق وسأله عمَّا إذا كان سيعود الليلة إلى الموقع.

أجاب الحاج في حماسة أنه سيعود بوردية منتصف الليل. وقال إنه على استعداد لأن ينتظرنا في أي مكان نحب، فاتفقنا على أن نلتقي أمام كيما. أشرفت السيارة على عمارات كيما المتوازية، ومررنا بمبنًى من طابقَين تجمَّع بعض الناس على سطحه، وقال السائق إنه النادي الروسي.

غادرنا السيارة بعد النادي بقليل، ورأيت أحد زميلَي الشاب الأصلع يغادره خلفنا، ثم يعبر الطريق إلى الناحية الأخرى ويختفي خلف إحدى العمارات.

تابعتُ السيارة ببصري عندما استأنفت سيرها، والتقت عيناي بعيني الأصلع الذي بقي فيها.

مشينا في اتجاه السيارة بحذاء صفوف من العمارات الأنيقة. كانت الحدائق الواسعة تفصل بينها، وعلى أبوابها تجمَّعت حلقات من السيدات الروسيات. كان بوسعي أن أتبيَّن في ضوء المغيب بشرة سواعدهن وسيقانهن التي لوَّحتها الشمس.

شعرت بملمس ملابسي الداخلية النظيفة على جسدي الجاف، ولفح الهواءُ الساخن بشرة وجهي.

مرقت بجوارنا سيارة جيب مكشوفة مستطيلة الجسم عن المألوف. كان يقودها رجل بدين يرتدي جلبابًا جلست بجواره امرأة في مثل حجمه. كانت تكتسي جلبابًا بلديًّا وتغطِّي ساعدَيها حتى المرفقَين بالأساور الذهبية.

قال سعيد إن الرجل هو المتعهِّد الذي يمد السد بآلاف الأنفار، وإنه يأخذ على كل نفر منهم خمسة قروش في اليوم.

عبرنا خطًّا حديديًّا إلى الجانب الآخر الذي يسكنه موظفو شركة كيما، وتطلَّعت خلفي إلى النادي الروسي. كانت الأضواء قد سطعت على سطحه، وترامت إلى مسامعنا أصداء موسيقى راقصة تنبعث منه.

اشترينا الشاي والسجائر من مجمَّع تعاوني كبير، واتجهنا إلى السينما، وعندما وجدنا الفيلم مصريًّا اقترح سعيد أن نزور صديقًا له يعمل في مصنع السماد.

مشينا في الظلام بين المجمَّعات السكنية. كانت أغلب نوافذها مظلمة، وبين الحين والآخر كانت نسمة هواء تحمل إلينا صوت الموسيقى، ثم تمتد ثغرةٌ بين صفَّين من المباني، ومن خلالها يتبدَّى النادي الروسي شعلةً من الضوء.

تطلَّعت خلفي إلى الشارع الذي جئنا منه، ودقَّقت النظر، لكني لم أتبيَّن أحدًا يقتفي أثرنا.

طرقنا باب المسكن الأرضي في إحدى العمارات، وفتح لنا رجل في ملابسه الداخلية يتصبَّب العرق من وجهه. قال إننا أخطأنا العنوان.

سرنا حتى نهاية الصف ودخلنا العمارة المماثلة في الصف التالي، وجدنا الاسم الذي نبحث عنه مُسجَّلًا بالقلم الرصاص على الباب، لكن أحدًا لم يستجِب لطرقنا.

عدنا أدراجنا في الشارع نفسه الذي جئنا منه، والْتقينا بالرجل الذي فتح لنا أوَّل الأمر. كان يؤدِّي بعض التمارين الرياضية في الظلام أمام المنزل. واصلنا المشي في اتجاه الشارع العام، وعندما بلغناه تحوَّلنا إلى اليمين، وسرنا إلى جوار الخط الحديدي في اتجاه بقعة الضوء المنبعثة من النادي الروسي.

عبرنا الخط الحديدي أمام النادي واقتربنا من مدخله. كانت له حديقة واسعة صُفَّت بها الموائد التي الْتفَّ حولها الشبان والفتيات الروس.

التقينا عند الباب بياكونوف في طريقه إلى الخارج. كان يحمل عدة كُتب في يده اليسرى ويضع اليمنى على ورم ظاهرٍ في فمه.

قال باللغة العربية مشيرًا إلى فمه: واحد كسورة. ثم أضاف بالإنجليزية أنه متعب وسيذهب إلى منزله. وأشار إلى الداخل قائلًا: موجنا … باجلستا.

سأله سعيد عن موعد الغد، فقال إنه سيكون أحسن حالًا وسينتظرنا. ودَّعنا وانصرف، فاجتزنا الحديقة إلى باب زجاجي، ودلفنا إلى قاعة واسعة ازدحمت بالجالسين، وأُقيمت في جانبٍ منها مِنصة صُفَّت خلفها صناديق المياه الغازية والبيرة، وفي الجانب الآخر كان هناك درج يؤدِّي إلى الطابق الأعلى الذي انبعث منه صوت الموسيقى.

اتجهنا إلى منصة المشروبات فابتعنا من شاب نوبي زجاجتَي بيرة. حمل كلٌّ مِنَّا زجاجةً وكوبًا، ووقفنا نتلفَّت حولنا بحثًا عن مكان، ولمح سعيد مائدةً جلست إليها سيدتان روسيتان وبجوارهما مقعدان خاليان، فهمس: تعالَ.

تقدَّمنا من المائدة، وانحنى سعيد لهما مستأذنًا بالإنجليزية في الجلوس، فهزَّت إحداهما كتفَيها وأشارت بيدها إلى المقعدَين كأنما الأمر لا يعنيها، فوضعنا الزجاجتَين والكوبَين على المائدة وجلسنا.

كانت المرأة في مقتبل العمر ذات شفاه ممتلئة وشعر ذهبي، وكان رداؤها أحمر اللون من طراز قديم، أمَّا زميلتها فكانت ذات ملامح آسيوية مجرَّدة من الجَمال.

شعرت بالأنظار تتجه إلينا فملأت كوبي ورفعته إلى فمي. خاطب سعيد ذات الرداء الأحمر، فضحكت برِقة وقالت وهي تهز كتفَيها: أنجليسكي نييت.

وتحوَّلت تستأنف الحديث مع زميلتها.

قال لي سعيد: ماذا نفعل الآن؟

قلت: لا شيء.

أخذت أرتشف كوبي وأنا أتأمَّل شفتَي ذات الرداء الأحمر. كانت منطلقةً في الحديث مع زميلتها دون أن يتلاشى الابتسام من وجهها الذي تتابعت على صفحته عشرات الانفعالات.

نقلت بصري إلى ساعدَيها العاريَين من أول الكتف. تأمَّلت شعر إبْطَيها الذهبي، ومضيت أُنصت إلى صوتها، ولأول مرة لاحظت ما في مخارج الألفاظ ونهايات الجمل الروسية من إيقاع موسيقي، وكنت في البداية أشعر بها كقِطع الصخر.

كفَّت عن الحديث ووقفت. تردَّدت لحظة، ثم تحوَّلت إلينا وقالت: داز فيدانيا. وابتعدت تتبعها زميلتها.

تابعناها بأعيننا حتى غادرت القاعة. لحظتُ أن المكان شرع يخلو من الجالسين، ولم تعُد الموسيقى تصدح في الطابق الأعلى، بينما ازدحم الدرج بالمنصرفين.

كانت الساعة قد بلغت العاشرة والنصف، فأفرغنا زجاجتَينا وغادرنا النادي. مشينا في بطء باتجاه السينما، ورأينا زحامًا أمامها. كان العرض قد انتهى، وما لبث الزحام أن تلاشى، ولمحت نبيل يتحدَّث مع شاب أسمر يقف مستندًا إلى درَّاجة، ثم امتطى الشاب درَّاجته وجلس نبيل أمامه، ودار بالدرَّاجة في الطريق إلى أسوان، وعندما مرَّ من أمامنا تبيَّنت أن الشاب لم يكن عويس.

مضينا عائدَين إلى مكان موعدنا مع الحاج. وقفنا ننتظر صامتَين، وما لبثت السيارة الصفراء الطويلة أن أقبلت علينا وتوقَّفت أمامنا.

كانت السيارة ممتلئةً بالعُمَّال، لكنه كان قد حجز لنا مقعدَين خلفه، وقال بعد أن استأنف السير إنه أحضر صورةً له في أحد اجتماعات الاتحاد الاشتراكي ليستخدمها سعيد في مقاله.

تناول سعيد الصورة ووضعها في مفكِّرته، وأخرج قلمه وسطَّر بضع كلمات في إحدى صفحاتها. ازدادت حماسة الحاج عندما رأى سعيدًا يكتب، فجعل يصف تأييد العُمَّال له وهو يُراقب سعيدًا في المرآة المجاورة له ليتأكَّد أنه يكتب ما يقوله.

كانت العربة صامتةً تُنصت لصوت الحاج الجهْوري، وكان يتحدَّث الآن عن الشركة وجهودها في خدمة العُمَّال، ولمحت في المرآة جانبًا منهم يتطلَّعون إلينا.

ظهرت أنوار الموقع أخيرًا، واجتزنا الجامع فاستعددنا للنزول، لكن الحاج أصرَّ على أن يأخذنا إلى باب الاستراحة، وقاد سيارته الضخمة صاعدًا في الطريق المؤدِّي إليها.

دخلنا المطعم لنتناول العشاء، وتوقَّعت أن أجده فارغًا، لكننا وجدنا عددًا من الآكلين. كان أغلبهم ما زال في ملابس بعد الظهر الأنيقة وقد تجعَّدت الآن وفقدت طزاجتها، وعادت وجوههم التي بدَت منتعشةً مترقِّبةً في العصر إلى سابق تجهُّمها.

اغتسلنا والْتجأنا إلى حجرتنا، وأدار سعيد جهاز التكييف. بينما استبدلت ملابسي استبدل هو الآخر ملابسه، وارتمى كلٌّ منا على فراشه.

مدَّ يده إلى حقيبته أسفل الفراش وتناول منها إحدى المجلات. سألته عنها فقال: إنها «بلاي بوي».

أشعلت سيجارةً بينما كان يقلِّب صفحات المجلة. قال بعد لحظة إنه يتمنَّى أن يحصل مرةً على واحدة من هاته النسوة اللاتي تظهر صورهن في المجلة.

وضع المجلة على ساقَيه وسألني عن علبة الثقاب. قذفت بها إليه وأشعل سيجارة.

قال: أتعرف ما هو أروع شيء بالنسبة للرجل المتزوِّج؟

قلت: أن يقضي ليلةً واحدةً مع امرأة أخرى.

قال: أبدًا … أن ينام ليلة بمفرده.

قلت: لم أجرِّب.

قال: لا أدري لماذا لم تتزوَّج حتى الآن. لعلك ما زلت تنتظر الفتاة التي يخفق لها قلبك من أول نظرة؟

قلت: ربما. أنت تعرف أنه لم تُتح لي فرصة.

قال: غلطتك. قل ماذا كسبت؟

قلت: أشياء كثيرة.

قال: يبدو لي أن الناس تُقدِم على الزواج عندما لا تجد شيئًا آخر تفعله.

طلبت منه أن يرمي لي بعلبة الثقاب، وأشعلت سيجارةً بينما عاد يتصفَّح صور المجلة العارية.

قلت بعد أن انتهت سيجارتي إني أُريد أن أنام ولا أستطيع النوم في الضوء. قال إنه سينتهي بعد قليل، فانقلبت على وجهي ودفنت رأسي في الوسادة.

***

كان النور يُطفأ دائمًا في ساعة مُحدَّدة كل ليلة، وأحيانًا يكون الحرمان منه تامًا، وعندما تسمح الظروف يجري البحث عن وقود، وبالسجائر تشتري بضع قطرات من السائل الزيتي الذي يطفو على سطح جرادل الطعام، وتصنع من أطراف الملابس شرائط تُغمس فيه ليتوهَّج الضوء بعض الوقت في الزنازين، ثم يسود الظلام الحالك، ويتفتَّت الجسد إلى ألف قطعة، أو هو الرأس الذي يتفتَّت، وما كان يبدو مستحيلًا وبعيدًا عن التصديق في ضوء النهار يُصبح من الممكنات، ثم المحاولة المستميتة لجمع شتاتٍ من العالم الآخر البعيد كي تستوي في النهاية امرأة حانية سمراء حينًا، وبيضاء حينًا آخر، لكنها ذات جسد حارٍّ لا يرتوي أبدًا، ولكن فُتات الجسد يتوق لأن يتجمَّع من جديد بين ذراعَي جسد آخر ملموس، والأقرب إلى الحواس أحد هؤلاء الذين تتردَّد أنفاسهم في هدأة الليل، ذلك الصبي الوسيم في عنبر النشَّالين الذي كان اللومانجي المسجون إلى الأبد يقرصه من شفتَيه، أو الآخر الذي اتضحت تفاصيل فخذَيه عندما انحني ينظِّف الأرض، أو ثالث اقتربت ساقه عفوًا عندما تقلَّب على جانبه، والأفضل أن يكون المرء حشاشًا أو قاتلًا ليستطيع أن يفعل مثل اللومانجي المسجون إلى الأبد، ولم يبقَ غير جز الأسنان في ظلام الليل حتى يحل سلطان النوم الرحيم، أو يبزغ الفجر قبل موعده.

***

اعتدلت على ظهري. كان النور ما زال مضاءً وسعيد ما زال يقلِّب صفحات المجلة.

أغلقت عينَي وغفلت برهة، ثم خُيِّل إليَّ أن النور انطفأ ففتحتهما، لكن سعيدًا كان ما يزال يقرأ. أغلقت عينَي من جديد وحلمت أني مع صوفيا لورين. كان صدرها عاريًا، وفهمت من نظرتها لي أننا كنا في الفراش منذ قليل، ثم استيقظت على صوت فقير، ورأيته واقفًا في وسط الحجرة وقد سطعت الشمس في أنحائها.

قال إن هناك سيارةً تنتظرنا في الخارج، فقال سعيد وهو يقفز من فراشه إنها سيارة عباس ولا شك. أسرعنا نغتسل ونرتدي ملابسنا، ثم تناولنا إفطارنا وخرجنا إلى الطريق.

كانت السيارة صغيرةً من طراز فيات/نصر ١١٠٠، وكان السائق في مكانه يقرأ إحدى الصحف، ودون أن يتحرَّك مدَّ ذراعه خلف مقعده وأزال رتاج الباب الخلفي. جلست في المقعد الخلفي بينما استقرَّ سعيد إلى جواره.

عيَّن له سعيد وجهتنا، وأخرج مفكِّرته وجعل يكتب قائمةً بالأسئلة التي سيوجِّهها إلى ياكونوف، وسألت السائق أن يعطيني الصحيفة فناولها لي.

كانت الصحيفة مطويةً على صفحة تتصدَّرها صورة كبيرة لجسم السد كُتب تحتها: «السد الإنسان صنع كل هذه القصص الإنسانية». قلَّبت الصفحات بحثًا عن العمود الخاص بدرجات الحرارة، ووجدتها في القاهرة ٣٤ وفي أسوان ٤٣.

عُدت إلى موضوع القصص الإنسانية. كان كاتبه يقول إن كل من يعمل في السد يستطيع أن يقوم بإجازة حينما يشاء، لكن أحدًا لا يرغب في ذلك، وكل سائق أُعطي ترمسًا للشاي كما زُوِّد بوسادة من المطَّاط تمتص العرق وتُجنِّبه الإصابة بالروماتزم، وبنظارة أنيقة تحمي عينَيه من وَهَج الشمس.

سألني السائق بغتةً وهو يتطلَّع إليَّ في مرآته إذا كنتُ قرأت موضوع القصص الإنسانية فأجبت بالإيجاب.

قال: إنت شفت سيادتك سواق لابس نظارة شمس وشايل ترموس؟

قلت إني لم أنتبه إلى شيء من ذلك.

قال: وحكاية الأجازات دي … تعرف ان الوزير مانع الأجازات كلها؟

تصفَّحت بقية العناوين. توقَّفت عند صورة أسد ضخم وقرأت أسفلها أنه بكى من التأثُّر في مطار القاهرة عندما وضعوه في طائرة مغادرة.

توقَّف السائق أمام مبنًى حجري من طابق واحد، وقال إنه سينتظرنا في منطقة الظل المجاورة، ووجدنا ياكونوف ينتظرنا في أول مكتب دخلناه.

كان ورم خدِّه قد اختفى. رحَّب بنا في وُدٍّ وهو يبتسم، ثم استأذن منا وانطلق يبحث عن مترجم، وعاد بعد لحظة قائلًا إن زولوجودين سيلحق بنا.

تبادلنا بضع عبارات. كان ينتقل من الروسية إلى الإنجليزية والعربية ونحن نبتسم لِمَا لا نفهمه من كلام فيبتسم بدوره، وعندما لا يفهم شيئًا ممَّا نقوله يضحك في خجل.

ظهر المترجم المشمأنط زولوجودين على الباب، واعتدل ياكونوف في مقعده مُعلِنًا استعداده للأسئلة، فقرأ له سعيد قائمةً طويلة.

ظلَّ ياكونوف صامتًا حتى النهاية، ثم سأل لماذا لا يشمل برنامج سعيد القسم الذي يعمل به، قلت إننا لم نرَ داعيًا لذلك ما دام هو معنا ونستطيع أن نسأله عن أي شيء.

قال سعيد إنه تذكَّر شيئًا آخر، وإنه يُريد أن يعرف العدد الإجمالي للروس في المنطقة.

صمت ياكونوف برهة، ثم قال في صوت رسمي: مستر سعيد، بالنسبة للعدد، سأكون بعد دقائق في وضع يسمح لي بإخبارك.

وغادر الغرفة ليُصبح في وضعٍ يسمح له بإخبارنا بالعدد.

سألنا زولوجدين فجأةً عن عمرَينا. وعندما علم أننا لم نبلغ الثلاثين بعدُ هزَّ رأسه وقال بمرارة: لا يعرف أحد مزية هذه السن إلا عندما يُصبح في الأربعين مثلي.

استفسرت عن حياته العائلية فقال إنه كان متزوِّجًا، وقال إن لديه ابنةً في السادسة عشر، وإن له في مصر ثلاثة شهور فقط.

سألت: وإلى متى تبقى؟

قال: لا أعتقد أني سأتحمَّل الوحدة هنا أكثر من عام.

شعرت بدوار مفاجئ وجفاف شديد في حلقي. سألت زولوجدين عمَّا إذا كان في إمكاني أن أشرب شايًا. قال إنه لا يعرف، وإننا سنتحرَّك على أية حال عندما يعود ياكونوف.

جاء ياكونوف بعد دقائق يحمل بعض الأوراق. وبدا سعيدًا لأنه استطاع أن يفعل لنا شيئًا. شرع يقرأ عن طريق المترجم بعض البيانات، ثم قدَّم لسعيد بقية الأوراق التي كانت بالإنجليزية، وقال إنه سيأخذنا الآن في جولة بالسيارة لنرى بعض أنحاء الموقع.

قال سعيد: كنا نود أن نزور أولًا مركز التدريب الذي تُديره مهندسة روسية.

قال ياكونوف: سنفعل لكن ليس اليوم؛ فلا بد أولًا من الاتصال بالمركز وتحديد موعد، وهذا يستغرق يومًا أو يومَين.

قلت إني أشعر بالتعب وأُفضِّل العودة إلى الاستراحة. غادرنا المبنى وتركتهم ينتظرون سيارة ياكونوف وصعدت إلى سيارة عباس.

استدار السائق عائدًا في الطريق المؤدِّي للاستراحة. سألني بعد قليل عن اسم سعيد الكامل فذكرته له. عاد يسألني بعد برهة: هو ده اسمه الحقيقي؟

قلت: قصدك إيه؟

قال: أنا عرفته من صورته في المجلة اللي بيكتب فيها باسم فتحي قراع.

قلت: فتحي قراع واحد تاني وان كانوا يشبهون لبعض.

قال بإصرار إن فتحي قراع يتنكَّر دائمًا عندما يكتب تحقيقاته، وإنه تنكَّر مرةً ليدخل السجن.

قلت إن دخول السجن لا يحتاج إلى تنكُّر.

قال: إنه ينشر الآن حلقات عن الطفل الذي يتلاشى. سيادتك تصدق الحكاية دي؟

أجبت: مش عارف.

قال: مرة قريت موضوع عن سواق زميلنا اسمه عبد الفتاح. زميلنا وصاحبنا وكل يوم احنا في بيته. تبص تلقى المجلة ناشرة صورة شقة فخمة فيها بوتاجاز وتلاجة وقال دي شقة الأخ عبد الفتاح.

أسندت رأسي إلى مسند السيارة وأغمضت عينَي، لكن الدُّوار الذي كنتُ أشعر به لم يتوقَّف، واضطرَّتني المطبَّات المتتابعة إلى أن أبتعد برأسي عن المسند.

استمرَّ السائق يروي لي ذكرياته بلهجة ساخرة. حكى عن ماجدة عندما جاءت تصوِّر فيلمًا عن السد، وقامت بدور مضيفة سياحية في لنش قادم من «أبي سنبل».

قال: تعرف ليه؟ عشان تقابل على اللنش إيهاب نافع وتحبه لأنه بيبني السد.

وصلنا الاستراحة فاتجهتُ إلى غرفتي على الفور. طاردت الذباب وأظلمت الغرفة، ثم أدرت جهاز التكييف ووضعت ملعقتَين من الشاي في الترموس وناديت على فقير.

طلبت منه أن يُحضر لي ماءً مغليًّا في الترموس فتناوله واتجه إلى الباب، وعندما بلغه تحوَّل إليَّ وقال إن شخصًا سأل عنا في الصباح.

سألت: مين؟

قال: واحد بيشتغل في الشركة اسمه صبحي.

قلت: كان عاوز إيه؟

قال: الأسامي بس. قلت له إني معرفش أساميكم الكاملة، فقال إنه حيرجع بعدين.

سألته عمَّا إذا كان الرجل أصلع الرأس ذا شارب كث فأجاب بالنفي.

غادر الغرفة وبقيتُ مُمدِّدًا أتطلَّع إلى الباب، ثم انحنيت على حافة الفراش وأخرجت من حقيبتي قرصَين من الأسبرين، وعندما عاد فقير بالشاي أفرغت لنفسي كوبًا وابتلعت القرصَين، ثم أتبعتهما بقرص نوفالجين.

تناولت الترانزستور وبحثت عبثًا عن برنامج موسيقي فأعدته إلى مكانه بجوار كتاب «ميكل أنجلو» وأشعلت سيجارة. كان مذاق الدخان مُرًّا، فأطفأت السيجارة في المنفضة.

تناولت الكتاب ولبثت برهةً أحدِّق إلى السقف. شعرت بمفاصلي مفكَّكة، وبالإرهاق التام فاستسلمت للفراش.

***

«خيَّم شبح «سافونارولا» القاتم على المدينة المترفة التي يتحلَّق حكماؤها حول لورنزو العظيم يستَشِفون بعقولهم أسرار الكون ويستمعون إلى كلماته. دون ذهن حر ونشيط وخلَّاق ليس الإنسان غير حيوان، ولا بد أن يبقى مستقلًّا في تفكيره ولا يربط إلى نظرية جامدة كالعبد فيتعفَّن في قيودها، لكن عينَي الراهب تلمعان بشهوة السلطة وتنظيم العالم، وها هو يرتقي المنصة بجهد من أثر الصوم المتصل، ويصيح في الآلاف الذين تدافعوا ليسمعوه أنه يتكلَّم بلسان الله، وأنه صوت الرب على الأرض. وتسري في الجموع رِعدة ويقشعر جسد النحات. الدعوة الجديدة تنتشر كالنار، والناس ينضمون إلى الراهب أفواجًا، وبوتشيلي يستنكر رسوماته العارية ويُلقي بلوحاته إلى النار التي أقامها جيش القمصان البيضاء، لكن النحات رأى خلاص روحه في فنه، وظلَّ يردِّد لنفسه قول «لورنزو» إن قوى التدمير تسير في أعقاب الابداع والخلق، وإذا ﺑ «لورنزو» نفسه يستسلم على فراش الموت ويطلب غفران الراهب. وبعد سنوات معدودة أجبروا الراهب على الاعتراف قبل إعدامه بأنه اختلق تلقين الوحي الإلهي. واهتزَّ النحات من الأعماق، ثم عاد إلى عمله؛ فقد أصبح الصخر هو الشيء الوحيد اليقيني في عالم تسوده الفوضى.»

***

اشتدَّ بي الدوار فأغمضت عينَي وغفوت. استيقظت بعد ساعتَين فوجدت أن سعيدًا لم يعُد بعد. كان حلقي شديد الجفاف، فتناولت كوبًا من الشاي واستأنفت النوم.

استيقظت مرةً أخرى على ضجة شديدة. كان الظلام يسود الغرفة، لكن شعاعًا من الضوء كان يتسلَّل من بابها المفتوح، ورأيت في فُرجته شخصًا يتحسَّس الجدار بيده بحثًا عن مفتاح النور. سمعته يسب فتبيَّنت أنه سعيد.

عثر على المفتاح أخيرًا وأداره. تطلَّعت إلى ساعتي فألفيتها قد تجاوزت العاشرة.

أغلق الباب وتقدَّم إلى منتصف الحجرة. لحظت أنه يترنَّح قليلًا. اعتدلت جالسًا وأدليت قدمَي من الفراش قائلًا: يبدو أنك قضيت وقتًا طيبًا.

ألقى بحافظة أوراقه الجلدية على فراشه وشرع يفك أزرار قميصه: لا بأس، وأنت؟

– لم أغادر الغرفة طول اليوم.

– أمَا زلت تشعر بالتعب؟

– قليلًا، ولكني الآن أحسن حالًا.

ألقى بقميصه على مقعد وقال: شربت اليوم كميةً هائلةً من البيرة.

قلت: مع الروس؟

– في الأول ذهبت مع ياكونوف إلى كازينو على النيل، ودخلنا في سباق على الشراب حتى كدت أفقد الوعي، وبعد ذلك التقيت بمجموعة رائعة من الشبَّان المصريين فشربنا معًا.

– مهندسون؟

– كلا، ملاحظون من الذين تدرَّبوا في الاتحاد السوفياتي. أكبر واحد فيهم لا يزيد عن اثنتَين وعشرين سنة.

جلس على حافَّة فراشه وشرع يخلع حذاءه مستطردًا: ليتك سمعتهم. حماسة وثقة. تمامًا كما كنا أيام الجامعة.

– كان بودي أن أكون معك.

– سألتقي بهم غدًا. تعالَ معي لو أحببت.

غادرت الفراش وتناولت الترموس، فقال سعيد إنه يشعر بصداع شديد ويُريد أن يشرب قهوة. أفرغت لنفسي كوبًا من الشاي، ومضى هو إلى الحمام، وسمعته ينادي على فقير، وبعد لحظات أحضر لنا شاب نوبي لم أرَه من قبلُ فنجانًا من القهوة.

قال سعيد وهو يرتشف القهوة: كان يجب أن ترى عُمَّالنا عندما رأوني في الجاراج مع ياكونوف. كانت مظاهرة.

– كانوا يقرءون لك إذن.

– أبدًا. أروني مقال جريدة الصباح عن السد وهم يتساءلون إذا كانت مثل هذه الأكاذيب تصح.

– وبماذا أجبت؟

– ماذا كنت سأقول؟ أريتهم بطاقتي حتى يتأكَّدوا أني لا علاقة لي بهذه الجريدة ومقالاتها.

– أتعرف ماذا قال لي السائق الذي ركبنا معه في الصباح؟ إنه يعتقد أنك فتحي قراع متنكِّرًا.

– الناس تخلط دائمًا بيننا. شيء يقرف.

– لا أرى وجه القرف.

– تظن أنه شيء يدعو للفخر؟

أشعل سيجارةً واستلقى على الفراش.

قلت له بعد لحظة: على فكرة، هناك من سأل عنا اليوم.

قال: من؟

رويت له قصة فقير. استمع إليَّ صامتًا، ثم اعتدل جالسًا وقال: أتظن؟ …

هززت كتفَي فقام واقفًا وسار بضع خطوات، ثم توقَّف فجأةً وتطلَّع حوله في أنحاء الغرفة، وتوقَّفت عيناه على جهاز التكييف الذي كان يَطن بصورة متواصلة.

انحنى فوق الجهاز وصاح: لا شأن لي بأي شيء. ورفع رأسه إلى السقف، ثم سار إلى الركن وهتف: والله العظيم أنا مع الحكومة.

بدأت أضحك فتحوَّل قائلًا: أنا أقول الحقيقة.

قلت: وهذا ما يضحكني.

عاد إلى فراشه واستغرق في التدخين.

قلت: لو حدث لنا شيء سيقتنع السائق بأنك فتحي قراع شخصيًّا.

– ماذا يمكن أن يحدث لنا؟

– أي شيء.

قلت بعد لحظة: أنا متشوِّق إلى مقالك القادم يا أستاذ قراع.

قال: لست أحب هذا المزاح.

قلت: كما تشاء.

تناولت الترانزستور وأدرت مؤشِّره حتى عثرت على برنامج موسيقي. قال سعيد إنه يريد أن ينام، وإن صوت الراديو يُزعجه، فخفضت الصوت وبدأت أُنصت لأغنية فرنسية أُحبها تبدأ بتصفيق هادئ. كرَّر سعيد أنه عاجز عن النوم، فأغلقت الجهاز وأعدته إلى مكانه على المقعد المجاور لفراشي.

***

استيقظنا متأخِّرين في اليوم التالي وتناولنا إفطارنا في صمت، وعندما سألت سعيدًا عن برنامج اليوم قال إنه لا يشعر بالرغبة في الذهاب إلى الموقع، واقترح أن نمر على عباس لنستعلم منه عمَّن سأل عنا بالأمس.

قلت إني لا أعتقد أنه يعمل في الشركة فاسمانا موجودان لديها.

لم يردَّ وغادرنا المطعم إلى الحجرة. وضعت قبعتي على رأسي وتناول هو كاميرته، وتطلَّع إلى عدستها، ثم سألني إن كنت عبثت بها.

أجبت بالنفي فقال إنه لم يُفارقها لحظةً بالأمس إلا عندما نام بعد أن ضبط العدسة على فتحة مُعيَّنة، لكن أحدًا لعب بها وغيَّر الفتحة.

قلت إني لم أتحرَّك من فراشي طول الليل ولم أقترب منها. هزَّ كتفَيه وعلَّق الكاميرا في ذراعه، ثم انطلق إلى الخارج وأنا في أعقابه.

اتجهنا تحت الشمس الحامية إلى مكتب عباس، وسبقت سعيدًا إلى كشك الصحف فابتعتها. ألفيت العناوين الرسمية عن اعتقال عدد كبير من الإخوان المسلمين وهم على وشك القيام بإحدى مؤامراتهم، وكانت هناك صورة للأسلحة التي ضُبطت معهم.

أعطيت سعيدًا إحدى الصحف ووقفنا في ظلِّ المدخل المؤدِّي إلى مكتب عباس. قرأنا أن الإخوان أعدوا خطةً واسعةً لاغتيال رئيس الجمهورية وعشرات من الممثِّلين والمغنِّين، كما وُجدت معهم قائمة بأسماء عدد كبير من الشيوعيين وعناوينهم، وكانوا ينوون اغتيالهم أيضًا.

قلت: كان الله في عون عباس الآن.

قلَّبت صفحات الجريدة بحثًا عن درجات الحرارة، وألفيتها بلغت في أسوان ٤٦، بينما لم تتعدَّ ٣٣ في القاهرة.

لم نجد عباسًا في مكتبه، وقال لنا زميل له إنه لم يأتِ اليوم، وإنه اتصل بالتليفون طالبًا أن نذهب إليه في فندق جراند أوتيل في الساعة الواحدة.

كنا في الحادية عشرة لكن سعيدًا أصرَّ على الذهاب فورًا، فانطلقنا إلى جاراج الشركة ولحقنا بإحدى سياراتها الذاهبة إلى أسوان. جلست أمام اثنَين من العُمَّال يدور بينهما جدل حام. كان أحدهما يهاجم الروس قائلًا إنهم لا يريدونا أن ننجز شيئًا بأنفسنا، وإننا نملك كفاءات مثلهم وأفضل. وسخر منه الآخر الذي كان يتكلَّم بلهجة صعيدية، ومضى يروي حكايةً طويلةً أراد أن يُثبت بها أن الروس لا يُخفون عنا شيئًا من أسرار العمل.

قال سعيد عندما وصلنا إلى أسوان إنه سينزل أمام البريد ليبعث ببضع خطابات. قلت إني سأحلق شعر رأسي ثم نلتقي في الفندق. لم يردَّ وغادر السيارة أمام البريد، ونزلت أنا أمام نادي التجديف الذي كان طابقه الأرضي يحتوي على حلاق حديث.

كان الدكان الصغير الأنيق مزدحمًا بعدد من الجالسين يتسامرون مع الحلاق بينهم جندي في ملابس عسكرية أنيقة. احتللت أحد المقعدَين الخاليَين المخصَّصَين للحلاقة، وأرخيت جسدي مغمضًا عينَي ومستمتعًا ببرودة جهاز التكييف.

أنصتُّ إلى الجندي يحكي عن مغامراته في اليمن وعن سذاجة اليمنيين وبساطتهم. كان الحاضرون يضحكون بين الحين والآخر، ورأيت وجه الجندي في المرآة ممتلئًا حفَّ شاربَيه بعناية فوق شفتَين داكنتَين من أثر التدخين المتواصل، وراقبته وهو يُخرج علبةً معدِنيةً مُذهبة من أحد جيوبه، ثم علبة سجائر أمريكية من الجيب الآخر صفَّ محتوياتها في العلبة المعدِنية.

فرغ الحلاق من شعري فدفعت حسابي وخرجت مكرهًا إلى الطريق المشتعل. انتقلت إلى الجانب الآخر وألقيت نظرةً على شاب وفتاتَين من الأجانب استلقَوا على العشب، ثم مشيت متثاقلًا إلى جراند أوتيل.

دفعت الباب الدائري للفندق ودرت معه إلى الداخل. كانت هناك حلقات عديدة من السياح يرتدي أغلبهم الشورتات. وقفت لحظةً حتى ألفَت عيناي وَهَج الشمس، ثم رأيت عباسًا وسعيدًا في أحد الأركان ومعهما شاب نوبي نحيف.

قدَّمني عباس إلى النوبي قائلًا: الأستاذ صيام مفتش الآثار.

جلست في مواجهة القاعة أتأمَّل أفخاذ السائحات العارية، وسمعت النوبي يقول إنه سيتم إنقاذ جميع آثار النوبة ما عدا معبد «جرف حسين». سأله سعيد عمَّا إذا كان يستطيع الذهاب إلى «أبي سنبل» على باخرة الآثار، فتحوَّلت إليه قائلًا إني أيضًا أريد الذهاب.

قال إن هناك رحلةً بعد أسبوع ومن الصعب تدبير أماكن لنا عليها، لكنه سيحاول.

دار حديث بين الثلاثة حول جنسيات السائحات، ثم استأذن صيام في مغادرتنا فسألته عن كيفية الالتقاء به، فقال إنه يأتي إلى الفندق كل ليلة ليلعب البلياردو أما مكتبه نادي التجديف.

قال عباس: سيعذِّبكما قبل أن يدبِّر لكما مكانًا، لكن الباخرة هي الطريقة الوحيدة للسفر إلى «أبي سنبل» الآن.

سألته: هل تعرف شخصًا اسمه صبحي يعمل في الشركة؟

قال: سعيد حكى لي. صبحي هذا لا يعمل في الشركة وإنما في المباحث. لقد أردت أن أقابلكما هنا لأقول لكما إن المباحث تسأل عنكما.

قال سعيد: ليس لديهم عليَّ شيء.

قال عباس: لقد شوهدت معكما وربما يعرفون أني أعرف سعيدًا من مدة، ستحوم الشكوك حولي الآن.

قال: هذا لا يعنيني فلست أنا الذي وضعك في الاستراحة، لكن الأفضل أن تنتهيا من عملكما بأسرع ما يمكن وتذهبا.

سألته: هل تعرف شخصًا أصلع له شارب كث ويتناول طعامه دائمًا في الاستراحة؟

ضحك وأجاب: أجل أعرفه، إنه مهندس اسمه المجلاوي.

قلت: له علاقة بالمباحث أليس كذلك؟ لقد ضبطته يراقبنا بدقة.

قال وهو ما زال يضحك: أبدًا. لقد جاءني بالأمس قائلًا إن هناك اثنَين من رجال المخابرات في الاستراحة، وكان يقصدكما.

ابتسم سعيد للمرة الأولى في هذا اليوم، وأشار عباس إلى مجلة على المائدة قائلًا إن بها مقالًا لسعيد عن السد.

تناولت المجلة وقلَّبت صفحاتها حتى وجدت مقال سعيد. كان على صفحتَين بعنوان «رحلة في عز الصهد».

قلت إني أشعر بالجوع والتعب وأفكِّر بالانصراف، فقال سعيد إن هناك مطعمًا في الفندق. قلت إني أفضِّل الانصراف. قال إنه غير قادر على الحركة، وأشار إلى كتل اللحم المتناثرة حولنا، وأضاف: هذا يوم لن يتكرَّر فكيف نذهب؟ ثم إن لديَّ موعدًا في الثامنة مع الملاحظين الشبَّان، ألن تأتي معي؟

قلت: إني أود ذلك.

قال عباس إن زوجته سافرت إلى القاهرة هذا الصباح وإلا كان دعانا إلى الغداء في منزله.

قال سعيد إنه لا يشعر برغبة في الأكل.

قلَّبت صفحات المجلة، وتطلَّع عباس إلى باب المطعم وقال إنه مضطر للبقاء حتى الخامسة لأنه ضرب موعدًا لصحفية اسمها سامية.

قلت: سامية حسين؟ متى وصلت؟ وتطلَّعت إلى سعيد.

قال سعيد ممتعضًا: أمس.

نقلت بصري بينهما.

قال عباس: سعيد غاضب لأني سألتها اليوم عنه فقالت إنه لا يأخذ أكثر من أربعين جنيهًا في الشهر.

قال سعيد: أنا آخذ ثمانين كما قلت لك.

قال عباس: كيف تكون اشتراكيًّا وتسمح لنفسك بأن تأخذ هذا المبلغ؟

قال سعيد: أنت تأخذ مائتَين.

قال عباس: لم أقل أبدًا إني اشتراكي.

قلت إني سأتركهما إلى مكان أتناول فيه وجبةً رخيصة، فقال عباس إنه يدعونا للأكل على حسابه في مطعم الفندق.

انتقلنا إلى المطعم الذي كان مزدحمًا بالسياح، وقال عباس بعد أن جلسنا: لا أدري ماذا يريد الشيوعيون وقد بُنيت الاشتراكية؟!

قال سعيد: يريدون بناء الشيوعية. لن يهدأ لهم بال حتى يُقيموا دكتاتورية البروليتاريا.

جاءنا الطعام وانهمكنا في تناوله. سأل سعيد عمَّا سيفعله عباس بعد انتهاء السد.

قال عباس: سيكون هناك مشروع آخر، لكني سأترك الشركة.

قلت: وماذا ستفعل؟

قال: سأشتري قطعةً من الأراضي الجديدة التي سترويها مياه السد.

قلت: كنتُ أظن أنها ستُصبح مزارع حكومية.

قال وهو يُضيف قليلًا من الصلصة إلى طبقه: ده كلام.

واصلنا الأكل بصمت حتى تحوَّل إلى عباس وقال إنه يحتفظ بموضوعات قديمة كان سعيد ينقلها من الكتب ويقدِّمها لجمعية الخطابة في المدرسة على أنها من إنشائه.

قلت ضاحكًا إنه ما زال يفعل هذا إلى الآن.

بدا سعيد غاضبًا ولزم الصمت حتى انتهينا من الطعام. عدنا إلى البهو فوجدناه خاليًا، فانتقلنا إلى قاعة التليفزيون وكانت خاليةً هي الأخرى فيما عدا شاب أنيق يرتدي عوينات طبية تعرَّف على سعيد، وقدَّمه إلينا سعيد على أنه يعمل في حسابات الهيئة ويُدعى صفوت.

جذب عباس مقعدَين ووضعهما متقابلَين قائلًا إنه سينام قليلًا. فعلت مثله، وقال صفوت إنه يفضِّل الفرجة على السائحات في الردهة، فقال سعيد إنه سينضم إليه.

تمدَّدت على المقعدَين المتقابلَين إلى جوار عباس، وتناولت المجلة وبدأت أقرأ مقال سعيد. كان يبدأ بحديثٍ مع أحد وكلاء الوزارة المسئولة عن بناء السد حكى فيه كيف جاء إلى السد، وقال إنه شاهد ذات يوم فيلمًا عن أعمال البناء فانفعل للغاية ولم يستطِع النوم، ولم يهدأ له بال بعد ذلك إلا عندما نجح في الانتقال إلى أسوان ليُشارك في المشروع العظيم.

شعرت بصداع فوضعت المجلة جانبًا، وقال عباس إنه يريد أن يقرأ المقال، ومدَّ يده فتناول المجلة ووضعها على صدره دون أن يفتحها، وقال إنه عاجز عن القيام بأية حركة من شدة الحرارة.

سألني بكسل عمَّا إذا كنت قرأت صحف اليوم، فأجبت بالإيجاب.

قال بنفس اللهجة الكسولة: الدور الآن على الشيوعيين. أغلقت عينَي مرهقًا ولم أعلِّق.

***

جاء هواء الصباح من خلف القضبان الحديدية محمَّلًا برائحة البحر، وقال عبد السلام إن معدته تنقلب كلما حلَّ في الإسكندرية، وجعل يذرع الزنزانة رائحًا غاديًا وهو يضغط معدته بيده، وقال إن لم يفتحوا لنا الآن لنذهب إلى المراحيض سيفعلها في جردل البول، ورأينا من ثقب المفتاح سجينًا بالسروال السكندري ذي اللية يمشي على مهل وهو يجفِّف وجهه بمنشفة، وقلت إن دورنا لم يحِن بعد، فأسرع إلى جردل البول واستوى فوقه، واصطدم المفتاح في قفل الباب الحديدي بعنف، وانفرج عن عددٍ من الحُرَّاس يحملون أحزمتهم الجلدية في أيديهم انهالوا بها علينا وهم يصيحون بنا أن نتجرَّد من ملابسنا، وساقونا عرايا إلى الخارج حيث اصطفَّ عددٌ آخر منهم على جانبَي العنبر وقد أشرعوا أحزمتهم في أيديهم، وجعلونا نجري بين الصفَّين والأحزمة تنهال علينا، ثم أعادونا إلى الزنازين حيث دفَعَنا حارس عجوز للركن وقلب جردل البول الذي ملأه عبد السلام فوق جسدَينا، وبقينا عرايا نرتعش من البرد نحاول إزالة ما علق بأجسادنا من فضلات الجردل، ثم علا صوت الراديو بنشيد «وطني»، أعقبته موسيقى كلاسيكية. قال عبد السلام في حماسة إنها لبيزيه. وعندما اقتادونا إلى المحكمة كان بعضنا مُجلَّلًا بالأربطة البيضاء، وقالوا إنها شاهد على ما قمنا به من العدوان على الحراس العُزَّل، ولم يكن هناك غير المحامين ورجال المباحث والبوليس وبعض الأمهات والزوجات الحائرات، واهتزَّت أرداف المدَّعي السمينة كما تهتز المرأة الحبلى، وسوَّى وشاحه الرسمي ولعلع صوته وقد أُضيف مجد جديد إلى سِجل أمجاده الحافل بقضايا الاحتيال والجواسيس والإخوان المسلمين، وفي الأعلى أسند الجنرال قائد الجيوش البرية خدَّه إلى راحته اليمنى مستمتعًا بما يجري وخلفه مساحات شاسعة من الأراضي وتاريخ من سطوة الإقطاع ومعارك وهمية لم تُطلق فيها رصاصة واحدة، وابتسم لأطفاله المورَّدين في بياض نسل الأتراك الذي جاء بهم ليشهدوا نهاية ثورة العبيد، وأسبل قاضي اليمين جفنَيه على إغفاءة سريعة بدت كالتفكير العميق؛ فمعاملات الاستيراد والتصدير تستهلك الجهد الكبير، ولم يرفع قاضي الشمال عينه عن صديقته الملوَّنة التي جلست في الصف الأول تشهد مدى سطوته، حتى انتصب الجسد الفارع داخل القفص، وعلا رأسه الذي لم تشوِّهه آثار الجدري عن مستوى القضبان، وحول أسنتها التفَّت أصابعه الطويلة، وكان عبثًا أن راح يجادل بالمنطق ويقول إنه لا يمكن أن يعادي حكومةً تبني السد.

***

فتحت عيني عندما أدركت أني لن أتمكَّن من الإغفاء، ولمحت طفلةً أجنبيةً تجلس على مقعد قريب وقد أحنت رأسها على مسنده ودلَّت ساعدَيها إلى الأرض، وما لبثت أن قامت وغادرت القاعة وهي تسير محنية الرأس يتدلَّى لسانها من فمها.

كان عباس نائمًا، وسمعتُ أصواتًا نسائيةً في الخارج فوقفت. سويت، ثم خرجت إلى البهو.

كان سعيد وصفوت يحتلَّان مقعدَين استراتيجيَّين. ذهبت إلى الحمام، ثم عدت إليهما وجلست بجوارهما مخدَّرًا. رأيت في يد صفوت عددًا من مجلة «لايف» حافلًا بصور فتيات يرتدين البكيني، وسمعت سعيدًا يحكي عن امرأة فخمة رآها في الفندق منذ أيام فحيَّاها فردَّت تحيته، وبينما كان يفكِّر في الخطوة التالية انضمَّ إليها دبوران مصريان أحدهما خفيف الدم سريع البديهة، والآخر صائد مدرَّب في الخامسة والأربعين يفيض رجولةً وثقة، وسمعهما يحاولان إقناعها بالذهاب لمشاهدة قبر آغاخان في ضوء القمر.

قال صفوت: أعرفهما؛ الأول: هو الكابتن عادل الطيار، والثاني: قائد سلاح الحدود.

قال سعيد: الآن استرحت؛ فماذا يملك أي رجل في مواجهة سلاحَين من أسلحة الجيش؟

لحظتُ فتاةً طويلةً في رداء منقَّط كجلد النمر يكشف عن ساقَين منسابتَين. كانت تجلس مع رجل وامرأة متقدِّمَين في السن، ويبدو على الثلاثة أنهم من الأمريكان. كانت نظرة عينَيها قصيرةً كمن تعوَّد على النظارة الطبية.

تطلَّعَت الفتاة باهتمام ناحية الباب، فاتجهت ببصري إلى هناك ورأيت عجوزًا أجنبيًّا يرتدي قميصًا مُخطَّطًا ويأتي بحركات غريبة. تقدَّم بحذر من مصراع الباب ودار معه إلى الخارج، وواصل المصراع دورانه، وإذا بالعجوز يقفز منه إلى الداخل وهو يلهث.

قال صفوت: مائة في المائة هذا الخواجا لوطي. وحكى عن خواجا آخر طلب من موظف الاستعلامات في الفندق قطعةً من اللحم النيئ خرج بها إلى النيل مع صنارته وعاد بسمكة طلب أن تُحفظ له في الثلاجة.

أقبل فوج من السائحين من الخارج ارتمَوا على المقاعد وهم يلهثون. كانت بينهم أفريقية حلوة ترتدي شورتًا أبيض. قال سعيد: إنها تُشبه القشطة السوداء. ووقفت أخرى فرنسية إلى جوار المروحة الكهربائية تجفِّف عرق شعرها، وانهارت ثالثة على مقربة مُكوِّمةً فستانها الواسع في حِجرها ومحدِّقةً أمامها بعينَين زائغتَين.

وقفت فتاة جلد النمر فجأةً واتجهت إلى السلَّم المؤدِّي إلى الطابق الأعلى. قال صفوت إن مشد صدرها انقطع وستصعد لتربطه. تابعتُ ساقَيها الرائعتَين وما تتضحان للعيان كلما ارتقت إحدى الدرجات، وعندما بلغَت نهاية السلَّم استدارت وألقت على وجوهنا المشرئبة نحوها نظرةً متفحِّصة.

همس صفوت شيئًا لسعيد، ثم هبَّا واقفَين، وتقدَّما من مائدة الأمريكيين فجلسا إليها، وما لبثا أن اشتبكا معهما في الحديث.

انضمَّ عباس إليَّ وجلسنا نتأمَّل ما يدور على المائدة القريبة. وظهرت الفتاة مرةً أخرى حاملةً مظلة، فوقف رفيقاها وغادر الثلاثة الفندق.

ظلَّ صفوت وسعيد في مكانَيهما وقد احمرَّ وجه الأول، وبعد قليل انضمَّا إلينا. قال صفوت وهو يجذب مقعدًا: لا تظنوا أني كنت خاملًا طول العام. وشرع يتحدَّث عن فتاة بلجيكية تعرَّف بها في حديقة النباتات.

تطلَّع عباس إلى ساعته وقال إن موعد سامية قد حان، فتوقَّف صفوت عن الحديث متسائلًا عن ماهية سامية هذه، وعندما عرف أنها صحفية قال إنها لن تأتي، ثم استأنف حديثه عن فتاة حديقة النباتات، وفي هذه المرة كانت فرنسية.

تحوَّل فجأةً إلى سعيد متسائلًا: هي سامية هذه حلوة؟

فكَّر سعيد لحظة، ثم قال: إنها سمراء نحيفة شديدة العصبية وأقرب إلى الرجال.

– متزوِّجة؟

– لا.

قال عباس: إنها شديدة عليك يا صفوت. لن تفلح معها.

قال سعيد: لا بأس من المحاولة.

قال صفوت: أنا مستعد لأن أراهنكم عليها.

ولج الفندق هندي طويل الشعر برفقة فتاة بيضاء متوسِّطة العمر ذات عينَين مجنونتَين، ثم ظهرت سامية تقترب منا في خطوات سريعة وهي تحرِّك يدَيها أمام وجهها طلبًا للهواء.

قالت بعد أن استقرَّت في مقعد أحضره لها صفوت إنها كانت في إدارة الشركة في الصباح ووجدتهم يقرءون مقال سعيد ويضعون خطوطًا حمراء تحت بعض سطوره، ثم أرسلوه إلى المباحث.

قال عباس: يحسن بهما أن يُغادرا الموقع في أقرب فرصة.

نقل صفوت نظره بيني وبين سعيد.

قال سعيد: لا أستطيع الذهاب قبل الفيضان.

قالت سامية في حِدة: ماذا؟ من حقِّهما البقاء حتى يُنجزا عملهما.

تطلَّعَت حولها قائلةً إنها تشعر بعطش شديد، فنادينا على النادل وأحضر لها كأسًا من الليمون، ذاقته، ثم وضعته على المائدة قائلةً إنه خفيف.

قال عباس: الخدمة هنا ليست ممتازة.

قالت: لكني طلبت ليمونًا فيجب أن أشرب ليمونًا. ونادت على النادل. جاء هذا بعد دقائق فأصرَّ على أنَّ ما أحضره لها هو ليمون حقيقي وأنه ليس بالفندق غيره.

صاحت سامية في غضب طالبةً مدير الفندق، وران علينا الصمت بينما تطلَّع الجالسون نحونا. اختفى النادل بكوب الليمون، ثم عاد على الفور بكوب آخر أكَّد لون ما فيه من سائل أنه ليمون حقيقي.

قالت سامية لسعيد إنها قضت بالأمس ليلةً ليلاء مع وكيل الوزارة الذي تحدَّث عنه في مقاله؛ فقد دعاها هو ومأمور البوليس لتناول العشاء في منزله، وعندما ذهبَت وجدتهما قد أحضرا زجاجة ويسكي، ثم حاولا تقبيلها، وقال لها وكيل الوزارة إنه مستعد لأن يتزوَّجها في الحال ويطلِّق زوجته، فقالت له إنه في سن والدها.

أراد صفوت أن يعلِّق لكن عباس اعترضه وروى كيف ثار مأمور البوليس في العام الماضي عندما ارتدَت مجموعة من الطلبة والطالبات الدنماركيين الجلاليب، فجمعهم وألقى فيهم محاضرةً عن الأخلاق، لكنهم صفروا له وسحبوا سجاجيد الفندق إلى الشارع وقضَوا فيه ليلتهم.

قال صفوت في استهانة مخاطبًا سامية: لست أفهم هذه الضجة التي تقيمها الصحف حول السد. المشروع ليس أكثر من عتالة كبيرة.

ردَّت سامية بحماسة: هذا غير صحيح. المشروع ضخم وفيه أشياء فنية من الدرجة الأولى؛ مثل قُطر الأنفاق، والقناة التي تمَّ حفرها في نفس الوقت الذي كان يجري فيه سد مجرى النيل، ثم التلبيس بالرمال الذي يطبَّق هنا لأول مرة.

قال صفوت: وماذا عن الغرين الذي سيحتجزه السد خلفه؟ سنزرع أرضًا جديدةً لتموت القديمة. المشروع أصلًا غلط.

قالت في حدة: أنا سألت بنفسي علماء كثيرين عن هذه النقطة، وكلهم قالوا إن الغرين يمكن تعويضه بالسماد، ثم إن الكهرباء التي سيولِّدها السد ستتيح لنا زيادة إنتاج السماد.

ظهر صيام النوبي أمامنا فجأةً وحيَّانا باهتمام. عرَّفه عباس بسامية فقال لها إنه على استعداد لأن يدبِّر لها رحلةً إلى «أبي سنبل»، ثم التفت إلينا قائلًا: والأستاذان أيضًا بالطبع.

قالت سامية إنها كانت تنوي البقاء حتى موعد الفيضان، لكنها تلقَّت مكالمةً تليفونيةً في الصباح تُحتِّم عليها العودة في الغد.

كرَّر صيام استعداده لخدمتها في أيِّ وقت، واستأذن منصرفًا. وتبادلت أنا وعباس نظرةً باسمة.

ولجَت الفندق مجموعة صاخبة من المهندسين الشباب، وقام عباس مرحِّبًا بأحدهم الذي كان أكثرَهم أناقة، وقدَّمه إلى سامية قائلًا إنه يعمل في خطوط الكهرباء. جذب صفوت مقعدًا للشاب الذي جلس إلى جوار سامية، والتفت بقية المجموعة بالمائدة المجاورة.

همس لي عباس أن الشاب يمت بصلة القرابة إلى رئيس مجلس إدارة الشركة ورئيس الاتحاد الاشتراكي فيها، وقالت سامية إنها تود أن تزور أحد مواقع بناء أبراج الكهرباء، فقال الشاب إنهم يعملون الآن بالقرب من «نجع حمادي»، وإنه على استعداد لأن يأخذها إلى هناك في سيارته.

سأله سعيد عمَّا إذا كانت هناك مشاكل مع الفلَّاحين بسبب اختراق الخطوط لأراضيهم في بعض الأحيان، فأجاب بالنفي وقال إنهم على العكس متحمِّسون للغاية ويسألون دائمًا عن موعد وصول الكهرباء، ثم أضاف: مرة انغرزَت سياراتنا في الرمال بالقرب من إحدى القرى، فخرجت القرية كلها لمساعدتنا.

لمحت سامية شابًّا أسمر يلج الفندق فصاحت مشيرةً إليه: هذا هو!

سألها مهندس الخطوط الأنيق: من؟

قالت بنفس الصوت المرتفع: كان حضرته يضع خطوطًا حمراء تحت سطور مقال كتبه الأستاذ سعيد، ثم بعث به بعد ذلك إلى المباحث.

بدت الدهشة على وجه المهندس الأنيق الذي تحوَّل يتأمَّل سعيدًا في إمعان، وفي هذه الأثناء كان الشاب الأسمر قد دنا منا وحيَّانا بأدب، فصاحت به سامية: ألَا يحسن بك أن تشغل نفسك بعمل له قيمة بدلًا من الكلام الفارغ الذي تقوم به؟

فوجئ الشاب ووقف لحظةً عاجزًا عن الإجابة، ثم قال: يا ست سامية أنا لم أفعل غير المطلوب مني.

أجابت سامية: إذن بلِّغ كلامي لأسيادك.

دوَّى صوتها في أنحاء البهو وتطلَّع إلينا الجالسون في دهشة، وتوقَّف الحديث في حلقة الشبَّان المجاورة لنا والْتفتوا نحونا. شعرت فجأةً أن حلقتنا قد خفَّت، ولمحتُ صفوت عند الباب مع بعض الشبَّان وسمعتهم يعلِّقون ضاحكين على صوت سامية وهم يغادرون الفندق: ونش.

تململ مهندس الخطوط الأنيق في مقعده قلقًا، ثم نهض واقفًا وقال: إنه مضطر للذهاب. وقام عباس مسرعًا قائلًا إنه سيرافقه، وبقيت أنا وسعيد بجوار سامية، وبدا سعيد واجمًا.

علَّق سعيد الكاميرا في كتفه وقال: لا بد أن ننصرف الآن لأن لدينا موعدًا.

قلت: ما زال أمامنا بعض الوقت. دعنا نبقى قليلًا.

أصرَّ سعيد على الذهاب قائلًا إننا لن نضمن الأوتوبيس.

قلت: ولكننا سنترك سامية بمفردها. لنبقَ معها قليلًا.

قال: ابقَ أنت إن أحببت.

قالت سامية: لا تقلقا عليَّ. اذهبا. أنا لديَّ موعد بعد قليل.

وقفنا وصافحناها، فقالت لسعيد: لا تعبأ بأحد، سأصنع أكبر ضجة في القاهرة ولن يستطيع أحد أن يمسك بشيء.

قال لي سعيد عندما غادرنا الفندق: آسف إذا كنت انتزعتك من صحبتها.

قلت: كان يمكن أن نبقى معها قليلًا.

قال: أنت تعرف أن لدينا موعدًا.

قلت: لكن ما زالت أمامنا ساعة.

قال: والمواصلات؟

قلت: الحقيقة أنك غاضب منها.

قال: هذا غير صحيح. كل ما في الأمر أني لا أستطيع أن أقضي وقتي كله مع هؤلاء الثرثارين وهذه الفتاة.

قلت: ماذا لديك ضدها؟

انفجر قائلًا: إنها تستطيع أن تتكلَّم هكذا لأنها غنية ولا يُهمها مرتبها، أمَّا أنا فلديَّ أسرة أعولها.

قطعنا بقية الطريق بصمت حتى بلغنا موقف الأوتوبيس، واعتمدت على حاجز حديدي شاعرًا بالإرهاق ولزوجة العرق في أنحاء جسدي.

فكَّرت في المغامرات التي تنتظرنا حتى نصل «السيل» ثم الاستراحة، وسألت سعيدًا أن يتأكَّد من وجود عنوان الشبَّان معه.

قال: أعتقد أنه معي.

قلت: لن تخسر شيئًا إذا ما تأكَّدت حتى لا نقوم بمشوار بلا فائدة.

قال: لست مستعدًّا للقيام بأي حركة في هذا الحر.

لزمت الصمت وراقبت ظهور الأنوار الكهربائية في المحلات، وتجمَّع شيء من البلغم في حلقي فبصقته في منتصف الطريق، وأخيرًا أقبل الأوتوبيس المخصَّص للسيل وهو روسي الصنع يتميَّز ببابٍ واحد عريض في منتصفه.

كان الأوتوبيس مزدحمًا، وعندما حاولنا الركوب أغلق أحد الركَّاب الباب في وجهنا قائلًا إن الحر في الداخل لا يحتمل.

عدنا إلى مكاننا في ضيق، ولمحت ماسح أحذية يقتعد الأرض على بُعد خطوات، فتقدَّمت منه ووضعت قدمي اليمنى على صندوقه، وعندما انتهى منها وهممت باستبدالها ظهرَت إحدى سيارات الركَّاب التابعة للهيئة والذاهبة إلى الموقع، فألقيت إلى الماسح بقرشَين وجريت إلى السيارة، وشققت طريقي داخلها خلف سعيد.

نزلنا أمام «السيل» بعد عشر دقائق فعبرنا الطريق الرئيسي، ثم سرنا في شارع ترابي إلى جوار صفٍّ من المجمَّعات السكنية الشبيهة بمجمَّعات الأحياء الشعبية في القاهرة. كان بعضها يبدو نظيفًا تبرز من جانبه أجهزة التكييف وتظهر في مداخله سيدات روسيات، وإلى يسارنا سوق حافل من الأكشاك التي تُضيئها المصابيح الكهربائية وتُباع فيها الخضراوات والفاكهة.

مررنا بمجموعة من السيدات الروسيات ازدحمن حول كشك يبيع الأعصرة، ثم انطلقنا إلى جوار فناء مُسوَّر أمام إحدى المجمَّعات جلست به سيدتان روسيتان فوق دكتَين، وعلى دكة أخرى أمام المجمَّع المقابل اصطفَّ عددٌ من الشبَّان المصريين، وأقبلنا على فناء مُسوَّر آخر تحوَّل إلى مقهًى شعبي رُشَّت الأرض الترابية أمامه بالمياه.

كنا قد ابتعدنا عن منطقة السوق، واتجه سعيد إلى عمارة تجمَّعت أمامها الفضلات وظهرت القُلَل في شرفاتها.

صعدنا إلى الطابق الأخير، وطرق سعيد الباب لكن أحدًا لم يرد، فأخرج مفكِّرته من جيبه وتأكَّد من العنوان، ثم عاد يطرق الباب دون جدوى.

هبطنا الدرج وأنا أشعر بنوعٍ من الارتياح، وانطلقنا إلى الطريق الرئيسي ونحن نتعثَّر في الظلام.

وقفنا على جانب ننتظر، ومرَّت بنا سيارتان خاصتان تبعتهما بضع سيارات أخرى مسرعة، ولم يعبأ السائقون بنا رغم أننا كُنا نتقدَّم إلى عرض الطريق ونعترض كشافاتها قبل أن تقترب بمسافة.

دنا منا أحد الصعايدة الذي ظلَّ يرقبنا بعض الوقت، واقترح علينا أن نستقل القطار من المحطة القريبة، وقال إننا نستطيع اللحاق بالقطار الذي يُقل وردية المساء إلى الموقع. شكرناه وسرنا إلى حيث أشار، وما لبثنا أن سمعنا صوت محرِّك قطار فأسرعنا نجري حتى ظهرت المحطة، ورأينا القطار يدخلها.

لحقنا بالقطار قبل أن يستأنف المسير، وقفزنا إلى إحدى العربات. أدركت بعد لحظة أن القطار غارق في ظلام دامس.

تلمَّسنا طريقنا بصعوبة، وتعثَّرت بأحد الأجسام، فأخرجت علبة الثقاب وأشعلت عودًا رفعته إلى أعلى، والْتقت عيناي بعينَي صعيدي تُحيط برأسه لفافة بيضاء. أدرت العود حولي فرأيت الباحة الفاصلة بين العربتَين قد امتلأت بالعُمَّال الذين اقتعدوا الأرض وأسندوا رءوسهم إلى الجدار.

انطفأ العود فأشعل سعيد عودًا آخر، وشققنا طريقنا بين الأجسام المتراصة، وتقدَّمنا في الممر الذي يفصل بين صفَّين من المقاعد الخشبية.

عثرنا على مكانَين متجاورَين فجلست بجوار النافذة، وكان الظلام كثيفًا في الخارج لا يبين معه شيء.

سار القطار ببطء وقد ساد السكون أرجاء العربة، ولم يكن يقطعه سوى صوت تنفُّس العامل الذي يجلس في مواجهتي، وأدركت من نغمته أنه غارق في النوم.

ارتفع صوت بائع عرقسوس يُنادي على بضاعته في طرف العربة، ثم انقطع صوته وساد السكون من جديد.

أغلقتُ عينَي في مواجهة الحرارة الآتية من النافذة، وأسندتُ رأسي إلى حافة المقعد، وعندما فتحتهما بعد قليل رأيت أضواء الموقع تملأ الأفق.

***