نجمة أغسطس

مؤسسة هنداوي مؤسسة هنداوي

الفصل الثاني

رحَّب بي الشاب الذي كان يقف أمام باب الاستراحة عندما قُلت له إني صحفي، وقادني إلى صالةٍ صغيرة بها أريكة ومائدة أحاطت بها مقاعد بعد أن عرَّفني بأنه مهندس بِناء ويُدعى رفعت. جلست على مقعد واضعًا حقيبتي على الأرض بينما بقي هو واقفًا.

شعرت أنه حائر لا يدري ماذا يفعل بي، وأدركت أنه على الأقل لن يسألني عمَّا يثبت مهنتي.

قلت إني كنت مضطرًّا للسفر بسرعة ولم يكن لديَّ وقتٌ لإخطارهم بقدومي، لكن موظفي الشركة في أسوان أكَّدوا لي أن هناك مكانًا يمكنني الإقامة فيه يومًا أو يومَين.

أسرع رفعت يقول وهو يستقرُّ أمامي على الأريكة: طبعًا، طبعًا. على الرحب والسعة.

سألته إن كان يعرف مهندس آثار يُدعى خليل فقال: أجل أعرفه.

ولحظت أنه وجم بعض الشيء.

أسرعت أقول: أنا شخصيًّا لا أعرفه، لكني أحمل له خطابًا من صديق له.

لم يُعقِّب بشيء، وتحوَّل إلى شاب بدين ولج الصالة فقدَّمنا إلى بعض، ودبَّ النشاط في الشاب البدين الذي يُدعى حلمي عندما علم بأني صحفي، وقال وهو يجلس بجوار رفعت: أنا لديَّ شكوى من الصحافة.

قلت: ما هي؟

قال: أنتم لا تحترمون الإنسان الذي يعمل في شرف وصمت.

أراد رفعت أن يخفِّف من وقع كلماته فقال: بعض الصحفيين وليس كلهم.

قلت: ممكن.

قال حلمي: هل قرأت سيادتك الموضوع الذي نشرَته المجلة المصوَّرة عن «أبي سنبل»؟

قلت: لا أذكر. أظن قرأته.

هزَّ أصبعه في وجهي: هل هذه هي «أبو سنبل»؟

سألت: ماذا كان في المقال؟

قال رفعت: صحفي مخنَّث أمضى هنا بضعة أيام وأكرمناه للآخر، وظلَّ طوال الوقت يطارد بنتًا ألمانيةً ويصوِّرها بالبكيني على الجبل وفي البحر، وعندما عاد كتب أن المهندسين المصريين هنا لا شاغل لهم غير هذه البنت.

قلت: ولم يكتب عن أحد منكم أو عن الدور البطولي الذي تقومون به في صيانة تاريخنا؟

قال: ولا كلمة.

قلت: ليس له حق، لكن ليس معنى هذا أن كل الصحفيين على شاكلته.

تراجع حلمي قائلًا: طبعًا لا. إنما حادثةٌ كهذه تجعلنا نفقد ثقتنا في الصحافة كلها.

كنت منهكًا أشعر برائحتي لا تُطاق، وأتوق إلى حمام وفراش آدمي.

قلت: لقد جئت لأعطي الصورة الحقيقية عن العاملين في هذا المكان النائي.

لم يعقِّب أحدهما، فسألت: بالمناسبة، أي مرحلة بلغها العمل في المعبد؟

قال رفعت: المعبدان انتهى فصلهما من الجبل تقريبًا، وبدءوا يقطعون أجزاءً منهما.

سألت: هل قطعوا الواجهة؟

أجاب: لا. ما زالت كما هي. لقد بدءوا يقطعون من الخلف.

قلت: لقد أردت أن أرى الواجهة قبل قطعها.

قال: ستراها غدًا.

سألت: ومتى سينتهي نقل المعبدَين؟

قال: بعد ست سنوات.

أبديت دهشتي، فقال: العمل هنا لا يقل أهميةً عن السد العالي نفسه، بل إننا أقمنا سدًّا كاملًا أمام المعبدَين ليحميهما من ارتفاع المياه، وكل العمليات الموجودة في السد موجودة عندنا. حفر وتفجير ونقل وردم وحقن.

قلت: وتنويان البقاء طول هذه المدة؟

بدا على رفعت التفكير، بينما قال حلمي: الواجب يحتِّم علينا البقاء رغم الغربة، ورغم أننا لا نستفيد ماديًّا.

ألقيت نظرةً على ساعتي فوجدتها بلغت العاشرة.

قلت إنني متشوِّق لحديثهما لكنِّي متعب وأُريد أن أحلق ذقني وأستحم. قام رفعت على الفور معتذرًا بأنه لم يلتفت إلى ذلك. حملت حقيبتي وتبعته إلى ممرٍّ صغير به عدة أبواب مغلقة على الجانبَين، وفتح أول باب وأضاء النور، فرأيت أمامي حجرةً ذات فراشَين جديدَين يفصل بينهما جهاز تكييف.

قال: هذه غرفة الضيوف، أمَّا أنا وحلمي فننام في آخر الممر وبجوارنا مباشرةً الحمام.

أخرجت أدوات الحلاقة وملابس داخلية نظيفة وأسرعت إلى الحمام. وجدت صعوبةً في استخدام الصابون لمَّا تجمَّد على جسدي من عرق، وعندما عُدت إلى الحجرة شعرت بأني جائع، وفكَّرت بأنه بما أنِّي قادم لإعطاء الصورة الحقيقية عن العاملين هنا، فلا شك أني أستحق عشاءً على الأقل.

ارتديت بيجامتي وخرجت إلى الردهة فألفيتها خالية. لمحت رفعت في المطبخ المتفرِّع منها. ابتدرني قائلًا إنه يعد لي عشاءً، ثم أضاف: العشاء بسيط لأننا لم نكن مستعدِّين.

جلست إلى المائدة في الصالة، وأتيت على الطعام الذي تألَّف من الجبن الرومي ومحشي ورق العنب، وعندما أويت إلى حجرتي ألفيت رفعت قد ترك لي علبة فواكه محفوظةً وطبقًا وشوكة.

كانت العلبة مُثلَّجة، فأكلت محتوياتها بعد أن أدرت جهاز التكييف، ثم أشعلت سيجارةً واضطجعت على الفِراش مستندًا برأسي إلى الحائط المجاور له. دخَّنت حتى انتهَت السيجارة، فأغلقت النور واندسست بين طيَّات الفِراش.

كانت الأغطية نظيفةً ناعمةً والمرتبة وثيرة. تمرَّغت بينها عدة مرات وأنا أستنشق هواء الغرفة البارد، ثم غفوت.

حلمت أني مع أبي الذي أعرف أنه مات. كان يتطلَّع إلى صورة تُمثِّله شابًّا ممتلئًا في ملابس عسكرية تتألَّف من سروال أبيض منتفخ الجانبَين وسترة صفراء، وكان يحمل بندقيةً إلى كتفه، ووقف إلى جواره ضابط إنجليزي. فهمت أن الصورة الْتُقطت في السودان، ويحكي أبي شيئًا عن الصورة، ولكني متأكِّد بشكل ما أنه لا يقول الحقيقة. إنه يتحدَّث عن كيتشنر، لكني لا أُريد أن أوجِّه إليه أي سؤال، فما جدوى أن أخدش ذكرى هي كل ما يحمل معه، لكني أفهم الآن حقيقة هذه الأشياء التي تُروى. تبدَّت لي الصورة مُثبتة في مصراع دولاب كبير من المعدِن يتألَّف من ثلاثة مصاريع، وكانت هناك رسوم عِدة محفورة على المصراعَين الآخرَين صنعها الضبَّاط المصريون والإنجليز الذين عملوا في السودان، ثم يظهر الدولاب محمولًا على عربة كارو، وأفكِّر بأنه لا بد وأن أحصل على أحد المصاريع الثلاثة، وبالذات الذي يحمل صورة أبي فأنا أحق به من عمتي التي أخذتها جميعًا.

استيقظت في السابعة صباحًا، وألفيت حلمي جالسًا إلى المائدة في انتظار الإفطار. جلست إلى جواره وانضمَّ إلينا رفعت بعد قليل.

سألني رفعت عمَّا أُريد أن أفعله اليوم. قلت إني أُريد أن أرى المعبدَين ولهذا يجب أن أعثر على خليل.

قال: لا بد أن تُقابل رئيسنا أولًا. تعالَ معنا إلى المكاتب، وهناك ستلتقي بخليل لأنه يمر علينا صباح كل يوم.

أفطرنا وشربنا الشاي، ثم رافقتهما إلى مكتبهما. كان في شاليه خشبي مماثل للاستراحة، وخلفه كانت تمتد مساحة شاسعة من الأرض الصخرية، وفي نهايتها المساكن المخصَّصة للأجانب. رأيت مجموعةً من الخيام على مسافة خلف الاستراحة قدَّرت أنها تلك المخصَّصة للعُمَّال.

أخذني رفعت إلى غرفةٍ واسعة بها عدة مكاتب جلس إلى أكبرها شخصٌ أصلع يضع على عينَيه نظارة طبية ذات عدستَين سوداوَين، وقدَّمني إليه على أنه رئيسهم، فمدَّ هذا يده إليَّ وهو جالس دون أن ينطق بشيء.

استأذن رفعت في الانصراف، فجلست فوق مقعدٍ بجوار مكتب الرئيس، وانتظرت أن يتحدَّث إليَّ، لكنه انهمك في قراءة إحدى الأوراق، ولم يرفع عينَيه عنها إلا مرةً واحدةً ردَّ فيها على سؤال لأحد الموظفين بوقار شديد وحسم.

مرَّت بضع دقائق، وما لبث الرئيس أن مدَّ يده ودقَّ جرسًا مثبتًا إلى الحائط القريب، وطلب من الفَرَّاش أن يُحضر لي قهوة. جاءت القهوة فارتشفتها في صمت وأنا أتطلَّع إليه منتظرًا فرصةً للحديث، ورأيته يبسط أمامي جدولًا كبيرًا من الورق المقوَّى يحمل في أعلاه ما يُشير إلى أنه تقريرٌ يومي عن العمل، فقلت: لم أكن أتصوَّر أن لديكم تقريرًا يوميًّا عن العمل مثل السد تمامًا.

ابتسم الرئيس في شيء من الزهو وتشاغل بقراءة بيانات الجدول.

قلت بعد لحظة أن رفعت وفهمي حدَّثاني بالأمس عن الأثر السيئ الذي تركه موضوع المجلة المصوَّرة، فقال على الفور: كلنا غضبنا من الصورة التي قدَّمتها المجلة عن المهندسين المصريين.

ثم أضاف: تعرف أن رختا عندما ذهبت إلى القاهرة رفضَت أن تُقابله؟

سألت: من هي رختا؟

قال: الألمانية التي نشر صورها.

ولج الغرفة شاب هادئ على شيء من الوسامة تطلَّع حوله، ثم اتجه إليَّ، وقال إنه سمع من رفعت أني أبحث عنه.

أعطيته الخطاب فجلس على المقعد المقابل بعد أن وجَّه التحية للرئيس. قرأ الخطاب على مهل، ثم وضعه في جيبه ونهض واقفًا وهو يقول: هيا بنا.

نهضت بسرعة وودَّعت الرئيس الأصلع، ثم انطلقت خلف خليل.

قال عندما أصبحنا في الطريق: طبعًا تُريد أن ترى المعبدَين الآن؟

قلت: طبعًا.

انطلقنا في الطريق الذي صعدته بالشاحنة أمس، وقال خليل: لن يفوتك الكثير من المعبد الكبير؛ فنحن لم نمسَّ الواجهة بعد. كل ما فعلناه أننا فصلنا المعبد تمامًا عن الجبل الذي شُيِّد فيه، وبدأنا نقطع أجزاءً من سطحه.

وقفنا نتطلَّع حولنا بحثًا عن سيارة، وسألني: قل لي، ماذا تعرف عن رمسيس الثاني؟

قلت: ليس كثيرًا. ما زلت أذكر من أيام المدرسة أنه خاض معركةً كبيرةً في آسيا وانتصر فيها على الحثيين.

قال: بالعكس، لقد هزموه شر هزيمة، لكنه زعم عند عودته أنه انتصر عليهم.

قلت: أذكر أيضًا أنه عاش كثيرًا.

قال: ۹۲ عامًا.

قلت: وكان زير نساء.

قال: ٢٣ زوجةً و١٧٨ من الأولاد والبنات.

قلت: وإنه بنى «أبي سنبل» وسلسلةً كبيرةً من المعابد على طول النيل.

قال: واغتصب كثيرًا من المعابد التي بناها أسلافه، بل أزال اسم أبيه من أحد المعابد ووضع اسمه مكانه.

سألت: أوديب؟

أجاب: ربما، لكنه أزال أيضًا كل أثر لشقيقه الأكبر عندما تولَّى ونقش في أبيدوس أنه أكبر أبناء أبيه.

قلت: إنه إذن فرعون الأكاذيب.

أوقفنا سيارة جيب حملَتنا إلى الشاطئ، ومضينا على أقدامنا بين رمال السد الصغير الذي أقيم لحماية العمل من مياه السد العالي. أشرفنا بعد خطوات على الجانب الأيمن للجبل الذي حُفر فيه المعبد، وتبدَّت الفجوة الضخمة التي لمحتها بالأمس وقد تناثر في أنحاء متفرِّقة منها عددٌ من الرجال والروافع وحفارتان.

أصبحنا أخيرًا أمام المعبد. مشينا قرابة العشرين مترًا بين الرمال أسفل سيقان تمثالَين ضخمَين، ثم توقَّفنا أمام الرحبة المؤدِّية إلى مدخل المعبد، ورفعت رأسي إلى أعلى.

كان هناك مستطيل محفور في جدار الواجهة على ارتفاع أكثر من ثلاثين مترًا فوقي مباشرة، واستقرَّ في المستطيل تمثال بالحجم العادي لإنسان له وجه صقر، وعلى رأسه قرص الشمس الشهير.

أوضح لي خليل أن التمثال للإله «رع حور آختي» رب المشرق الذي شُيِّد المعبد له في الأصل قبل أن تُسيطر فكرة الألوهية على رمسيس.

حوَّلت بصري إلى التمثالَين الهائلَين اللذَين استقرَّا على يميني. كان ارتفاع الواحد منهما لا يقل عن عشرين مترًا، وتناثرت بين أقدامهما مجموعةٌ من التماثيل الصغيرة أقربها لامرأة مستديرة الوجه غليظة الشفتَين في ثوب شفَّاف، وكان هناك تناسق واضح في الصورة التي استقرَّت بها أطراف شعرها فوق قمة ثديَيها.

قال لي خليل إن المرأة هي نفرتاري أقرب زوجات رمسيس إليه، والتي بنى لها المعبد الصغير، أمَّا بقية التماثيل المتناثرة بين الأقدام فكانت لأمه وأولاده.

عُدت ببصري إلى رمسيس الذي جلس في حجمه الهائل واضعًا يدَيه فوق ركبتَيه. تراجعت بضع خطوات وصعدت ببصري فوق الساق الضخمة حتى الإطار البيضاوي الذي زيَّن الساعد أسفل الكتف، كانت هناك مجموعة من الرموز محفورةً داخله. قال خليل إنها تؤلِّف اسم الملك.

استقرَّت عيناي على الوجه الذي تدلَّت من ذقنه لحية منتظمة الأضلاع، وبرزت من جبهته أفعى منتفخة العنق متحفِّزة، وعلا رأسه التاج.

كنت أرى الوجه من مكاني بزاوية جانبية، وعبر هالة الشعر المستعار التي أحاطت به وتدلَّت على جانبَي صدره استطعت أن أتبيَّن سِمات الهدوء والاطمئنان التي رانت عليه، والابتسامة الخفيفة التي امتدَّت من العينَين إلى الشفتَين الحسيتَين.

***

«أنصتوا إلى كلماتي. ها هي الثروات التي تملكونها. إني أنا رمسيس الذي أخلق وأهب الحياة للأجيال … إن أمامكم الطعام والشراب وكل ما تشتهيه الأنفس … إني أدعم مركزكم لتقولوا إن حبكم لي هو الذي يدفعكم إلى العمل من أجلي … طالما أنتم على قيد الحياة فإنكم تعملون من أجلي رجلًا واحدًا.»

***

كان التمثال الواقع إلى يساري مجرَّدًا من الرأس والصدر، وبدا مكان الذراع اليسرى في التمثال الأخير فارغًا، وظهرَت على التماثيل كلها آثار الآلاف الأربعة من الأعوام التي مرَّت على نحتها.

قال خليل: وأنت تنظر من هنا تشعر أن التماثيل تحتفظ بالنِّسب العادية لجسم الإنسان، أمَّا إذا نظرتَ للتمثال مواجهةً من فوق رافعة، فستجد الرأس كبيرًا، والأكتاف ضيقة، والأرداف صغيرة.

سألت: وماذا يعني هذا؟

قال: معناه أن الذين نحتوا هذا المعبد كانوا يعرفون الأبعاد الحقيقية لجسم الإنسان؛ أي فن المنظور.

عُدت أرفع رأسي إلى قمة الواجهة فرأيت صفًّا من القرود يمتد بعضُها فوق رءوس التماثيل. كانت القرود مقتعدةً القرفصاء تتطلَّع إلى الأمام في الاتجاه نفسه الذي تتطلَّع إليه التماثيل.

قال خليل: كان رمسيس يخشى غروب الشمس لأنها تغرب في العالم السفلي؛ لهذا صُمِّم المدخل بحيث تسقط عليه أُولى أشعتها. وكانت القرود في وضعها هذا أول مَن يلمح الشمس عند شروقها، فتُهلِّل لرؤياها حتى يطمئن الملك.

جذبني خليل من ذراعي وخطَونا إلى الأمام وهو يُشير إلى قاعدة التمثال الأول على يميني.

كان هناك شريط من الرموز في أعلى القاعدة الحجرية التي ترتفع خمسة أمتار، تبيَّنتُ بينها تلك المكوِّنة لاسم رمسيس، وتحتها كان هناك نقش يمثِّل عددًا من الرجال ركعوا على ركبهم، وظهر خطٌّ من الحبال يربط بين أعناقهم، وكانت هناك حبال أخرى معقودة على أذرعتهم، ومن آذانهم تدلَّت أقراط مستديرة كبيرة الحجم. كانت وجوههم تنطق بأنهم من أهالي النوبة.

مضينا لصق الحائط حتى نهايته، ثم ولجنا المدخل وسرنا في ردهة ضيقة، وما لبث نور الشمس أن اختفى، وحلَّ محلَّه ضوء المصابيح الكهربائية الضعيف.

أشرفنا على صالة مستطيلة الشكل انتشرت بها الدعامات المعدِنية، وزُيِّن سقفها بالنسر المجنَّح تارة، وبالنجوم تارةً أخرى، فضلًا عن اسم رمسيس. وكانت هناك أربعة تماثيل متشابهة على كلٍّ من جانبَي الصالة تمثِّل رمسيس عاقدًا يدَيه على صدره في هيئة «أزوريس» إمام الشهداء ورمز الخلود وإله الحساب. وبدت ملامحه هنا مجرَّدةً من تلك الوسامة التي تميَّز بها تمثاله الضخم في الخارج.

دُرنا حول التماثيل التي أعطت ظهرها للجدار الشمالي، ووقفنا نتأمَّل النقوش التي حفل بها هذا الجدار.

قال خليل: هذه قصة معركة قادش.

وأشار إلى لوحة ضخمة تصدَّرها رمسيس الثاني في ثلاثة أضعاف حجمه الطبيعي جالسًا فوق عرشه. ووقف خلفه حامل المظلة الذي لم تبلغ قامته ارتفاع عرش فرعون، وأمامه انحنى طابور من القادة العسكريين في حجم حامل المظلة، وفوقهم شريط من راكبي العربات التي تجرُّها الجياد ويعتليها المحاربون بأقواسهم وسهامهم.

وفي منظرٍ مجاور ظهر الجيش المصري في صفوف متوازية من المشاة يليهم نافخو المزامير النحاسية والضباط، ثم عربة رمسيس يتقدَّمها اثنان من حمَلة المظلات على أقدامهما إلى جانب أسد طليق. وفي مكان آخر بدا المعسكر المصري مكتظًّا بالجند والعربات الحربية. وفي الوسط أُقيمت خيمة كبيرة للملك حولها ثلاثة خيام أخرى أصغر منها. أمَّا أسد الملك فقد ربض ناعسًا على الأرض بعد أن قُيِّدت قدمه إلى قوس، وحُلَّت أربطة الخيل لإطعامها، ورُفعت الأحمال عن ظهور الحمير التي كانت تتمرَّغ في التراب وتنهق وتجري وترفس بأرجلها.

وكان هناك بعض عُمَّال بقيادة جندي انهمكوا في إزالة الأتربة بمكانيس صغيرة ورش المياه، وسار آخرون خلف عربات تجرُّها الثيران، وإلى جانب أكواخ استقرَّت سقوفها على أعمدة جواد أدخل رأسه في مخلاة، بينما كان أحد السياس يُعنى بأمر جوادَين، وجلس قائد عربة داخل صندوقها غارقًا في النوم.، ووقف جندي يرتوي.

قال خليل: لم يكن هؤلاء المساكين يشعرون بالخطر المحدق بهم. وأشار إلى منظر مجاور ضمَّ فرعون جالسًا على عرشه وتحت قدمَيه اثنان من أسرى الأعداء يجري جلدُهما.

أضاف: اعترف الأسيران بالمكان الذي عسكر فيه ملك الحثيين، لكن اعترافهما كان خدعة، واندفع الجيش المصري إلى الكمين الذي نُصب له.

***

أخذ جلالته يُطمئن ياوره، وكان جلالته لا يخشى شيئًا، وقد تركه جنده بحثًا عن الغنائم بدلًا من أن يأخذوا أماكنهم في المعركة. لم يكن هناك أمير ولا ياور ولا دليل ولا ضابط … وقد سُمعت استغاثة الملك في كل مكان حتى وصلت «طيبة»، واستجاب لها حليفٌ عظيم يفوق الملايين. فأخذ رمسيس يُطلق سهامه على ميمنته ويحصِّن ميسرته. عندئذٍ انقلبت عربات الأعداء البالغ عددها ٢٥٠٠ عربة بخيولها، وكان الجند المفزوعون خوفًا عاجزين عن استعمال أيديهم في القتال وقد خفقت قلوبهم في صدورهم فكانوا لا يعرفون كيف يُصوِّبون ولا كيف يقبضون على السيف، وقد ألقى بهم الملك في الماء كالتماسيح، والجند الذين كانوا يزحفون على بطونهم لم تقم لهم قائمة … وارتدُّوا مهزومين مبهورين من فرط شجاعة فرعون، وكانوا يصيحون: «لينجُ بنفسه من يستطيع …» وجرى جلالته وراءهم مثل العُقاب.

***

عيَّن لي خليل مكان رمسيس على الجدار. كان يقف فوق عربته باسطًا ساعده الأيمن الذي يحمل القوس إلى نهايته، بينما انثنى الآخر خلف رأسه ممسكًا بالسهم، وشبَّ الجواد بقدمَيه الأماميتَين، وأحاط به جنود العدو من كل جانب، وظهرت جيادهم التي اخترقتها سهام الملك وقد تعثَّرت وسقطت وهوى رُكَّابها إلى الأرض، ثم ظهرت العربة الملكية في طريق العودة بعد النصر وخلفها الأسرى الذين تجلَّى الهلع على وجوههم.

قال: لقد نجا رمسيس من الموت في هذه المعركة بفضل حرسه الخاص من الجنود الذين أحاطوا به من كل جانب، لكن النقوش لا تشير إليهم بحرف، أما هو فقد صبَّ اللوم كله فيما حدث على جنوده ووصفهم بأنهم جبناء، مع أن المسئولية كلها تقع عليه.

– كيف؟

– هو الذي اتخذ قرار الحرب، وأسرع بجيشه دون أن ينتظر حتى تلحق به بقية قُوَّاته، وهو الذي صدَّق رواية الأسيرَين ولم يعبأ بأن يتحقَّق من صدقها.

***

«لم يكن أحدٌ منكم هناك. لم يكن معي قائد أو ضابط مركبة أو ضابطه من المشاة ولا حامل درع؛ فقد تركني مُشاتي وفرساني فريسةً أمام العدو … لم يقف أحدٌ بجانبي ويضع يده في يدي وأنا أحارب العدو … إن الأجانب الذين شاهدوني سوف يخلِّدون اسمي حتى في البلاد النائية التي لم يسمع بها أحد.»

***

استدار خليل إلى الجدار المقابل قائلًا: وهذه كذبة أخرى.

اقتربنا من الجدار بعد أن مرقنا من خلال تماثيل رمسيس المتقابلة. كانت هناك عدة مناظر تمثِّل رمسيس وهو يحرق البخور أو يتعبَّد أمام الآلهة، كما ظهر في عجلته الحربية يُطلق سهامه على إحدى القلاع التي يتساقط منها الأعداء، بينما يطلب آخرون الرحمة، ويحاول أحد الرعاة إخفاء ماشيته.

كان النقش الذي عناه خليل يمثِّل فرعون وقد وطئ بإحدى قدمَيه رأس جندي من الأعداء استلقى على الأرض بينما أمسك بذراع جندي آخر أمامه وطعنه بالرمح في صدره، وأشار خليل إلى رأس الجندي الذي ارتمى على الأرض. كان وجهه إلى أسفل بينما استقرَّت قدم رمسيس في الصندل فوقها.

قال: هل ترى الأنف واللحية؟

استطعت أن أتبيَّن لحيةً صغيرةً مُدبَّبة، وأنفًا مُحدَودبًا، وكانت اللحية نفسها والأنف واضحةً في وجه الرجل الذي تلقَّى طعنة فرعون.

قال: هذه سِمات الليبيين المميَّزة، والثابت أن رمسيس لم يلتقِ بهم في موقعة واحدة.

ابتعدنا عن الحائط وغادرنا القاعة إلى أخرى تصغرها حجمًا وتحتوي على أربعة أعمدة مربعة، عليها نقوش تمثِّل رمسيس مع الآلهة.

كان رمسيس فوق أحدها يحرق البخور في حضرة المعبودة «إيزيس»، وعلى عمود آخر كانت المعبودة «موت» تقرِّبه منها وتمد يدها اليمنى فتمسك بساعده الأيسر، بينما اختفى ساعدها الآخر خلف ظهره، وهمَّت باحتضانه.

جذبني خليل إلى نقشٍ ظهر فيه رسمان متماثلان لرمسيس يواجه أحدهما الآخر.

قال: رمسيس الملك يتعبَّد لرمسيس الإله.

انتقلنا إلى نقشٍ غير واضح التفاصيل بسبب ازدحامه بالأشكال والرموز، لكني سرعان ما تبيَّنت جسم «إيزيس» الرشيق وبجوارها ملتصقًا بها جسم رمسيس المألوف، ثم شخص آخر له تاج مرتفع يتألَّف من مخروطَين متجاورَين، وامتدَّ عضوه التناسلي أمامه على الحائط.

أوضح لي خليل أن الإله الآخر هو المختص بالنسل، وجذب انتباهي إلى أن جسم رمسيس يغطِّي مساحةً كبيرةً من النقوش، ثم قال: عندما سيطرَت على رمسيس فكرة الألوهية، كان بناء المعبد قد أوشك أن يتم، وصدرت الأوامر للرسَّامين بأن يحشروا الإله الجديد حشرًا بين الآلهة الأخرى، فكان هذا النقش وأيضًا ذاك.

كان يعني نقشًا وضع فيه الإله الجديد في مساحة ضيقة بين «آمون» و«موت». كانت الأخيرة جالسةً على مقعد خلف زوجها فجعلت واقفةً لإفساح مكان لرمسيس، وظهرت آثار أقدامها عندما كانت تجلس، بينما أصبحت أقدامها الجديدة منخفضةً عن المستوى الذي استقرَّت عنده أقدام الآلهة الآخرين.

قال خليل ونحن نُغادر القاعة إلى غرفة صغيرة تليها: هذا هو قدس الأقداس، أهم مكان في المعبد وآخر أجزائه.

كانت هناك أربعة تماثيل متجاورة تجلس في كبرياء فوق منصة حجرية تواجه الداخل، وكان بوسع الآلهة الأربعة من مكانها هذا أن ترى مدخل المعبد الذي يبعد عنها أكثر من ستين مترًا.

كانت التماثيل التي نُحتت مباشرةً من حائط الجبل تمثِّل صاحب الدار إله المشرق واثنَين من ضيوفه هما «رع» و«بتاح»، بالإضافة إلى رمسيس الذي قرَّر أن ينضم إليهم، وكانت ثمة بقية ملحوظة من الألوان الأصلية للأحجار، وهي الأزرق والبرتقالي والأحمر والأخضر.

عدنا أدراجنا على مهل وقد بدأت أشعر بشيء من الدوار، فلم تُفلح محطة التهوية التي أُقيمت داخل المعبد في تبديد ما تراكم فيه من عفونة على مرِّ الزمن.

نقلت بصري بين الجدران والأعمدة والسقوف التي ما زال الصخر يحملها كما نحتها الفنَّانون القدامى. كانت كل نقطة في سطح الصخر محفورةً وأغلب الحفر ملوَّنًا.

سألت خليل: كم عدد الذين اشتغلوا في بناء هذا المعبد؟

أجاب: لا أقل من عشرين ألفًا عملوا ثلاثين سنةً بلا انقطاع.

– كلهم نحَّاتون؟

– أبدًا. كانت هناك أعداد غفيرة من رجال الجيش والشرطة وخدم المعابد والكهنة والأسرى والعبيد، وبين هؤلاء كلهم قرابة المائة من الحجَّارين والنحَّاتين وعدد محدود من الرسَّامين والحفَّارين بعدد أصابع اليدَين.

***

«كانوا يعملون في ضوء مصابيح زيت الخروع، بعضهم بالمطارق، والآخرون بالأزاميل، بينما يشتغل غيرهم بأدوات الصقل. ويقبض الرسَّامون على أقلام من الغاب في يد، والمحبرة في اليد الأخرى، ويبدءون تخطيط الكتابة الهيروغليفية التي ستُنقش على الحجر وتُلوَّن فيما بعد بالأزرق والأخضر، وفي الوقت نفسه يغمس النقَّاش فرشاته استعدادًا للتلوين، وكانوا يعملون جميعًا وهم وقوف أو جلوس على مقاعد بلا مساند. على أن أكثر العمليات صعوبةً كانت هي النحت مباشرةً من صخور الجبل؛ فقد كان على النحَّات أن يرى خلال الصخر ما يحتوي عليه من أشكال، ولم تكن الضربة الحية تسمح بترف الخطأ والتصحيح؛ فلم يكن بوسعه أن يُعيد لصق أجزاء محطَّمة.»

***

قادني خليل إلى درج حديدي ضيِّقٍ أشبه بسلالم الحرائق ارتقيناه إلى سطح المعبد، ووقفنا في الشمس فوق صف القرود التي تزيَّن أعلى الواجهة. كان السطح يمتدُّ أمامنا حوالي ستين مترًا، ثم ينتهي فجأةً في الفراغ، إذ تخلَّص المعبد نهائيًّا من الجبل المنحوت فيه، وظهر سفح الجبل عموديًّا أملس كأنه جزء من طورطة هائلة قُطعت بعناية شديدة.

قال خليل إن نسف الجبل المحيط بالمعبد كان معقَّدًا للغاية ودقيقًا؛ فقد كان الخوف دائمًا أن يحدث صدع في المعبد؛ ولهذا كان الخبراء يدخلون بالديناميت إلى أعماقٍ بعيدة في بطن الجبل، وعندما تمَّ فصل المعبد تمامًا جرت عملية إزالة القشرة الرقيقة التي تبقَّت على جدرانه من آثار الجبل، ثم بدأ تقطيع أحجار المبنى بواسطة منشار كهربائي.

تطلَّع خليل إلى ساعته وقال: لا أظن أننا نستطيع زيارة المعبد الآخر الآن؛ فهناك تفجير سيجري بعد قليل.

قلت ونحن نهبط الدرج الحديدي: نذهب غدًا إذن.

أصبحنا خارج المعبد فمضينا ببطء أسفل أقدام رمسيس الضخمة، واشتدَّ بي الصداع فشكوت لخليل، واقترح أن نذهب إلى غرفته في العوامة ليعطيني مُسكِّنًا.

مضينا إلى الشاطئ وصعدنا العوَّامة المخصَّصة لموظَّفي مصلحة الآثار، وعندما بلغنا سطحها تناهى إلى سمعنا صوتُ انفجارٍ عنيف على الشاطئ. تطلَّع خليل إلى نقطةٍ على يسارنا تبعد مائتَي متر، وينتهي عندها مدى الرؤية على الشاطئ. ورأيت سحابةً من الأتربة الناجمة عن الانفجار تتجمَّع فوقها وترتفع عاليًا في السماء، ثم تتلاشى.

قال ونحن ننطلق في ممرٍّ ضيِّق تناثرت القُمرات على جانبَيه: ربما كان هذا آخر تفجير في جدار المعبد الصغير.

كانت حُجرته أنيقةً تنم عن ذوق أوروبي، وكانت هناك عدة صور على الحائط لفتاة أوروبية بالبكيني، وقد ظهرت واجهة «أبي سنبل» في مؤخِّرة إحداها.

سألته وأنا أبتلع قرصَين قدَّمهما لي: سويدية؟

ابتسم في شيء من الزهو: أجل. كانت هنا في إجازة لدى والدها الخبير، وأصبحنا صديقَين.

قلت: يبدو أنك لا تضيع وقتك هنا.

قال: السويديون عندهم حرية. الواحدة منهم تمشي وتنام معك وكل شيء بعلم زوجها.

قلت: هل تعمل كثيرات منهن هنا؟

أجاب: أبدًا. في كل «أبي سنبل» ثلاث فتيات عاملات؛ واحدة لبنانية، وأخرى فرنسية، وثالثة ألمانية هي أحلاهن.

قلت: رختا؟

قال: أجل كيف عرفت؟

حكيت له.

قال: سآخذك إليهن في المساء.

سألت: والسويديات؟

قال: الموجودات هنا زوجات فقط. وأنا أقضي معهن كل وقتي لأني أعرف اللغة.

– تعلَّمتها هنا؟

– أبدًا. في السويد. قضيت هناك عدة أشهر تعلَّمت خلالها مبادئ اللغة.

– هذا رائع. لا بد أن تحكي لي مرةً عن حياتك هناك.

– خسارة أنك لم تأتِ منذ شهر؛ كانت هنا شلة سويديات، وكنا نخرج في لنشات، وعندما نبتعد عن «أبي سنبل» كن يخلعن البكيني نفسه.

أشعلت سيجارةً وأنا أتصوَّر المنظر، وسألني ونحن نتأهَّب لمغادرة الغرفة: ألم تشعر بالجوع بعد؟

أومأت برأسي، وقال عندما هبطنا إلى الشاطئ إنه سيذهب معي لأنهم يتناولون طعامهم في النادي القريب من استراحة الشركة.

رأيت مجموعةً من الرجال الذين غطَّوا رءوسهم بقُبَّعات من الفلين وقد تجمَّعوا على مستوًى مرتفع قليلًا من الصخور.

وقال خليل: تعالَ أعرِّفك بالدكتور شوقي رئيسنا.

صعدنا إليهم وسط الصخور. كانوا يقفون إلى جوار فتحة أشبه بالكهف متحلِّقين حول رجل ضخم متقدِّم في السن أبيض شعر الرأس، وكان هذا يفحص بضعة نقوش على الصخور بدت لي أشبه بعبث الأطفال.

قال ذو الشعر الأبيض إن بعض النقوش ترمز إلى الثيران، وبعضها الآخر إلى الغزال. وانحنى فوق نقش غير واضح، ثم أضاف: آه … هنا أسد مرتفع الذيل. هذه الرسوم من قبل التاريخ.

سرَت هَمْهمة في المجموعة، وقال خليل: معنا هنا صحفي ليسجِّل هذا الاكتشاف.

قال ذو الشعر الأبيض في استهانة: ليست لهذه الرسوم أية قيمة؛ فقد عثرنا على الآلاف منها في كل مكان. هل تعرفون لماذا ينتمي رسم الأسد هذا إلى عصر ما قبل التاريخ؟ لأن الفراعنة رسموه وذيله دائر على كِفله في الاتجاه إلى أسفل علامة الوداعة.

تحوَّل الدكتور شوقي عن الكهف وبدأ يهبط الصخور ونحن في أعقابه، وجذبني خليل من ذراعي مقتربًا منه، ثم قدَّمني إليه في زهو كما لو كان يعرض عليه اكتشافًا أثريًّا.

سألته عمَّا إذا كان قد تمَّ إنقاذ كل الآثار القديمة في النوبة، أم إن بعضها سيتعرَّض للغرق.

أجاب في حِدة: لن يغرق شيء.

قلت: ولكني سمعت أن بعض الآثار لن يمكن إنقاذها؛ ومنها كنيسة تضم صورًا للتعذيب الذي كان يتعرَّض له المسيحيون الأوائل.

قال: لقد اخترنا أهم النقوش الصخرية التي يمكن قطعها وعرضها في معارض وإهداؤها، وكل المعابد تمَّ إنقاذها.

قلت: ومعبد «جرف حسين»؟

تردَّد قليلًا، ثم قال: معبد «جرف حسين» ليست له قيمة، لكننا أخذنا منه كل ما هو مهم. اسمع، هذا المعبد يستحيل رفعه، ولم يكن من الممكن رفع كل النقوش الموجودة على الجدران، لكننا اكتفينا بالأهم وتصوير الباقي.

لحظت في صوته رنة غَضَب، ولمحت خليل يغمز لي بعينه فشكرته. تركته يواصل طريقه بين الصخور نحو الشاطئ، وتبعت خليل إلى حيث وقفَت سيارة جيب عند أول الطريق المؤدِّي إلى الجبل، وجاء في أعقابنا بعض من كانوا يقفون حول الدكتور شوقي وفي مقدِّمتهم بَدِين بارز البطن يرتدي شورتًا أصفر.

جلست بين السائق وخليل، بينما تزاحم الآخرون على المقعد الخلفي، وعندما شرع البَدِين في الصعود صاحوا فيه أنه يأخذ مكان ثلاثة، فتراجع وظلَّ خارج السيارة حتى جلسوا جميعًا، ولم يعد ثمة مكان له فاستند على حافَّة المقعد بجانبٍ من فخذه الأيمن، وتعلَّق في سقف العربة بيده اليمنى تاركًا بقية جسمه في الهواء.

كان له شارب صغير للغاية على الطراز الهتلري أضفى على وجهه السمين طابعًا غربيًّا، وكانت حدقتاه صفراوَين لهما نظرة ثابتة، ولحظت أن حافة الشورت الذي يرتديه بالية، وقدَّرت أنه في الخامسة والأربعين أو الخمسين.

تحرَّكت العربة فسمعنا صوتًا يصيح بنا أن نقف، والتفتُّ إلى الوراء فرأيت عم مهدي مساعد الريس سرور يجري محاولًا اللحاق بنا، وما لبث أن تعلَّق بالسيارة واحتلَّ منها على الناحية اليمنى المكان نفسه الذي احتلَّه ذو الشورت الأصفر على الناحية اليسرى.

سأله السائق إلى أين يريد الذهاب، فقال لاهثًا إنه يريد الصعود إلى أعلى لشراء رطل لحم من الجمعية التعاونية.

واصلت السيارة مسيرها، ومضت تصعد الطريق الصخري في صعوبة، وارتفع صوتٌ من خلفي قائلًا: لو شاءت الحكومة لكانت وفَّرت المبالغ التي أنفقت على رصف هذا الطريق.

سأل آخر: كيف؟

أجاب: كان بوسع مصلحة الآثار أن تتولَّى العملية بتكاليف لا تُذكر.

تطلَّع الجميع إلى ذي الشورت الأصفر وانفجروا ضاحكين.

أتت السيارة بعد عدة خطوات، فقال الصوت الأول: يا الله حسن الختام!

تحوَّل إليه خليل قائلًا: يجب أن نتحمَّل مصائبنا. ثم وجَّه حديثه لذي الشورت الأصفر في صوت جاد: لا تفقد ثقتك في العالم. المؤكَّد أنهم سيخترعون في المستقبل العربة المتينة التي تحملك دون أن تشكو.

قال آخر: لكنه على ضخامته يتمتَّع برشاقة الغزلان. انظر كيف يجلس بنصف فخذ.

قال الصوت الأول على الفور: لن يحسبوا قوة السيارة الجديدة بالحصان. سيجعلونها قوة عشرين فخذ ومائة وألف، وهلم جرًّا.

لم ينبِس ذو الشورت الأصفر بشيء، وظلَّ يتطلَّع أمامه بنظرة ثابتة كأنه ليس معنا، وعندما أصبحنا على مسافة ثلاثين مترًا من استراحة الشركة انفجر أحد إطارات السيارة، وغادرنا السيارة فاكتشفنا أن الإطار الذي انفجر كان في الناحية التي اعتمد عليها ذو الشورت الأصفر.

قال عم مهدي ضاحكًا: الحمد الله أنا مش السبب. أنا كنت في الناحية التانية.

مشينا حتى الاستراحة، وسألت عم مهدي عن موعد قيام الصندل في رحلة العودة، فقال: بعد أسبوع.

اتفقت مع خليل على أن يمر بعد الظهر، ثم ولجت الاستراحة وتابعوا هم المسير. تناولت طعام الغداء بمفردي من يد عجوز نوبي، وأويت إلى غرفتي فاستغرقت في نوم عميق أفقت منه وقد أوشكت الشمس على الغروب.

خرجت إلى الردهة الخارجية فوجدتها خالية، ولمحت العجوز النوبي في المطبخ فطلبت منه أن يُعِد لي شايًا. جلست في الردهة أتصفَّح مجموعةً من صحف الأيام الماضية وأنا أرتشف الشاي. عثرت على عددٍ من المجلة التي يعمل بها سعيد، فقرأت التاريخ وقلَّبت صفحاتها بسرعة دون أن أعثر على مقال له.

وصل خليل بعد أن ساد الظلام. غادرنا الاستراحة، ثم درنا من حولها ومضينا مسافةً في أرض فضاء، وبعد قليل أصبحنا نسير بين فيلات صغيرة أشبه بشاليهات المصايف. قال خليل: إنها مُخصَّصة للأجانب.

لم أستطِع أن أتبيَّن شيئًا من خلال نوافذ الشاليهات التي لم تكن تعلو عن الأرض كثيرًا؛ فقد كان أغلبها مظلمًا أو مسدل الستائر.

تذكَّرت رد فعل رفعت أمس عندما ذكرت اسم خليل أمامه، فسألته عمَّا إذا كان هناك شيء بينهما. ظلَّ صامتًا بعض الوقت، ثم قال: تشاجرنا مرةً بسبب فتاة سويدية، ثم سَوَّينا الأمر.

قلت: على فكرة. هل تأخذ مرتَّبًا جيدًا هنا؟

قال: طبعًا. كلنا هنا نأخذ مرتباتنا بزيادة مائة وخمسين في المائة.

سألت: وموظفو الشركة أيضًا مثل رفعت وحلمي؟

أجاب: وهم أيضًا.

مررنا بمنزل أُسدلت على نافذته المضاءة ستارة حمراء، ثم عبرنا شارعًا ومضينا وسط مجموعة أخرى من الشاليهات حتى وصلنا الشاليه المخصَّص للبنات.

دقَّ خليل جرس الباب الخارجي مسافةً دون نتيجة. درنا حول الشاليه فرأينا إحدى النوافذ مضاءةً وقد أُسدلت ستارتها، وقال خليل إنها غرفة الفتاة الفرنسية، وإنها ليست جميلة، لكنها مُتعلِّقة بملاحظٍ إيطالي لا تدعه يفارقها.

عدنا إلى الشارع واقترح خليل أن نذهب إلى النادي الإفرنجي لعلنا نعثر فيه على الفتاتَين الأخريَين، وألفينا النادي مغلقًا، ورأينا من خلال نوافذه عجوزًا إيطاليةً منهمكةً في إعداد مجموعة كبيرة من الستائر.

عرض عليَّ خليل أن نزور صديقًا له هو طبيب المستشفى فوافقت. كان المستشفى بجوار الاستراحة الأخرى المخصَّصة لموظَّفي مصلحة الآثار وقد أُلحق به مسكن الطبيب، ووجدنا هذا مُضاءً وبابه مفتوحًا على مصراعَيه. اجتزنا صالةً خاويةً إلا من ثلاجة، وولجنا غرفةً تسودها الفوضى جلس في وسطها إلى مائدة صغيرة شاب أصلع قصير القامة محتقن الوجه وأمامه زجاجة من الخمر.

قام الشاب مُرحِّبًا بنا، وأصرَّ على أن أجلس فوق المقعد الوحيد بالغرفة، بينما استقرَّ خليل على الفِراش الذي تناثرت فوقه الملابس وتدلَّت أغطيته على الأرض.

غادر الطبيب الغرفة وعاد يحمل كوبَين من الزجاج وإناءً به قطع الثلج، ووضع قطعتَين من الثلج في كل كوب أضاف إليهما مقدارًا من سائل الزبيب الذي احتوت عليه الزجاجة، ثم أضاف قليلًا من الماء فاتخذ السائلُ على الفور لون اللبن.

قدَّم إلى كلٍّ منا كوبًا وحمل كوبه فانضمَّ إلى خليل على الفراش، ورآني أتأمَّل عددًا وفيرًا من زجاجات الخمر الفارغة صُفَّت إلى جوار الحائط، فقال: ليس هنا مرضى ولا نساء، ولم يبقَّ غير القمار والخمر، وأنا لا أحب القمار.

قلت: فهمت أن خليلًا احتكر لعبة النساء.

ضحك وقال: هو الذي أفهمك هذا؟ ضحك عليك. خليل لا همَّ له إلا تحويش راتبه.

قال خليل: في عُرفك من لا يشرب كل ليلة مُتَّهم بأنه يحوِّش نقوده.

قلت: ألم يبلغكم الوباء الذي انتشر في السد في الأسبوعَين الماضيَين؟

قال: أبدًا. المستوى الصحي هنا مرتفع. تعرف لماذا؟

قلت: لماذا؟

قال: هنا عدد كبير من الأوروبيين، وهؤلاء صحتهم ممتازة لأنهم تربَّوا على الزبدة.

قدَّمت إليه سيجارةً وأشعلت واحدة. استطرد بعد أن جذب عدة أنفاس عميقة: أقول لك الحق … أنا لم أُخلق للشراب ولا للطب … أنا خُلقت للسياسة.

قلت: وماذا يمنعك من الاشتغال بها؟

تطلَّع إليَّ باستغراب، ثم ضحك: كيف؟ أليست أمور البلد في أيدٍ أمينة ولا مجال لغيرها؟

سألت: أليس هنا اتحاد اشتراكي؟

قال: طبعًا، توجد لجنة رئيسها هو المقاول الذي يأتي بالأنفار.

وتناول كأسه وهو يقول: نشرب في صحة المقاولين … حُكَّام المستقبل.

كان مذاق الزبيب المثلَّج لطيفًا فأفرغت كأسي كله.

قال خليل: رأيي أن السياسة نصب.

تجاهله الطبيب ومال برأسه ناحيتي: عندما كنت في الجامعة كانت هموم البلد تعنينا أكثر من الآن. كنا نفكِّر بكل شيء ونتابع كل شيء، ونحلم بيوم التخرُّج لنذهب إلى الريف ونُداوي الفلَّاحين الذين يعيشون كالحيوانات.

وضع كأسه على المائدة، ثم أضاف: أنا هنا الآن لأني أُريد أن أجمع شيئًا من المال أفتح به عيادةً خاصة؛ فهذه هي اللغة الوحيدة التي تتكلَّمها البلد كلها الآن.

***

لحظات الغروب على العشب الأخضر تحت الساعة العالية التي يردِّد الراديو دقَّاتها الرصينة طول اليوم. رعشة القلب لابتسامة فتاة. الكتب التي تظل مغلقة الصفحات حتى ليلة الامتحان، وفي البداية كان هناك من يحملون على الأعناق وتشق أيديهم الهواء من اليمين إلى اليسار مع الشعارات المنغَّمة؛ فما زالت الجدران تُسمِع صدى أول هتاف بسقوط الملك، عندما كانت الصحف تتخاطفها الأيدي من الباعة. رعاياك يا مولاي. الثورة الثورة الثورة. ولم تنقطع حلقات النقاش وجرائد الحائط، لكن سيارات الشرطة وصلت إلى أبواب المدرَّجات، وساد الساحة هدوء الموت الأصفر.

***

قال لي الطبيب: يُهيَّأ لي أني رأيتك من قبل.

قلت: أين؟

قال: ربما أيام العدوان الثلاثي، في معسكرات الجامعة … كنت هناك؟

قلت: أجل. بقينا ثلاثة أيام نُطالب بأن يُعطونا أسلحةً دون جدوى.

قال: وبعد ذلك؟

قلت: لا شيء. انضممنا إلى فرقة للمقاومة الشعبية في الحي.

***

وصدَّقنا حقًّا أننا سنقاتل. وعلى باب المدرسة القديمة وقف شاب يحمل بندقيةً يسألك عن كلمة السر بصوت متوتِّر، وفي الداخل جلس الضابط السابق في ملابسه العسكرية يأكل الكباب، وحوله الحواريون من أعضاء الهيئة التي تضم كل الشعب، وتولَّى التدريب عريف قال إنه من رجال الثورة، ثم أعطونا البنادق الجديدة التي لم تلمسها أصبع من قبل، وطُفنا بشوارع الحي يتقدَّمنا ضابط آخر أصبح فيما بعدُ من نجوم السينما، وتجمَّع السكَّان في النوافذ والشرفات يُصفِّقون لنا، وزغردت النسوة، بعد ذلك تحدَّثت الصحف عن الانتصار الشعبي الرائع.

***

ملأ الطبيب كئوسنا من جديد وهو يقول: فكِّروا لنا في نخب.

قال خليل: نشرب نخب أنفسنا.

قال الطبيب: نُريد شيئًا آخر أكثر أهمية؛ رمسيس الثاني مثلًا.

قلت: أو الفنانين الذين نحتوا تماثيله.

قال الطبيب: ولكننا لا نعرفهم. ما رأي الآثار؟

قال خليل: ليست عندي أية فكرة.

***

«أنا العليم بسر الكلمات المقدسة … أنا سيد الأسرار … أعرف تمامًا الأوضاع الدقيقة لتمثال الرجل ووقفة المرأة … وكيف يتهيَّأ الرجل ليطعن بالحربة. أنا عليم بنظرة العين الخاطفة، بالدهشة الطارئة التي تعتري الشخص الذي يستيقظ من نومه، بحركة ذراع رامي الرمح وهو يرفع ذراعه بمدى ميل جسم إنسان يجري. أعرف سر تركيبات لا تقوى النيران على حرقها … ولا تستطيع المياه إذابتها.»

***

سألني الطبيب: لماذا لا يعجبك رمسيس الثاني؟ إنه أكثر شخصية تتمثَّل فيها عبرة التاريخ.

تساءلت: كيف؟

قال: ألم يحكِ لك خليل عن تاريخه؟ سبعون سنة من السلطة؛ أي الكذب والفجور والقتل والادعاء والغرور والاستعباد، وها هو ما زال يعيش حتى أيامنا، ونحن الآن نعمل ليل نهار ليخلد اسمه، تمامًا كما أراد.

قلت: ولماذا لا نقول إننا نخلِّد الفنان المجهول الذي نحت هذه التماثيل؟

انفجر ضاحكًا: الفنان المجهول، كالجندي المجهول. الضحية التي ينساها الإنسان بسرعة البرق.

قال خليل: نشرب نُخب الحكيم الفرعوني الذي قال: لا أحد سيأخذ بضائعه معه، ولا أحد ذهب سيعود ثانية.

قال الطبيب: واحد آخر مجهول. لا. أنا مُصِر على رمسيس الثاني.

قلت: نشرب.

شربنا في صحة رمسيس الثاني، ووقف خليل قائلًا إن الوقت متأخِّر ولا بد له من الذهاب إلى عوَّامته، ونهضت بدوري.

تمسَّك الطبيب ببقائنا وقال إنه ما زالت هناك عدة أنخاب أُخرى لنفرتاري، وبقية الزوجات الخمس اللاتي كن مُفضَّلات من بين حريم رمسيس، لكن خليل أصرَّ على الانصراف قائلًا إنه مُضطر لأن يمشي حتى العوَّامة.

تحوَّل إليَّ الطبيب: إذن تبقى أنت لنُفرغ الزجاجة معًا.

قلت إني أُفضِّل الانصراف لأستيقظ مبكِّرًا.

سألني: إلى متى ستبقى معنا؟

قلت: الصندل الذي جئت عليه سيعود بعد أسبوع.

قال: إذن سنلتقي مرةً أخرى.

انطلقنا إلى الخارج، ورافقت خليل مرحلةً من الطريق، ثم ودَّعته بعد أن تواعدنا على اللقاء في الصباح. عُدت أدراجي إلى الاستراحة، وما إن بلغتها حتى تجاوزتها وواصلت السير إلى الخِيَم.

كانت أغلب الخيم مظلمةً تكشف فُتحاتها عن الرجال الذين رقدوا على الأرض وغطوا في النوم، وعثرت على واحدة مضاءة تَحلَّق فيها عددٌ من الرجال حول مصباحٍ زيتي. سألتهم عن جرجس فأشاروا إلى خيمة مجاورة.

ألفيت الخيمة مظلمة، ووقفت في مدخلها أتأمَّل شخصًا ممدِّدًا بداخلها يَصدر عنه غطيط منتظم.

ناديت على جرجس بصوت مرتفع عدة مرات، ثم ردَّدت اسم ذهني، لكن النائم لم يتحرَّك، فاستدرت وكرَّرت عائدًا إلى الاستراحة.

***