نجمة أغسطس

مؤسسة هنداوي مؤسسة هنداوي

الفصل الرابع

توقَّفت سيارة «الفولجا» أمام مبنًى من طابقَين أشبه بالمدرسة، وجذبت قماش سروالي الذي الْتصق بفخذي من العرق مغادرًا السيارة في أعقاب ياكونوف. ولجنا مركز التدريب الذي يتحوَّل فيه آلاف المصريين إلى عُمَّال مَهَرة، وانطلقنا في رُدهة طويلة إلى غرفة المديرة.

استقبلتنا امرأة ضخمة ذات وجه جامد لا يعرف الابتسام. قال ياكونوف وهو يقدِّمها لنا: إنها مهندسة ولها في بلادنا عدة شهور.

سألها سعيد عمَّا إذا كانت تعيش مع أسرتها، فاحمرَّ وجهها وقالت إنها بمفردها، ثم أضافت بعد لحظة أنها فقدت زوجها في الحرب وليس لها أطفال.

ران علينا الصمت، وهربتُ بعينَي إلى صورة لينين المعلَّقة على الحائط فوق رأس المديرة.

اقترح ياكونوف أن نبدأ جولتنا في أنحاء المركز، وتبعنا المديرة إلى فصول التدريس. كان أغلب المدرِّسين من المصريين، أمَّا الطلبة فكانوا من مختلِف الأعمار والمِهَن، وكانت الموضوعات التي تُدرَّس لهم متباينةً تمامًا؛ من تركيب الآلات المستخدمة، إلى المواد المكوِّنة لسائل الحقن.

التقط سعيد عدة صور للفصول، وفي كل مرة كان المدرِّس يستمهله حتى يجلس العُمَّال في نظام، ويجعلهم يركِّزون أنظارهم في اهتمام على يدَيه وهي تُشير إلى رسمٍ ما على السبورة.

عُدنا إلى مكتب المديرة، ووجَّه سعيد إليها عدة أسئلة عن انطباعاتها في مصر، وأسرع يسجِّل قولها إن العُمَّال المصريين يمتازون بالذكاء، وإن الطيور تأتي من الاتحاد السوفياتي كل عام دليلًا على الصداقة.

غادرنا المركز إلى السيارة، وتمهَّل ياكونوف بجوارها يتأمَّل سحابةً من الغبار صفراء اللون تجمَّعت في الأفق، ثم قال إن الجو يسوء من يوم إلى آخر مع اقتراب موعد الفيضان.

انطلقت السيارة في اتجاه الموقع، وقال ياكونوف إنه سيأخذنا إلى أحد المراكز التي تُشرف على حركة العمل اليومي، ثم يتركنا هناك ويعود إلى مكتبه.

قال سعيد إننا نود أن نعرف كيف يعيش الروس في منازلهم، فقال ياكونوف في خجل إنه يدعونا إلى منزله في الغد.

قال سعيد إن هذا رائع، وإنه سيكتب موضوعًا مثيرًا عن هذه الزيارة؛ ولهذا من الأفضل أن يكون هناك عنصر نسائي.

نظر إليه ياكونوف في خُبث وقال في إنجليزيته الركيكة: ليتك ذكرت هذا ونحن في المركز؛ كنا دعونا المديرة.

سارع سعيد قائلًا: لا. ثم ارتبك وسكت، بينما انفجر ياكونوف ضاحكًا.

قال: من تقترح إذن؟

قال سعيد: ربما إحدى الفتاتَين اللتَين رأيناهما في مكتب أبراسيموف. الشقراء مثلًا.

قال ياكونوف: سأقول لها وإن كنتُ أشك أنها ستقبل، ثم إنها لا تتكلَّم الإنجليزية جيدًا. إنها أسوأ مني.

– لكننا قادرون على التفاهم معك.

– سأُحاول، والأفضل أيضًا أن أبحث عن مترجم يكون معنا. ربما قبلت الفتاة الأخرى المجيء.

سألت تانيا؟

قال: أجل؛ فهي تُجيد الإنجليزية وتعمل مترجمة.

أعطانا العنوان قائلًا إن المنزل لا يبعد عن النادي الروسي في «كميا». كنا قد بلغنا جسم السد وانطلقنا فوقه، وفجأةً أوقف السائق السيارة، ورأينا طابورًا من سيارات «الماز» يسد الطريق.

غادر السائق السيارة وعاد بعد قليل فتحدَّث إلى ياكونوف، وأوضح هذا لنا أن إحدى الشاحنات انغرزت في الأرض المبلَّلة.

أصبح الجو خانقًا داخل السيارة فغادرتها ووقفت إلى جوار إحدى الشاحنات المحمَّلة بالرمال. كان العادم ينطلق من مؤخِّرتها في سُحب كثيفة، بينما سائقها يحاول الخروج بها من الطابور.

نجح السائق أخيرًا في التحوُّل إلى اليمين، وتقدَّم في طريق غير ممهَّد يأخذ في الانحدار، ثم استدار ناحية اليسار حتى أصبح يواجهنا، وتراجع إلى الخلف بمؤخِّرة الشاحنة التي تجمَّع الدخان الأسود فوقها. ورأيته في مكاني ينحني إلى الأمام ويجذب شيئًا في جهد. وما لبث صندوق الشاحنة أن أخذ يرتفع حتى استقرَّ في وضعٍ رأسي فوقها، وانهمرت حمولتها في ضجة مثيرةً موجةً من الغبار.

أشار أحد الملاحظين للسائق فشرعت «الماز» تتحرَّك إلى الأمام وما زال صندوقها معلَّقًا في الهواء، ثم انطلقت خفيفةً وصندوقها يهبط رويدًا حتى عاد إلى وضعه، ومن الناحية الأخرى اتجه أحد البلدوزرات إلى كوم الرمال الجديد وقد ارتفع درعه الأمامي العريض عن سطح الأرض، ولمع سطحه المعدِني في ضوء الشمس. وتوقَّف البلدوزر أمام كوم الرمال، وهبط درعه حتى استقرَّ على الأرض، ثم عاود التحرُّك وزحف مكتسحًا الرمال بدرعه.

انفتح الطريق أخيرًا وعُدت إلى «الفولجا». استأنفَت السيارة سيرها فوق جسم السد حتى نهايته فانطلقت في طرقات ملتوية، ثم توقَّفت أمام مبنًى خشبي.

ولجنا مكتبًا تغطِّي الخرائط جدرانه، وقدَّمنا ياكونوف إلى مهندس روسي أحمر الشعر شديد الهدوء، استمع إليه في اهتمام مدةً طويلةً تكفي لعرض تاريخ حياتنا، ثم سلَّمَنا بدوره إلى مهندسٍ آخر أسنانه كلها معدِنية ويعرف الإنجليزية. وانصرف ياكونوف بعد أن أكَّد علينا أن نذهب إلى منزله في الغد.

جلستُ على مقعد يواجه مروحةً كهربائية، وانكبَّ سعيد على عديدٍ من القوائم والخرائط أحضرها ذو الأسنان المعدِنية. كان بعضها خاصًا بمعدلات ما يتم إلقاؤه فوق جسم السد من صخور ورمال وطمي في كل وردية.

قال ذو الأسنان المعدِنية: الردم هو آخر العمليات في بناء جسم السد، وهو يعني إلقاء الصخور والرمال، ثم تسويتها بالبلدوزرات ودكها بعد ذلك بالهرَّاسات.

دخل الغرفة عاملان أحدهما روسي والآخر مصري، واتجه الروسي إلى المهندس ذي العُوينات وتحدَّث إليه شاكيًا من شيء ما.

انحنى المصري على مكتبِ ذي العُوينات وقال في مزيج غريب من العربية والروسية: موجنا كلام؟

ابتسم ذو العُوينات وقال: موجنا.

قال العامل: يا ميكانيكي نييت رابوتشي … ولم يُسعفه لسانه بالمزيد فحرَّك يدَيه في إشارة غامضة.

تحوَّل العامل الروسي إلى زميله المصري غاضبًا وقال: شيف كلام كل رابوتي.

هزَّ ذو العُوينات رأسه مؤمنًا، وبسط أصبعَين من يده اليمنى، ثم ضمَّها إلى بعض بشدة وقال: كل رابوتي سوا سوا.

لم يقتنع ابن بلدنا وكرَّر: يا ميكانيكي نيت رابوتشي. ثم هزَّ كتفَيه واستدار مغادرًا الغرفة.

استفسر سعيد من ذي الأسنان المعدِنية عن الأمر فقال في حرج: إن الميكانيكيين المصريين يترفَّعون عن القيام ببعض العمليات البسيطة التي يُعهد بها عادةً إلى العتَّالين. وكان الملاحِظ الروسي يطالِب بإمداده بعتالين مصريين.

دوَّن سعيد بعض الأرقام والبيانات في مفكِّرته وغادرنا المكان. وقفتُ في مدخل المبنى أثبِّت قبعتي على رأسي وأتأمَّل الجو المكفهر، وقال سعيد ونحن نخطو إلى الطريق إن الحرارة بلغت حدًّا لم يعد يُحتمل.

بلغنا مرتفعًا من الأرض يُشرف على ممرَّي التفتيش من بعيد. كانت هناك عدة بلدوزرات تتحرَّك في اتجاهات مختلفة فوق مساحةٍ من الرمال مكتسحة أمامها أكوام الرمال تاركةً خلفها خطوطًا عريضةً ممهَّدة، تحف بها على الجانبَين خطوط رفيعة من الرمال العالية.

التقط سعيد عدة صور للبلدوزرات والخطوط العريضة المتوازية التي تصنعها، وتحوَّلنا نبحث عن طريق تمضي فيه السيارات. سرنا مسافةً دون أن نُصادف طريقًا مطروقًا، ومررنا بجوار مساحة واسعة امتلأت بالشبكات الحديدية التي عكف عليها عدد من عُمَّال اللحام، ولمحنا سيارة جيب تهم بالتحرُّك فجرينا نحوها، وكان السائق قد لمحنا فانتظر حتى لحقنا به وأقلَّنا حتى المستشفى.

أكملنا الطريق إلى الاستراحة سيرًا على الأقدام، وعندما أوشكنا أن نبلغها اقترح سعيد أن نمر على عباس فذهبنا إليه.

قال عباس عندما رآنا البوليس الحربي حاصر الجاراج منذ نصف ساعة واعتقل أحد الميكانيكيين.

وضع سعيد قُبَّعته على المكتب وسأل: إخوان؟

هزَّ عباس رأسه وقال: لا أحد يعرف السبب بعد.

وتطلَّع من النافذة، ثم أضاف: هل بقي أمامكما وقت طويل حتى تنتهيا؟

قال سعيد: ما زال أمامي الفيضان وفتح الأنفاق، وبعد ذلك سنقوم برحلة إلى «أبي سنبل»، ثم أعود إلى القاهرة.

قال عباس: رأيي أن تذهبا إلى المباحث وتتكلَّما معهم.

تناول سعيد قبعته ووضعها على رأسه قائلًا: سنفكِّر بالأمر.

سألنا عباس ونحن نتأهَّب للانصراف: هل سافرَت سامية؟ أمس هبَّت عاصفة رملية ربما تكون عطَّلتها.

أجبت: لا، لقد سافرت فعلًا.

غادرنا المكتب وسرنا أسفل أشعة الشمس الحامية حتى الاستراحة. قال سعيد ونحن نقطع الردهة الكابية الضوء المؤدِّية إلى غرفتنا: أُراهن أن مقابلاتنا مع الروس ستُسبِّب لنا المشاكل. ربما كان يجب أن نذهب إلى المباحث ونتفاهم معهم.

قلت: أنا لن أذهب متطوِّعًا.

دخلتُ الغرفة فتناولت منشفةً وأسرعت إلى الحمَّام. خلعت ملابسي وعلَّقتها خلف الباب، وعندما وقفت في حوض الاستحمام وأدرت الصنبور اكتشفت أن المياه مقطوعة.

ارتديت ملابسي من جديد وعدت إلى الغرفة. كان سعيد منحنيًا أمام جهاز التكييف يعبث بأزراره، وقال عندما رآني إن الجهاز مُعطَّل.

قلت: ربما عبث به أحد.

غادرنا الغرفة بحثًا عن فقير، ووجدناه على باب المطعم. قال إن المياه مقطوعة منذ ساعتَين بسبب عطل في الأنابيب الرئيسية، ووعد بأن يأتي لنا بكهربائي لإصلاح جهاز التكييف.

ولجنا المطعم فوجدناه مزدحمًا بالآكلين الذين أقبلوا على طعامهم في صمتٍ تام. جلسنا إلى مائدتَين متباعدتَين، وما لبثتُ أن سمعت شخصًا خلفي يقول إن أحد العُمَّال مات بالحمَّى المخية، فعارضه آخر قائلًا إنها كوليرا، ثم ساد الصمت من جديد.

وجدنا المياه ما زالت مقطوعةً عندما أردنا أن نغسل أيدينا، وعدنا إلى الغرفة فبدأ سعيد يخلع ملابسه، واكتشف أن سرواله تلوَّث بالشحم، فقلت إنه بالإمكان تنظيفه هنا، فقال إنه لن يغسله وسيحتفظ به كما هو للذكرى.

قلت: أو تصوِّره وتستخدم الصورة في إحدى المقالات.

لم يعلِّق وانهمك في طيِّ السروال بعناية شديدة، ثم أودعه حقيبته واستلقى على فراشه يدخِّن.

فكَّرت بمطاردة الذباب وإغلاق النافذة، لكني عدلت عن ذلك بسبب الحرارة، فاستلقيت على الفراش بملابسي الداخلية، وما لبث الذباب أن تجمَّع حولي فحاولت طرده باليد، لكنه كان يحط على جسدي من جديد ملتصقًا به في عناد.

فرغ سعيد من سيجارته وأعطى وجهه للجدار واضعًا ساعده على وجهه في محاولة للنوم. قمت فطاردت الذباب بمنشفة حتى أخرجت أسرابه من النافذة، فأسرعت بإغلاق مصاريعها، وساد الغرفةَ ظلامٌ مريح.

استلقيت على الفراش باسطًا ساقَي على سعتها، وبعد قليل صار جو الغرفة خانقًا، فأعدت فتح النافذة، وعاد الذباب يلتصق بجسدي. جذبت ملاءة الفراش فوقي، لكني ابتللت من العرق وكدت أختنق، فألقيت بالملاءة جانبًا وغفوت لحظات، ثم تنبَّهت على إلحاح الذباب فوق وجهي، فطردته بعيدًا وجذبت الملاءة فوقي، وغفوت مرةً أخرى، وحلمت أن الصفحة الأولى من الجريدة مُلوَّثة بالشحم، وأن اسمي منشور في صدرها، ثم حلمت بأني آخذ قرص أسبرين، وفتحتُ عينَي شاعرًا بصداعٍ عنيف.

أنزلت الملاءة حتى ساقي فقط، واستدرت ناحية الجدار، ثم طويت ساعدي وغطَّيت بهما وجهي وسرعان ما غفوت.

حلمت بأبي يُعطيني موعدًا في السابعة إلا ربعًا لأتسلَّم منه أشياء خطرةً لعلها كانت منشورات سرية، وكان يحدِّثني بصوت رصين وأنا في عجب ممَّا طرأ عليه من تغيير رفعه إلى مستوى هذه الأشياء. كان وجهه أسمر غير كامل الملامح وقد ارتدى بذلته السوداء ذات الصديري، وفي الساعة السادسة اكتشفت مصادفةً أن هناك من يتعقَّبني، وفكَّرت بألَّا أذهب إلى أبي كي لا أعرِّضه للخطر، لكن كيف أتركه في الشارع بالأشياء التي يحملها؟ وقرَّرت أن أتخلَّص ممن يتعقَّبني في الأزقة المجاورة.

مضيت أنتقل من زقاق إلى آخر وأنا أتطلَّع خلفي باستمرار، وفجأةً جذبني صبي صغير من يدي مشيرًا إلى باب أمامي، وقال إني لو دخلت منه وأغلقته خلفي وضغطت على شيء بالداخل سيتساقط منه الماء. سألته عن البيت فقال إنه قصر مهجور. وقادني إلى الداخل حتى بلغنا سُلَّمًا تتدلَّى منه نباتات خضراء متهرِّئة، ولسبب ما شعرت بالرعب، وقال الصبي إن أحدًا لا يصعد إلى أعلى. تطلَّعت إلى ساعتي فوجدت أنه لم تعد أمامي سوى ربع ساعة على موعد أبي، فأسرعت أُغادر المنزل، ورأيت رجلَين ينتظراني في نهاية الزقاق، فأدركت أنهما اللذان كانا يتعقَّباني، فعُدت أدراجي بحثًا عن النهاية الأخرى للزقاق، وإذا بي أجده مسدودًا.

استيقظت على قرع الباب، وقام سعيد يفتحه فرأيت فقيرًا ومعه شاب يحمل حقيبةً حديدية. قال فقير إنه أحضر الميكانيكي الذي سيصلح الجهاز، فأفسح لهما سعيد الطريق وتقدَّم الميكانيكي من الجهاز، ثم ركع أمامه واضعًا حقيبته على الأرض.

عاد سعيد إلى فراشه مستفسرًا من فقير عن المياه، فقال هذا إنها لم تعد بعد. ودلَّيت قدمَي من حافة الفراش وجعلت أرقب الميكانيكي وهو ينتزع المسامير المثبتة في واجهة الجهاز، وعندما انفصلت الواجهة وضعها بعيدًا، وتبادلت نظرةً سريعةً مع سعيد.

ظَلِلنا نرقب الميكانيكي بدقة حتى انتهى من عمله وأعاد للجهاز واجهته، وسرعان ما تردَّد طنينه كالعهد به، وانتشرت البرودة المنعشة في أرجاء الغرفة.

قال فقير وهو يتأهَّب للانصراف إن العقارب ظهرت، وعلينا أن نأخذ حذرنا ونُحكم إغلاق النافذة والباب. طلبت منه أن يبحث لي عن قليل من الماء بأية طريقة، فأحضر لي كوبًا ابتلعت به قرصًا من النوفالجين.

تناول سعيد أغطية فراشه ونفضها في الهواء ليتأكَّد من خلوها من العقارب. تطلَّع أسفل فِراشه وفي أركان الغرفة، وفعلت المثل بفراشي، ثم تناولنا منشفتَين وطاردنا الذباب وأغلقنا النافذة.

في السادسة سمعنا صوت فقير في الفناء يهلِّل مُعلنًا عودة المياه. قال سعيد إننا نستطيع اللحاق بالسيارة الذاهبة إلى أسوان، وسألني إن كنتُ أُحب أن أُرافقه، فقلت إني لا أمانع.

سبقت سعيدًا إلى الحمَّام، وعدت إلى الغرفة فأخرجت قميصًا نظيفًا من الصوان ونفضته بعيدًا عني عدة مرات، ثم ارتديته، وفعلت المثل بالبنطلون.

غادرنا الاستراحة إلى جو أصفر مشحون بالأتربة، ولحقنا بسيارة السابعة إلا ربعًا المخصَّصة للمهندسين. جلسنا خلف كهلَين متأنقَين كانا يتبادلان حديثًا هادئًا به شيء من الكُلفة، وكان أحدهما يرتدي عُوينات طبيةً سميكةً سوداء اللون، وتتصاعد منه رائحة عطر أولد سبايس.

منع السائق عدة شبَّان من الركوب وهو يصيح بصوت رفيع ناعم: المهندسون فقط. وعندما أراد أحدهم الاحتجاج هاج وصاح بصوته الرفيع: إن كل إنسان يجب أن يعرف مكانه!

انطلقت السيارة والسائق مستمر في حملته على أنصاف المتعلِّمين وكل من هبَّ ودبَّ ممن يظن بعد قليلٍ من التدريب أنه ارتفع إلى مستوى المهندس. وعندما بلغنا أسوان نزل المهندسان الكهلان أمام «جراند أوتيل»، ونزلنا نحن أمام نادي التجديف.

جلسنا في الشرفة الدائرية التي تُضيئها مصابيح كابية، وأحضر لنا النادل زجاجتَين ساخنتَين من البيرة. كان الجو مكتومًا ساكنًا ليست به نسمة واحدة من الهواء. شربنا في صمت ونحن نتطلَّع إلى الشاطئ الآخر الذي اختفى في الظلام خلف غمامة من الغبار، وتسلَّلت رائحة الرمال إلى أنفاسي، وعاد الصداع إلى رأسي.

غادرنا النادي بعد قليل ومشينا في اتجاه «جراند أوتيل». كانت أضواء مصابيح الكورنيش والحوانيت توشك أن تختفي خلف الغمامة الصفراء، وعندما بلغنا الفندق رأينا أمامه أوتوبيسًا سياحيًّا، ولمحنا خلف إحدى نوافذه جانبًا من بارٍ ذي أضواء حمراء خافتة ازدحم بخليط من المصريين والأجانب.

دفعت الباب الدائري وسعيد في أعقابي، ولمحت المهندسَين الكهلَين في البهو يتابعان مجموعةً من السائحات العجوزات تجمَّعن حول أعمدة المراوح الكهربائية. مضينا في الردهة المؤدية إلى البار، ومررنا بغرفة البلياردو حيث كان صيام يلعب مع شخص أوروبي جلسَت فتاته كالملكة تتفرَّج عليهما.

لم نجد مكانًا في البار إلا إلى جوار اثنَين من المصريين لمحت أحدهما من قبلُ عدة مرات في الفندق. كانا يتبادلان حديثًا هامسًا وهما يتطلَّعان إلى فتاة أجنبية تجلس إلى منصة البار.

كانت الفتاة ممشوقة القوام معتدةً بنفسها، وكانت تتحدَّث مع شاب مصري يقف إلى جوارها، ورأيته يطلب لها كأسًا من الويسكي جرَعَته دفعةً واحدة. كان الشاب قصيرًا تصدر عنه حركات كوميدية. وتعرَّف سعيد على الفتاة قائلًا إنها تعمل في شركة سياحية أجنبية وتأتي دائمًا مع المجموعات السياحية.

أحضر لنا النادل زجاجتَين من البيرة، وجعلنا نتأمَّل الجالسين في أنحاء القاعة الخافتة الضوء، وراقبت فتاةً شقراء كانت تحتسي كأسها دون أن ترفع عينَيها عن قاعه.

قام رفيقانا فجأةً وانضمَّا إلى الشاب القصير ذي الحركات الكوميدية، ورأيتهما يطلبان للفتاة كأسًا جديدًا من الويسكي، وترامت إلى سمعنا بضع كلمات من حديثهما، وكانا يتحدَّثان بإنجليزية ركيكة.

فرغَت زجاجاتنا فدفعنا حسابنا وعدنا إلى البهو، وانتحينا ركنًا إلى جوار المروحة العمودية، وكان المهندسان الكهلان ما زالا في مكانَيهما.

كان ثمة تقويم سنوي على الحائط المجاور لي تتوسَّطه صورة كبيرة لمعبدَي «أبي سنبل»، وفي الركن العلوي من الصورة كانت هنا صورة مكبَّرة لواجهة المعبد الكبير وحده ظهرت فيها تماثيل رمسيس الأربعة العملاقة بوضوح وقد سقط رأس التمثال الثالث عند قدمَيه.

نقلت بصري بين الرءوس الثلاثة التي تحمل نفس الابتسامة، ثم تحوَّلت أشرب البيرة التي طلبها سعيد، وأبصرت بالفتاة الشقراء التي كانت تجلس في البار تتقدَّم ناحيتي ثم أولتني ظهرها، ووقفَت تتأمَّل صورة المعبدَين، وانحدر بصري فوق ردائها القصير إلى ساقَيها المتناسقتَين اللامعتَين، وتابعت قطرة عرق انزلقت على فخذها، ثم ساقها التي خلت من الشعر.

مضت الفتاة إلى قاعة التليفزيون، وظهرت الفتاة الأخرى التي كان الشبَّان الثلاثة يُعاطونها الويسكي في البار. كانت تتقدَّمهم حاملةً سيجارةً في يدها، وجلس الأربعة وسط البهو، وكفَّ الكهلان عن الحديث وتحوَّلا يرقبان الفتاة ورفقاءها.

أخذ بقية السائحين الذين كانوا في البار يتوافدون على الفتاة يطلبون منها حبوبًا منوِّمة، وسمعناها تشرح لهم برنامج الغد بالفرنسية.

ظهر صيام في مدخل البهو، وتطلَّع ناحيتنا، ثم حوَّل بصره بعيدًا، فقمت إليه. قال بعد أن تصافحنا: تعرف طبعًا أن سامية سافرت أمس؟ أجبت بالإيجاب وسألته إذا كان قد حجز لنا على باخرة «أبي سنبل».

قال: الرحلة تأجَّلت.

قلت: ومتى تتم؟

هزَّ كتفَيه وهو يتطلَّع إلى حيث جلس المصريون الثلاثة حول الفتاة الأجنبية، ثم قال: في خلال أيام. سأحجز لكما بالتأكيد.

عاد صيام إلى الداخل بعد أن وجَّه التحية إلى الشبَّان الثلاثة، ورأيت سعيدًا يُغادر مقعده فمضينا إلى الخارج معًا. مشينا متثاقلَين من أثر البيرة والحر في الطريق إلى ميدان المحطة، ورأينا فتاةً مصريةً تسير بمفردها على الرصيف وخلفها ثمانية شُبَّان. قال سعيد عندما حاذيناها إنها قاهرية بالتأكيد وغير جميلة وإلا ما جاءت إلى هنا.

عبرنا الميدان إلى موقف سيارة المهندسين، ولحقنا به قبل موعد تحرُّكه بدقائق. كان الجو خانقًا داخل السيارة، وجلست معتمدًا برأسي على مسند المقعد الأمامي.

تحرَّكت السيارة بعد ربع ساعة وتوقَّفت عدة مرات في الطريق لتلتقط رُكَّابها، وتوقَّفت مرةً أخرى أمام «جراند أوتيل» لتأخذ المهندسَين الكهلَين، ثم استأنفت السير إلى الموقع.

بدا الطريق مكفهرًّا كأنما يُغلِّفه الضباب. كانت أنواره تكاد تختفي تمامًا تحت غلالة صفراء، وكانت استراحتنا هي الأخرى مُغلَّفةً بنفس الغلالة.

أويت إلى الفِراش على الفور ونمت نومًا عميقًا دون أحلام. استيقظت في الصباح على صوت فقير، وسمعته يقول إن الموتى يتساقطون في كل مكان.

اعتدلت جالسًا متسائلًا عمَّا حدث.

قال: محدش عارف. يمكن تكون كوليرا.

أفطرنا بسرعة وذهبنا إلى عباس نستوضحه جلية الأمر، فقال إن أحد عُمَّال الخرسانة سقط ميتًا في الفجر بعد ارتفاع مفاجئ في درجة حرارته. كما وُجد بائع الفول المواجه لمنزله في أسوان ميتًا بجوار عربته. سأله سعيد عن رأي المسئولين فهزَّ كتفه وقال: رأيهم أنها ضربة شمس.

سألته عمَّا إذا كان هذا حدث من قبل.

قال: أبدًا. أقصد فيه ناس كانت بتموت بضربة الشمس. يمكن واحد كل شهر. أمَّا بالجملة هكذا …

قلت: ربما كان هناك وباء من نوع ما. كوليرا مثلًا.

قال: لكن المصابين بالكوليرا أو الحمى المخية لا يموتون هكذا في ثوانٍ.

قلت: والأطباء؟ ماذا يقولون؟

قال: لا أعرف. الأطباء معظمهم في إجازة، والإصابات الآن محصورة في نطاق العُمَّال والصعايدة، وهؤلاء سيواجهون الموت بشعار العمر واحد والأجل محدود.

قلت: وإذا انتقلت إلى المهندسين وكبار الموظفين؟

قال: عندئذٍ تقع ثورة.

تطلَّعت من النافذة إلى الجو المترَّب، وفكَّرت بهذا الشيء الغامض الذي يشن هجومًا خاطفًا في أماكن مختلفة بين أسوان والموقع.

قلت: ربما كانت ثمة علاقة بين عاصفة اليومَين الماضيَين وما حدث.

لم يعلِّق أحد، ونهض سعيد مقترحًا الذهاب إلى المستشفى، وقال عندما صرنا في الطريق: إذا اتضح أن هناك وباء ما سأعود إلى القاهرة فورًا.

قلت: تكون مخطئًا.

قال: لست مستعدًّا للتضحية بحياتي.

قلت: ولو قالوا انك رحت شهيد واجبك الصحفي؟

– ولو جعلوا مني بطلًا وطنيًّا.

– و«أبو سنبل»؟

– في داهية.

مشيت إلى جواره في صمت مطرق الرأس، وعندما اقتربنا من المستشفى قلت: أنا أيضًا غير مستعد للتضحية بحياتي، لكني سأبقى.

قال: هأ … تُريد أن تبقى مع الجماهير حتى النهاية؟

قلت: وما قيمة هذا؟

قال: إذن لماذا؟

قلت: ربما كنت أُريد أن أرى ما سيحدث.

استقبلَنا الطبيب المناوب في اهتمام، وقال لنا إن عدد الموتى الحقيقي بلغ اثنَي عشر، لكن أحدًا لا يعرف على وجه التحديد حقيقة الأمر.

سألت: ليست كوليرا؟

هزَّ رأسه: ليست كوليرا؛ فليس ثمة قيء أو إسهال في الأعراض السابقة على الوفاة، كما أنها ليست حمًّى مخية لأنه لا يوجد تصلُّب في الرقبة، ولا تيفود.

قال سعيد: إذن ماذا؟

هزَّ الطبيب كتفَيه: ربما مالاريا كواحدة خبيثة شهدتها في اليمن، أو إنفلونزا، أو مجرَّد ضربة شمس.

– وماذا نفعل للوقاية؟

ابتسم الطبيب: لا شيء؛ فلسنا نعرف وقايةً ضد ماذا.

طرق الممرِّض الباب قائلًا إن هناك طفلًا أحضروه وحرارته ٣٨٫٥. وعلَّق الطبيب: الناس تأتينا هنا بعد أن تكون قد انتهت. في الصباح أحضروا عاملًا أُصيب بنزيف، وبالمصادفة كشفت درجة حرارته فوجدتها ٤٠°.

قال سعيد: إذن ارتفاع الحرارة علامة هامة؟

قال الطبيب مفكِّرًا: بالطبع، والعملية تستمر يومًا على الأقل بحيث تستطيع أن تلحق نفسك. على العموم لا بد من وقف وردية الظهر لأن العمل في الشمس فظيع. أمس كانت درجة الحرارة ٦٠ وهي كذلك اليوم.

قلت: الصحف تقول إنها ٤٤.

قال سعيد: يجب إذن ألَّا نسير في الشمس.

قال الطبيب: ضربة الشمس غير مرتبطة أساسًا بالشمس، وإنما بالارتفاع العام في درجة الحرارة.

تحسَّست جبهتي خلسةً وخُيل إليَّ أنها ساخنة عن المعتاد.

سألت الطبيب عن العلاج فأجاب باسمًا: شيء واحد هو حوض من الثلج.

سأل سعيد: والروس؟

قال: لم تحدث بينهم أية إصابات حتى الآن. هم يُعنَون برجالهم عنايةً شديدةً ويتخذون إجراءات وقاية صارمة.

تركنا الطبيب وعدنا إلى الاستراحة. شعرت بساقَي سائبتَين عندما دخلنا غرفتنا، فاستلقيت على الفراش بملابسي، وأدركني الخوف فجأةً عندما فكَّرت أن الدائرة يمكن أن تدور عليَّ. لم تكن فكرة الموت قد خطرت ببالي من قبل رغم أني رأيته يحدث للآخرين. وفكَّرت أن أسوأ ما في تجربة كهذه ألَّا يُتاح للمرء أن يتحقَّق من سلامة فكرة أو فكرتَين في رأسه.

تطلَّعت حولي فلمحت كتاب «ميكل أنجلو». تناولته وجعلت أقلِّب الصفحات المصوَّرة وتوقَّفت عند تمثال الشفقة.

***

«العذراء وابنها مرةً أخرى، لكنه هذه المرة لم يعد طفلًا. ها هو الرجل الذي كان الجثة المصلوبة وقد استقرَّ في حِجر أمه. شيء لم يفعله نحَّات من قبل، وانحنى رأس الأم فوق اليد المستقرَّة على قلبها. كانت تعرف كل شيء منذ البداية، لكن وجهها الحزين من أجل ابنها وجميع أبناء الرجال كان يحمل سؤالًا يائسًا: «من أجل أي شيء كل هذا؟» أمَّا المصلوب فقد أغلق عينَيه في سُبات الراحة العميق.»

***

فتح لنا ياكونوف الباب وقال مشيرًا بيده إلى الداخل: باجلستا.

ولجنا صالةً صغيرةً تتوسَّطها مائدة من الصاج تُحيط بها عدة مقاعد، وإلى جوارها ثلاجة مصرية. دعانا ياكونوف إلى الجلوس وتقدَّم من الثلاجة ففتحها، وجلست أمام كوم من الكتب والمجلات الروسية يعلوه عدد من مجلة لايف الأمريكية.

أخرج ياكونوف زجاجة بيرة وجعل يبحث عن فتاحة، وقال في إنجليزيته الركيكة إنه وضعها على المائدة منذ دقائق. بحثنا عنها بين المجلات، ثم مضى إلى المطبخ وعاد بها قائلًا: عندما لا تكون زوجتي معي أصبح …

وتوقَّف حائرًا يبحث عن الكلمة الإنجليزية المناسبة حتى وجدها فأكمل: أصبح رجلًا ضائعًا. وضحك ضحكته الصافية التي يحمَر لها وجهه وتظهر معها ثلاثة أسنان ذهبية.

سألته: أين هي؟

جلس أمامنا وشرع يخلع غطاء الزجاجة وهو يقول في بطء: في موسكو … ستأتي بعد شهرَين. لقد ذهبتُ لترى ابننا. إنه ابننا الوحيد وعمره ستة عشر عامًا.

كانت هناك حجرة في مواجهتي لمحت فيها طرفًا من فراش وتسريحة صغيرة، وكان ثمة مشجب على الحائط يتدلَّى منه قفَّازان كبيران للملاكمة، وعلى الأرض تحتهما استقرَّ قضيب حديدي من قضبان رفع الأثقال.

أخرج سعيد مفكِّرته بينما كان ياكونوف يصب لنا البيرة، وقال لي بالعربية يبدو أن أحدًا آخر لن يأتي وسنقضي الليلة نستمع إلى تاريخ حياته.

وكأنما أدرك ياكونوف ما قاله سعيد فقد قال إن الفتاتَين ستأتيان بعد قليل.

أحسست بالدم يصعد إلى وجهي، وقلت له إن صديقي يُريد أن يعرف مدى تأثير الوباء على الروس.

قال: في حدود علمي لم يُصَب أحدٌ بشيء حتى الآن.

سأله سعيد: ماذا تظنون يكون هذا الوباء؟

أجاب: لا أعرف. هذا شيء يعلمه الأطباء وكبار المسئولين. ربما كان ضربة شمس أو كوليرا، ولكني أتمنَّى ألَّا يكون شيئًا خطيرًا، خصوصًا الآن ونحن نستعد لاستقبال الفيضان.

شربنا نُخب الصداقة المصرية الروسية، وسأله سعيد عمَّا حدا به للمجيء إلى مصر فقال إن مصر كانت بالنسبة له دائمًا أسطورة، وكانت رؤيتها حلمًا يُداعبه منذ الطفولة.

سألته: أنت طبعًا تأخذ راتبًا كبيرًا. أقصد أكبر ممَّا كنت تتقاضاه في بلدك، فهل تُنفقه كله هنا؟

احمرَّ وجهه مرةً أخرى وأجاب: كلا. هناك جزء يُحفظ لي في موسكو.

قال سعيد: وماذا تنوي أن تفعل بهذه المدخرات؟

قال: سأبني منزلًا بالطريقة التعاونية أعيش فيه بقية حياتي.

طرق الباب الخارجي، وما لبثت الشقراء أن ولجت الصالة تتبعها تانيا، وجاء في أعقابهما شاب قصير القامة. قال ياكونوف وهو يجذب مقعدَين للفتاتَين إننا الْتقينا جميعًا من قبل، ثم أشار إلى الشاب وقال: أمَّا هذا فهو فاليري إيفانوفتش وهو … وتوقَّف، ثم خاطبه بالروسية وتحوَّل الشاب إلينا قائلًا في إنجليزية سليمة: أنا أعمل مترجمًا بقسم القياس الهندسي.

أجلس سعيد الشقراء السمينة بيني وبينه، وجلس ياكونوف على يساري، وأصبح كلٌّ من تانيا وفاليري أمامي.

قام ياكونوف وأحضر زجاجتَين من البيرة وثلاثة أكواب، وعندما أراد أن يصب لفاليري رفض هذا أن يشرب، ووضع سعيد طرف قلمه في فمه، وتطلَّع إلى تانيا، ثم قال: أريد أن أعرف كيف جئت إلى مصر؟

كانت تانيا في حركة مستمرة منذ جلست، وبدا كأنما جسمها النحيل الطويل لا يملك قوةً كافيةً للاحتفاظ بتوازنه، وأكسبتها هذه الحركة المستمرة شيئًا من الدلال.

احمرَّ وجهها عندما خاطبها سعيد وأجابت بشيء من الحدة: بالطائرة.

ضحكت أنا وسعيد وقال: لا أقصد هذا. أقصد مثلًا هل أنت التي تقدَّمت للعمل في مصر من تلقاء نفسك ولماذا؟

ابتسمَت وقالت: عندما تخرَّجت من معهد اللغات كانوا يطلبون مترجمين للعمل في الهند وغانا ومصر، فاخترت مصر.

اشرأب سعيد بعنقه وهو يسجِّل إجابتها بسرعة وسألها: ولماذا اخترتِ مصر؟

تناولت تانيا سيجارةً من حقيبتها فأشعلتُها لها، وقالت بعد أن التقطَت منها نفَسًا: خفت من حرارة الجو في الهند وغانا. ثم أضافت بعد لحظة: لقد رأيتُ عددًا من الأفلام المصرية من قبل، وشعرت بنوع من الأُلفة لجو الحياة في مصر.

قلت لسعيد بالعربية: عندك الآن عنوان مثير: رأت الأفلام المصرية فقرَّرت الذهاب إلى مصر.

تجاهلني وسأل تانيا عن سنها، فقالت إنها في السادسة والعشرين، وفكَّرت أنها لو كانت نقصت عامَين من عمرها الحقيقي نكون في سن واحدة.

تحوَّل سعيد إلى فاليري فقال هذا إنه في الخامسة والعشرين، وإنه يدرس بكلية الصحافة في جامعة موسكو وسيستأنف الدراسة بعد أن يمضي عامًا في السد، وقال إنه عضو في منظمة الشباب الشيوعي (الكومسومول)، وإنه يضع كتابًا عن السد بعنوان: «صداقة في العمل وصداقة في الحياة». وكان سؤال سعيد التالي عن عائلته فقال إن أباه قُتِل في الحرب، أمَّا أمه فتعمل في أحد الحوانيت.

استغرقت في تأمُّل شعر تانيا المائل إلى الاحمرار، وعينَيها الواسعتَين الزرقاوَين، والتجاعيد التي تظهر حول فمها عندما تنفعل أو تستغرق في التفكير. ولاحظت أن ملابسها مجرَّدة من الأناقة.

سألتها إذا كانت قد تفرَّجت على أسوان ورأت قبر أغا خان ومتحف جزيرة الفنتين، فقالت إنها لم تفعل بعد. عرضتُ عليها أن أصحبها في جولة بالمدينة، فألقت على ياكونوف نظرةً سريعة، ثم ابتسمت وهزَّت رأسها موافقة، ولحظت أن يدها التي تحمل السيجارة قد ارتعشت.

قالت: الناس هنا تعمل كثيرًا ثم تعود إلى المنازل متعبةً لتأكل وتنام، ولا يعرفون ثمة مجال للذهاب إلى أي مكان. وابتسمت، ثم أضافت: على الأقل هذه هي التهمة الموجَّهة إلى الرجال.

ضحك ياكونوف ضحكته الصافية بعد أن كرَّرتُ له ما قالته بالروسية، وقطَّب فاليري حاجبَيه وقال شيئًا بالروسية، فوجمت تانيا لحظة، ثم ردَّت عليه في شيء من الحِدة فلزم الصمت.

كان سعيد منهمكًا في حديث خافت مع الشقراء، وكانت تصدر عنها ضحكات متتالية وقد احمرَّ وجهها، وشعرت بها تتململ في مكانها وتتحرَّك مقتربةً مني، ثم رأيت ساق سعيد تُطارد فخذها الأمين بإلحاح، ولحظت أن جسمها رغم سمنته قوي مشدود بلا ترهُّلات، وكانت تبدو عليها حيوية المرأة التي تُمارس وظائفها الطبيعية بنشاط.

تشاغلتُ بتقليب المجلات الموضوعة على المائدة وعثرتُ فجأةً أسفلها على مجموعة الأوراق تحمل رسومات حديثةً بالألوان المائية لم تكد تجف. كان موضوعها واحدًا يتكرَّر دائمًا: نساء ممتلئات يتلوين عرايا بين ألسنةٍ من النار.

لمحني ياكونوف أتصفَّح الرسومات، فانقضَّ بيده عليها، ولكني جذبتها بعيدًا قائلًا إنها تبعث على الاهتمام. ضحك في خجل وازداد احمرار وجهه، بينما مالت تانيا في اهتمام وأصرَّت على أن تراها. والتفَّت المائدة كلها حول أعمال ياكونوف، وانهالت التعليقات الضاحكة من الفتاتَين بالروسية بينما ازداد تقطيب وجه فاليري.

قلت لياكونوف: لم تقُل لنا رأيك في المرأة المصرية.

فكَّر طويلًا قبل أن يقول: لا أستطيع الحكم عليها؛ فلم أعرفها.

قلت: والروسية؟

قال: إنها سمينة مثل المصرية، ولكنها فيما يبدو لي متقدِّمة أكثر. وأكمل الجملة بالروسية طالبًا من تانيا أن تترجمها لنا، فقالت إنه يرى أن المرأة هي المرأة في كل مكان.

نهضت الشقراء فجأةً قائلةً إنها يجب أن تنصرف، وكانت الساعة قد تجاوزت العاشرة، ونهض سعيد بدوره قائلًا إن لديه موعدًا مع أحد العُمَّال في الموقع، وإنه سيرافق الشقراء حتى منزلها في طريقه. اعترضت بأن منزلها ليس بعيدًا، ولكنه أصرَّ فاستسلمت.

دار الحديث بعد ذهابهما حول العُمَّال المصريين، وقال ياكونوف عن طريق فاليري إنهم أذكياء رغم أن الكثيرين منهم لا يعرفون القراءة والكتابة. حكيت له النقاش الذي شهدته في مكتب ذي الأسنان المعدِنية، وكيف ترفَّع العامل المصري عن القيام بأي عمل يدوي، فلم يعلِّق بشيء، وإنما قال: على أية حال، العنصر اليدوي في السد يتلاشى الآن؛ فكل العمليات التي تجري الآن عمليات فنية للغاية.

قلت: أجل. سمعنا عن دقة الحفر الذي يجري لتوسيع مدخل القناة.

قال: وهناك الحقن؛ فقد بدأ حقن الصخور من داخل ممرَّات التفتيش، والحقن يتم بطبقة رفيعة جدًّا سُمكها نصف سنتيمتر، تُدفع وسط كتل الصخر.

قلت: لا أذكر أن برنامجنا اشتمل على شيء يتعلَّق بالحقن.

قال: المسألة بسيطة. بوسعكما أن تزورا غدًا مصنع الحقن. سأتصل في الصباح الباكر بالمهندس المسئول هناك وهو صديق لي يُدعى أربول.

وقف فاليري قائلًا إنه يُريد أن ينام مبكِّرًا، فنهضت مُعلنًا رغبتي في الانصراف، وقامت تانيا بدورها، وصحبنا ياكونوف إلى خارج المنزل، ثم اشتبك في حديث مع فاليري، فانتهزت الفرصة وعرضت على تانيا أن نقوم بجولة في المدينة ليلة الخميس.

ألقت نظرةً سريعةً ناحية ياكونوف وفاليري، ثم قالت: هذا غير ممكن.

قلت: إذن يوم الجمعة أو أي يوم آخر في الأسبوع.

هزَّت كتفَيها قائلة: لا أعرف.

تحوَّل إلينا ياكونوف فصافحني وودَّع كلًّا من تانيا وفاليري، ثم عاد إلى الداخل. سرنا في صمت حتى بلغنا شارعًا يفصل بين صفَّين من العمارات، فتوقَّف فاليري واستدار ناحيتي، وألفت نفسي مضطرًّا لأن أودِّعهما وأنصرف.

قالت تانيا فجأةً بعد أن صافحتها: إذا أحببت يمكن أن نلتقي بعد غد في منزل فاليري.

أومأ فاليري برأسه وقال: مرحبًا بك.

قلت: أوكي. سآتي، لكن أين المنزل؟

أشار فاليري إلى نهاية الصف المقابل وقال: آخر منزل الشقة الخامسة.

تلفتُّ حولي متعرِّفًا على المكان، ثم ودَّعتهما مرةً أخرى. وهتفت بي تانيا وأنا أبتعد: لا تنسَ أن تُحضر صديقك معك.

وصلت محطة السيارات قبل مقدم سيارة المهندسين بدقائق، ووجدت غرفتنا في الاستراحة خالية، فأخذت حمَّامًا سريعًا واستلقيت على فراشي أدخِّن وأنصت للموسيقى.

عاد سعيد بعد ساعتَين، وولج الغرفة مكفهرَّ الوجه، فأدركت أن الأمور لم تكن كما تصوَّرت. رويت له حديث ياكونوف عن الحقن واقتراحه الذهاب في الصباح إلى المهندس أربول، وسألني عمَّا فعلناه بعد ذهابه، فقلت: لا شيء، وأنت؟

لم يُجب وأشعل سيجارة، ولم أشأ أن أكرِّر السؤال فقد كنت واثقًا أنه لن يُطيق الصمت، وسوف يروي لي ما حدث بعد قليل.

قلت: لقد دعانا فاليري إلى منزله بعد غد، وستكون تانيا هناك وربما جاءت صاحبتك أيضًا.

لم يعلِّق بشيء، وشرع يخلع قميصه وبنطلونه، ولم يلبث كما توقَّعت أن حكى لي كيف صحب الشقراء إلى منزلها، وسمحت له أن يقبِّلها ويحتضنها في الظلام أمام المنزل، ثم رفضت رفضًا باتًّا أن يصعد معها: … ولكني صعدت بالرغم منها حتى باب مسكنها، وقلت لها إني سأدخل معها مهما حدث، فقالت إن صديقها سيأتي بعد قليل، ولم أصدِّق قصة هذا الصديق؛ فقد كنت متأكِّدًا أنها وحيدة تمامًا، وهدَّدتني بأن تصرخ، وعندئذٍ بدأت أهتز. وقفنا متواجهَين على رأس السلَّم بعض الوقت، ثم قرَّرت أن أنسحب بنظام، فطلبت منها أن نتقابل في وقت آخر، فرفضَت تمامًا قائلةً إنها لا تريد أن تراني مرةً أخرى.

قلت: لو كنت مكانك لتركتها عندما رفضَت أن تصعد معها.

قال: ولكن المرأة تتمنَّع دائمًا في البداية.

قلت: إذن كنت تركتها عندما قالت إن صديقها قادم.

قال: لا أظن أنها كانت تقول الحقيقة.

قلت: المهم أنها لم تكن تريدك.

قال: لقد كانت ترتعش من الشهوة طول الوقت منذ داعبتها بساقي عند ياكونوف.

قلت: ألم يخطر ببالك أنها ربما كانت ترتعش من الخوف؟

قال: الخوف مماذا؟

قلت: الخوف من ياكونوف … من فاليري، من أن يفاجئكما أحد من الروس فيضيع مستقبلها.

قال: سيعيدونها إلى موسكو وهي عائدة على أية حال.

قلت: ولكنها عائدة لتواصل العمل لا لتبقى في بيتها، وهي تُريد أن تسافر إلى أماكن أخرى وأن تتقدَّم في عملها.

قال وهو يستلقي على فراشه: لعلها لم تكن تريدني اليوم لأي سبب من الأسباب، وربما لو حاولت مرةً أخرى غدًا أو بعد غد …

قلت وأنا أطفئ النور: سنرى.

***

أصرَّ سعيد في الصباح على القيام بالزيارة المعتادة لعباس، وفضَّلت أن أنتظره في الظل بجوار مكتب البريد. ابتعت الصحف ولم أجد فيها إشارةً واحدةً لحالات الوفاة المنتشرة في السد، ولم أعبأ بقراءة درجة الحرارة بعد ما ذكره الطبيب. توقَّعت ألَّا يفوت اليوم على خير كما يحدث في كل مرة نذهب فيها إلى عباس، وما لبث سعيد أن عاد جالبًا معه أخبار الموتى وآخرهم عامل النادي الذي سقط ميتًا وهو يشرب كوبًا من الشاي، وقال إن لجنةً من مديري وزارة الصحة وصلت بالطائرة.

مضينا إلى الجاراج واستطعنا أن نفوز بشاحنةٍ من طراز «تايمز»، وتكوَّمنا إلى جوار السائق وقد رفعنا سيقاننا إلى أعلى، وطلبنا منه أن يأخذنا إلى مصنع الحقن.

انطلقت الشاحنة تلف وتدور متفاديةً العقبات، وكانت الشمس تقع على وجوهنا حاميةً تكاد تُعمي عن الرؤية. أشرفنا على جسم السد بعد دقائق وسرنا بحذائه قليلًا، وكانت البلدوزرات والهرَّاسات منهمكةً في تسوية الرمال والطمي ودكِّها. ولحظت واحدًا منها غريب الشكل كان يجر خلفه صندوقًا ضخمًا امتلأ بالصخور، واستقرَّ فوق ست عجلات من المطاط، وبدا جسم السد كأرض معركة كبيرة تتحرَّك فوقها فِرَقٌ من الدبابات المتكاسلة.

دُرنا حول هضْبة صغيرة من بقايا عمليات التفجير، وانطلقنا في طريق دائري منحدر، وعندما بلغنا نهايته فوجئنا بقلابة روسية من طراز «ماز» قد استلقت على ظهرها بعرض الطريق وارتفعت عجلاتها في الهواء، وعلى مقربة استقرَّت قطعة ضخمة من الصخر على قارعة الطريق، وكان هناك بلدوزر يتقدَّم من القلابة رافعًا درعه الأمامي إلى أعلى، ثم توقَّف وتراجع على جنزيره مبتعدًا عنها، وتوقَّف مرةً ثانية، ثم اندفع نحو القلابة مُصوِّبًا درعه إلى حافتها، وهبط الدرع حتى أصبحت حافة العربة معتقلةً بين الدرع وجسم البلدوزر، ومرَّت لحظة تجمَّد فيها كلٌّ من الدرع وحافة القلابة، ثم صدر عن البلدوزر صرير مرتفع، وما لبثت القلابة أن بدأت ترتفع عن الأرض، وإذا بالبلدوزر يتخلَّى عنها فجأةً متراجعًا إلى الخلف فسقطت مكانها، وعاد البلدوزر يتقدَّم من القلابة ودرعه في جانبها، ثم رفعها في الهواء قرابة المتر، وزحف ببطء دافعًا القلابة أمامه، وسمعنا رجَّة، وإذا بها تعتدل فوق إطاراتها من جديد.

التقط سعيد عدة صور لمراحل إعادة القلابة إلى وضعها، كما صوَّر سائقها الذي جلس على صخرة قريبة يرقب العملية، ونادى سائقنا عليه ليُبعد عربته عن الطريق، وقام هذا متثاقلًا فتقدَّم من عربته في بطء، وتوقَّف بعيدًا عنها يتطلَّع إليها بوجهه الذي ملأته التجاعيد، وبدا كأنما يخشى الاقتراب منها، وأخيرًا تقدَّم منها وفحص موتورها، ثم اختفى داخلها، وظهر بعد لحظة فوقف لتأمُّلها، ثم هتف بسائق البلدوزر أن يدفعه.

قام البلدوزر بعِدة مناورات حتى تمكَّن من إزاحة القلابة التي أمسك سائقها بمقودها، وانفسح الطريق أخيرًا أمام سيارتنا الخفيفة.

بلَغْنا فِناءً واسعًا مسوَّرًا به بضع مبانٍ حجرية من طابق واحد. غادرنا الشاحنة وعبرنا الفِناء بسرعة فرارًا من حرارة الشمس. استقبلَنا في الداخل شاب روسي ذو ملامح شرقية. قال لنا إن أربول مضى إلى اجتماع طارئ في الهيئة.

أخذ منه سعيد بضعة بيانات سريعة عن مواد الحقن علمنا منها أنها تتألَّف من أربع مواد، اثنتان منها متوفِّرتان في الموقع وهما الرمال والطمي، والمادتان الأخريان يُؤتى بهما من روسيا.

اتفقنا مع الشاب على أن نعود في الثامنة من صباح الغد، ومضينا إلى الخارج، وقال سعيد إنه يشعر بالْتهابٍ في حلقه ويريد الذهاب إلى المستشفى، فأقلَّتنا الشاحنة إليه.

قاس الطبيب حرارة سعيد فوجدها ۳۷ درجة. سأله سعيد عن أخبار اللجنة الطبية، فقال إنها تميل إلى الاعتقاد بأن الأمر لا يتعدَّى ضربة شمس قوية، ونصحنا بأن نتجنَّب الشمس والحرارة بقدر الإمكان.

الْتجأنا سريعًا إلى كهفنا المكيَّف ولم نغادره إلا إلى الحمام، ثم المطعم، وملأ لنا فقير الترموس بالليمون المثلَّج، ثم استلقيت على الفراش أقرأ رواية «على الطريق» لكيرواك.

شعرت بحرارة مفاجئة تسري في جسدي، ثم تنحسر، وتكرَّر ذلك عدة مرات، فألقيت بالرواية جانبًا وتمدَّدت ساكنًا أحدِّق إلى السقف، وانتابني الشعور بهبوط عام.

غفا سعيد طويلًا وقال لي عندما استيقظ إنه يشعر بالبرد. جذب الملاءة فوقه، ثم أضاف إليها البطانية، وبعد قليل طلب مني بطانيتي قائلًا إنه يرتعش من البرد.

سوَّيت كل الأغطية التي لدينا فوقه لكنه استمرَّ يرتعش وأسنانه تصطك بصوت حديدي بارد. أغلقت التكييف وارتديت ملابسي ومضيت إلى الخارج بحثًا عن طبيب.

كانت العيادة الطبية تبعد عن الاستراحة مسافة عشر دقائق سيرًا على الأقدام، وكانت الشمس ما تزال ترسل أشعةً قويةً رغم أن الساعة أشرفت على الخامسة. وجدت الطبيب يفحص شخصًا متخشِّبًا، ثم يقول له إنه يمثِّل ولا يشكو من شيء، وبالفعل انتصب واقفًا كالجواد وانصرف، وقبل أن أبدأ حديثي ولج الغرفة عدة رجال يحملون عاملًا لدغته عقرب، وأعطاه الطبيب حقنتَين، ثم نصحه بعدم شرب الماء والاكتفاء بالليمون.

قست حرارتي في هذه الأثناء فوجدتها ٣٧ درجة، ورويت للطبيب حالة سعيد، فاستمع إليَّ في غير اكتراث حتى علم أن سعيدًا صحفي فأبدى اهتمامًا بالغًا، وقام معي في سيارة الإسعاف التابعة للعيادة وانطلقنا إلى الاستراحة، وتولَّى سائق السيارة وفقير حمل سعيد إليها ملفوفًا في أغطيته، وعدنا أدراجنا إلى العيادة.

وُضع سعيد في غرفة خاصة بالأطباء تضم فِراشَين، وقاس له حرارته فوجدها تحت الأربعين بشرطة واحدة، وأعطاه حقنة فيتامين «ث» وأتبعها بحقنة نوفالجين في الوريد، وعاونت الطبيب في محاولة التقاط أحد أوردة ذراعَيه. كانت قد اختفت خلف طبقات الشحم السميكة التي أضافها سعيد إلى جسمه في السنوات الأخيرة.

ظلَّ سعيد يرتعش بعض الوقت، وقال لي بين أسنانه المصطكَّة إنه يشعر بأنه على أبواب الموت. هوَّنت عليه وبقيت إلى جانبه حتى توقَّفَت الرعشة، فانطلقت إلى الاستراحة وطلبت من فقير أن يملأ الترموس ليمونًا، وحملت الترموس والراديو إلى سعيد.

كان نائمًا واستيقظ عندما ولجت الغرفة. أعطيته كوبًا من الليمون وأدرت الراديو. كان هناك برنامج من أغاني عبد الوهاب استمعنا فيه إلى أغنية قديمة له مسروقة اللحن، تبعتها أغنية «عاش الجيل الصاعد».

قال سعيد فجأة: أغلق الراديو بالله. هذه الأغنية حزينة.

أغلقت الجهاز وأشعلت سيجارة.

***

«ولعنة العصر يمكن أن تصبح أروع نعمة عندما يخلو المبنى الأصفر الكئيب من صداه، وتتشوَّق الآذان إلى نغمة واحدة تصل بني البشر بماضيهم، لكن الأزرار في يد حارس يُدرك أنه لو سمح للصوت أن يتسرَّب لالتوت جميع الآذان في اتجاهه. وعند الغروب اقتادونا إلى الفناء في سكون مطبق، وأجلسونا القرفصاء على الأرض ليؤكِّدوا لنا أننا فقدنا حريتنا، وأشرفوا علينا وقوفًا: الضابط الجرم الذي كان دائم الصراخ بأنه يرى من ثقب ظهره، والجندي العجوز النحيف الذي جعل من ندائه اليومي وهو يرمي إلينا بعيدان الفجل الصفراء جملةً موسيقية، ثم الآخر الذي كان صورةً مُجسَّمةً للإنسان الأول بجسمه الضخم عديم الشكل، ويده السمينة، وأظافره المتحجِّرة، وعينَيه النصف مغمضتَين في غباء، والهمهمة الغامضة التي تصدر عن فمه. وبدأ ضوء النهار يتلاشى، واصطبغت السماء بلون وردي أخَّاذ، وما زلنا مقرفصين نتلهَّف على معرفة وجهتنا، ولا بد أن يكون الحارس على الجهاز قد انتابته نوبةٌ مفاجئة من المرح؛ فقد انطلق الصوت على حين غِرَّة من المكبِّرات المثبتة في الفناء يترنَّم بحياة الجيل الصاعد.»

***

أعلن سعيد رغبته في النوم، وطلب مني أن أذهب إلى أربول في الصباح. غادرته ومشيت على مهل نحو الاستراحة، ثم تجاوزتها ومضيت في الطريق المؤدِّي إلى محطة الكهرباء. كانت المصابيح الكهربائية المنتشرة في كل مكان فوق أعمدة خشبية قد بدأت تُرسل ضوءًا باهتًا، وكان الظلام لم يطبِّق أستاره بعد.

مررت بقلابة من طراز «ماز» كانت تنتحي جانب الطريق وقد الْتوى إطاراها الأماميان في حِدة إلى اليسار، وتوقَّفت إلى جوار مجموعة من عُمَّال اللحام انهمكوا في إيصال قضبان معدِنية مختلفة الأحجام، وكان ضوء الأكسجين الساطع يبرق فوق الدروع المعدِنية التي تُغطِّي وجوههم.

عبرت محطة الكهرباء بحذاء الحائط الذي تقبع دوائر التوربينات أسفله. انتظرت حتى مرَّ بي طابور من الشاحنات الفارغة، ثم انطلقت في طرقات ملتوية حتى أشرفت على بداية جسم السد من مرتفع صغير. وقفت أتأمَّل ممرَّ التفتيش المقوَّس الذي سُلِّطت عليه أضواء الكشافات. كان جزؤه القريب مني مغطًّى بالأسمنت والطمي، أمَّا الجزء الآخر فكان ما يزال شبكةً من القضبان الرفيعة المتعانقة.

كان هناك عددٌ من الصعايدة على مقربة يقومون بتمهيد الأرض بالفئوس ورشِّها بالمياه، وفوقنا امتدَّت السماء شديدة الصفاء لا أثر بها للقمر أو النجوم.

تحوَّلتُ إلى اليمين وسِرت مسافةً بين قِطَع ضخمة من الصخور. مررت بحفارة متصلة بمجموعة من الأجهزة المتشابكة، وفي صندوقها جلس عامل روسي يقرأ في ضوء مصباح كهربائي مثبَّت في السقف.

أشرفت على مستوًى منخفض من الرمال المختلط بالزلط، وفي أحد جوانبه كانت الرمال تنساب في قوة من فتحات أنابيب التجريف مصحوبةً بالمياه، وخلفه كان هناك صف من الأكشاك الخشبية المضاءة.

لم يكن بوسعي أن أرى المستوى التالي خلف الأكشاك، ولكني كنت أعرف أنه يمتد حتى صفِّ البراميل السوداء المستديرة، وبعدها يبدو النهر بركةً ضحلةً هادئة، بينما تتدفَّق مياهه الأصلية عبر القناة الجديدة وتنساب إلى شمال الوادي حتى البحر.

شعرت بالعطش فاتجهت إلى أحد الأكشاك، وعندما اقتربت منه رأيت ثلاثةً من العُمَّال المصريين يقتعدون الأرض أمامه وفي أيديهم أكواب الشاي. وجَّهت إليهم التحية فدعَوني إلى الشاي، وأراد أحدهم أن يقوم ليُحضر لي مقعدًا، لكني أمسكت به ليبقى وجلست إلى جوارهم.

تبادلنا الأسئلة عن موطن كلٍّ منا. كان بينهم اثنان من الصعيد وواحد من الدقهلية.

سألت الدقهلاوي عن عمله فقال إنه مساعد كهربائي.

قلت: وقبل السد … كنت بتعمل إيه؟

أجاب: كنت أشتغل في الأرض.

– وإيه اللي خلاك تسيبها وتيجي على هنا؟

– ناس جت من بلدنا ع السد فجيت معاها.

– واشتغلت مساعد كهربائي على طول؟

تطلَّع إليَّ في عجب: لا طبعًا. في الأول اشتغلت عتال، أشيل وأودي. حبة بحبة تعلَّمت. كنت أقف إلى جنب الصنايعي أبص عليه وأسأله.

– ومبتخفش من الكهربا؟

– دلوقت لا، إنما الأول … ياما تكهربت. لكن أنا اتعلمت ازاي أشد دراعي بكل قوتي لورا لمَّا اتكهرب، وأعزل نفسي على طول. الغشيم أول ما يكهرب ضروري يتعور، ويمكن يموت؛ لأنه بيتلخم وما يعرفش يتصرَّف.

قام الصعيديان قائلَين: إن ميعاد ورديتهما قد حان، واستعدَّ الدقهلاوي لمرافقتهما وعُدت أدراجي.

قابلتني عند جسم السد شاحنة «بارفورد» ضخمة يُضيئها مصباح صغير للغاية بجوار السائق، أضفى عليها فيضًا من الضوء البنفسجي الرائع.

رفعت بصري إلى السماء، كان ثمة نجمة كبيرة تتلألأ على يميني وقد انفردت بصفحة السماء. ظَلِلت أتأمَّلها بعض الوقت، ثم اتجهت نحو الاستراحة.

ولجت المطعم دون أن أشعر بشهية فاكتفيت من طعام العشاء بشريحة من البطيخ، والْتجأت إلى غرفتي فأدرت التكييف وخلعت ملابسي، ثم استلقيت على الفراش وتناولت كتاب «ميكل أنجلو».

***

«لم يكن مسيحه المصلوب ابن إله بقدر ما كان إنسانًا؛ فقد الْتوى رأسه وركبتاه في اتجاهَين متعارضَين لرجل يمزِّقه الصراع الداخلي بين جهتَين. رجل لا تعذِّبه المسامير الحديدية بقدر ما يعذِّبه الشك. فماذا يكون قد دار بذهنه منذ اللحظة التي دقُّوا فيها أول مسمار في لحمه عند الغروب، واللحظة التي مات فيها غير التفكير في عجز الإله عن الحيلولة دون هذه الوحشية، وجدوى رسالة تُريد أن تبشِّر بالأخوة وتُريد أن تمحو العنف؟»

***

غادرت الفراش وتأكَّدت من إغلاق الباب، ثم أطفأت النور وعدت إلى الفراش. جذبت الأغطية فوقي وأنصتُّ إلى طنين جهاز التكييف. تقلَّبت عدة مرات، ثم نمت.

حلمت أني أسير بين مواسير ضخمة في أعماق نفق ولا أستطيع التنفُّس لأن الجو خانق، وأصبح الجو رماديًّا أو بنيًّا، وجريت متوقِّعًا أن ينهار النفق فوقي، ثم رأيتني أتطلَّع إلى أمي وهي تُطل من النافذة لترى شيئًا في الحارة، وأمسكت بساقَيها لأمكِّنها من أن ترى جيدًا، لكنها سقطت مني إلى أسفل وارتطمت بالأرض في صوت رهيب.

استيقظت ألهث، ومرَّت لحظات حتى تأكَّدت من مكاني. قمت فأضأت النور وشربت كوبًا من الماء، ثم أشعلت سيجارةً وجلست على حافَّة الفراش.

***

«الجنود صفَّان متقابلان كعهدهم دائمًا، وعصيهم الغليظة تشق الهواء جُزافًا، والصيحة المتوحِّشة تأمر بالجري بينهم حتى الساحة، وهناك استقرَّت منصة مرتفعة جلس خلفها الجنرال بملابسه العسكرية والشارة الحمراء التي تدل على رتبته الرفيعة، وحوله النظارة الذين جاءوا خصوصًا ليشهدوا الحفل وقد ارتدَوا جميعًا نظارات سوداء، وانهالت الضربات على الرءوس والصدور والظهور بالقبضات والأقدام والعصي والأحزمة الجلدية والنبابيت والشوم وكعوب الأحذية العسكرية، وجُرِّد الضحايا من ملابسهم واقتيدوا واحدًا بعد الآخر أمام الجنرال ليتفقَّد بعينَيه أحجام رجولتهم، ثم سُحلوا عراةً فوق الرمال حتى الوحش الآدمي ذو العينَين المجنونتَين الذي اندفعت قبضته السمينة في الهواء وقد لمعت فوقها بقعة من الدماء الطازجة، وبعد ذلك كان الدوران عشرات المرات حول العنبر الحجري الطويل، وداخله كانت هناك الأرض الحجرية العارية، والدماء التي تنزف من الظهور، والهذيان وفقدان الوعي، وفي المساء أُضيء النور فتبدَّت معالم المكان وظهر الفراغ الذي تركه إلى الأبد الجسم العملاق والوجه الذي لم تفلح آثار الجدري في تشويهه.»

***

أطفأت النور وحاولت أن أنام لكني لم أستطع. نهضت مضعضعًا في الصباح وغادرت الاستراحة إلى الموقع، وانطلقت سيرًا على الأقدام إلى مصنع الحقن. لم تكن الحرارة قد اشتدَّت بعد، وعلى جانب الطريق افترش باعة الباذنجان والطعمية الأرض، وخلفهم ظهرت شرائح البطيخ.

بلغت جسم السد بعد عشرين دقيقة، وسرت بحذائه بحثًا عن الهَضْبة الصغيرة التي يبدأ خلفها الطريق الدائري المنحدر. عثرت على الهَضْبة بسهولة، ولكني لم أعثر للطريق على أثر.

الْتجأت إلى أحد جنود البوليس الحربي، فضحك قائلًا إن الطريق رُدم بالليل. ووصف لي كيف أبلغ مصنع الحقن. مررت بعدة منحنيات وهضاب قبل أن أبلغه، واقتادني أحد العُمَّال المصريين إلى مكتب أريول.

كان هذا يقف في طرف الغرفة منحنيًا فوق خارطة نشرها أمامه على طاولة رسم، ودون أن يتحرَّك من مكانه أشار لي وهو يبتسم بدَعة أن أجلس، وواصل العمل في خارطته.

لحظت تلك النظرة الشاردة التي أتتني من فوق عويناته، وكانت هذه تنزلق على أرنبة أنفه وقد انقسمت عدستاها إلى منطقتَين مختلفتَين بخط بيضاوي، وبدا لي فوق الخمسين وإن كان الشعر الكثيف فوق رأسه وحاجبَيه نادر البياض.

تطلَّع إليَّ بابتسامة ودودة من الجزء العلوي في عويناته، ثم استأذن مني في أدب جم مغادرًا الغرفة، وكان ذلك في الثامنة والنصف.

دخَّنت سيجارة، ثم قمت أتفرَّج على الخرائط المعلَّقة فوق الجدران. كانت إحداها لبوابات الأنفاق، والثانية لفتحة النفق المائل، والثالثة لمحطة الكهرباء. وكانت هناك خارطة للموقع بدا السد فيها كائنًا ضخمًا يواجه الجنوب وقد احتجز الماء بجسده وارتكز بساعدَيه على حافتَي النهر باسطًا إياهما إلى أقصاهما. وبدت الذراع اليُمنى أطول من اليسرى بوضوح، وفي موقع القلب استقرَّت النواة الصمَّاء، وامتدَّت ستارة رأسية صلبة إلى قاع النهر، وأخرى أُفقية تخلَّلت الساعد الأيمن.

كان الرمز الذي يُشير إلى عمليات الحقن يمتدُّ عبر الكتفَين والذراعَين مرورًا بمحطة الكهرباء. خططت في مفكرتي رسمًا تقريبيًّا له، ثم عدت إلى مقعدي.

دخل الغرفة مهندسان روسيان وجَّها إليَّ التحية في ود، ثم بسطا خارطةً على المكتب وانكبَّا عليها يُناقشانها، وألقى أحدهما بصره ناحيتي عدة مرات دون أن يبدو عليه شيء من الدهشة أو التساؤل لوجودي. تطلَّعت إلى ساعتي فألفيتها قد بلغت التاسعة والثلث، ولمحني الثاني وأنا أنظر في ساعتي فحدَّثني بالروسية. هززت رأسي باسمًا، فسألني في إنجليزية متردِّدة عمَّا إذا كنت أود مقابلة أريول. أومأت بالإيجاب، فقال إنه في المكتب الخامس على يمين الممر.

غادرت الغرفة ومشيت في ممرٍّ ضيق أعد الغرف. وجدت باب الغرفة الخامسة مفتوحًا وقد استقرَّ جسم أريول البدين في أقصاها خلف مائدة تصميمات. وقفت لحظةً أرقبه يعمل في هدوء وطمأنينة، ثم ناديت عليه مُشيرًا بأصبعي إشارةً لم يكن لها بالتأكيد أي معنًى، وإن كنت أُريد أن أقول إني سآتي في الغد. التفت ناحيتي، ثم ابتسم وعاد إلى عمله.

غادرت المبنى وانطلقت سيرًا على الأقدام إلى الاستراحة. أخذت حمَّامًا وأفطرت، وأحضر لي فقير ترمسًا مليئًا بالشاي حملته إلى سعيد، وأخذت له معي مجلتَين مصوَّرتَين وكتاب «ميكل أنجلو».

كانت درجة حرارته قد انخفضت، لكن روحه المعنوية كانت في الحضيض.

ابتدرني قائلًا: أريد أن أسافر اليوم.

وضعت الترموس إلى جواره وجلست على حافة الفراش المقابل. قلت: ولكنك صرت أحسن حالًا، وزال الخطر فيما يبدو لي.

– لا أريد أن أموت في هذا المكان اللعين، سأسافر اليوم أو غدًا.

– والفيضان؟

– سأتركك تستمتع به، وبرحلة «أبي سنبل» أيضًا. بوسعك أن تبقى كما تشاء في الاستراحة.

صببت له كوبًا من الشاي، وطلب مني أن آخذ بطاقة الطائرة من حقيبته وأحجز له مكانًا على أول طائرة من فندق «جراند أوتيل».

أعطيته المجلَّتَين وكتاب «ميكل أنجلو» فقلَّب صفحاته وقال: من قال لك إني أعبأ بتماثيل هذا اللوطي؟

قلت: أنت مخطئ. لم يكن لوطيًّا.

قال: كان عنِّينًا إذن.

قلت: ولا هذا.

قال: إذن ماذا كان؟

قلت: هل يجب أن يكون شاذًّا؟

قال: لا تقل لي إنه كان طبيعيًّا.

قلت: لمَ لا؟ لقد كان دائم التنقُّل عازفًا عن تكوين أسرة، وكان النحت يستهلكه تمامًا. كان مثل كثيرين غيره. مجرَّد إنسان وحيد.

استعدت منه الكتاب، وأعطاني مفتاح حقيبته فعدت إلى الاستراحة وأخرجت بطاقة الطائرة الخاصة به. وضعتها في حافظة جلدية وخرجت إلى الطريق الملتهب.

لحقت بسيارة رُكَّاب عند موقف رجل البوليس الحربي، ووجدت مقعدًا خاليًا فجلست وأنا أهنِّئ نفسي بأنه لم تبقَ أمامي سوى مشكلة العودة، لكننا لم نكد نبلغ «السيل» حتى أعلن السائق فجأةً أنه لن يواصل المسير.

غادرت السيارة خلف رُكَّابها، ووقفنا في الطريق نُتابعه وهو يعبر الجسر ويقف أمام إحدى العمارات حيث يسكن فيما يبدو.

عبرت الجسر خلف السيارة، وألفيتني فيما يشبه السوق؛ فقد افترش عشرات الباعة الأرض أمام مختلِف العطارة والحلي والبخور.

رأيت زنجيًّا فارع الطول يقترب من أحد الباعة واضعًا يده في وسطه باستعلاء. كان يرتدي جلبابًا أبيض يصل إلى قدمَيه الحافيتَين، وكان شعره طويلًا يتدلَّى على كتفَيه مجدلًا في ضفائر رفيعة للغاية، وبرزت منه عصًا حديدية غريبة الشكل، وحول خصره التفَّ حِزام عريض من الجلد.

اقتعد الزنجي الأرض إلى جوار أحد الباعة، ومدَّ يده إلى رأسه فسحب العصا وهرش بها، ثم أعادها إلى مكانها، وجرى بينه وبين البائع حديث بلغة غير العربية. اشترى في نهايته موسًا وترترًا، ودفع الثمن من حافظة جلدية أخرجها من صدره.

عبرت الجسر من جديد عائدًا إلى الطريق الرئيسي، ووقفت قرابة الساعة ألوِّح للسيارات المارة بلا فائدة، وظهرَت أمامي بغتةً سيارة رُكَّاب أبطأَت من سرعتها فقفزت إليها، وما لبثت أن ضاعفت سرعتها وإذا بها تعود إلى الموقع.

نزلت في «كيما» وعبرت الطريق إلى النادي الروسي. مشيت عدة خطوات حتى محطة الخط الفرعي بين «كيما» وأسوان، ووقفت نصف ساعة حتى جاءت سيارة أقلتني إلى فندق «جراند أوتيل».

كان صيام جالسًا في رُدهة الفندق مع شاب مصري يرتدي قميصًا حريريًّا وعوينات شمسيةً ذات سطح شديد اللمعان يحول دون رؤية عينيه. حجزت لسعيد من مكتب الاستقبال في طائرة الغد، ثم انضممت إليهما، وقدَّم لي صيام رفيقه على أنه أحد موظفي المطار.

سألني صيام عن سعيد، وتبادلنا أنباء الوباء، وقال موظف المطار إنه متأكِّد أن تفجيرًا ذريًّا تمَّ في الصحراء الغربية هو السبب في كل هذا.

سألته في غباء: ومن الذي قام بالتفجير؟

خلع نظارته وتطلع إليَّ بعينَين عسليتَين تنطقان بالاستهجان الشديد: نحن بالطبع.

ظهرَت في مدخل الفندق فتاة أوروبية رشيقة في رداء أبيض تعلَّقت بذراع شاب مصري طويل القامة. تابعناهما بأبصارنا وهما يصعدان الدرج، وقال صيام بصوت خافت: ربما كانت زوجته.

أضاف موظَّف المطار بعد أن أعاد نظارته إلى عينَيه: ابن بلدنا يقوم بالواجب الآن.

قلت: ما زالا على السلَّم.

قال: ليس هناك أجمل من ذلك على السلَّم.

ظهرت الفتاة ورفيقها بعد لحظات وشرعا يهبطان الدرج، وعلَّق موظَّف المطار: كانت جولةً سريعة.

قلت لصيام إن سعيدًا لن يتمكَّن من الذهاب إلى «أبي سنبل»، وإني سأذهب بمفردي. قال إنه لا يوجد مكان لي.

قلت: ولكنك وعدتنا.

قال: وماذا أفعل؟ هناك وفد من مصلحة الآثار لا بد أن يكون في «أبي سنبل» هذا الأسبوع.

قلت: وما العمل؟

قال: انتظر الرحلة التالية بعد أسبوعَين.

قلت: ولكني لا أستطيع الانتظار طول هذه المدة.

قال: إذن سافر على أحد الصنادل التي تنقل الأسمنت ومواد البناء، وسأعطيك خطابًا لزميل لي هناك حتى يساعدك.

لم أعلِّق بشيء، واستأذن مني بعد لحظات ليلعب البلياردو مع رفيقه. ظَلِلت في مكاني بعض الوقت، ثم خرجت إلى الطريق، ووقفت أسفل شجرة صنعت فروعها العجفاء شيئًا من الظل، وجعلتُ أُلوِّح للسيارات المارة حتى كَلَّ ساعدي. كانت الحرارة شديدة، وأصبحتُ بعد قليل عاجزًا عن التحديق المتواصل إلى كل سيارة تظهر على مبعدة.

أغلقت عينَي وفكَّرت بأن أقضي فترة الظهيرة في أحد الأماكن المعشوشبة بالمدينة، وتناهى إلى سمعي صوت فرامل سيارة ففتحت عينَي ببطء. رأيت سيارة جيب عسكرية تقف أمامي مباشرة.

أدركت الموقف عندما لمحت شخصًا يقترب من السيارة جريًا. سألت الجندي الذي كان يقودها عمَّا إذا كان ذاهبًا إلى الموقع، فأومأ إليَّ أن أصعد. قفزت إلى السيارة من فُتحَتِها الخلفية وجلست بجوار قفصَين من الدجاج والحمام.

انطلقَت السيارة في طريق اصطبغ باللون الأحمر القاني، ولفح الصهد وجهي فأغلقت عينَي وأقمت حافظتي الجلدية أمام وجهي.

توقَّفَت السيارة أمام المسجد، وحانت مني نظرة إلى القفصَين فرأيت الحمام يرتعد، وتجمَّع الدجاج في ركن القفص مبتعدًا عن عدة دجاجات استلقت على جوانبها، ورأيت عيونها قد ضاقت وصارت مسحوبةً لا تكشف إلا عن جانب ضئيل من حدقاتها.

قفزت من السيارة وناديت على الجندي ليُنقذ دجاجة، وولول هذا صائحًا: مش بتاعي ده بتاع الضابط. حيخرب بيتي لو حصله حاجة.

مشيت متثاقلًا حتى الاستراحة، واتجهت إلى غرفتي وأنا لا أرى شيئًا أمامي. أفرغت بقايا الترموس في كوب رفعته إلى شفتي، ولحظت أن يدي ترتعش.

ذهبت إلى سعيد بتذكرة الطائرة بعد الظهر. كان يقرأ روايةً سوفياتيةً بالعربية لبوريس بوليفوي. رويت له ما حدث مع صيام، فقال: هذا الرجل غريب. لا أدري ماذا يريد. لقد وعدته بمقالة عنه في المجلة … ماذا يريد أكثر من هذا، نقود؟

قلت: لا أظن. لعله يستمتع فقط بممارسة سلطة المنح.

قال: وماذا ستفعل الآن؟

قلت: سأبحث عن أحد الصنادل التي حدَّثني عنها وأسافر عليها.

تطلَّع إلى ذقني التي حلقتها بعناية منذ قليل: أنت ذاهب الآن إلى تانيا … وسأقضي المساء كله بمفردي.

أشرت إلى رواية بوليفوي وقلت: يمكنك أن تواصل القراءة.

ضحك وقال: هل تعرف ماذا حدث للجندي العائد من الجبهة في هذه القصة؟

قلت: لم أقرأها.

قال: تئويه امرأة غريبة في منزلها. ماذا تظنهما فعلا؟

قلت: هذا يتوقَّف على سنها.

قال: تصوَّر أنهما قضيا الليلة يقرآن تاريخ الحزب.

قلت: سأمضي الآن … وفي الصباح سأعد لك حقيبتك.

قال: لولا قعدتي هذه ما كانت أفلتت مني هذه المرأة. أنا دائمًا سيئ الحظ.

قلت: بالعكس. أنت محظوظ للغاية. بوسعك الآن أن تكتب سلسلة مقالات بعنوان بين الحياة والموت في السد، ولن يجرؤ أحدٌ على اتهامك بالكذب.

قال: أُراهن أن صاحبتك تانيا مصابة بالسل. ألم ترَ كيف هي نحيفة؟

قلت وأنا أتجه إلى الباب: لا بأس. سأروي لك في الصباح كل ما سيجري الليلة.

***

عثرت على منزل فاليري بسهولة، وفتح لي الباب مرحِّبًا، فدلفت إلى صالة توسَّطتها المائدة المعدِنية المعهودة تُحيط بها عدة مقاعد. جلست في مواجهة خارطة كبيرة للعالم وأوضحت له سبب حضوري بمفردي. كانت هناك علامات باللون الأحمر أُضيفت إلى الخارطة حول بعض المدن في كلٍّ من الهند وغانا وكوبا وتنزانيا والعراق، وقال فاليري إن له أصدقاء من أيام التلمذة في هذه الأماكن.

تطلَّعتُ إلى الحائط الآخر فرأيت شيئًا أشبه بجريدة حائطية لصقت بها صور فتيات شبه عاريات منتزعة من المجلات الأوروبية. سألته باسمًا: وهذه؟

احمرَّ وجهه وقال: ليست لي. إنها تخص زميلي في المسكن.

طرق الباب فقام فاليري وفتحه. ظهرت تانيا في بلوزة بلون عينَيها. تبادلنا التحية، ثم جلسَت إلى جوار فاليري واشتبكت معه في حديث سريع بالروسية، ولحظت أن وجهها يبدو منتعشًا مجرَّدًا من آثار الإرهاق المعهودة.

تشاغلتُ بدراسة الخارطة وتوزيع القارات والمحيطات، بينما أذني على نبرات صوتها، وتحوَّلَت إليَّ تانيا فجأةً قائلةً بالإنجليزية: آسفة. لقد كنا أمس في حفل أقمناه لبعض القادمين الجدد، وكان فاليري يروي لي ما حدث بعد انصرافي.

ومالت إلى الأمام بلهفة: قبل الحفلة رأيت فيلم جسر واترلو. لا يمكنك أن تتصوَّر كم بكيت.

تطلَّعتُ إليها مدهوشًا: بكيت؟!

قالت بلهجة جادة: أجل … أنا أبكي أيضًا عندما أتفرَّج على الأفلام المصرية؛ ولهذا أُحبها.

انطلقت أضحك وهي تتأمَّلني في انزعاج بدأ يتحوَّل إلى غضب. مددت يدي ووضعتها على يدها قائلًا: لا تغضبي. لم أقصد الإساءة إليك.

انحسر غضبها وقالت باسمة: هناك طبعًا شيء من السذاجة في هذا البكاء، لكن هذا هو ما يحدث. ربما لأني إنسانة غير سعيدة.

بدا على فاليري أنه غير راضٍ عن اتجاه الحديث. لم أعبأ به بل سألتها: لماذا؟

هزَّت كتفَيها وقالت: لا أعرف، ربما لأني قلقة، أو أني لم أكتشف نفسي بعد، وربما كنت متقلِّبة المزاج.

قلت: كثيرون كذلك.

قالت: ولكني أحسد هؤلاء الذين يبدون راضين عن أنفسهم وعن كل شيء حولهم.

لزمنا الصمت لحظة، ثم سألتها عن أبوَيها.

قالت: أمي ماتت أثناء الحرب. قبل نهايتها بشهور. قتلها جندي ألماني أثناء انسحاب الألمان. تصوَّر؟ كان مختبئًا بين بعض الأشجار وخرجت هي تجمع بعضًا من نبات عش الغراب، وربما خشي أن تراه فتصرخ، أو ربما ظنها جنديًّا. المهم أنه صرعها.

– وأبوك.

قال لها فاليري شيئًا بلهجة حادة، فهزَّت رأسها في عناد دون أن تنظر إليه. قالت: أبي لم أرَه مطلقًا؛ فقد اعتقلوه قبل أن أولد بشهر، وظلَّ في المعتقل حتى مات.

تأمَّلتها حائرًا، ثم سألت: من هم الذين اعتقلوه؟

أجابت: رجال ستالين. من غيرهم؟

عدت أسأل: وماذا فعل؟

– لا شيء. هل تظن أنه كان من الضروري أن تفعل شيئًا لتُعتقل؟

– ربما كان ضد الاشتراكية.

– لم يكن أكثر منه إخلاصًا وإيمانًا بالحزب وستالين نفسه.

– إذن كيف؟

هزَّت كتفها: هذه قصة أخرى.

هبَّ فاليري واقفًا في عنف وقال إنه سينزل ليشتري شيئًا.

قلت عندما غادر المسكن: يبدو أن حديثنا لا يعجبه.

قالت: إنه يشكو من إفراطٍ في إحساسه الوطني. وهو يعتقد أن هذه الأشياء يجب ألَّا تُقال للأجانب.

– ألَا تخشَين أن يسبِّب لك بعض المتاعب؟

قالت: لا أظن؛ فنحن أصدقاء.

تناولَت الترانزستور وجعلَت تعبث به قائلةً إنها تود أن تسمع إحدى أغاني البيتلز، وسألتها عن أحب أغنية لديها، ففكَّرت لحظة، ثم قالت: أغنية فرنسية اسمها: لا تقل لي سأحبِّك غدًا. قبِّلني الآن.

نهضت واقفةً وأشعلت سيجارة، ثم جلست من جديد، وساد بيننا الصمت حتى عاد فاليري بزجاجتَين من البيرة المثلَّجة وضعهما أمامنا، ثم أحضر من الداخل ثلاثة أكواب وطبقًا من السلاطة الخضراء وآخر من البطاطس المسلوقة.

دار الحديث ونحن نشرب البيرة حول يوفتوشنكو وشعره، وقال فاليري إنه يحبُّه لموسيقى شعره وليس لمضمونه. سألته عن السبب فلم يجب، وقالت تانيا: لقد كان يوفتوشنكو شيئًا فيما مضى، أما الآن فقد أصبح يفضِّل الموضوعات السهلة الآمنة.

بدأ فاليري يتحدَّث عن الوضع السياسي في مصر وكيف أننا قطعنا خطواتٍ جبارة، وبدأنا نبني الاشتراكية. اعترضته بيدي قائلًا إني لا أُريد الحديث في السياسة.

تطلَّعَت تانيا إليَّ مبهوتةً وسألت: لماذا؟

قلت: لقد مَلِلت ترداد نفس الأشياء. دعونا نتحدَّث في شيء آخر. ليحدِّثنا فاليري عن فتاته.

احمرَّ وجهه، وصفَّقت تانيا بحماسة قائلة: أجل احكِ لنا.

قال: ليست لدي واحدة محدَّدة.

قلت: لا أتصوَّر أنك لا تحب.

قال: أنا أحب عملي، وليس عندي الوقت لشيء آخر.

خاطبته تانيا: ولكنك ستجد الوقت بعد عام أو عامَين لتتزوَّج كي تهرب من ضريبة العُزَّاب وتحصل على مسكن.

انهمك فاليري في إخلاء المائدة، ثم استبدل غطاءها بآخر من المشمَّع المنقوش بزهور كبيرة ملوَّنة، وحمل الغطاء الأول إلى الداخل.

مالت تانيا برأسها فوق المائدة وأسندت خدَّها إلى الغطاء وهي تتطلَّع إليَّ باسمة. تأمَّلت شعرها الذي انتشر فوق الغطاء الملوَّن محيطًا بوجهها، وانتقلَت عيناي إلى شفتَيها المنفرجتَين وعينَيها اللتَين صارتا شديدتَي اللمعان.

تذكَّرت أن الغد هو الجمعة، ففكَّرت أن أعرض عليها أن نتقابل، لكن فاليري عاد في هذه اللحظة واستقرَّ إلى يميني مشعلًا سيجارة.

هبَّت تانيا فجأةً واقفةً قائلةً إنها ستعد لنا شايًا، واتجهَت إلى المطبخ فقمت خلفها قائلًا لفاليري إني سأساعدها.

كان المطبخ الصغير في حالة فوضى تامة، ووقفت في المدخل أرقبها وهي تُشعل موقد الغاز، ولمحتني هي فقالت غاضبة: أرجوك أن تعود إلى الصالة؛ فلست أُحب رؤية الرجال في المطبخ.

انضممت إلى فاليري وجلسنا في صمت نصغي إلى موسيقى راقصة من الترانزستور، وعادت تانيا بالشاي بعد لحظات، ثم أحضرت الفناجين وإناء السكر وهي تهتز على نغمات الموسيقى. تولَّيت أنا وضع السكر في الفناجين وصب الشاي. قلَّبت السكر بينما تانيا ترقص في منتصف الصالة وقد رفعت وجهها نحو المصباح وأغلقت عينَيها في نشوة.

كفَّت عن الرقص واقتربت مني مادةً يدها لتأخذ كوبها. قلت لها: انتظري حتى يذوب السكر.

قالت وهي تحرِّك قدمَيها مع الموسيقى: لا أستطيع الانتظار.

شربنا الشاي ونحن نصغي للموسيقى، وساد بيننا الصمت بعض الوقت، وبدت تانيا فجأةً ساهمةً مقطبةً وقد فقدت كل حيويتها، وظهرت الغضون الخفيفة من جديد حول شفتَيها.

قرَّرت الانصراف فلم يعترض أحد، وقالت تانيا إنها ستنصرف بدورها. غادر ثلاثتنا المسكن، وانتظرنا أنا وتانيا على الدرج حتى أغلق فاليري بابه بالمفتاح. لحظت أنه نسي النور مضاءً بالداخل. قلت له فقال وهو يهبط الدرج خلفنا: أنا أترك النور دائمًا مضاءً لأني أكره دخول المسكن في الظلام.

قلت وأنا أخطو إلى الطريق إني أفعل مثله.

رافقتنا تانيا إلى منزلها، وعندما مررنا بالمنزل الذي يسكن به ياكونوف رأيناه واقفًا في ظلمة المدخل يدخِّن، وابتسم لنا ابتسامته الصافية وهو يضحك ضحكاته الصغيرة الخجولة، وكان يبدو ثملًا.

تبادل فاليري معه بضع كلمات، وانتهزت الفرصة لأسأل تانيا في صوت خافت إذا كان يمكن أن نلتقي في الغد.

أجابت على الفور: لا أعرف. لا أعتقد لأني سأكون متعبة.

قلت: ولكننا اتفقنا على القيام بجولة في المدينة.

قالت: لا أظن أن هذا ممكن.

ثم أضافت: سأكون في النادي بعد غد. تعالَ إذا كان لديك وقت.

أنهى فاليري حديثه مع ياكونوف، ولوَّحنا له بأيدينا، ثم واصلنا السير حتى منزل تانيا. انتظرنا حتى صعدت، ثم عدنا أدراجنا، وأصرَّ فاليري على مرافقتي إلى محطة السيارات وبقي إلى جواري حتى جاءت سيارة المهندسين وصعدت إليها.

***