نجمة أغسطس

مؤسسة هنداوي مؤسسة هنداوي

الفصل الرابع

أشار لي عباس أن أجلس وهو يقول بصوته المتكاسل: لقد بعثتُ إليك لأني لم أرَك منذ سافر سعيد.

قلت: كنت أبحث عن صندل يحملني إلى «أبي سنبل».

قال: وماذا فعلت؟

قلت: وجدت واحدًا سيسافر بعد أيام.

قال: إذن لن تبقى هنا طويلًا؟

قلت: أبدًا. في اللحظة التي سيقوم فيها الصندل سأكون فوقه.

سأل: ومتى تعود؟

أجبت: لا أعرف، لكني سأعود إلى أسوان ومنها إلى القاهرة مباشرةً ولن تراني هنا.

استرخى في مقعده ومرَّ بيده السمينة على فارق شعره: ألم يوحشك سعيد؟ ليته ما سافر فموجة الوباء قد انحسرت فيما يبدو.

– طبعًا وحشني. عندما كان هنا كنت أشعر بالاطمئنان، أمَّا الآن فأنا أشعر أني مُتطفِّل، وأنتظر أن أُطالَب في أية لحظة بمغادرة الاستراحة.

قال: إنها غلطتك. لماذا لم تفعل مثل سعيد؟

قلت: ماذا تعني؟

قال: ألم يقل لك إنه ذهب إلى المباحث وسوَّى أموره معها؟

قلت: أية أمور؟ إنه لم يفعل أي شيء يعرِّضه للمأخذ. لقد كان يقوم بعمله فقط.

قال: هذا مفهوم، لكن المباحث تُحب دائمًا أن تكون هناك خيوط متفاوتة الطول تربط بينها وبين مختلِف أنواع الناس.

انهمك في تقليب بعض الأوراق أمامه وساد بيننا الصمت. قال بعد لحظة: سأقول لك خبرًا خاصًا ليس للنشر. اليوم سقط لوحٌ من الأسمنت على عامل روسي فصرعه، وربما كان أحد عُمَّالنا هو المسئول عن هذا الحادث.

– كيف؟

– لا أعرف التفاصيل؛ فهذا هو كل ما سمعته بالتليفون هذا الصباح.

تطلَّعت إلى الجهاز الذي استقرَّ على يمينه. سألته إذا كان متصلًا بالهيئة مباشرةً فأجاب بالإيجاب.

قمت قائلًا: الأفضل أن أذهب إلى الهيئة بنفسي فربما كان هناك ما يصلُح للنشر.

خرجت إلى الطريق ومشيت إلى مكتب البريد. أعطيت أحد الموظفين رقم المكتب الذي تعمل به تانيا فطلبه وناولني سماعةً يتدلَّى منها سلك مهترئ.

جاءتني أصوات متشابكة تتحدَّث الروسية. طلبت من أحدهم أن يصلني بتانيا، فاستفسر عمَّا أُريده بلهجة عدائية. أوضحت له أني صحفي وأن الأمر يتعلَّق بموعد مع أبراسيموف.

سمعت صوت تانيا أخيرًا، وعندما عرفتني اضطرب صوتها. سألتها عمَّا حدث فقالت: لا شيء. أنت تريد موعدًا مع مستر أبراسيموف؟

قلت: أنا أريدك أنت. لقد انتظرتك أمس أمام المنزل ولكنكِ لم تأتِ … أين كنت؟

قالت في صوت ذي صبغة باردة رسمية: فيما بعد. مستر أبراسيموف مشغول اليوم.

قلت: سآتي إلى منزلك بالليل.

سألت: بمفردك؟

أجبت: أجل.

قالت: متأسفة. أنا متعبة. سأراك فيما بعد.

قلت: غدًا الجمعة، نلتقي في المساء.

قالت: لا أظن، سأقضي اليوم كلَّه في حمام السباحة وسأكون متعبة.

سمعت صوت إغلاق الخط وظَلِلت برهةً أُنصت إلى طنينه الفارغ، ثم أعدت سماعتي بدوري وعدت إلى الاستراحة.

أشعلت سيجارةً وتمدَّدت على الفراش، ثم غادرت الفِراش ومضيت إلى الخارج. وقفت أمام الاستراحة في الشمس، لكن الحرارة أجبرتني على العودة إلى الداخل.

استجمعت طاقتي بعد قليل ووضعت قُبعتي على رأسي وخرجت. انحدرت إلى الطريق الرئيسي ووقفت في الشمس حائرًا، وأخيرًا قرَّرت النزول إلى أسوان.

اتجهت إلى حيث يقف جندي البوليس الحربي عادة. وجدت هناك جنديًّا رقيقًا شاحب البشرة. عرَّفته بنفسي فطلب مني أن أقف بعيدًا عنه حتى لا يتجمَّع الناس من حولنا.

ابتعدت عنه بضع خطوات ووقفت أنتظر بجوار عددٍ من العُمَّال والصعايدة. أقبلَت علينا سيارة بوكس من طراز فورد تابعة للشركة، فتنحَّى الجندي عن طريقها، وعندما حاذتنا أشار إليها إشارةً واهنةً بأصبعه فواصلت السير دون أن تتوقَّف، وجاء في أعقابها أوتوبيس أخضر اللون من سيارات الأقاليم لم يكن به موضع لقدم، ثم ظهرت سيارة رمادية تابعة للهيئة توقَّفت بعد أن تجاوزتنا بخطوات. أشار الجندي لي ولمن يقفون حولي إشارته الواهنة أن نركب، فجرينا خلف السيارة، لكنها استأنفت سيرها قبل أن نتمكَّن من اللحاق بها.

خطوت عائدًا في بطء إلى موقفي السابق وأنا أتذكَّر الجندي الآخر الممتلئ رجولةً الذي كان يحرِّك أصبعه في الهواء حركةً مسرحيةً قويةً فيخشع أجدع سائق وتقف أية سيارة على مسافة ربع كيلو من أصبعه. تكرَّرت مهزلة الأصبع الواهن مرةً أخرى حتى يئست من الركوب فعدت إلى الاستراحة.

أدرت جهاز التكييف وأظلمَت الغرفة، ثم بحثت عن فقير ليجلب لي شيئًا مُثلَّجًا، ووجدته خلف المبنى منهمكًا في تقشير كوم من البطاطس.

قال عندما رآني إن أحد موظفي الشركة كان هنا منذ قليل، وسأل عن موعد مغادرتي الاستراحة.

سألته في إعياء عمَّا إذا كان يعرف هذا الموظَّف من قبل.

قال: أول مرة أشوفه. قال إنه يشتغل في الشركة، وفي الأول سألني عن مواعيد خروجك واللي بيزوروك.

عدت إلى الغرفة واستلقيتُ على الفِراش أدخِّن، وجاء فقير بعد لحظة فأخذ الترموس وملأه بالليمون المثلَّج.

***

ذهبت إلى «كيما» في المساء بعد أن حلقت ذقني بعناية، ووجدت شقة تانيا مظلمة، ولم يستجب لي أحد عندما دققت الجرس، فانتقلت إلى الشارع المجاور وصعدت إلى مسكن فاليري.

كان الضوء يبدو من أسفل الباب. ضربت الجرس عدة مرات، ثم ألصقت أذني بثقب المفتاح، لكني لم أسمع حركةً بالداخل، وتذكَّرت أنه يترك النور مضاءً عندما يغادر المسكن.

مشيت في الشارع الفرعي الذي يفصل بين مجموعتين من العمارات المتوازية. مررت بفريق من الأطفال الروس يلعبون وقد عرَّوا النصف العلوي من أجسادهم، وأتاني من أحد الشوارع الجانبية صوت بائع لبن صعيدي ينادي بالروسية: مالاكو.

لمحت مجموعةً من الشبَّان الروس بينهم فتاتان طويلتان بجوار أحد الأكشاك التي تبيع السجائر والبيرة. اقتربت منهم لكني لم أتعرَّف على تانيا أو فاليري، واتجهت إلى النادي وأنا أتلفَّت حولي بين الحين والآخر أملًا في أن ألمح أحدهما.

كان النادي هادئًا على غير العادة. كانت هناك بضع عائلات روسية جلسَت في الحديقة بصمت، وفي الداخل كان الرجال الذين تناثروا حول الموائد يتطلَّعون أمامهم بوجوم. تذكَّرت حادث الصباح فتراجعت في هدوء.

مضيت في الطريق الرئيسي حتى السينما. كانت تعرض فيلمًا مصريًّا يُدعى «أيامنا الحلوة». وقفت على الناحية الأخرى من الطريق أتأمَّل مدخلها الخالي، ثم استدرت عائدًا إلى النادي.

ابتعت زجاجة بيرة من الداخل، ووقفت حائرًا أبحث عن مائدة خالية، ثم حملت زجاجتي إلى واحدة جلس إليها ثلاثة شُبَّان أحدهم مصري وأمامهم عدة زجاجات فارغة. هززت رأسي للمصري محييًا، فرحَّب بي ودعاني للجلوس إلى جواره، وتعارفنا فعلمت أنه يدَّعي أنور، وأنه من خريجي مركز تدريب المطرية، ويعمل كهربائيًّا في محطة التشغيل، ثم عرَّفني بالروسيَّين اللذَين يعملان معه. اتضح أن أحدهما أوكراييني وليس روسيًّا. كان ضخم الجسم، يكشف قميصه المفتوح عن صدر كثيف الشعر يحمل وشمًا أخضر، أمَّا الثاني فكان من سيبيريا.

أحنى لي الأوكراييني رأسه الضخم واضعًا يده على صدره وقال: منيه أوتشين برياتنا.

قال أنور: يقول لك إنه مسرور بالتعرُّف إليك.

لم يبدُ على السيبيري أنه يشعر بوجودنا أو يعبأ به، وقال لي أنور إن الروس جميعًا حزانى بسبب زميلهم، وإن السيبيري خفيف الدم عادةً ويجيد كلماتٍ كثيرةً بالعربية، ويقدِّم نفسه للمصريين على أنه صعيدي متزوِّج من ثلاثة، مُلقِّبًا نفسه بمحمود رمضان.

كان السيبيري فعلًا ببشرته التي لفحتها الشمس وعوده النحيل أقرب إلى شاب من الصعيد. كان وجهه يحمل تعبيرًا ساخرًا ثابتًا، وبدا على النقيض من الأوكراييني الضخم الذي ربض إلى المائدة يتطلَّع أمامه في هدوء شديد ودعة.

سألت أنور عمَّا إذا كان يعرف الروسية فقال إنه قضى عشرة شهور تدريب في مدينة ستالينجراد التي تسمَّى الآن فولجا جراد.

قال السيبيري فجأةً شيئًا بالروسية وهو يرفع كوبه إلى شفتَيه، وأوضح لي أنور أنه يقترح أن نشرب نخب لقائنا.

أفرغنا أكوابنا، ثم ملأناها ثانية وأعدنا الكرة بعد لحظات، وقام الأوكراييني فأحضر أربع زجاجات جديدة، واتصل بيننا حبل الحديث وأنور يقوم بمهمة الترجمة. حدَّثنا الأوكراييني عن زوجته التي ستأتي بعد أسبوعَين، وقال إنه سافر خصوصًا منذ شهرَين ليتزوَّجها، وسخر منه السيبيري متعجِّبًا من هذا الذي يقطع كل هذه المسافة من أجل امرأة، بينما النساء حوله في كل مكان.

روى السيبيري كيف قرَّر أن ينسب لنفسه ثلاث زوجات؛ كلما تعرَّفت بأحد العُمَّال المصريين ذكر لي أنه مُتزوِّج باثنتَين أو ثلاثة، وأدركت أنهم يتفاخرون بتعدُّد زوجاتهم، ويتباهَون علينا بعددهن.

فرغَت الزجاجات فقمتُ وابتعت أربعًا أخرى، وشربنا نخب الروس والأوكرايينيين والصعايدة والبحاروة والنوبيين والأوزبيكيين، وروى لنا السيبيري نكتة المغامرة النسائية التي قام بها خروشوف وعبد الناصر عندما كان الثاني في موسكو، وكيف أجمعا على رأي واحد بشأنها.

بدا وجه الأوكراييني شديد الاحتقان كأنما تجمَّع به كل ما في جسمه من دماء، وقلت لأنور: إنه ثمل تمامًا. فقال إن الروس في بلادهم يسكرون بشدة لكنهم يعملون على الأقل أضعاف ما نعمل، وأهم ميزة لديهم هي الصبر، أمَّا نحن فكسالى لا صبر لدينا نُريد أن نحصل على كل شيء دون مجهود وبالفكاكة.

أمَّنت على حديثه، فقال: العامل منا كان يرفض رفع الكابل من الأرض على أنه من عمل العتَّالين، في حين أن الروسي مهما كان مركزه لا يترفَّع عن شيء مطلقًا.

أحنينا رأسَينا فوق الشراب وقد ران علينا حزن جارف. سألته عن الفتيات الروسيات فقال في لوعة إنهن يتعاملن مع الرجال في بساطة، ولا يُعقِّدن الأمور مثل فتياتنا.

شعرت برأسي يدور، وأحضر أحدنا عدة زجاجات جديدة، وبدأت أحكي لأنور عن تانيا سائلًا إياه الرأي، فقال في حكمة مستوحيًا تجاربه في مدينة الفولجا: الفتاة الروسية تُحب سماع كلمة الزواج.

قرَّرت أن أذهب إلى تانيا وأعرض عليها الزواج، وعندما حاولت الوقوف لم أتمكَّن، وانهرت في مقعدي.

واصلنا الشراب، وأحسست أن أنور يقول لي أشياء هامة لكني كنت عاجزًا عن استيعابها، وتنبَّهت إلى أنور يكاد يحملني على ذراعه. كنا نقف أمام سيارة جيب في عرض الطريق، وتعاون أحد الجالسين في صندوقها الخلفي مع أنور على حملي إلى داخلها.

اعتمدت برأسي على كتف الجالس بجواري ورحت في النوم، وأفقت على هزَّات رفيقي، فتحاملت على نفسي وغادرت السيارة، وقادتني قدماي إلى الاستراحة.

استيقظت قرب الظهر غارقًا في عرقي. اكتشفت أني لم أُدِر التكييف قبل النوم، وشعرت على الفور بصداع حاد.

جلست على حافة الفراش واضعًا رأسي بين يدَي، وأحضر لي فقير ترموس قهوة. شربت عدة أكواب وابتلعت قرصَين من النوفالجين، ثم ارتديت ملابسي ووضعت رداء استحمام ومنشفةً في سلة من القماش، وضغطت قبعتي على رأسي، ثم انطلقت إلى الخارج.

وجدت سيارةً ذاهبةً إلى «السيل» فقفزت إليها، وغادرتها أمام النادي الروسي في «كيما»، ومضيت على قدمَي إلى حمام السباحة فولجته بعد أن ابتعت تذكرة.

خلعت ملابسي وارتديت المايوه، ووقفت أتأمَّل الموجودين الذين انتشروا حول الحوض فوق السور الحجري وتحت المظلات. كانت الرؤية صعبةً بسبب أشعة الشمس؛ فجعلت أبحث عن مظلة، وشعرت بالأنظار تتجه إليَّ وتتابعني.

وجدت مائدةً خاليةً كانت مظلتها مغلقة. جلست إليها دون أن أبسط المظلة، وشعرت بأن الأنظار ما زالت مُسلَّطةً عليَّ.

أشعلت سيجارةً كان لها طعم الأشياء المحروقة، وأخذت أتأمَّل المستحمِّين. كان أغلبهم من الروس. تأكَّدت بعد قليل أن تانيا غير موجودة، أمَّا فاليري فربما كان في الماء أو ممدَّدًا بعيدًا فوق السور؛ فقد كان هناك كثيرون في مثل قامته وحجمه.

وزَّعت اهتمامي بين مدخل الحمَّام والتعليقات الصادرة من مجموعةٍ من الشبَّان المصريين تجلس خلفي. كانوا جُلهم في ملابس الطريق الكاملة، وكانوا يتابعون فتاةً روسيةُ متناسقة الجسم ارتدت لباس استحمام أرجواني اللون. كانت دائبة الحركة بين الماء ومجموعات الشبَّان الروس التي تناثرت أسفل وفوق السور، وسمعت أحدهم يُقسم أنه رأى شعر ما بين فخذَيها.

ظهرت تانيا بعد ساعة، ورأيتها تتجه إلى الكبائن بصحبة فتاة سمينة، ثم عادت في لباس أخضر اللون من قطعة واحدة وقفزَت إلى الماء.

نهضتُ واقفًا وسرت إلى الناحية الأخرى من الحوض حيث المياه غير عميقة، فنزلت إلى الماء وجعلت أسبح قليلًا، ورأيتها تُغادر وتجلس على السور في الناحية المقابلة لمظلتي ولم يبدُ عليها أنها لحظت وجودي.

صعدت من الماء ووقفت أمام مائدتي أجفِّف صدري وساقي، ولمحت صديقتها تنضمُّ إليها فوق السور، ثم قامت فجأةً وقفزت إلى الحوض.

ألقيت بالمنشفة فوق المائدة، ودرت حول حافة الحوض متجهًا إلى حيث تجلس تانيا، وشعرت بأنظار الشبَّان المصريين تتبعني.

رأيتها ترفع رأسها في مواجهة الشمس وتغلق عينَيها، وعندما اقتربت منها بدا لي وجهها شديد الشحوب وقد ظهرت الغضون حول شفتَيها.

جذبت مقعدًا من أسفل مظلة مجاورة وجلست أمامها، وفتحت هي عينَيها فظهرت عليها البغتة عندما رأتني، وأسرعت تضع نظارةً شمسيةً وهي تتطلَّع حولها في اضطراب، وفي هذه اللحظة اقتربَت منا صديقتها والماء يتساقط من جسدها، ووقفَت إلى جوارها تتأمَّلني من خلف عوينات سوداء ذات إطار أحمر قبيح.

قدَّمتني تانيا إلى صديقتها في لهجةِ من تقول: هذا هو الذي حدَّثتك عنه. وتمدَّدت الصديقة على السور إلى جوارها. فكَّرت أنها في الأغلب لا تعرف الإنجليزية، وبوسعي أن أتكلَّم مع تانيا بحرية، فقلت لها إني ذهبت إلى منزلها مرةً أخرى بالأمس.

قالت: ما كان يجب أن تفعل.

قلت: لماذا؟

لم تُجِب.

تطلَّعت إلى لباس استحمامها الذي ظهر عليه القِدَم وبدا مُهدَّلًا على جسدها. سألتها: أين كنت؟

أجابت: ذهبت مع فاليا إلى أسوان وقضينا الليلة في كازينو على النيل.

سألت: من يكون فاليا؟

قالت: ألَا تعرف؟ إنه اسم الدلع لفاليري. وأمالت رأسها على كتفها وتطلَّعت إليَّ باسمة. شعرت برغبة جارفة في أن أُقبِّل شفتَيها المنفرجتَين.

تلفتُّ حولي فرأيت الأنظار متجهةً إلينا. كانت المجموعة المصرية قد كفَّت عن متابعة ذات المايوه الأحمر وركَّزت انتباهها على ابن بلدها الذي جرؤ على العبور إلى الناحية الأخرى من الحوض.

قلت: هذا مكان غير مناسب للحديث. هل أراك الليلة؟

تلاشت ابتسامتها وقالت في وجوم: في وجود فاليري.

قلت منفعلًا: ما هي حكاية فاليري هذا؟!

قالت: إنه أعز أصدقائي.

قلت: لكني لا أريد أن أراه.

قالت في حماسة: إنه شخص ممتاز وقد ساعدني في بداية مجيئي.

قلت: إنه شديد الثقة بنفسه ولست أُحب هذا النوع.

قالت: بالعكس هو ضعيف جدًّا وهو يتظاهر بهذه الثقة ليحمي نفسه.

انحنيت عليها ولمست ركبتها بأصبعي: تانيا أرجوك. لم أتِ لأناقش شخصية فاليري. قولي لي، ما الذي حدث؟ أنت لست كما كنت في آخر مرة … فماذا حدث؟

قالت: لم يحدث شيء.

قلت: إذن لماذا؟ …

قالت: لا فائدة من أن نلتقي مرةً أخرى؛ فأنت ستعود إلى القاهرة، وأنا سأرحل بعد عدة أشهر، والرسائل لا معنى لها وتُصبح بعد قليل زائفة.

قلت: ربما كنت مخطئة. اسمعي. دعينا نلتقي هذا المساء ونتكلَّم في الأمر.

قالت: كلا. لا أريد. لقد ضقت ذرعًا بكل العلاقات.

تكلَّمت صديقتها لأول مرة وقالت بالإنجليزية لتانيا: ماذا قلت؟

كرَّرت تانيا الجملة. وتحوَّلت إليَّ الأخرى قائلة: لقد ضاقت بك. ثم أضافت: إنها مزحة فلا تغضب. واعتدلت جالسة، ثم قامت واتجهت إلى الحوض.

قامت تانيا بدورها وسارت إلى مائدة مجاورة فأخذت من عليها علبة سجائر وكتابًا، وعندما عادت تبيَّنتُ في الكتاب طبعةً شعبيةً بالإنجليزية من رواية «وزارة الرعب» لجراهام جرين.

قالت وهي تقلِّب صفحات الرواية: سأمتنع عن التدخين من غدٍ وأركِّز على تحسين إنجليزيتي.

نادت عليها رفيقتها من الحوض، فوضعت علبة السجائر والكتاب جانبًا ومضت إلى حافة الحوض، ثم قفزت إلى الماء وخرجت بعد قليل فوقفت تجفِّف نفسها أمام مائدة جلس تحتها رجلان روسيان.

لمحت أنور فجأةً يقترب مني، وجذب مقعدًا وهو يحيِّيني ويسألني عمَّا فعلته بالأمس.

قلت: وصلت الاستراحة بمعجزة.

قال وهو يبتسم مشيرًا إلى الحوض: وكيف الحال؟

قلت: لا بأس. اسمع عندما تجيء أرجو أن تتركنا.

قام أنور على الفور وسار مبتعدًا. بعد لحظة أقبلت تانيا على مهل برفقة صديقتها، وتهالكتا على السور، وقالت الصديقة كم أنا عطشى!

قلت إني سأُحضر لهما شيئًا يُشرب. ذهبت إلى البوفيه فابتعت ثلاث زجاجات دافئةً من المياه الغازية، ولمحتهما تغادران السور وتجلسان إلى مائدة بصحبة روسي، فابتعت زجاجةً رابعة، وقفلت عائدًا بالزجاجات وأنا عاجز عن الرؤية في الشمس. وضعت الزجاجات على المائدة، ثم قدمت واحدةً إلى كلٍّ من تانيا وصديقتها، ووضعت أخرى أمام الرجل فلم يعبأ بي، وواصل حديثًا كان يدور بينهما، وسمعت اسم أنور يتردَّد وكلمتَي: «أرابيسكي» و«باروسكي».

حملت زجاجتي وجلست أمامهم على حافة السور، ولحظت أن أنظار الموجودين حولنا من روس ومصريين مُسلَّطة علينا.

نهضَت تانيا بعد أن انتهت من زجاجتها فتمدَّدت على السور بالقرب مني، وقفزت صديقتها إلى الماء، بينما ظلَّ الرجل في مكانه دون أن يلمس زجاجته. كان يضع نظارةً شمسيةً ذات عدستَين عاكستَين كالمرايا تجعل من المستحيل رؤية عينَيه، لكن وجهه المتجهِّم كان ناحيتي.

برز رأس الصديقة من الماء بجوار حافة الحوض، ونادت على تانيا وقالت لها شيئًا بالروسية في لهجة حادة. اعتدلت هذه جالسة، ثم قالت لي: سأنزل الماء.

قلت: ألن أراكِ مرةً أخرى؟

قالت بلهجة قاطعة: كلا.

وقفت قائلًا: حسنًا. سأذهب. وأشرت بيدي مودِّعًا لصديقتها، فقالت هذه: أتمنَّى لك حظًّا سعيدًا.

حملت زجاجتي الفارغة إلى المائدة فوضعتها بجوار زجاجة الروسي التي لم تُمَس، ومددت يدي إليه مودعًا فتجاهلني.

شعرت بالدماء تندفع إلى وجهي. لم أدرِ ماذا أفعل؟ فاغتصبت ضحكةً وأمسكت بساعده الأيمن وأجبرته على أن يبسط كفَّه وتصافحنا.

مضيت إلى المدخل فارتديت ملابسي، ولحق بي أنور متسائلًا عمَّا حدث، ولماذا انصرفت هكذا سريعًا، فقلت إن لدي موعدًا.

غادرت الحمَّام ودُرت حول سوره الخارجي في اتجاه الطريق العام. مررت بمحطة الخط الحديدي فتحوَّلت إليها وصعدت الدرجات المؤدِّية إلى رصيفها. اكتشفت أن حافة السور التي كُنَّا نجلس فوقها أصبحَت في مجال رؤيتي، فوقفت أتطلَّع إليها منتظرًا القطار، ورأيت تانيا من بعيد ممدِّدةً فوقه، ثم قامت وجلست على مقعد من القماش، وبعد قليل عادت تستلقي على السور، ووقفت أتطلَّع إليها حتى جاء القطار.

***

قبة الجامعة تربض في الظلام بغير أثر لضجة الصباح، وأمامها يقبع نصب الشهداء، ويمتد الشارع العريض الخالي من الكائنات تحف به الأشجار وأعمدة النور الشاهقة الارتفاع التي أغرقت المنطقة في ضوءٍ أقوى من القمر، وعلى اليمين تهتزُّ أشجار حديقة الحيوانات في غموض، وعبر الترام تصل الشوارع الجانبية المظلمة إلى شاطئ النيل، وهنا يلسع البرد الأنوف ويدفع بالأيدي إلى الجيوب، ومع ذلك يمكن المشي ساعات، وفي مناطق الضوء يمكن أن تلتقي العيون، وفي مناطق الظلام يمكن أن تتلامس الأكتاف. الطائر الصغير ما زال يحبو على الأرض، وليس من سبيل غير الانزواء في ركن الأوتوبيس الأنيق الذي خلا من الركَّاب، والاستسلام لصفعات الهواء البارد التي أثارها انطلاق السيارة الخفيفة مسرعةً إلى حيث ينتظر العجوز في لفاعته الصوفية وقد استقرَّ فوق فِراشه ملتجئًا إلى كتب الأولين، وخطوتان فوق بساط ممزَّق تؤدِّيان إلى الفراش الحديدي الصغير الذي تفكَّكت أسلاك مرتبته المعدِنية، فأسفل أغطيته يمكن البكاء بلا توقُّف.

***

انطلقت في الطريق المعتاد الذي يمر بمحطة الكهرباء، وعندما بلغت جسم السد تحوَّلت إلى اليسار ومضيت فوق قطع ضخمة من الصخور الرمادية التي ظهرت بها عروق حمراء وبيضاء، وتذكَّرت أن هذه المنطقة كانت تغطِّيها الرمال منذ أيام.

كان بوسعي أن أتبيَّن مبنى الهيئة ناحية اليمين على الشاطئ المقابل، وبدا أشبه بعلبة صغيرة من الكرتون، وفي امتداده يسارًا كان هناك معبد «كلابشة» الذي يتجلَّى هو الآخر للرائي من أية نقطة في الموقع.

انتهت الصخور فجأةً ووجدتني أخوض في رمال اختلطت بقطع الزلط الصغيرة، وما لبث الزلط أن اختفى، وأصبحت أسير في مستوًى واسع من الرمال الخالصة.

أرهقتني أشعة الشمس الملتهبة، فاحتميت بظل عربة «ماز» كانت تُفرغ حمولتها من الطمي، ووقفت أجفِّف عرقي وأرقب بلدوزرًا يتقدَّم من شحنة الطمي رافعًا درعه الأمامي قليلًا عن سطح الأرض. توقَّف البلدوزر أمام كوم الطمي، وهبط درعه حتى لامس الأرض، ثم تحرَّك البلدوزر من جديد فاكتسح درعُه الطمي دافعًا إياه إلى الأمام، وظهر فجأةً عدد من الصعايدة يحملون خراطيم المياه، ومضَوا خلف البلدوزر يرشون الطمي الممهَّد بالماء.

انتهت مهمَّة «الماز» فابتعدت عنها، وانطلقت السيارة تترنَّح في شبه طريق حتى اختفت عن مجال رؤيتي، لكن صوت محرِّكها ظلَّ يأتيني تتغيَّر نغمته كلما تغيَّرت السرعة، وميَّزت كلًّا من عنفوان الحركة الأولى وحشرجة الحركة الرابعة التي يسمُّونها بالعجوز.

كان البلدوزر ما زال مستمرًّا في تمهيد الرمال، وكانت الضجة الصادرة عنه وحيدة النغمة لا تتغيَّر ارتفاعًا أو انخفاضًا، ولا تتوقَّف إلا عندما يرفع السائق يده عن مقبض ويضعها على مقبض آخر فيرتفع الدرع الأمامي عن سطح الأرض، ثم يتغيَّر اتجاه البلدوزر ويهبط الدرع من جديد فتعود الضجة.

شهدت بلدوزرًا يجر ضاغطًا أسطوانيًّا كبيرًا جعل يدكُّ الطمي. تبعه آخر يجر صندوق الصخور الغريب، وظهرت في أعقابهما فرقة الهراسات.

واصلت السير بجوار ماسورة رفيعةٍ بيضاء اللون مؤلَّفة من عديد من الالتواءات والانحناءات، وانبثق تحت قدمَي فجأةً جانب من ماسورة تجريف فتتبَّعتها، لكنها ما لبثت أن اختفت أسفل طبقات الطمي.

انحدرت بي الأرض إلى مستوًى من الرمال، وبرزت للعيان نهاية ماسورة التجريف السوداء. كانت الرمال تنساب منها مختلطةً بالماء، وكان ثمة مضخة كبيرة تسحب المياه إلى ماسورة تمتد في اتجاه مجرى النهر.

عبرت كومًا من المواسير الصغيرة المفكوكة، ومررت من أمام كشك خشبي أصفر اللون بدت داخله منطقة رائعة من الظل، وعلى مقربة وقفت حفَّارة تدلَّت كباشتها الفارغة. كانت الحروف الأولى من اسم الاتحاد السوفياتي واضحةً على جدارها، وتحتها كتب أحدهم بطلاء أسود «عاش جمال عبد الناصر».

عدت أدراجي بضع خطوات إلى الكشك، ووقفت في مدخله حتى تعوَّدَت عيناي الظل. كانت هناك مائدة خشبية فوقها بضع ملفات انكبَّ عليها شاب مصري.

رفع رأسه إليَّ متسائلًا فقلت وأنا أخطو إلى الداخل: دخت من الشمس. هل يمكن أن أستريح عندك قليلًا؟

أشار إلى مقعد أمامه قائلًا: تفضَّل.

جلست واضعًا قبعتي على ساقي، وأحسست به يتأمَّل ملابسي، وعندما تطلَّعت إليه حوَّل بصره إلى الورق المنتشر أمامه.

كان يرتدي قميصًا هفهافًا ويتصاعد منه عطر فاخر، وأحاطت بمعصمه ساعة ذهبية، ووشَّى وجهه الوسيم بنوع الطبقة التي انحدر منها.

تشاغل بتقليب أوراقه، ثم رفع وجهه وسألني: صحفي؟

أومأت برأسي. عاد إلى أوراقه، ثم تركها واستند بمرفقَيه إلى المائدة.

– أخذت أحاديث كثيرة؟

أجبت: يعني.

قال: وأكَّدوا لك جميعًا أنهم سعداء بوجودهم هنا في هذا الجحيم؟

قلت: لم يقل أحد إنه يود الرحيل.

قال: وماذا يحدث لو قال لك أحد إنه موجود برغمه. هل تستطيع أن تنشر كلامه؟

قلت: لم يحدث هذا بعد.

قال: وإذا حدث؟

قلت: لا أعرف. لا أظن أن أحدًا سيقول ذلك.

مال على المائدة ورفع يده إلى صدره فدقَّ عليه: أنا أقول لك.

تطلَّعت إليه صامتًا.

قال: لست أريد البقاء هنا لحظةً واحدة.

قلت: وماذا يقيِّدك بالبقاء؟

بسط ذراعَيه حوله في حركة مسرحية: أمر تكليف يا بيه. لو تحرَّكت من هنا دخلت السجن.

قلت: لكن التكليف على ما أظن لمدة معيَّنة.

قال: أربع سنوات.

قلت: ستمر بسرعة، ثم إنك ستستفيد كثيرًا.

قال: وسأخسر كثيرًا. عندما جاءني أمر التكليف كنت قد بدأت أقف على رجلي. كان عندي مكتب هندسة وكنت أكسب، وفي خلال هذه السنوات الأربع كنت سأعوِّض شيئًا ممَّا أخذته الحكومة.

تطلَّعت إليه عاجزًا عن الفهم، فابتسم قائلًا: لم أُعرِّفك بنفسي. وذكر اسمًا يوحي بأنه لإحدى العائلات الإقطاعية القديمة.

قال: هل تنشر كلامي؟

قلت: لا أظن.

قال: ألم أقل لك؟

نهضت واقفًا وأنا أقول: سأتركك الآن، وربما التقينا فيما بعد.

كان لا يزال يبتسم في شيء من السخرية وهو يرد: كما تحب.

غادرت الكشك ومررت بالحفارة التي تحمل اسم جمال عبد الناصر، وواصلت السير بين قطع الصخور الضخمة المتعدِّدة الأشكال والألوان. أدركت أني خلَّفت جسم السد الرئيسي ورائي وبدأت أهبط جزأه الأمامي.

أشرفت بعد قليل على شبه خليج يفصل بين السد على يميني والأنفاق على يساري. كان هناك كوم من الأخشاب طافيًا فوق سطح الماء، وبدا المكان غارقًا في هدوء شامل، وتعلَّق بضعة عُمَّال بواجهة مبنى الأنفاق فوق السلالم والسقالات وانهمكوا في أعمال اللحام، وفي أعلى استقرَّت الروافع التي طُليت هياكلها باللون الأحمر الفاقع، واتخذت قممها شكل الأهرامات.

سِرت على حافة الخليج في مساحة من الصخور الدقيقة الحجم تتخلَّلها الرمال، ومضى بعض الوقت قبل أن أبلغ المجرى الرئيسي للنهر.

وقفت أتأمَّل مياهه تنساب في هدوء وتراخٍ. كانت المياه عاليةً بعض الشيء عن المعتاد وقد اتخذت لونًا بنيًّا داكنًا من أثر الغرين الذي جاء به الفيضان، وركن إلى الشاطئ قارب صغير بمجذافَين، وغير بعيد جلس رجل القرفصاء يقضي حاجته.

بدأت الرمال تحت قدمَي تترك مكانها لصلصال جافٍّ حفر فيه الجفاف خطوطًا في أشكال هندسية متكرِّرة. انحنيت وتناولت قطعةً من أهم مادة يتكوَّن منها السد وضغطتها بين أصابعي فتفتَّتت وتحوَّلت إلى تراب.

تحوَّلت أرقى جسم السد من جديد جاعلًا المعبد وجهتي، وتجاوزت مساحةً واسعةً من المياه الناعمة، تلتها صخور ضخمة يكاد حجم الواحدة منها يبلغ حجم غرفة واسعة في منزل قديم. بلغت شبه هَضْبة استقرَّ في أعلاها كوخ خشبي مفتوح الجوانب ذو سقف من الخيش تدلَّت بداخله قطع من اللحم المذبوح مغطاة بقماش، وجعل الجزَّار يصب عليها الماء من جردل معدِني.

شعرت بقدمَي شبه متصلِّبتَين، وألفيت ساعتي قد الْتصقت بجلد معصمي. تطلَّعت إلى المياه التي كان الجزار يصبُّها بوفرة على اللحم، ثم حوَّلت بصري إلى الأريكة الخشبية التي احتلَّها زبائنه، عندئذٍ لمحت مخلَّفات السيارات المتناثرة التي تحوَّلت إلى مقاهٍ لشرب الشاي.

تقدَّمت من أقرب سيارة وأحنيت قامتي لأمرٍ من تحت حاجز لعله كان فيما مضى يحمل القُماش الذي يغطِّي مؤخِّرتها، وتهالكت على قطعة من الحجر إلى جوار عدد من الصعايدة في جلابيبهم المغبرة.

كان برَّاد الشاي الكبير مستقرًّا فوق موقد كيروسين أمام البائع الذي لفَّ رأسه بعمامة بيضاء ضخمة وجلس القرفصاء مسندًا ذراعَيه إلى ركبتَيه وعيناه لا تُفارقان فتحة البراد، وبدأ البخار يندفع في قوة منها، لكن البائع لم يحرِّك ساكنًا، وبعد قليل رفع البرَّادَ وصبَّ منه سائلًا أسود في كوبات صغيرة الحجم.

تناولت كوبي وانتظرت لحظات، ثم أخذت منه رشفة، وتكشَّف السائل الأسود عن شاي حِريف الطعم. انتهيت من كوبي بسرعة شاعرًا بعطشي قد تضاعف، فطلبت من البائع كوبًا آخر، وكان منهمكًا في تسجيل حساب الزبائن في كُرَّاسته.

أعاد البائع البرَّاد إلى مكانه فوق الموقد، وأشعلت سيجارةً وأنا أُصغي لحديثٍ يدور بين الصعايدة حول «الطريشة».

كان أحدهم يُقسم إنه رآها تقفز على رَجل يمتطي جملًا فتلدغه ويسقط جثةً هامدةً في الحال، وقال إن طولها لا يزيد عن نصف ذراع، وإنها عمياء تسعى على الرائحة، وجادله الثاني قائلًا إنه رأى واحدةً ميتة، وتبيَّن أن رأسها يعلوه قرنان صغيران، وأسفل كل قرن عين صغيرة للغاية بلا جفون، وأكَّد أنها مبصرة، وتساءل ثالث عن الفرق بينها وبين الثعابين، فقال الثاني الذي صار المرجع الأساسي في الأمر إن لون جلدها أصفر مزركش بنقط بنية فاتحة.

تناولت من البائع كوب الشاي الثاني وارتشفته وأنا أتذكَّر ما سمعته من أن العلاج الوحيد المعروف للدغة «الطريشة» هو بتر العضو المُصاب في الحال قبل أن يتسرَّب السم إلى باقي الجسم.

انتهيت من الكوب فأعدته إلى البائع وأعطيته قرشَين، وظَلِلت في مكاني بلا حماسة للنهوض.

تحاملت على نفسي بعد لحظات وغادرت السيارة. جعلَت قِمم الروافع التي تعلو مبنى الأنفاق من ورائي واتجهت صوب المعبد.

دقَّقت النظر في الصخور والرمال التي تتابعت تحت قدمَي وأنا أفكِّر فيما سمعته عن «الطريشة»، وأخذت أستعرض الأعضاء التي يمكن بترها من الجسم والأخرى التي يستحيل معها ذلك أو لا يمكن الحياة بدونها.

بدا المعبد أشبه بالسراب؛ فكلما أشرفتُ على أحد التلال الصخرية أو الرملية خُيِّل إليَّ أني أصبحت قريبًا منه، وأن الخطوة التالية ستضعني على بابه، ومضت ساعتان كاملتان قبل أن أَبلغ الشاطئ الغربي الذي يقوم المعبد عليه. كانت هناك عدة قوارب وباخرتان صغيرتان وواحدة كبيرة تحمل اسم رمسيس، وكانت بيضاء الطلاء أنيقة الشكل، وعلى سطحها استلقى نوبيان في جلبابَين أبيضَين نظيفَين، وكان أحدهما يُنصت إلى راديو ترانزستور في يده، بينما انهمك الثاني في حياكة طاقيته.

وقفتُ أتأمَّل النوبيَّين اللذَين ران عليهما هدوء لم يبدِّده صوت الراديو، ثم تحوَّلتُ أعبر الممشى التقليدي المنحدر الذي يفضي إلى المعبد.

كان مدخل المعبد يتصدَّره عمودان تعلوهما زهرة اللوتس ويتوسَّطهما قرص الشمس، وكانت هناك لافتة تحمل تاريخ فَكِّه ثم إعادة تركيبه في مكانه الجديد.

دلفتُ إلى صحن غير مسقوف حفلت جدرانه بنقوش الآلهة. كان أحدهما قد زُيِّن وجهه بمنقار كبير وأحاطت به مفاتيح الحياة، ودارت بالصحن عدة أعمدة ذات تيجان على هيئة الزهور، ونقوش يحمل بعضها طابعًا مسيحيًّا. كانت كل الجدران والأعمدة تحمل آثار أرقام رُسمت بالطباشير على مسافات متساوية، ورموزًا أخرى حديثةً بالطباشير لعلَّها من مُخلَّفات عملية الفك والتركيب.

اجتزت الفناء إلى بهوٍ مسقوف أدَّى بي إلى بهوٍ ثان، ثم غرفة كبيرة في الخلف. كانت الغرفة خاليةً تمامًا يحمل جدارها الخلفي نقوشًا عديدة، وتبيَّنت صورة «إيزيس» الجميلة التي كشفت عن ثديَين ممتلئَين بارزَي الحلمتَين.

أدركت أني أقف في قدس الأقداس مقر الإله الذي لم يكن يحظى بدخوله إلا صفوة الكهنة، وحيث كانت الشعائر السرية تتم في الظلام بعيدًا عن الشعب.

***

«فيتطهَّر الكاهن في البِركة المقدَّسة ويشعل المبخرة، ويتقدَّم نحو المذبح مطهِّرًا الأماكن الملحَقة به برائحة البخور. هنا يرقد التابوت الذي يحوي التمثال الخشبي المذهَّب للمعبود، ويفض الكاهن الختم المصنوع من الطين، ويسحب المزلاج ويفتح المصراعَين فيظهر التمثال المقدَّس، عندئذٍ يسجد الكاهن ويبخِّر التمثال ويدهنه بالطيب ويسبِّح بالأناشيد التعبُّدية، ويهب الكاهن الحياة للتمثال بأن يقدِّم إليه عين «حورس» التي انتزعها منه عدوُّه «ست» وعثرت عليها الآلهة، ويُتبع العين بتمثال آلهة الحقيقة ابنة «رع»، ثم يسحب المعبود من التابوت ويبدأ في تزيينه؛ فيبخِّره ويُلبسه ثيابه ويُعطِّره، ثم يعيده إلى داخل التابوت، ويضع أمامه كل أنواع الأطعمة، وبعد تمام التطهير النهائي بالنطرون والمياه والتربنتينا يغلق التابوت ويسحب المزلاج ويضع الختم، ويتراجع الكاهن إلى الخلف ووجهه للإله مُزيلًا آثار خطواته.»

***

لمحت بابًا صغيرًا في أحد جدران الغرفة فاتجهت إليه، ودلفت منه إلى ممرٍّ دائري عاد بي إلى البهو الأول.

عثرت على درج جانبي ارتقيته. كان ضيِّقًا يأتيه الضوء من كُوَّات في جدرانه عبارة عن فجوات طبيعية مائلة في مكان الْتقاء أحجار البناء، وانتهى بعد أربعين درجةً ببابٍ وضعني على سطح المعبد. اتجهت إلى الحافة التي تُطل على النيل، ووقفت فوق الواجهة مباشرةً أتأمَّل السد، ورأيت قِمَم الروافع الثلاثة التي تعلو مبنى الأنفاق قد اتَّحدت في هرم واحد.

عُدت أهبط الدرج، ثم غادرت المعبد من فجوة في جدار فنائه. كدت أتعثَّر في رجل يرتدي جلبابًا أو عمامةً استلقى على الأرض، ونهض الرجل مضطربًا وهو يفتِّش في جيبه، وأخرج بضع أوراق وهو يقول: تذكرة؟

قلت إني لا أريد، فتطلَّع إليَّ في بَلَه، ثم حوَّل بصره إلى الثغرة التي بزغت منها. تركته يتأمَّلها وانطلقت في طريق منحدر أفضى بي إلى آخَر شبه دائري مضيت فيه جاعلًا قمم الروافع قبالتي.

توقَّفت بعد فترة أمام كباشة استقرَّت على الأرض، بينما كانت إحدى القلابات تقترب منها بظهرها، ثم ارتفع الظهر وانهمرت حمولة الأسمنت في الكباشة، ومسح العامل الواقف إلى جوار الكباشة عرقه وجعل يُشير بيدَيه لسائق الحفارة، وارتفعت الكباشة في الهواء، ثم قامت بدورة كاملة قبل أن تختفي عن بصري خلف تلٍّ من الأتربة.

بلغت بداية المستوى الرئيسي في السد. مضيت فوق الطريق شبه الممهد وأنا أتلفَّت بحثًا عن سيارة، ومرَّت بي عربة بارفورد قذفَت في وجهي بعادمها الثقيل، ثم أغرقتني في عاصفة من الغبار بعد أن ابتعدت.

لمحت بعد عدة خطوات شاحنةً تجمَّع على ظهرها عددٌ من العُمَّال، فصعدت إليها. انطلقت الشاحنة بمحاذاة ممرَّات التفتيش حتى بلغنا الضفة الشرقية، وإذا بها تتجه يسارًا وتُنهي رحلتها بعد عدة دورات في جاراج الحقن.

عدت أدراجي سيرًا على الأقدام حتى المستوى الرئيسي، ثم واصلت السير في اتجاه محطة الكهرباء. أشرفت على خلاطة الأسمنت فوقفت أتأمَّل طابورًا من سيارات «الماز» أسفل خرطوم تندفع منه المياه في شدة. كانت كل سيارة تتقدَّم من الخرطوم بظهرها وهي ترفعه إلى أعلى ليتسنَّى لعاملٍ وقف على سُلَّم بجوار الخرطوم أن يغسلها جيدًا بمياهه، عندئذٍ يهبط ظهرها وتنطلق خفيفةً إلى موقعها تحت قُمع الخلاط.

تعلَّقتُ بباب عربة ذاهبة في طريق الاستراحة، وعندما بلغنا الجاراجات أطاح الهواء بقبعتي. فكَّرت بأن أتركها وشأنها من فرط التعب، لكن السائق كان قد شهد الحادث فأبطأ السيارة، وقفزت إلى الطريق بينما استأنف هو سيره، فاستعدت قبعتي ومضيت على قدمَي حتى الاستراحة.

***

أحضر لي فقير في الصباح بعضًا من عُلَب اللحم والسمك المحفوظ وعدة أرغفة من الخبز، ووقف يتأمَّلني أُعِد حقيبتي وهو يهز رأسه في بطء.

قال: حتفوت على بلدي «بلانة».

قلت: هي قبل «أبو سنبل» والا بعدها؟

قال: بعدها.

قلت: يمكن، وأشوف البيت اللي انت كنت عايش فيه.

قال مواصلًا هزَّ رأسه: ما حتلاقيه. المية غطَّت كل حاجة.

رفعت عينَي إليه عندما لمست رنة الحزن في صوته. قلت بعد لحظة: لكن الكل بيقولوا ان المعيشة في القُرى الجديدة أحسن بكتير من القديمة؟

قال: والنيل؟ البيوت الجديدة بعيدة عنه خالص … النيل ضاع منا خلاص. مش حنشوفه تاني أبدًا.

أغلقت الحقيبة فانحنى عليها ورفعها إلى كتفه. تبعته إلى الخارج بعد أن تأكَّدت من وجود خطاب صيام إلى زميله في جيبي.

كانت الشاحنة التي أرسلها لي عباس يقودها سائق نوبي. جلست إلى جواره بعد أن أعطيت فقير نصف جنيه. انطلقنا في طريق متعرِّج مرصوف إلى الميناء الذي أُقيم على الشاطئ الشرقي في نقطةِ تواجه مرسى الباخرة رمسيس ومعبد «كلابشة». وصلناه بعد دقائق فألفيناه مرسًى صغيرًا يضم سفينةً قديمةً مهجورةً استقرَّ الصندل إلى جوارها.

مضيت إلى كشكٍ خشبي يحمل اسم الشركة صاحبة الصندل، بينما سار السائق بخطوات متمهِّلة إلى حيث يدور الشاطئ صانعًا خليجًا صغيرًا.

سألته: أنت متأكِّد من الموعد؟

قال: ما تبقَّى من شحنٍ لن يستغرق أكثر من هذا.

قلت: بوسعي أن أنصرف الآن ثم أعود في الثالثة، فهل تضمن لي أنه لن يقوم قبل هذا الموعد؟

ضحك: كيف؟ ما أدراني ما سيحدث؟

وقفت حائرًا، ثم استدرت ومضيت إلى حيث وقف السائق. كان يتأمَّل عددًا من مراكب الصيد الصغيرة غطَّتها مياه الفيضان. قال عندما رآني: شايف مراكبنا. سابوها كده من غير ما يحاولوا يشيلوها، ولمَّا شكينا قالوا اننا مالناش عندهم حاجة لأننا أخدنا التعويضات.

وقفنا نتأمَّل أشرعة المراكب التي برزت من المياه السمراء وجعلَت تتمايل يمنةً ويسرة، ثم استدرنا عائدين إلى الشاحنة.

قلت للسائق إني سأبقى، فساعدني على إنزال حقيبتي وانصرف. حملت الحقيبة إلى الكشك فوضعتها بجوار صبي أسمر اللون اقتعد الأرض أمام موقد الكيروسين المعهود. فوجئت به يقدِّم إليَّ كوبًا من الشاي، فاعتمدت بظهري على جدار الكشك ومضيت أرشف الشاي متأمِّلًا الصندل.

كانت هناك عارضة خشبية تصل بين الشاطئ وحافة الصندل، وفوقها تدافع عددٌ من الصعايدة ينقلون إليه أسلاكًا حديدية، ووقف يرقبهم رجل عريض طوى ذيل جلبابه ودسَّه في سرواله الطويل. كان وجهه يحمل الملامح النوبية وإن بدت بشرته قمحية، وسمعتهم ينادونه بعم مهدي.

انتهيت من كوبي فأعدته للصبي، وأعطيته قرشًا فرفض أن يأخذه قائلًا لي ضيف. حملت حقيبتي وعبرت العارضة إلى ظهر الصندل، ووجدت أكوام الرمال والزلط تكاد تغطِّي مساحته كلها، وكانت حركة الشحن المستمرَّة تَحول دون الاستقرار بينها.

لمحت سطحًا معدِنيًّا بارزًا على مقربة من أحد طرفَي الصندل بدا بمعزل عن كل ما يجري حوله، وفوقه استلقى شابٌّ في قميص من المربَّعات الملوَّنة وبنطلون من قماش رخيص أزرق اللون. اتجهت إليه ورفعت حقيبتي فوضعتها فوقه. اكتشفت أن السطح ليس سوى ظهر القُمرة التي تضم المحرِّك، وكان ظهر الراقد إليَّ فلم أرَ وجهه، وبدا نائمًا.

جلست فوق حقيبتي معتمدًا بذقني على ركبتي، وأخذت أرقب حركة العُمَّال.

***

وصاح العُمَّال: «نحن نموت جوعًا ولا يزال أمامنا ثمانية عشر يومًا حتى الشهر القادم!» وتجمَّعوا في أحد الميادين على مقربة من أحد الصروح يصيحون: «لن نعود إلى أعمالنا. أبلغوا هذا إلى رؤسائكم المجتمعين هناك.» وتوجَّه الجائعون جماعاتٍ كبيرةً نحو الحوانيت، ولكنهم لم يُحاولوا اقتحامها، وقام أحدهم خطيبًا: «لقد جئنا يدفعنا الجوع والعطش، ولم تعد لدينا ملابس نرتديها، ولم يبقَ لدينا زيت ولا سمك ولا خضار. أرسلوا لسيدنا فرعون، أرسلوا لمليكنا وسيدنا حتى يعطونا ما يمكِّننا من الحياة.»

***

أحسست بمن يرقبني، والتفَتُّ إلى النائم فوجدته قد اعتدل على ظهره وطفق يتطلَّع إليَّ.

هززت رأسي مُحيِّيًا فاعتدل جالسًا، وانتصبت أمامي رأس حليقة كالسجناء والجنود، لكن شعر ذقنه كان طويلًا، ورأيت مصباحًا كهربائيًّا يتدلَّى من خصره، وإلى جوار المصباح مطواة.

عرَّفني بنفسه قائلًا إنه جوَّال ويُدعى ذهني، وذكرت له اسمي بدوري، وعندما سألني عمَّا أعمل قلت إني صحفي.

سألني باهتمام: فين؟

ذكرت اسم مجلة، فانفعل فجأةً وسألني عمَّا إذا كنت أعرف أحد كُتَّابها.

تطلَّعت إليه في حِدة، ثم قلت: أيوه أعرفه.

قال إنه تعرَّف عليه عندما كان في السجن.

سألته: وإيه اللي ودَّاك هناك؟

قال: كنت بأزور واحد قريبي.

قلت: ما قلتليش بتشتغل إيه.

قال: في شركة.

– هنا في السد؟

– لا، في القاهرة. أنا عضو كمان في جمعية الجوَّالة.

ومدَّ يده في جيبه فأخرج دفترًا أخضر قدَّمه إليَّ قائلًا إنها بطاقة عضويته في الجوَّالة. تناولت الدفتر وألقيت عليه نظرةً سريعة. كان يبدو جديدًا للغاية، وكانت الصورة الملصقة به تمثِّله بشعره المحلوق ونفس ملابسه.

قال: أنا قطعت حتى الآن عشرة آلاف كيلو، وقلت ما دام وصلت لهنا لازم أشوف «أبو سنبل». وانت؟

قلت له إن وجهتنا واحدة، وأعدت إليه البطاقة، ثم لزمت الصمت، وتابعت سربًا من الطيور البيضاء ذات الأجنحة السوداء كان يطير فوق سطح الماء مُتَّجهًا إلى السد.

اقترب منا عم مهدي فرحَّب بي قائلًا: أهلًا وسهلًا بالأفندي. ثم صاح مناديًا على صبي الشاطئ: شاي للأفندي يا وله.

سألته عن موعد قيام الصندل.

قال: قريب بإذن الله.

قلت: فاضل ايه؟

قال: مواسير الحديد والأخشاب، وبعدين الأدوات الصحية. مش حيخدوا كتير.

جاء الصبي بكوبَين من الشاي أعطاني أحدهما وقدَّم الثاني إلى عم مهدي، وقدَّم هذا الكوب بدوره إلى ذهني قائلًا إنه شرب لتوِّه، ثم غادرَنا عائدًا إلى موقفه بجوار العارضة الخشبية.

قال ذهني ونحن نرتشف الشاي: كنت خايف أبقى لوحدي على الصندل.

لم أعلِّق.

أضاف بعد قليل أن مجموعةً من الجوَّالة كانت معه بالأمس ولكنهم تخلَّوا عنه اليوم وفضَّلوا العودة إلى القاهرة.

ظهرَت في مدخل الميناء باخرةٌ تحمل العلم المصري توقَّفت لصق السفينة المهجورة، وما لبثت الحياة أن دبَّت في الأخيرة وتحوَّلت إلى مكاتب للجمرك والرقابة الصحية، وأصبحت معبرًا إلى الشاطئ لرُكَّاب الباخرة القادمة من السودان.

ظهر عددٌ من الأجانب على سطح الباخرة، وغادرتها فتاة شقراء رشيقة ترتدي بنطلونًا قذرًا من بنطلونات رعاة البقر، وبرزت في الطابق الأعلى للباخرة شقراء أخرى في رداءٍ قصير للغاية ووقفت على رأس السلَّم تتطلَّع في تردُّد إلى خمسة مصريين اعتمدوا على سور السفينة الأخرى تحتها مباشرة بطابقَين، ورفعوا رءوسهم إلى ساقَيها، وأخيرًا استدارت وجعلت تهبط بجنبها.

فرغ العُمَّال من نقل المواسير وبدءوا يجلبون الأخشاب، وانضمَّ إلينا فوق سطح المحرِّك نوبيان في جلبابَين نظيفَين من قماشٍ سميك داكن اللون، وكان كلٌّ منهما يحمل لفافةً من القماش.

كان أحدهما ممتلئًا شديد الوقار بادي الطيبة، وكان الثاني طويلًا نحيفًا شديد الخجل، وقدَّم لنا الوَقور نفسه على أنه يعمل في إدارة الشركة ﺑ «أبي سنبل» ويُدعى فهمي، أمَّا الخجول فكان اسمه أحمد ويعمل في الورشة الميكانيكية ﺑ «أبي سنبل» أيضًا، وكان الاثنان في زيارة زوجتَيهما وأولادهما في القرى الجديدة.

سألت فهمي عمَّا إذا كان المعبدان قد فُصلا عن الجبل، فأجاب: الشغل ماشي.

وجَّهت السؤال بطريقة أخرى: التماثيل الكبيرة اللي في وش المعبد زي ما هي والا شالوها؟

قال: التماثيل لسه موجودة.

مرَّ عم مهدي بجوارنا فتوقَّف يُحيِّي أبناء بلدته قائلًا: ماسكاجيرو.

وردَّ عليه الاثنان: ماسكاجيرو.

سألته عن الوقت الذي ستستغرقه الرحلة.

أجاب: المسافة مش كبيرة.

قلت: يومين ولا تلاتة؟

قال وهو يتحرَّك مبتعدًا: مش حيزيدوا بإذن الله.

قال ذهني: مش أكثر من يومين.

قال فهمي: أربعة عشان الصندل ما بيمشيش بالليل.

قال أحمد: الصندل سريع.

سألت فهمي عمَّن يكون عم مهدي، فقال إنه مساعد الريس.

قلت: وفين الريس؟

أشار إلى عجوزٍ ضئيل الجسم وقف في الطرف الآخر من الصندل وقد غطَّى رأسه بعمامة كبيرة بيضاء وبدت بشرته فاحمة السواد.

تجاوزت الساعة الثالثة وما زال العمل جاريًا في نقل الأخشاب، ولم يبدأ بعدُ في الأسمنت والأدوات الصحية، وجعلت أنقُل بصري بين العُمَّال والمياه العالية والمعبد الذي استقرَّ على الشاطئ الآخر.

اقترب مني فهمي زاحفًا فوق الصاج، وقال مُشيرًا إلى نقطةٍ في الماء على مبعدة خطوة واحدة من شاطئنا: شايف الفنطاس ده؟

كان هناك فنطاس من الحديد يعلو على سطح الماء وتحته عدة درجات حديدية رفيعة.

سألني: شايف كم سلمة؟

عددت ثلاث عشرة درجة.

قال: السلم ده فيه ميت سلمة. كلهم الوقت تحت المية. اللي انت شايفه ده كان شطنا قبل السد. كان بيوصل لغاية نص البحر.

انتهى نقل الأخشاب ورأيت مجموعةً من العُمَّال تحمل أكياسًا من الأسمنت إلى الصندل، وجاء في أعقابهم شخص أسمر البشرة يرتدي جلبابًا صوفيًّا داكن اللَّون ويحمل في يده سلَّةً مخروطيةً من القش اختفت محتوياتها خلف ورق الصحف، وفي يده الأخرى استقرَّت حقيبةٌ متوسِّطة الحجم.

تقدَّم منا الرجل في هدوء واضعًا حمله على أرض الصندل، ووجَّه إلينا التحية في لهجة صعيدية أصيلة.

أفسحنا له مكانًا بجوارنا، فتربَّع وأخرج علبة بلمونت دار بها علينا، ولاحظت عمامته البنية النظيفة وجلبابه الذي صُنع من قماشٍ غير رخيص جرى كيُّه حديثًا، ثم الحذاء ذا الرقبة. كان كل ما فيه ينطق بالاعتناء الشديد، وربما أيضًا بقيراطَين من الأرض.

دخَّنا ونحن نتأمَّل باخرةً خشبيةً متهالكةً تقترب من الميناء في بطء، ثم تتوقَّف خارجه، ولاحظت أن حركة الصعايدة قد هدأت عن ذي قبل، لكنهم كانوا ما زالوا ينقُلون أكياس الأسمنت.

قلت: الظاهر مش منقولين من هنا النهار ده.

قال ذهني: يمكن الصندل يبيت هنا.

أشار الصعيدي إلى الباخرة التي وقفت في عُرض النهر وقال: مش ممكن، لازم نخلِّي مكان للمركب.

شرع أحمد يفك لفافته وأخرج منها عدة أرغفة من الخبز المستدير، وبسط منشفةً نظيفةً على سطح الصاج ووضع الخبز فوقها، ثم أضاف إليه أربع بيضات مسلوقات وقطعةً من الجبن وبضع حبَّات من الطماطم، وبحث طويلًا بين محتويات لفافته حتى عثر على قطعةٍ صغيرةٍ مطويةٍ من الورق تكشَّفت عن حَفنةٍ من الملح المخلوط بالفلفل الأسود.

اعتدل فهمي بجوار زميله ودعانا إلى مشاركتهما طعامهما. اقترب منهما ذهني على الفور بينما أخرجت من حقيبتي علبة بولوبيف فتحها ذهني بمطواته، وجذب الصعيدي سلَّته ونزع غطاءها مُخرجًا منها لفافةً من الورق وسكينًا، وفتح اللِّفافة، ثم قطع بالسكين جزءًا من قطعة لحم ظهرت عليها حبَّات الفلفل الأسود، ومزَّق جانبًا من لِفافة الورق وضع فوقها قطعة اللحم وأضافها إلى المائدة المشتركة، ثم قام إلى حقيبته ففتحها وأخرج منها رغيفَين من الخبز الشمسي السميك وضعهما أمامنا.

ناديت على رمضان أن يأتي لنا بالشَّاي، وسألت الصعيدي عن اسمه فقال إنه يُدعى جرجس، وأضاف أنه من سوهاج ويعمل في «أبي سنبل».

قلت: تبقى تعرف أحمد وفهمي؟

حرَّك رأسه حركةً خفيفةً لم أفهم معها إذا كانت إجابته بالإيجاب أو النفي، وصدرت عن أحمد همهمة غير مفهومة. سألتهم عمَّا إذا كانوا يعيشون في عنابر، فقال جرجس إنهم يُقيمون في خِيَم لأن العنابر لم ينتهِ بناؤها بعد.

لاحظت أن العمل يجري الآن في نقل الأدوات الصحية، وخلا الشاطئ إلا من بضع أحواضٍ من الخزَف.

هبطت من فوق القُمرة، واعتمدت على حافَّة الصندل. أخرجت منديلي ودلَّيته في الماء، ثم عصرته ومسحت به وجهي وعنقي، ودرتُ حول القُمرة حتى أصبحت في الناحية الأخرى المطلَّة على الشاطئ. رأيت الصعايدة قد شمَّروا ملابسهم وغاصوا في الماء يغتسلون، ولمحت رمضان بينهم. كان الكشك مغلقًا، ورأيت عاملًا يحمل آخر قطعةٍ من الأدوات الصحية ويعبر بها العارضة، ثم يضعها على الرمال ويتهاوى إلى جوارها مجفِّفًا عرقه بساعده.

اختفى عم مهدي في باب القُمرة، وما لبث صوت المحرِّك أن ارتفع، ثم توقَّف وعاد يتردَّد من جديد في خفقات مضطربة حتى استقرَّ أخيرًا على نغمته العالية، وظهر الريس عند مقدمة الصندل.

انتهى رمضان من الاغتسال، فأسرع إلى الكشك وتناول من الأرض موقد الكيروسين وكُرَّاسة، ثم عاد جريًا إلى الصندل فقفز إلى سطحه. كان الصندل قد تحرَّك بالفعل، وسقطت العارضة الخشبية في الماء.

أشعلت سيجارةً وأنا أتأمَّل الشاطئ والصعايدة الذين قاموا بشحن الصندل وجلسوا الآن بلا حركة يرقبون ابتعاده. تحوَّلت أرقب الناحية الأخرى. رأيت أننا نسير بعرض المجرى في حذاء السد ونقترب بسرعة من الشاطئ الآخر أسفل المعبد، وسرعان ما رَسَونا بجوار الباخرة رمسيس.

سكت صوت المحرِّك واختفى الريس في قاع الصندل، ولحق به عم مهدي، ثم ظهر الاثنان من جديد وقد استبدلا ملابسهما، وبدا الرَّيس شخصًا آخر في رداءٍ أسود مهيب وعمة بيضاء تعدَّدت لفائفها فوق رأسه.

عبر الرَّيس إلى الشاطئ ومشى بنشاطٍ وهو يلوك شيئًا بين فكَّيه الخاليَين من الأسنان، وخلفه انطلق عم مهدي في رداء مماثل منتعلًا حذاءً، وجاء في أعقابهما رمضان في جلباب أبيض نظيف وصندل، وانطلق الموكب الثلاثي على الشاطئ يتقدَّمه الريس ملوِّحًا بيدَيه يرد تحية بحَّارة رمسيس، وعدد من النوبيين والصعايدة يشربون الشاي على الشاطئ، وسرعان ما اختفى الثلاثة عن الأنظار.

صعدت فوق القُمرة وأنا أسأل: هم راحوا فين؟

أجاب جرجس: روَّحوا.

قلت: روَّحوا على فين؟

قال: على أسوان.

قلت: يعني إيه؟ إحنا مش حنمشي النهار ده؟

قال فهمي: لا حنبيِّت هنا. الدنيا خلاص ليلت.

شعرت بدمائي تفور.

قال فهمي: لو كنَّا فضلنا في الناحية التانية للصبح كانت الشركة تكلفت عشرين جنيه.

قلت: طب ليه ما حدش قال؟ أنا كنت افكر اننا ماشيين النهار ده.

قال جرجس: أنا ظنيت انك عارف، ما دام الميكانيكي ما ظهرش يبقى مفيش سفر.

سألت: أي ميكانيكي؟

قال: اللي حيشغل الموتور.

– وعم مهدي؟

قال فهمي: عم مهدي مساعد الريس ومالوش دعوة بالموتور.

جلست فوق حقائبي وأشعلت سيجارةً جديدة، وعندما انتهت هبطت إلى مرحاض صغير بجوار باب القُمرة. غسلت وجهي وأسناني، وتبعني الآخرون، ثم غادرنا الصندل إلى غُرزة الشاي الصغيرة على الشاطئ.

سألني ذهني ونحن نشرب الشاي عمَّا إذا كنت سأبقى طويلًا في «أبي سنبل».

أجبت: حسب الظروف.

– وحتنزل فين؟

قلت: في استراحة الشركة.

وتمنَّيت لو كنت واثقًا من ذلك حقيقة.

قال: وبعد كده؟

قلت: بعد كده؟ حأرجع.

قال: مش رايح السودان؟

قلت: السودان؟ ليه؟

قال: المسافة بين «أبو سنبل» والحدود ما تزيدش عن ثلاثين كيلو.

قلت بعد فترة: ولو حبيت أروح ما معيش بسبور.

ضحك قائلًا: ومين عاوز بسبور عشان يعدي الحدود؟

انتهينا من أكوابنا فاقترح جرجس أن نشرب دورًا آخر، وتباريت أنا وهو في تقديم السجائر للجميع.

عدنا إلى الصندل فاستلقينا فوق ظهر القُمرة. انتحى أحمد طرف السطح ورقد على جنبه واضعًا رأسه على ساعده، وبسط فهمي بطانيةً على الناحية الأخرى ونام فوقها، وحذا الصعيدي حذوه، ثم دعانا أنا وذهني لأن نرقد فوق بطانيته.

رقدنا تحت شمس المغيب، وردَّد ذهني بصوت خشن أغنيةً لعبد الحليم، فسألته إن كان يعرف أغاني سيد درويش أو عبد الوهاب القديمة، لكنه لم يكن يذكرها، وحاولنا معًا أن نستعيد كلمات ولحن «ياما بنيت قصر الأماني» ولكننا فشلنا.

قال جرجس: أجولكم على لغز والشاطر يفسره.

قال ذهني: قول يا عم.

قال جرجس: يبجى إيه أخف الخفيف وأتجل التجيل؟

فكَّرت وقلت: الرمل.

قال ذهني: الهوا.

ضحك جرجس وقال: أخف الخفيف هو كلام الحبيب، وأتجل التجيل كلام العدو.

فكر لحظة، ثم استطرد: طب فسروا ده: شاب ركب أبوه ولبس أمه وأكل الحي من الميت.

لم أستطِع أنا وذهني أن نفكِّر بإجابة، وقال جرجس: مفيش أبسط من كده. شاب رهن أبوه عشان يركب جمل، ورهن أمه عشان يلبس، ولمَّا جاع شق بطن الجمل فلجى فيه جنين صاحي أكله.

أشعلنا سجائرنا، وتأمَّلت سفح السد الذي ساده الهدوء التام. جعل ذهني يترنَّم مردِّدًا «يا ليل يا عين»، فسأله جرجس عمَّا إذا كان يعرف قصة هذه العبارة، وعندما أجاب هذا بالنفي اعتدل جالسًا في حماسة، وروى لنا كيف انطلق شخصٌ يُدعى «ليل» سائحًا في البلاد بحثًا عن صديق، وعثر عليه الملك وهو يُغربل الرمال، فسأله عن السبب، فقال إنه يبحث عن صديق، وعندئذٍ اصطفاه الملك صديقًا.

وقرَّر الملك ذات يوم أن يسافر للحج، فقطع ليل شخصيته ووضعها في علبة وأغلقها وأعطاها للملك دون أن يُطلعه على محتوياتها، وطلب منه أن يرويها من ماء زمزم.

قاطعته متسائلًا عمَّا يعني بشخصيته.

قال: لا مؤاخذة قضيبه.

ومضى جرجس فروى كيف سافر الملك وبدأت الملكة تراود ليل مهدِّدةً إياه بأن تتهمه لدى الملك، وقال لها ليل إنه لا يستطيع أن يخون صديقه، فأرسلت إلى الملك أنه حاول اغتصابها، وعاد الملك مسرعًا فأرسل في طلب كلٍّ من السياف وليل، وعندما مثل هذا أمامه سأله عن العلبة وطلب منه أن يفتحها، فتأكد الملك من إخلاصه وقال له إنه يئس من صحبة الناس وإنه سينطلق منه في البلاد سائحًا.

وفي الصحراء برزت لهما جنية رائعة الجمال. كان الملك نائمًا فحاولت أن تغوي ليل ليقتله ولكنه لم يستسلم لإغرائها. ونام ليل فظهرت للملك ونجحت في إغرائه بقتل ليل ففعل، ثم طلبت منه أن يفقأ عينه اليمنى فانصاع لها؛ وعندئذٍ اختفت، وجعل الملك يبحث عنها بعينه اليسرى بلا جدوى، فجلس يندب حظه ويردِّد باكيًا: «يا ليل يا عين.»

كان الظلام قد انتشر تدريجيًّا، وظهرت فوق السد أضواء المصابيح الكهربائية. وصلت إلى مسامعنا أصوات الشاحنات والقلابات التي تعمل فوقه دون أن نراها، وعلى اليمين تبدَّت حفارة كانت كباشتها تدور حولها بسرعة كأنما أفلتَ عقالُها.

أخرجت من حقيبتي وسادةً صغيرةً من المطَّاط وضعتها تحت رأسي، واستلقيت في مواجهة السد، واستقبلت على وجهي نسمةً خفيفةً هبَّت فجأة.

أغمضت عينَي وشردت وأنا أُصغي بنصف انتباه لذهني وجرجس يغنِّيان معًا: «يا بهية وخبريني على اللِّي جتل يسن».

***

الحياة أصبحت مثيرةً كما لم تكن من قبل، والورق الأبيض يتحوَّل في الغرفة الصغيرة فوق السطح إلى سلاح بلا طلقات. الخطر في كل لحظة، وكل ركن، وكل مهمَّة فيها انتصار، لا ينازع على العدو الرابض في الظلام، وتستيقظ المدينة في الصباح لتقرأ الرسالة المسطورة، لكن كلمةً واحدةً كانت كافيةً لفتح الجرح الذي لا يندمل؛ فإشارة اهتمامٍ قد ترقى إلى مرتبة العاطفة المفتقدة، وكيف يمكن تفسير الابتسامة والنظرة واللمسة؟ أو التعبير عمَّا يجيش به القلب؟ ولم يبقَ إلا التجوال على غير هدًى في الشوارع التي تغشاها على أمل لقاء بالمصادفة، فمن السهل تبيُّن القامة الممشوقة وجدائل الشعر الأسود المسترسلة على الظهر، ولا بد أن يعكس زجاج المحلات تلألؤ العينَين العسليتَين الضاحكتَين، والبصر يمتد في لهفة إلى كل ركن وفي كل اتجاه، وفي المقاهي تجمَّع الناس يُتابعون أنباء تأميم القناة، لكن الأذن تتلهَّف على نُواح المغنِّين، ويتراءى وجهها في الصباح والمساء، في النوم واليقظة، وهناك لذَّة لا تدانيها لذة في حفر الجرح الغائر إلى الأعماق حتى تترسَّب الأحزان طبقات.

***

فتحت عينَي فطالعتني النجمة الوحيدة وسط السماء. رفعت ساعدي وألقيت نظرةً على ساعتي. وجدتها السابعة والنصف.

ظَلِلت أتأمَّل النجمة التي انفردت بصفحة السماء، وغفوت على صوت جرجس يقول: اللي يعيش ياما يشوف، واللي يمشي يشوف أكثر.

استيقظت في الليل فطالعتني آلاف النجوم المتناثرة المتباينة الأحجام. رفعت رأسي قليلًا وتطلَّعت أمامي مباشرة، فتراقصت في عينَي أضواء السد، وأتتني ضجة العمل واضحةً كما لو كنت أنام فوقه.

غفوت، ثم استيقظت مرةً أخرى على صوتٍ حادٍّ صادر من ذهني الذي كان ينام إلى جواري. ظَلِلت يقظًا حتى أدركت أن مصباحه المدلَّى من خصره يرتطم بسطح القُمرة كلما تقلَّب.

في الفجر سمعت أحمد يقوم شاكيًا من البرد وينام بجوار فهمي، وبدأت أشعر أنا الآخر بالبرد، فأخرجت من حقيبتي ملاءةً التحفت بها جيدًا.

امتلأ جسدي برضوض عديدة من أثر الصاج الصلب، وتزايد شعوري بالبرد فتطلَّعت إلى ساعتي. وجدت أننا نقترب من السادسة، فقرَّرت النهوض.

رأيت فهمي وأحمد قد تمدَّدا متقابلَين على جنبَيهما تُغَطيهما بطانيةٌ واحدة أحكماها حول جسدَيهما، وأبعداها عن وجهَيهما بمرفقَي ساعدَيهما المرفوعَين فوق رأسَيهما. التحفت بالملاءة ونزلت إلى مرحاض القُمرة، فتبوَّلت وشربت، ثم أشعلت سيجارة، ومضيت إلى حافة الصندل المواجهة للسد فجلست فوق صندوقٍ من الحديد.

كان ضوء النهار ينتشر حولي بسرعة، لكن المصابيح الكهربائية كانت ما تزال مشتعلةً فوق السد، وظهرت عربة وحيدة مهجورة في أقصاه عند الحنية التي تفصله عن قناة التحويل.

شعرت بحركة خلفي في النهر، فالتفتُّ لأرى طابورًا من مراكب الصيد الشراعية يقترب في هدوء عائدًا من رحلة كل ليلة. استقرَّت المراكب إلى جوار الصندل، ثم تجمَّع الصيادون في إحداها والتفُّوا حول موقد كيروسين انهمك أحدهم في إشعاله، وأحاطه آخر بحاجزٍ من الصفيح يحجب عنه الهواء. ظلُّوا يرقبون الموقد في صمتٍ حتى انتهى إعداد الشاي، فصفَّ أحدهم عددًا من الأكواب الزجاجية أمامه وصبَّ فيها الشاي، وعندما شربوا تفرَّقوا من جديد في مراكبهم دون أن يتبادلوا كلمةً واحدة.

انحنى صياد نوبي في مركب قريب مني على قاعه، وأخرج سمكةً في حجم الكف مال بها على حافَّة المركب وضربها في الماء عدة مرات، ثم تناول خرقةً من القماش دعَك بها السمكة وقذف بها إلى سلة من الليف تحت قدمَيه، وتناول سمكةً أخرى.

راقبته وهو ينتقل بسرعة بين قاع المركب وحافَّته ومن سمكة إلى أخرى، وشعر هو بي فرفع رأسه إليَّ عندما رآني في الملاءة البيضاء التي لم تظهر منها سوى عويناتي. تجمَّدت يده فوق السمكة التي كان يدعكها، وتطلَّع إليَّ مبهوتًا، ثم عاد إلى عمله.

هبَّت عليَّ نسمة باردة، فغادرت مكاني ودُرت حول الصندل وجلست في الناحية الأخرى أسفل القُمرة، وأحكمت الملاءة حول جسدي وأنا أتشمَّم رائحتها النظيفة، وبعث في ملمس الملاءة ورائحتها شعورًا بالانتشاء فتحسَّست ساقي الساخنة.

***

الصور مخبَّأة في كراسات الجبر والهندسة وكتب التاريخ والجغرافيا. يجري جمعها عامًا بعد عام، وكل يوم يجري التقليب بينها خلسة. كل واحدة وعد بتلك اللذة الغامضة في صدر المرأة وبين ساقَيها، والكلمات ليس لها بعدُ معنًى ملموس، وإن كانت تدفع بالدماء إلى العروق حتى تفجَّر الينبوع فأصبح للأسى معنًى.

***

رفعت رأسي فجأةً إلى أعلى، فرأيت وجه فهمي يُطل عليَّ من فوق سطح القُمرة. قال عندما التقت أعيننا: صباح الخير.

أبعدت يدي عن ساقي قائلًا: يسعد صباحك.

كانت الشمس قد بدأت ترسل أشعتها، وتراجع فهمي هابطًا إلى سطح الصندل من الناحية الأخرى ليغتسل، وقمت خلفه فغسلت أسناني. انتظرنا حتى انتهى الباقون من الاغتسال، فغادرنا الصندل إلى البر وجلسنا في مقهى الأمس.

أخرج جرجس من جيب جلبابه عِدة قطع من البسكويت الصعيدي وزَّعها علينا، وجعلنا نغمس البسكويت في الشاي ونحن نرقب شجارًا عاليًا يدور بين ثلاثةٍ من البحَّارة الصعايدة على ظهر «رمسيس» وصبي نوبي كان منهمكًا في تنظيف سياجها. أدركت بعد لحظة أن الأمر لا يتعدَّى مزاحًا من جانب الصعايدة الذين لم يُخفوا إعجابهم بوجه الصبي الوسيم وجسمه الممشوق.

أصرَّ جرجس على أن يدفع حساب الشاي، وعدنا إلى الصندل، وما إن استقرَّ كلٌّ منَّا في مكانه حتى ظهر الريس على الشاطئ متقدِّمًا في نشاطٍ وتحت ذراعه لفافة من القماش وخلفه موكب الأمس.

***