نجمة أغسطس

مؤسسة هنداوي مؤسسة هنداوي

الفصل الثالث

كان موكب الرَّيس سرور يضم عدة وجوه جديدة؛ ثلاثة من البحَّارة في لبدهم المخروطية والميكانيكي ومساعده، وكان الميكانيكي طويل القامة يرتدي قميصًا وبنطلونًا وينقُل قدمَيه في بطء، واختفى هو ومساعده الصبي في قُمرة المحرِّك على الفور.

استقرَّ عم سرور بجسمه الضئيل وحركاته العصبية في مقدِّمة الصندل يتطلَّع إلى الأفق، وخلفه وقف مساعده عم مهدي، وانتحى البحَّارة الثلاثة ركنًا على الرمال وسط الصندل.

تحرَّكنا أخيرًا ودار الصندل تاركًا السد من خلفه، وشرع يقترب من الضفة الشرقية للنهر، فتبدَّت لنا بضعة بيوت متناثرة فوق مرتفع صخري بعيد عن الشاطئ. كانت أشبه بخطٍّ من الجدران البيضاء تتخلَّله فتحات سوداء، وعندما أصبحنا في محاذاتها تكشَّفت الفتحات عن أقبية مجوَّفة تعلو أسطح البيوت، ولم يكن هناك أثر لشيء حي.

عاد الصندل يبتعد عن الضفة الشرقية متجهًا إلى وسط المجرى، وأحاطت بنا عشرات من الجزر الصغيرة، وتكلَّم أحمد فجأةً قائلًا إنها بقايا البيوت التي غمرتها المياه.

سألت فهمي عن الأقبية التي تعلو الأسطح، فقال إنها مجرَّد فراغات للتهوية. خلَّفنا القرية الغريقة وراءنا واقتربنا من الشاطئ الشرقي مرةً أخرى. سرنا في محاذاة صفَّين من المرتفعات الصخرية تُغلِّفها قشرة ناعمة من الرمال والأتربة. لم يكن هناك أثر لتلك الصخور الشرسة البارزة التي تسود منطقة السد حيث أُزيلت قشرة الجبل.

أشرفنا بعد قليل على قرية ثانية تتألَّف من مجموعات من البيوت تعلو بعضها تلك الأقبية المجوَّفة، كان بعضها الآخر يبدو أقرب إلى رسوم الأطفال.

كانت البيوت متناثرةً فوق حافَّة الماء مباشرة، ولصقها من الخلف كان يمتد الشاطئ الجبلي.

***

ارتفع بمياهك إلى حد البيوت

واضرب بها العتبات في رفق

ولتتعانق أنت وهي معًا

ولتناجها، وتهمس في أذنها وحدك؛

فقد تركناها لك،

بلدنا يا نيل

ورحلنا نحن.

***

تساءل ذهني: أمال السوق كان فين؟

قال فهمي: سوق؟ ما كانش عندنا. البضايع كانت بتلف بيها مراكب.

قلت: ليه هو ما كانش فيه سكة عربيات؟

قال فهمي: الناس اللي كانت عايشة هنا عمرها ما شافت عربية.

قلت: طب وكانوا عايشين إزاي؟ فين الزراعة؟

قال: كان فيه، إنما البحر هنا ضَيِّق خالص. ولمَّا علُّوا الخزان أول مرة غرقت الزراعة والسواقي. ما فضلش إلا حاجة بسيطة.

مرَّ بنا مركب صيد عائد إلى أسوان، واستدرت أُتابعه ببصري فرأيته يختفي خلف حَنية في النهر، ووراء هذه الحَنية كانت الضفتان تلتقيان في خط واحد من الجبال المتجهِّمة.

أبطأ الصندل سرعته ومضى يدور في بطء حول كتلةٍ ضخمة من الصخور برزت وسط المجرى، وبدت لي الصخور في صورة جماعة من المماليك الذين لجئوا إلى النوبة فرارًا من مذابح محمد علي وقد تجمَّعوا لبحث أمر خطير، وأحنَوا رءوسهم التي تغطِّيها غمائم ضخمة.

انحنى بنا النهر ليضعنا تحت أقدام قرية تتألَّف من بيوت عائمة تُحيط بها المياه من كل جانب. كانت البيوت كلها تحمل طلاءً أصفر اللون فيما عدا منزلًا واحدًا كبيرًا ذا سور حجري بدا أشبه بالقصر، طُلي بلونٍ أبيض، تعترضه مثلثات داكنة فوق النوافذ.

سقطت أشعة الشمس فوقنا عمودية، ولم تكن ثمة وسيلة لتفاديها. المكان الوحيد الذي كان يمكن أن يقينا منها هو الكهف الذي قبع فيه الميكانيكي ومساعده، أو المظلة التي أقامها عم سرور من قطع الخيش فوق مقدِّمة الصندل، ولم يكن جرجس يعبأ بالشمس التي عجزت عن اختراق عمامته الثقيلة، وكان النوبيان أيضًا بمأمن منها، أمَّا قبعتي المصنوعة من القش فقد فشلَت في حمايتي من الأشعة النارية، ولم يبدُ على ذهني أنه يبالي بالشمس رغم أنه كان عاري الرأس حليقها.

تحوَّل السطح المعدِني الذي تكوَّمنا فوقه بمرور الوقت إلى لوح ملتهب أصبح من العسير الجلوس فوقه أو السير عليه بغير حذاء.

في الواحدة والنصف أصبحنا أمام «بيت الوالي». كانت البلدة الصغيرة تمتدُّ على حافَّة الماء وقد تناثرت وسطه قمم أشجار النخيل، وحفر الماء لنفسه طريقًا داخل البلدة، وحول المعبد الذي استقرَّ بعد نقله على مسافة آمنًا من زحف النهر.

لم يكن بوسعي أن أتبيَّن شيئًا من أول معبد أمَر رمسيس الثاني بنحته في الصخر، وسجَّل على جدرانه تفاصيل حمْلته على النوبة.

***

«فلم يكد الأمر يستقرُّ للملك في الداخل حتى سار جنوبًا فأعاد الأمن إلى ربوعه، وكان عهد خلفه معروفًا بالهدوء والسلام إذ عُنِي بتشييد المباني والمعابد، إلا أنه من الثابت الآن أنه أرسل أيضًا إحدى الحملات إلى النوبة، ولو أن هذا لا يُغيِّر من حقيقة اهتمامه بالبناء وجَلْب المحاصيل منها. ودعت ظروف المحافظة على السلام من جاء بعده إلى إرسال حملة بحرية إلى النوبة عادت بسبعة آلاف أسير ومائة ألف رأس من الماشية. وعملت مصر وقتها على استرضاء القبائل النوبية والتعامل معها تجاريًّا واقتصاديًّا، إلى جانب روابط المصاهرة، فضلًا عن استخدام القوات النوبية في الجيش المصري. واضطرَّت الظروف ملوك الأسرة التالية إلى إعادة غزو النوبة وفتح مناجم الذهب. وأمر الملك بتسجيل حملته على جدران المعابد، فنقش الفنَّانون موكبه سائرًا فوق جُثث النوبيين وقد عُلِّق زعماؤهم في مقدِّمته.»

***

دوَّى صوت انفجار قريب وانقطع ضجيج المحرِّك، وفوجئنا بالمياه تصعد إلينا فوق سطح القمرة.

قفز جرجس واقفًا وهو يقول: ماسورة التبريد طقَّت.

راقبت المياه التي انتشرت فوق الصاج وهي تجف سريعًا بتأثير سخونته، ثم تبعتُ الآخرين إلى قاع الصندل الذي توقَّف عن السير.

كان البحاروة الثلاثة قد بسطوا صحيفةً فوق الرمال ووضعوا فوقها طعامهم، ولمحت حبَّات البصل التي انداحت جوانبها كاشفةً عن قلوبها، وأتتني رائحته المثيرة.

وجَّه أحدُهم التحيةَ إلى فهمي ودعانا إلى مشاركتهم، فشكرناهم، وسألت فهمي عنه فقال إنهم خفراء في «أبي سنبل».

ارتفع صوت المحرِّك من جديد، واستأنف الصندل سيره فعدنا إلى أماكننا، وتولَّى جرجس إعداد المائدة التي أضاف إليها كلٌّ منَّا شيئًا عدا ذهني.

قال جرجس ونحن نأكل إنه يخشى أن يطالبه المصري بنقود.

سألته: أي مصري؟

قال: الميكانيكي. المصريين دايمًا كده.

أشرت إلى حيث كان الثلاثة بمعزل عن ناظرنا وسألته: ودول كمان؟

قال: أبدًا. دول فلاحين. الميكانيكي ابن البلد ولابس أفرنجي.

أزلت بضع فُتات من الجبن سقطت على قميصي، وأخرج جرجس من سلَّته برَّادًا صغيرًا قديمًا وضعه أمامي في زهو، وأتبعه بصندوق صغير للشاي ومنديل احتوى على قليل من السكَّر وملعقة وكوب من الزجاج. حمل الشاي والسكر في يد والبرَّاد في اليد الأخرى، وهبط إلى سطح الصندل قائلًا إنه سيُعد الشاي عند الميكانيكي.

كان المجرى دائم الانحناء، وشعرت أننا نتجه يسرة، وظهرَت يمنةً قرية صُنعت منازلها من الصلصال، ورُسمت على جدرانها نقوش بيضاء تمثِّل ورق اللعب.

عاد جرجس حاملًا برَّاد الشاي وكوبَين آخرَين من الزجاج قال إنه أخذهما من الميكانيكي، وإنه دعاه ليشاركنا شرب الشاي.

أقبل الميكانيكي فأفسحنا له مكانًا بيننا، واقتعد الأرض متربِّعًا وبدا رجلًا هادئ الطبع خجولًا بعض الشي في الحلقة الرابعة.

صبَّ جرجس الشاي، وتطوَّع ذهني بأن يحمل كوبَين إلى كلٍّ من الريس ومساعده. سألت الميكانيكي عمَّا إذا كان من القاهرة، فقال إنه من قرية خارجها، وقال إنه يعمل في هذه المنطقة منذ بدأَت عمليات إنقاذ الآثار، وشارك في نقل أغلب المعابد.

استفسرت منه عن العمل في تقطيع المعبدَين، فقال إن الواجهة ما زالت كما هي، وإنهم ربما بدءوا في تقطيعها في الشهر القادم.

مررنا ببضعة بيوت على الضفة الشرقية انهارت واجهاتها الأمامية وظهرت الغرف الداخلية الفارغة كأنها عائمة فوق سطح الماء. قال فهمي إنها قرية «كلابشة»، فاعترض الميكانيكي قائلًا إننا تركنا «كلابشة» خلفنا منذ نصف ساعة، أمَّا هذه فهي «دندور»، وأضاف: كان هنا معبد ع الشط الغربي، وكان بتوع الآثار مهتمين به لأنه كان فيه آثار كنيسة وجامع.

أشرفنا على قرية جديدة عندما صبَّ جرجس الدور الثاني. كانت واجهات منازلها خاليةً من أية نقوش أو زخارف، وقال الميكانيكي مُشيرًا بيده إلى نقطةٍ على الضفة الغربية وسط أطلال المنازل: دي «جرف حسين». بصوا بعيد هناك. أهو ده اللي فضل من المعبد.

لم أستطِع أن أتبيَّن البقايا التي أشار إليها، وقال إن معبد «جرف حسين» هو الوحيد الذي لم يتمكَّن الخبراء من نقله أو رفعه لأنه منحوت في الصخر الحي ومتآكل، لكنه نقل في صندله أجزاءً كثيرةً منه؛ منها ستة تماثيل لرمسيس الثاني.

راقبنا البيوت العائمة تتناقص حتى تلاشت، وشعرت فجأةً أن طنين المحرِّك الرتيب لا يُحتمل، فسألت الميكانيكي عمَّا إذا كنَّا سنواصل السفر بالليل.

قال: لا طبعًا. السفر بالليل خطر.

قلت: وحنقف فين؟

قال: الريس هو اللِّي يعرف. يمكن في وادي السبوع.

عدت أسأل: وإمتى نوصل وادي السبوع؟

نهض واقفًا وهو يقول: أحسن تسأل الريس سرور. يعطيكم العافية يا رجالة.

تبعت الميكانيكي إلى قاع الصندل بعد أن تصلَّبت ركبتاي من طول ثنيهما أثناء الجلوس. اقتربت من حيث جلس البحاروة الثلاثة على الرمال بمنأًى عن ضجة المحرِّك، وكنت عازفًا عن الحديث، فدرت بأكوام الرمال والزلط حتى أصبحت في الناحية الأخرى، وتهالكت خلفهم على الرمال.

تناولت قطعتَي زلط في يدي. كانت مكوِّنات كل قطعة واضحةً للرؤية على سطحها الأملس الذي تتدرَّج ألوانه وتتنوَّع بين الرملي والرمادي والأسود والأحمر، وما لبثت سخونة الرمال تحتي أن أجبرتني على النهوض، فوقفت في إعياء شاعرًا بأعين البحاروة الثلاثة على ظهري.

لمحت ذهني يُشير إليَّ فاتجهت نحوه. أمسك بساعدي عندما أصبحت بجواره وتلفَّت حوله هامسًا: الرَّيس سرور عاوز منَّا فلوس.

قلت: بتاعت إيه؟

قال: أجرة أو إتاوة. لمَّا ودِّيتله الشاي سألني عنك، وقال إنه خد مرة جنيه من واحد أفندي زيك.

– وقلتله إيه؟

ضحك وقال إنك في مهمة سرِّية، وأنا المساعد بتاعك، وعطيته صورة خطيرة عنك، فسكت على طول.

كانت الساعة قد بلغت السادسة، وبدأت أشعة الشمس تفقد جزءًا كبيرًا من قوتها، واتسع مجرى النهر فجأةً ولم يعد بإمكاني أن أرى تفاصيل الشاطئَين بوضوح، وما لبث المجرى أن ضاق وظهر أمامنا خطٌّ من الصخور الشرسة أعقبتها قرية طويلة امتلأت بالنخيل.

في السادسة والنصف عاد المجرى يتسع اتساعًا هائلًا، وأصبحنا نسير في شبه بحيرة. راقبت الشمس وهي تختفي خلف سحابةٍ داكنة صانعةً زجزاجًا ذهبيًّا في طرفها الأول، وضوءًا مكتومًا في الطرف الآخر، ثم تبدَّت لحظةً من خلال فجوةٍ وسط السحابة، ثم اختفت من جديد في ثناياها.

بدا الشاطئ الغربي مؤلَّفًا من مرتفعات صخرية صغيرة متناثرة كالكثبان أو الأثداء المتكرِّرة، أمَّا الشرقي فلم يبدُ منه لفترة طويلة غير مرتفع واحد، ثم ظهر كثيب عالٍ تلته أرض فضاء جاءت بعدها سلسلة من الهضاب الشبيهة بالشاطئ الغربي.

أوشكت الشمس على الظهور من طرف السحابة الأسفل، وما لبثت أن تجلَّت قوسًا متوهِّجًا كالبدر، وأخذت السحابة تتحلَّل أمام وهَجها حتى تلاشت، وتبدَّى قرص الشمس كاملًا.

كان القرص في البداية أصفر اللون، ثم ما لبث أن اكتسب لونًا برتقاليًّا وهو يهبط مقتربًا من الهضاب الصخرية حتى الْتقى بها، واستقرَّ القرص فوق قِمم الهضاب لحظةً كأنما سيتدحرج فوق خطِّها الممتد يسرة، لكنه واصل الهبوط بسرعة، واختفى نصفه خلف تلٍّ من الصخور، ثم حجبه تمامًا عن ناظرَينا، لكن وجوده كان ملموسًا فقد أحاط بهالةٍ من ضوئه.

تجاوزنا التلَّ الذي أعقبته فسحة من الأرض فتجلَّى قرص الشمس من جديد، ولكنه جعل يهبط في بطء خلف الأفق حتى لم تَعُد تبدو منه سوى حافته، ثم اختفى كلية.

أصبحنا نسير في بحيرة هائلة الاتساع، ومرَّ بنا عم مهدي ذاهبًا إلى المرحاض. سألته عن الساعة التي سيقف فيها الصندل بالليل، فأجاب وهو يلوك شيئًا ما في فمه: علم الله.

بصق في النهر سائلًا أسود، ثم رفع طرف جلبابه واختفى في المرحاض، وخرج بعد لحظات فدار حول القُمرة وجلس القرفصاء على حافة الصندل وشرع يتوضَّأ.

استعدَّ النوبيان للاقتداء به، بينما بقي جرجس ممدِّدًا على سطح القُمرة العاري مُغطيًا عينَيه بمرفقه.

قفزت إلى قاع الصندل ومضيت فاستلقيت فوق الرمال. كانت حرارة النهار قد أوشكت أن تتلاشى، وبعث فيَّ ملمس الرمال الدافئ شعورًا حسيًّا، وجاءتني أصوات البحَّارة الثلاثة من خلفي في حديث متقطِّع عن الزراعة، وفوقي امتدَّت صفحة السماء دانيةً شديدة الصفاء، وبدت ضجة المحرِّك نائية.

في السابعة والنصف تمامًا بزغت النجمة الوحيدة. خُيِّل إليَّ أنها كانت تتجه إلى الغرب، ثم توقَّفت، وفكَّرت بأن أقوم لأسأل أحدًا عنها؛ فلا بد أن الريس يعرفها، ولعلَّها تكون نجمة الشِّعرى اليمانية التي كانت تظهر لقدماء المصريين مع حلول الفيضان، أو الدب القطبي الشهير الذي يسترشد به البحَّارة والتائهون، لكني لم أجد حماسةً للقيام، وأحسست أن أية إجابة أحصل عليها لن تُغيِّر من الأمر شيئًا.

انفردت النجمة بالسماء طوال نصف ساعة إلى جانب القُمر الذي بزغ نصفًا، وفي الثامنة ظهرت مجموعة جديدة من النجوم الصغيرة المتناثرة، لكنها ظلَّت محتفظةً بمسافة واضحة لا تتغيَّر بينها وبين النجمة الكبيرة، واستمرَّ وضع هذه ثابتًا نصف ساعة أخرى، ثم اختفت.

تناولت قطعتَين متقاربتَي الحجم من الزلط. تحسَّست سطحهما الزجاجي الملمس وحوافهما المستديرة الناعمة، ثم ضربتهما الواحدة بالأخرى متوقِّعًا أن ينبثق منهما الشرر، لكن شيئًا من هذا لم يحدث.

***

حبات الزلط التي استقرَّت أمام المنزل تلتمع في ضوء القمر، وتلاشت الضجة التي كان يصنعها عُمَّال البناء في المنزل المجاور طول النهار، وأصبح مبنى مدرسة اليهود المقابل كتلةً من الظلام الصامت، والشارع يمتد صعودًا إلى مجاهلَ ينطلق إليها في الصباح المبكِّر عُمَّال مُسرعون ما زال أثر النوم في عيونهم، يحملون طعامهم في مناديل معقودة تحت آباطهم، يهبطون منها في المساء متثاقلي الخطى منهكين، يتبعهم جنود الإنجليز نشطين مشمِّري الأكمام يسيرون في مجموعات كدأبهم، وتوارى عن الأنظار الكنَّاس الوحيد الذي كان هنا بالنهار، وكان قشُّ مكنسته لا يفتأ ينفصل عن يدها الخشبية فيقتعد الرصيفَ وينهمك في تثبيته بلفائف من الخِرَق، وقد تدلَّى ذيل طاقيته الصفراء على ظهره، والأرض لم تعد تُرسل لهيبًا، لكنها ما تزال دافئة، وما زال يمكن تبيُّن خطوط الطباشير التي صنعت مستطيلات متعاقبةً تنتهي بنصف دائرة. الشاطر هو الذي كان ينقُل بقدمه قطعة الطوب من مستطيل إلى آخر دون أن يمس خطوط الطباشير، وأغلب الأولاد انصرفوا ولم يبقَ إلا اثنَين أو ثلاثة من أخلص الخلصاء استلقَوا فوق الزلط والرمل، أو لعلهم بلا أهل، والأرجح أن قيظ اليوم قد ألان قلوب آبائهم الحجرية فسمحوا بالبقاء إلى هذا الوقت في الشارع، ومن النافذة المظلمة المفتوحة التي لا تعلو عن الأرض إلا بضع أقدام تأتي همهمة بعيدة هادئة هي أصوات الأسرة في الصالة المضاءة التي يلتمع بلاطها النظيف ويفصلها باب عن دورة المياه ما زال زجاجه سليمًا؛ فالشرخ حدث بعد ذلك، ولأن النظام كان ما يزال يسود البيت فلا بد وأن ينطلق في أية لحظة الصوت الصارم من النافذة آمرًا بالعودة، ولن تُفلح معه أية توسُّلات، ولن يكون هناك مفر من الاستجابة والمضي إلى الداخل في تثاقل للاغتسال ثم الالتجاء إلى طيَّات الفراش الذي يستقر بين النافذة وباب الغرفة، مرتِّبًا منسِّقًا يعلوه غطاء من الدانتيلا المتشابكة، أثار الالتفاف به عاريًا ذات مرة دغدغةً غامضة، وكل ما يمكن عمله الآن هو التوسُّل إلى الله في فسحةٍ من الوقت حتى يمكن حكُّ قِطع الزلط الواحدة بالأخرى؛ فربما تولَّد عنها مرةً ثانيةً ذلك الشرر الملوَّن الرائع.

***

جاءني صوت ذهني يدعوني لتناول العشاء، فمضيت إليهم وألفيتهم قد تحلَّقوا في الظلام حول إناء من الألومنيوم. أفسح لي ذهني مكانًا بجواره، ودسَّ جرجس في يدي قطعةً من خبزه المتحجِّر.

خلع ذهني مصباحه من خصره وأضاءه مسلِّطًا شعاعه على الإناء. غمسنا أصابعنا فيه واحدًا بعد الآخر، ثم شربنا الشاي وهبطنا إلى قاع الصندل فاغتسلنا وتبوَّلنا، وعندما عدت إلى سطح القُمرة ألفيت جرجس قد بسط بطانيته، فاستلقينا عليها ثلاثتنا بينما انتحى النوبيان جانبًا.

أخذ ذهني يردِّد مقاطع غير كاملة من أغاني عبد الحليم حافظ، واعتمد جرجس على مرفقه يُدخِّن مُجاريًا ذهني في الغناء بين الحين والآخر دون حماسة.

انتهزت لحظةً صمت فيها ذهني فطلبت من جرجس أن يحكي لنا عن قريته.

قال: لا. أحكيلكم حكاية.

قلت: يبقى أحسن.

انطلق جرجس يحكي إحدى حكايات الشاطر حسن، وأخذت أتنقَّل بعينَي بين آلاف النقاط البيضاء اللامعة المتناثرة على صفحة السماء، وأتاني طنين المحرِّك رتيبًا مملًّا.

حاولت أن أتذكَّر ممن سمعت حكاية الشاطر حسن لأول مرة، لكني عجزت وقرَّرت في النهاية أنها ربما كانت أمي. كان جرجس يصف الآن كيف وقف الشاطر حسن حائرًا أمام الطرق الثلاثة، وكيف أعانته طِيبة قلبه وقوة إيمانه على اختيار سكة السلامة، وكيف انتصر بعد ذلك على مكائد الغولة وزوجة أبيه.

هبَّت نسمة هواء خفيفة فأغلقتُ عينَي مستسلمًا لها، وبدأ النعاس يداعب جفوني وجرجس يصف كيف فاز الشاطر حسن ببنت السلطان، ولعلي غفوت لحظةً تنبَّهت بعدها على صوت جرجس يأتي نائيًا عبر طنين المحرِّك. أدركت أن الشاطر حسن أصبح هو السلطان، والناس تقيم الأفراح أربعين ليلةً وليلة، والأنوار تضيء مآذن المساجد، ومشى السلطان الجديد بين الناس يعاهدهم على أن يحكم بالعدل ويستشير رؤساءهم في كل أمر، لكن الرؤساء قالوا إن ما تجلَّى من حكمته وأمانته وإيمانه يجعله في غير حاجة إلى مشورتهم.

غفوت طويلًا فيما يبدو، ولا أعرف إذا كنت تنبَّهت قليلًا بعد ذلك أو أني كنت أحلم، لكن شيئًا مرعبًا كان يحدث في قصة الشاطر حسن؛ فقد نُصبت المشانق وسالت الدماء ولم يعد أحد يأمن على نفسه.

أردت أن أعرف كيف بدأ هذا كله، وأدركت أني لو بذلت مجهودًا لفعلت؛ فقد ذكر جرجس كل شيء في حكايته، لكني كنت عاجزًا عن التذكُّر، وبدلًا من ذلك رأيتني أقف مع سعيد الذي كان يحمل حقيبتي. كنت أعرف أنه يريد أن يفتِّشها من وراء ظهري، وجعلت أبحث عن قبعتي في منزل يجري نقل الأثاث إليه. فهمت أن صديقًا لي يتزوَّج، وتوافد بقية الأصدقاء وأنا ما زلت أبحث عن قبعتي، ورأيتني أقف في بهوٍ أمام باب يصدر من خلفه طنين مزعج. كانت بجواري مائدة صُفَّت عليها عدة قبعات متشابهة، واحترت في أيها تخصني.

أفقت على يدٍ تهزُّني بإلحاح، وسمعت فهمي يقول إننا وصلنا «أبريم».

وقفت على قدمَي بصعوبة شاعرًا بنفسي كالثمل. كان المحرِّك ما زال يطن، ورأيت الصندل يشق طريقه بين سفن شراعية كبيرة وصنادل أخرى، ثم كفَّ المحرِّك عن الطنين، وظلَّ الصندل يتقدَّم في بطء من الشاطئ الذي تجمَّع عنده عدة رجال يحملون مصابيح من الزيت، وتناثرت خلفهم عدة خيام.

رسا الصندل أخيرًا إلى الشاطئ، وعلت أصوات التحيات المتبادلة. سمعت أحد الواقفين على الشاطئ يسأل عن أحمد وعمَّا إذا كان قد أحضر الأمانة معه. تلفَّتُّ أبحث عنه فوجدته ما زال ممدِّدًا في مكانه يتطلَّع إلى السماء بعينَين مفتوحتَين.

طلب مني ذهني سيجارةً فأعطيته واحدةً وأشعلت لنفسي أخرى، وسمعت جرجس يقول فجأة: دي وادي السبوع مش «أبريم».

قال فهمي الذي كان متربِّعًا بجواري يتفرَّج على الشاطئ: أبدًا دي «أبريم» زي ما قلت.

لكن صوته كان خاليًا من رنة الاقتناع.

قال جرجس بثقة: اسمع كلامي دي وادي السبوع. أنا اشتغلت هنا لمَّا كانوا بينقلوا المعبد وعارف الشط ده حتة حتة. «أبريم» مفيهاش معابد، والمعبد اللِّي كان هنا كان لازق في الجبل وجدامه صفين سبوعة.

لزم فهمي الصمت فقلت له مهوِّنًا: إن القرى النوبية متشابهة وكذلك المعابد.

قال جرجس: المعبد يظهر كان في يوم من الأيام كنيسة؛ لأن الصليب كان في كل حتة، وكان في رسم للأديس بطرس.

هبطت إلى قاع الصندل لأتبوَّل، وسمعت الميكانيكي يقول إنه سيعود بعد عشرة أيام.

أشعلت سيجارةً عندما صعدت إلى سطح القُمرة، وجلست أدخِّن بين ذهني وجرجس.

قلت: باين علينا حنبيت هنا.

تطلَّع إليَّ جرجس في دهشة وقال: طبعًا.

ألقيت بعقب السيجارة إلى الماء، واستلقيت على البطانية، وسرعان ما رحت في النوم. استيقظت في السادسة صباحًا على صوت المحرِّك، وشعرت بالصندل يستأنف سيره قبل أن أغفو من جديد.

استيقظت مرةً أخرى بعد ساعة، وهبطت إلى المرحاض، لكن رائحة المكان وضيقه أصابتني بإمساك، فغسلت أسناني، وتلفَّتُّ حولي بحثًا عن مكان أضع فيه نظارتي لأغسل وجهي، وسمعت صوت جرجس يقول: إديهالي.

أعطيته النظَّارة وغسلت وجهي، وعندما تحوَّلت إليه كان منهمكًا في تنظيفها بمنديل، ثم قدَّمها إليَّ فشكرته.

سألني إذا كنت أريد أن أشرب شايًا، فقلت: طبعًا، ودي عاوزه كلام؟

قال: يبقى أجيب وابور م الميكانيكي.

ذهبنا معًا إلى قُمرة المحرِّك، ووجدنا صبيَّ الميكانيكي منهمكًا في تنظيفها. سألته عن الميكانيكي فقال إنه يشرب الشاي عند الريس سرور. أخذت منه الموقد فأصرَّ جرجس أن يحمله عني، وجعلنا نبحث عن مكان في منجًى عن تيارات الهواء، ولم نجد أفضل من الرمال، فمهَّدنا له مكانًا وسطها بحيث أحاطت به من ثلاث جهات. وتولَّى جرجس إشعاله، بينما أحضرت البراد والشاي والسكر.

سألني جرجس وهو يضع البراد على النار عمَّا إذا كنت أعرف ذهني منذ وقت طويل. قلت إنِّي تعرَّفت به على الصندل.

قال: أنا مش مستريحله.

قلت: قصدك إيه؟

قال: باين عليه من رجال المباحث السرية.

قلت: يا شيخ!

قال: طب مسافر كده ليه؟ وفين عفشه؟

قلت: أصحابه ضحكوا عليه.

سكت، ثم قال بعد لحظة: إنت لازم يكون معاك شخص أمين تعتمد عليه.

لم أفهم ما يعنيه فلم أعلِّق. انتهى الشاي فحمل جرجس البرَّاد إلى مجلسنا، بينما حملت أنا الموقد إلى قُمرة الميكانيكي، وعندما عُدت كان مجرى النهر ينحني إلى اليمين انحناءةً حادة، وظهرت على الشاطئ الغربي بقايا قرية «كورسكو» التي اكتُشفت بها لوحات صخرية من نقش إنسان العصر الحجري.

كانت منازل القرية بيضاء متلاصقةً تعلو كلًّا منها فُوهةٌ سوداء مستطيلة الشكل. ظلَّت الفُوَّهات السوداء تحدِّق إلينا في صمت حتى تجاوزنا القرية، وواصل المجرى اتجاهه يمينًا.

***

أثاث غرفة الضيوف اختفى، ولم يعد بالمنزل كله غير فراش واحد ونملية خشبية وُضعت في الصالة تمرح الصراصير في جنباتها، ومن قبلُ كان هنا بوفيه خشبي تُصف فوق رخامته في الصيف أطباق البالوظة تعلوها قطع الثلج لنأكلها عندما تغيب الشمس، ونجلس إلى جوار النافذة نُطل على مدرسة اليهود الساكنة، وحديقة مدرسة الراهبات التي تتوسَّطها ساحةٌ دائرية للباتيناج، وفي طرف الشارع يرش بائع الورد المياه فترقد الأتربة على الأرض، وتأتي نسمات الهواء رطبةً منعشة، وإذا مرَّ بائع التين الشوكي ناديناه، وكلُّ هذا مضى إلى غير رجعة؛ فلم يعد في المنزل غير العجوز الذي وقف بملابسه الداخلية منفرج الساقَين، وانحنى مادًّا يده ليُحكم رباط حزام الفتاق، وتقلَّص وجهه من ألم الحزام الذي يدور بوسطه وبين فخذَيه ضاغطًا على خصيتَيه.

***

وصلنا «عمدة» بعد ساعة، وبدا معبدها بعد نقله إلى أعلى وسط الجبال كوابور طحين صغير. لم يكن هناك أثر لمنزل واحد على هذه الناحية، ويبدو أن القرية كلها كانت تقع على الضفة الغربية. كانت أسطح بعض منازلها على شكل القارب، ورأيت منزلًا اتخذ بابه شكل السهم المصوب إلى السماء.

عُدت أتأمَّل المعبد الذي كنَّا نبتعد عنه في سرعة، وسرعان ما تلاشى خلف كتلة ضخمة من الصخور. كان للكتلة شكل غريب أقرب إلى طفل عارٍ من أطفال «ميكل أنجلو» الممتلئين، جلس فوق الجبال كاشفًا عن أجزائه الحميمة، وتمثَّلت طفلًا كبيرًا يلعب ويبني بيوتًا، ثم يزيحها بيده فتتهاوى.

اتجهت إلى مقدمة الصندل، ومررت بالبحَّارة الثلاثة الذين رقدوا على الرمال بملابسهم الكاملة. كان أحدهم نصف مضطجع وقد شبَّك يدَيه خلف رأسه، بينما تطلَّع الاثنان الآخران إلى الأفق في صمت.

حيَّيتهم، ثم مضيت إلى حيث احتمى الريس سرور من الشمس تحت قطعة من الخيش نُصبت فوق عصًى خشبية، ورحَّب بي العجوز طالبًا مني أن أجلس.

جلست على شبه وسادة صُنعت من أكياس الخيش وأنا أسأله عن الأحوال.

رفع يده إلى فمه وقبَّلها ظهرًا لبَطْن قائلًا: نحمده. البحر وسع بعد السد ببركة ريسنا جمال. الريس ده والله نبي!

سألته عن موعد وصولنا إلى «أبي سنبل» فأجاب: علم الله. إحنا في البحر ملك إيديه. فيه ملايكة شايلين البحر على سلاسل وفي إيديهم كل حاجة.

قدَّمت إليه سيجارة، فقال إن المسافة من «عمدة» إلى «أبي سنبل» لا تزيد عن عشر ساعات. سألته عن موعد العودة، فابتسم في براءةٍ وقال: لمَّا نخلص تفريغ.

وذكرت له ما سمعته أمس عن لسان الميكانيكي، فأبدى دهشته، وسألني بعد قليل: ألا قولي، هو الأخ اللِّي معاك اسمه إيه؟

قلت: ذهني.

سأل: هو قبطي؟

كدت أقول إني لا أعرف، ثم تذكَّرت أن ذهني قال له إننا نعمل معًا، فأجبت بالنفي.

انضمَّ إلينا جرجس حاملًا كوبَين من الشاي لي وللريس سرور، وجلسنا ثلاثتنا نرتشف الشاي وندخِّن ونتأمَّل صخور الشاطئَين في انتظار ظهور بقايا القرى.

كانت القرية التالية هي «الدر»، وظهر لنا منها في البداية مجموعة من البيوت ناصعة البياض، ثم مسجد لُوِّنت جدرانه، وانتصبت إلى جواره مئذنة بيضاء كبرج حمام، ثم رأينا بقايا معبد رمسيس الثاني التي تناثرت على الشاطئ بعد تقطيعه، وإلى الداخل قليلًا استقرَّت رافعةٌ هوائية في حضن الجبل، وظهرت كلابتها الحديدية عاليةً في الهواء تتدلَّى منها قطعةٌ مربعة من الصخور حُزمت بالحبال. كانت الكلابة تقترب من مكان مرتفع على سطح الجبل توجِّهها صيحات نفر قليل من الرجال تجمَّعوا على الشاطئ.

***

«لا يُعرف على وجه التحديد متى سيطرت على ذهن رمسيس الثاني فكرة الألوهية، وربما كان ذلك في العام الرابع والثلاثين من حكمه عندما أوشك معبد «أبي سنبل» الكبيرة على التمام، واتبع رمسيس في التبشير بعبادته أسلوب تصويره بين الآلهة، أولًا كواحد منها، ثم عمد إلى انتحال أشخاص بعضها، ومن مناظره الطريفة كذلك أن يُصوَّر بناسوته في حضرة شخصه الآلي يتعبَّد إليه أو يتلقَّى منه البركات.»

«ومهما يكن من شيء فإن معبد «الدر» كان قمة ما وصلَت إليه عبادته من التطوُّر والاكتمال؛ فقد عُبد في هذا المعبد على صورة «رع» نفسه كأنما اتحد معه فأصبحا إلهًا واحدًا، أو أنه يمثِّله على الأرض، وهو المعبد الذي انفرد بين معابد النوبة بأن اقتصرت القاعة الثانية فيه على منظرَين متقابلَين للزورق المقدس وللملك الإله دون أن يظهر زورق الإله «رع» ذاته؛ أي إن زورق رمسيس قد تكرَّر حيث كان ينبغي أن يُصوَّر زورق الإله.»

«ومن أبرز الصور وأهمها في هذا المعبد تعبيرًا عن ألوهية رمسيس واتحاده في شخص «رع»، صورةٌ تعبِّر عن اسمه (أوسر ماعت رع) مَثَل فيها الملك من وراء زورق الإله قائمًا فوق رأسه قرص الشمس «رع»، وفي يمناه صولجان يعبِّر عن لفظ «أوسر»، وفي يسراه ريشة تعبِّر عن لفظ «ماعت». وكان اسم الملك هذا يُكتب كثيرًا بهذا الشكل حيث يصوِّر الصولجان والريشة في يدَي «رع» في هيئة إنسان له رأس الصقر المتوَّج بقرص الشمس، وبذلك حلَّ شخص رمسيس محل «رع» الذي يكوِّن الجزء الثالث من اسم الملك.»

«وفضلًا عن ذلك ورد في نصوص المعبد أن الإله «رع حراختي» إنما يُعبد ضيفًا فيه، بمعنى أن المعبد إنما قُصد به عبادة شخص رمسيس مع تسميته باسم بيت «رع».»

«كذلك صور رمسيس وهو في الطريق إلى أبيه «رع».»

وبذلك فقدْ كان «رع» هو الأب ورمسيس هو الابن وهما إله واحد.»

***

كان مجرى النهر يتسع ويضيق بصفة مستمرة، وكانت انحناءاته المتكرِّرة توحي إلينا دائمًا بأننا نجتاز بحيرةً مغلقة، فإذا ما تطلَّعنا إلى الأمام أو الخلف بدت الجبال الممتدَّة على الشاطئَين كأنما تلتقي في خط واحد.

قال لي جرجس فجأةً ونحن نتمشَّى على ظهر الصندل: إيه رأيك تأخذني معاك مصر؟

قلت: تعال!

قال: كلام جد؟

قلت: جد. إنما حتسيب شغلك إزاي في «أبو سنبل»؟

هزَّ كتفَيه في غير مبالاة: أنا باشتغل غفير بتلاتاشر جنيه. دول يكفوا بإيه. أنا عندي أربع عيال.

قلت: وفاكر الحال في مصر حيكون أحسن؟

قال: على الأقل أكون معاك، أمشي معاك مطرح متروح.

أردت أن أضحك ولكني لم أفعل. تذكَّرت ما كنت أتجاهله دائمًا وهو أن أول شيء سيتعيَّن عليَّ عمله عند عودتي إلى القاهرة هو البحث عن عمل، لكن كيف أقول ذلك لجرجس؟

قلت: بس لازم تعرف إني لي طريقة يمكن ما تريحش. يعني زي ما تقول كدا رزقي من يوم ليوم، مبشتغلش ثابت في أي حتة. أزهق بسرعة.

قال بحماسة: أنا كمان أُحب يكون رزقي من يوم ليوم.

قلت: إنت عندك أولاد مسئول عنهم وأنا مش مسئول عن حد.

قال: يا سيدي لهم ربهم. إنت محتاج لحد أمين زي ما قلتلك الصبح يشوف راحتك. يوضبلك حاجتك. يكون يعني مساعد لك.

قلت: طب وعاوز تيجي معايا إمتى؟

قال على الفور: أنزل معاك وانت مروَّح مصر.

قلت: لا أنا أقولك. إديني مهلة أتدبَّر فيها. أنزل أنا الأول أشوف الجو وبعدين أبعتلك.

تطلَّع إليَّ في استياءٍ طفلٌ صغير.

مضيت قائلًا: عشان تيجي على رواقة. أكون شفتلك شغلانة كده ولا كده تشيلك شوية في الأول لغاية منشوف نعمل إيه بعد كده.

تفحَّصني بعينَيه كأنما يسبر غوري، ثم لانت ملامح وجهه وأخرج مفكرةً صغيرةً باليةً من جيبه وفتح إحدى صفحاتها مقدِّمًا إياها لي: اكتب لي اسمك وعنوانك.

استندت إلى حافَّة الصندل وكتبت له اسمي وعنوان أحد أصدقائي.

قال: أنا اسمي جرجس مدبولي، والعنوان «أبو سنبل» وبس.

قلت: حاجة سهلة.

قال: لازم تكتبه.

أخرجت مفكِّرتي وسجَّلت اسمه وعنوانه. تحوَّلت أستأنف المشي، فأمسك بذراعي ورأيته يضع يده الأخرى في صدر جلبابه ويُخرج شيئًا أطبق راحته عليه.

تطلَّعت إلى يده المقبضة، وبسط هو أصابعه فطالعتني صورة مُلوَّنةٌ في حجم راحة اليد. لم أتمكَّن من تبيُّن تفاصيل الصورة لأنه أغلق يده بسرعة وأعاد الصورة إلى مكانها في صدره قائلًا: إذا نسيتني افتكر الحاجة.

وأدركت أن الصورة للعذراء.

لحظت أننا نمر بقرية جديدة، ورأيت على الشاطئ الغربي بضعة بيوت ملوَّنة الواجهة. سألت جرجس عن القرية فقال إنها ربما كانت «توماس».

عدنا إلى مكاننا فوق القُمرة، وألفينا ذهني منهمكًا في إعداد طعام الغداء. تمدَّدت على السطح الساخن، وبدا لي صوت المحرِّك أعلى من ذي قبل.

انتهى ذهني من إعداد الطعام، واستقرَّ الإناء بيننا، وكنا في هذه اللحظة نقترب من قرية «أبريم».

***

«أسفل الصخر على الشاطئ نُحتت خمسة هياكل فرعونية منها واحد لرمسيس الثاني، أمَّا القلعة القائمة إلى الآن فتعود إلى العصر الروماني، وقد أقام بها النوبيون حاميةً حتى أجلاهم عنها القائد الروماني «بترونيوس» بعد أن هزمهم في الدكة.»

وفي القرن السادس عشر أقام الأتراك في «أبريم» حاميةً من الجنود، وبنَوا المدينة التي نجد الآن بقاياها، حتى أجلاهم عنها في أوائل القرن التاسع عشر المماليك الذين جاءوا إلى هذه المنطقة فرارًا من إرهاب محمد علي.»

«وفي جنوب المدينة تقع الكنيسة التي لا تزال رغم تحويلها إلى مسجدٍ على يد المماليك تحتفظ بكثير من عناصرها المعمارية، وبداخل الكنيسة يوجد سرداب يؤدِّي إلى كنيسة أخرى، ويبدو أن الكنيسة الأولى تعود إلى عهد المسيحيين الأوائل عندما كانوا يتعرَّضون للاضطهاد، وقد بنَوا الكنيسة الداخلية لتكون بمثابة مخبأ، وممَّا يؤدِّي ذلك أن «أبريم» تضم آثار مدينة كاملة من العهد المسيحي مؤلَّفة من أبراج وشوارع مقبَّبة بها منافذ للضوء.»

***

في الساعة الخامسة أبطأ الصندل من سرعته واقترب من الشاطئ الشرقي. نهضت واقفًا فوق سطح القُمرة فرأيتنا نزحف إلى جوار مجموعة من قِمم النخيل برزت فوق سطح الماء.

كان ثمة جرس في الصندل يدق محذِّرًا، وتحوَّل الصندل يمنة، ثم يسرة، شاقًّا طريقه في حذر وبطء بين قمم النخيل، وعلى الناحيتَين وقف عم سرور والميكانيكي ومساعداهما حاملَين المناشير، وجعلوا يهوون بها على جريد النخيل يفصلونه عن جذوعه، ثم يُلقون به وبما يُحمل من بلح في قاع الصندل.

هبطت من مكاني واقتربت منهم، وقال لي الريس سرور: بلح ضاني، أحسن م الأبريمي.

كان هناك كوم من البلح الداكن في لون البن المحروق عند قدمَيه. تناولت واحدةً فإذا بها ناضجة تمامًا، وانفصلت قشرتها بين أصابعي بسهولة.

لمحت ذهني يخلع ملابسه حتى صار في لباسه الداخلي، ثم قفز إلى الماء، وصاح به سرور محذِّرًا أن يقترب من ريش السكَّان وإلا مزَّقه إربًا.

غطس ذهني بين النخيل واختفى لحظةً عن الأنظار، ثم ظهر حاملًا حفنةً من البلح الأحمر. كرَّر هذه العملية عدة مرات، ثم صعد إلى الصندل بعد أن استحم.

شرع الصندل يتحرَّك مبتعدًا عن أشجار النخيل، وتعلَّقت جريدتان من جريد النخيل بحافة الصندل، ثم مالتا عليها، وازداد ميلهما مع حركة الصندل كما لو كانتا تتشبَّثان به. جذبهما الصندل معه فامتدَّت كل منها إلى أقصاها وتوتَّرت، وظهرت عليهما ثلاث درجات من اللَّون تبدأ بالأخضر الذي ما يلبث أن تشوبه صُفرة جافةٌ تتحوَّل إلى لون الطين أسفل ذلك.

انتظرت أن تنفصل الجريدتان عن النخلة وتسقطان في قاع الصندل، لكن الذي حدث كان هو العكس؛ فقد تخلَّص منهما الصندل وسقطتا في الماء.

جلسنا فوق القُمرة نأكل البلح الأحمر الذي غسله جرجس. كان فهمي قد أحضر بعضًا من البلح الأسود الذي جمعه سرور ومساعده، وأقبل عليه قائلًا إنه أحسن أنواع البلح، ورفض أحمد أن يمس شيئًا منه.

قال ذهني وهو يقذف بنوى البلح إلى الماء: تعرفوا وأنا بجيب البلح اتهيألي إني حاقع من فوق النخلة.

ضحكنا أنا وجرجس، ولم يبدُ على أحمد أنه سمع شيئًا، أمَّا فهمي فقد ظهرت على شفتَيه بداية ابتسامة مؤدَّبة.

اقتربنا من مجموعة أخرى من أشجار النخيل، وتكرَّرت حملة البلح، سوى أن ذهني لم ينزل الماء هذه المرة، وبقي إلى جواري على حافة الصندل.

استأنف الصندل مسيرته، ومررنا ﺑ «توشكة» التي دارت فيها المعركة الفاصلة بين ثوار السودان والجيش الإنجليزي عام ١٨٨٩.

***

وصدر الأمر إلى النوبيين أن يُخلوا قُراهم، واقُتلعت أشجار نخيلهم من جذورها؛ فثوار السودان عرضوا افتداء عرابي وهم يقتربون ليحرِّروا مصر كلها. ومن القاهرة وصل الجيش بقيادة جنرال إنجليزي يرتدي الطربوش ويحمل لقب الباشا. ودارت الموقعة على الشاطئ الغربي، فحاقت الهزيمة بالثوار وفقدوا قائدهم. فشلت المحاولة البكر وسقط النهر كله في العبودية.

***

أعطيت ذهني سيجارةً وأشعلت واحدة، وتابعت الشمس تغرب حتى اختفت، وبزغ القمر في الشرق. بحثت عن النجمة الوحيدة دون جدوى، ثم رأيتها فجأةً أمامي واهنةً صغيرة.

شرع المجرى يضيق، ومررنا ببقايا قرية كانت تضم فيما يبدو بيوتًا كثيرةً ومدرسة.

تحوَّل إليَّ ذهني فجأةً وسألني عمَّا إذا كنت دخلت السجن.

فوجئت بالسؤال وأجبت بالإيجاب.

قال: أنا برضه حزَّرت. إمتى؟

ذكرت له التاريخ.

قال: أنا كمان كنت معتقل.

قلت: وبتشتغل برضه موظَّف في شركة؟

قال في خجل: إنت صدَّقت؟ أبدًا. من يوم ما خرجت من المعتقل وأنا بدور على شغل من غير فايدة.

– وقبل المعتقل؟

– اشتغلت سواق، واشتغلت كاتب عند تاجر جملة. اضطريت أسيب المدرسة لمَّا أبويا مات عشان أصرف على أمي وخواتي.

– وكنت عايش فين؟ في القاهرة؟

– أيوة، في العباسية.

– فين في العباسية؟

– قريب من ميدان عبده باشا. جنب مدرسة ابتدائي قديمة.

***

الرصيف المرصَّع بالحصى الملوَّن، والسور المؤلَّف من ألواح عالية من الصفيح طُليت باللون الأسود، وبائع البطاطا المشوية عند الباب الخلفي، وحنفي الذي نبت شاربه وأودع يده في جيب بنطلونه، وعبد السلام أفندي رابض خلف مكتبه المرتفع يقرض القشور الجلدية التي تكوَّنت فوق يدَيه السمينتَين وغطَّتها آثار الطباشير، ويُشير بعصاته إلى الالتواءات والجنادل على خارطة النيل، وعندما نتعثَّر أو نختلف عن إحضار كوبونات الكيروسين ينهال بها على أيدينا التي نبسطها أمامه ظهرًا لبطن.

***

سألته: صحيح ناوي تعدي الحدود؟

أجاب: طبعًا.

قلت: ليه؟

قال: ليه؟ بقى مانتش فاهم إني هربان.

– من إيه؟

– فيه أمر باعتقالي.

– عملت إيه؟

– ولا حاجة. كنت أقدر أعمل ايه يعني إذا كان الكل بياخدوا أرباح ومبسوطين وبيقولوا آمين وأنا مش لاقي شغل.

– يمكن اتكلمت.

لاح نورٌ مرتعش في الأفق، وسمعت جرجس يصيح: والله وصلنا يا رجالة!

قال ذهني بهدوء: ما تيجي معايا.

قلت: السودان؟

قال: السودان دي مرحلة. المهم نعدي الحدود.

قلت: نسافر ازاي من غير لا فلوس ولا حاجة خالص.

قال: بسيطة. نتصرف. نتضيف ع الناس لغاية الخرطوم. الناس هنا لسه كرما. حاعمل شنط صفيح نقدر نعبي فيها المية ونبيعها. لغاية الخرطوم مش محتاجين مليم واحد، وبعد كده نقدر نروح أي حتة. الكنغو مثلًا.

قلت: ونعمل إيه في الكنغو؟

– نحارب.

تطلَّعت إليه لحظة، ثم هززت رأسي: لا يا عم. أنا حاربت كفاية.

– وعاوز تستريح؟

– إستنى للسنة الجاية، يمكن آجي معك.

قال: ما هو دلوقت يا بلاش.

قلت: الوقت مقدرش. فيه شوية حاجات عاوز أفكر فيها على مهلي، وشوية حاجات عاوز أشوفها. ثم ما تنساش النسوان. أنا عشت كتير من غير نسوان ومقدرش أفضل كده على طول.

قال: تعال معايا وفكَّر زي ما أنت عاوز في السكة، أمَّا النسوان فحتقابلنا في كل حتة.

وضعت يدي على ذراعه: اسمع. إنت حتعمل ايه دلوقت؟

قال: مش عارف. تقدر تاخذني معاك في الاستراحة؟ عاوز أبات الليلة والصبح أشوف سكة الحدود وبعدين أقوم بالليل.

قلت: ما ظنش أقدر آخدك معايا. أنا نفسي مش ضامن ياخدوني.

قال: إيه رأيك في جرجس؟

قلت: ما له؟ كويس.

قال: أنا قلبي مش مستريحله. أصله نضيف قوي، وعنده قميص وبنطلون.

قلت: ما تبقاش عبيط.

قال: بافكر أبات عنده في الخيمة اللي بينام فيها.

قلت: فكرة كويسة. وبعدين بكرة أشوفك بالليل عند جرجس ونبقى نكمل كلامنا. تعال دلوقت أعطيك علبة الجبنة اللِّي معايا وشوية شاي وسكر.

أعطيت ذهني كل ما تبقَّى لديَّ من الطعام وأنا أشعر بنظرات جرجس غير راضية، وجلسنا ندخِّن ونحن نتأمَّل أنوار الشاطئ تزداد وضوحًا.

توقَّفَت ضجة المحرِّك أخيرًا فشعرت بالصداع، واقترب الصندل في بطء من الشاطئ فقمت متثاقلًا لأحمل حقيبتي، وقال إنه لا بد أن يراني في الغد فوعدته بأن أمر على خيمته في المساء.

وقفنا ننتظر حتى انتهت عملية الإرساء، وامتدَّت عارضة إلى الشاطئ الرملي الذي تجمَّع عنده نفر من الرجال.

أشار جرجس إلى فجوة هائلة في الجبل على مبعدة قرابة مائة خطوة بها أنوار قوية. وقال: المعبد هناك.

انتقلنا إلى الشاطئ ومشينا بضع خطوات في شبه ظلام. بلغنا بداية طريق يتجه يمنة، وتوقَّفنا تحت أسفل مصباح كهربائي يعلو عمودًا خشبيًّا.

وضع جرجس حقيبته وسلَّته على الأرض قائلًا إنه سيذهب لإحضار سيارة، وانطلق ذهني برفقته، فوضعت حقيبتي على الأرض وجلست فوقها.

سمعت خلفي وقع أقدام، ورأيت البحاروة الثلاثة يَجِدون السير حاملين أقفاصهم وسِلالهم. مرُّوا من أمامي فحيَّوني، ثم انطلقوا صُعُدًا في الطريق المؤدِّي إلى الداخل. ذكرت أني لم ألمح كلًّا من فهمي وأحمد منذ رسا الصندل.

تابعت البحاروة الثلاثة حتى اختفَوا عن ناظري خلف منحنًى في نهاية الطريق، وأوشكت أن أتحوَّل ببصري عندما ظهر عند المنحنى شخصان آخران يسيران على مهل، وعندما اقتربا مني بعض الشيء تبيَّنت في أحدهما ضابط بوليس شابًّا، وكان الثاني في الملابس المدنية.

كانا يسيران على الجانب الآخر من الطريق وقد انهمكا في الحديث، وعندما صارا أمامي ألقى ضابط الشرطة بنظره نحوي، ثم توقَّف عن المسير وانقطع حبل الحديث بينهما، وما لبث أن استدار ومن خلفه رفيقه، وانطلقنا متمهِّلين في الطريق الذي جاءا منه، واتصل حبل الحديث بينهما مرةً أخرى.

أشعلت سيجارةً أخذت منها نفسَين، وكان طعم الدخان مرًّا فألقيت بها جانبًا.

أقبلَت بعد لحظات شاحنةٌ مُسرعة من الطريق المنحدر، ولمحت ذهني معتليًا ظهرها، فوقفت حاملًا حقيبتي، وعندما توقَّفَت الشاحنة أمامي رأيت جرجس إلى جوار السائق، وأشار لي أن أصعد بجواره.

دُرت حول الشاحنة وصعدت إلى جوار جرجس. انطلقت بضع خطوات، ثم دارت عائدةً من حيث جاءت، وصعدت الطريق في بطء وجهد، وما لبث الطريق أن استقام فانطلقت مسرعة.

كان الظلام يغطِّي هذا الجزء من الطريق، ولم أستطِع أن أتبيَّن شيئًا من حولي سوى هياكل الجبال التي امتدَّت على مرمى البصر، وظهرت بضعة أنوار خافتة على مبعدة.

أخذ الطريق في الصعود مرةً أخرى، وأقبلنا على شِبه هَضْبة استقرَّ في طرفها مبنًى مضاء أشبه بشاليه خشبي، وقال جرجس إننا وصلنا.

توقَّفت السيارة بالقرب من الشاليه، ورأيت شخصًا في قميص وبنطلون واقفًا في مدخله الذي يعلو عن الأرض بضع درجات. حملت حقيبتي وغادرت الشاحنة وأنا أقول لجرجس: حافوت عليك بكرة بالليل.

ابتعدت عن الشاحنة وانتظرت حتى استأنفَت سيرها، وانطلقَت بسرعة مثيرة عاصفةٌ من الغبار، ولوَّحت بيدي لذهني الذي انفرد بظهرها ووقف منفرج الساقَين وقد مال بجسمه إلى الأمام واعتمد بساعدَيه على ظهر قُمرة السائق.

تابعته ببصري حتى اختفى.

***