نجمة أغسطس

مؤسسة هنداوي مؤسسة هنداوي

الفصل الأول

عندما ولجت الردهة في الصباح فوجئت بفهمي يُحيِّيني قائلًا: صباح الخير يا بيه. الفطار جاهز.

تمتمت ردًّا مبهمًا على تحيته وجلست إلى المائدة. جعلت أرقبه وهو يضع الفول والجبن والمربَّى، ثم يجلب الماء الساخن والشاي. اختلست نظرةً إلى وجهه فرأيته جامدًا لا يُعبِّر عن شيء ولا يحمل سوى تلك النظرة المؤدَّبة المعهودة في مطاعم الدرجة الأولى، واحترت في السبب الذي جعله يُخفي عني مهنته الحقيقية.

سألته عن أحمد بعد لحظة فأجاب: بخير.

قلت: هو فين؟

قال: في الورشة.

لعل أحمد ميكانيكي حقًّا كما قال.

انضمَّ إليَّ رفعت وأقبل على الطعام بحماسة. سألني عمَّا فعلت بالأمس فحكيت له، وظهر عليه الاستياء عندما سمع بذهابنا إلى مسكن البنات.

قال: ولماذا أخذك إليهن؟

قلت: أنا الذي طلبت. فكَّرت في عمل حديث معهن. ثلاث بنات يعملن في «أبي سنبل». هذا موضوع جذَّاب.

قال: هو يريد أن يستغلَّك ليتقرب إليهن.

لم أعلِّق بشيء ولزم هو الصمت.

قلت بعد لحظة إني ذاهب إلى المعبد الصغير، فسألني إن كانت لدي سيارة، وعندما علم أني أنوي الذهاب إلى الشاطئ سيرًا على الأقدام عرض أن يضعني في سيارة تابعة للشركة ستذهب إلى الشاطئ بعد قليل.

أقلَّتني السيارة حتى عوَّامة خليل، وكان ينتظرني أمام مدخلها، فانطلقنا على أقدامنا بحِذاء الشاطئ. مررنا من أسفل أقدام رمسيس الذي يتصدَّر واجهة المعبد الكبير، وواصلنا السير مائتَي متر أخرى حتى بلغنا المعبد الآخر.

كانت أطراف أعمدة التخريم ترتفع فوق الجبل الذي يحتضن المعبد، ولمحت عاملًا انحنى بكل جسده خلف مثقاب كهربائي كان يرتجف بشدة وهو يزحف داخل الصخر في بطء.

لاحظت أن واجهة المعبد أكثر اتساقًا من واجهة المعبد الكبير، وربما كان السبب هو صِغر كلٍّ من حجمها وحجم التماثيل المكوِّنة لها. كانت مُزيَّنةً بستة تماثيل؛ منها أربعة لرمسيس الثاني تمثِّله واقفًا عاري الصدر وقد التفَّ الإزار الشهير حول وسطه وفخذَيه، وبدا وجهه أقرب إلى صورته في التماثيل الداخلية للمعبد الكبير، لكن الابتسامة ذاتها كانت هناك.

كان التمثالان الآخران لنفرتاري في ثوب شفَّاف كشف عن ثديَيها، بينما أحاط شعرها بوجهها وتدلَّى على كتفَيها، واستقرَّ فوق رأسها تاج على هيئة قرص الشمس بين ريشتَين، وحول سيقان التماثيل الضخمة وقف أطفال صغار في ارتفاع الركبة.

علَّق خليل على تماثيل الواجهة ونحن نجتاز المدخل الذي انتصب رمسيس على جانبَيه: إنها أول مرة يسمح فيها رمسيس لامرأة أن تقف إلى جواره في نفس حجمه، ويقال إنها كانت أحبَّ زوجاته إليه، ولعلها كانت ذات نفوذ سياسي.

ولجنا قاعةً تحف بها ثلاثة أعمدة على كل جانب، وكانت قمة كلِّ عمود يزيِّنها في الناحية التي تُطل على الصالة رأس امرأة بأذنَي بقرة وشعر غزير انسدل في دوائر فوق كتفَيها. ظننت الرأس لنفرتاري، لكن خليل قال إنها للإلهة «حتحور» التي خُصِّص المعبد لعبادتها.

كانت جوانب الأعمدة تمثِّل الملك والملكة بصحبة الآلهة المختلفة، وعلى الجدار الشرقي ظهر رمسيس على يمين المدخل ويساره يضرب أعداءه أمام الإله «رع حور آختي» تارة، وأمام «آمون رع» تارةً أخرى.

وكان هناك منظر يمثِّل اثنتَين من الآلهة تضعان على رأس نفرتاري التي توسَّطتهما في ثوبٍ شفاف التاج المؤلَّف من قرص الشمس بين ريشتَين، وبدا وجه الملكة رائع الجمال بأنف مستقيم، وكانت هناك بقية من الألوان القديمة التي غطَّته في يومٍ من الأيام ميَّزتُ بينها الذهبي والأحمر والأسود والكحلي.

اكتشفت أن العديد من السياح الأجانب الذين زاروا المعبد قد سجَّلوا أسماءهم في أماكن مختلفة من الجدران ابتغاءً للخلود ولا ريب، فغطَّوا بذلك أجزاء من النقوش الأصلية.

غادرنا القاعة من باب زُيِّنت جبهته بقرص الشمس تبرز منه حيتان وينتشر من جانبَيه جناحا صقر، واجتزنا صالةً عرضيةً إلى المكان المعهود في أقصى كل معبد: قدس الأقداس.

كانت جدران هذه الغرفة محلَّاةً بمناظر تمثِّل رمسيس يحرق البخور في حضرة المعبود وزوجته إلى جانبه تهز في يدٍ آلةً موسيقية، وتحمل في الأخرى بعضًا من زهر اللوتس. وظهرت خطوط فخذَيها واضحةً تحت الثوب الشفاف.

استقرَّ تمثال الإلهة «حتحور» في مركز الصدارة من قدس الأقداس، وبدت في صورة امرأة فاتنة دقيقة الجسم يرتفع فوق رأسها قرنا بقرة يحيطان بقرص الشمس.

استفسرت من خليل عن تخصُّص «حتحور» بين الآلهة فأجاب: لم أقُل لك؟ إنها إلهة المتعة الجنسية.

قلت: لا أستطيع أن أتصوَّر هؤلاء الناس يمارسون الغرام.

قال ونحن نتجه إلى الخارج: أنت مخطئ؛ فقد كان بينهم عُشَّاق مشهورون، وعلى ما أذكر توجد بردية تحدَّث فيها صاحبها عن سواد شعر حبيبته وحمرة شفتَيها التي طغت على حمرة البلح الناضج، رغم أنهم لم يكونوا يعرفون التقبيل بالشفاه.

– كيف كان التقبيل لديهم إذن؟

قال: كانوا يكتفون بحك الأنف.

أصبحنا في الخارج وسقطت علينا أشعة الشمس حارةً ملتهبة. أسرعت أضع قُبعتي على رأسي واستأنف خليل حديثه ونحن نسير على الشاطئ: فيما عدا هذا كانوا مثلنا تمامًا؛ فهناك حكايةٌ عن زوجة كاهن من كهنة «رع» كانت تخونه وأنجبت من عشيقها ثلاثة أولاد، وعندما اكتشف زوجها الحقيقة قالت له إن الإله «رع» هو نفسه والد الأطفال الثلاثة. وحكاية أخرى عن واحدة أغوت شقيق زوجها لكنه رفض الاستسلام لها، فانتقمت منه بأن زعمت لزوجها أنه راودها عن نفسها.

كُنا قد بلغنا منتصف المسافة بين المعبدَين، وتحوَّلت أتأمَّل الصخور التي تصل بينهما. كانت قمتها تبدو متجهِّمةً غير متناسقة، وفي عدد من الأماكن على السفح تجلَّى فِعل الرياح على مرِّ الأعوام في خطوط طولية متعاقبة على هيئة طبقات.

سألت خليل: بأي المعبدَين كان الناس يبدءون زيارتهم؟

أجاب: كان لكل معبد عيده الخاص الذي يأتيه فيه الناس من الضفة الأخرى.

***

«وكانوا يحتشدون من البقاع كافةً لهذا الغرض ليتقرَّبوا إلى المعبود ويسألوه العون في مشاكلهم. ويقبل الملك فوق محفة تتألَّف من مقعد كبير ذي مساند جانبية، وعلى قفاه يتدلَّى شَعر مستعار يحوطه إكليل معقود من الخلف يلتفُّ فوقه ثعبان من الذهب انتفخ عنقه فانتصب وسط الجبين. ويتربَّع تاج الوجهَين فوق رأسه الذي تحميه من أشعة الشمس مظلات من ريش النعام يحملها أبناء الملك وكبار رجال الدولة. وعند باب المعبد ينتظر الكهنة عُراة الصدور حليقي شعر الرأس واللحية والشارب. هؤلاء وحدهم الذين يتمتَّعون بحق دخول قدس الأقداس ورؤية الآلهة. ويدخل الملك وصحبه إلى حضرة المعبود، بينما ينتظر أفراد الشعب في الخارج؛ النسوة تحرِّك الصاجات، والمغنيات ينشدن، والرجال يعزفون على الناي، والآخرون يرقصون ويصفِّقون بأيديهم. وعندما ينتهي الاحتفال الديني ويخرج الملك إلى الموكب المقدس الذي ينتظره في النيل يبدأ العيد الحقيقي، فيستسلم الآلاف للملذَّات، ويتناولون كميات وفيرةً من النبيذ.»

***

صحبت خليل إلى مكتبه بالعوَّامة بعد أن وعدني بفنجان من القهوة. جلست إلى جوار المكتب في غرفة واسعة صُفَّت فيها عدة مكاتب بحذاء جدرانها، وتركني خليل بعض الوقت ليتبادل الحديث مع أوروبي مَرِح لوَّحت الشمس وجهه كان يجلس إلى المكتب المقابل.

أحضر فرَّاش نوبي فنجان القهوة وكوبًا من الماء المثلَّج. أشعلت سيجارة، وما لبث خليل أن انضمَّ إليَّ.

قال وهو يجلس إلى مكتبه: خبير سويدي. كان يقيم هو وزوجته تحت، وكنت أراهما كل ليلة من الشاطئ قبل النوم وهي عارية تمامًا.

تطلَّعت إليه متسائلًا، فاستطرد باسمًا: السويديون ينامون دائمًا عرايا. أتعرف ماذا كان يحدث كل ليلة؟ كان الرجل يقبِّل زوجته عدة دقائق ثم يتركها وينصرف إلى غرفته.

سألت: دون أن ينام معها؟

قال: الرجل السويدي لا ينام مع زوجته إلا مرةً واحدة في الشهر ليحافظ على طاقته في العمل.

– وماذا تفعل النساء؟

– لك أن تتخيل. في أول أسبوع لي في السويد كنت أقيم عند رجل له بنتان، وفي الليل طرقت بابي إحداهما، وبعد ربع ساعة دخلت الثانية عارية.

أشعلت سيجارةً ثانية وأنا أقول: وقضيتم الليلة ثلاثتكم معًا؟

ضحك: طبعًا.

– والأب؟

– لا شيء. البنت السويدية تأخذك في حجرتها بعلم أبيها وبرضاه.

قلت وأنا أنهض واقفًا وأتناول قبعتي: في المرة القادمة عندما تذهب إلى هناك يجب أن تأخذني معك.

قال: إلى أين أنت ذاهب الآن؟

قلت: أريد أن أشتري سيجارًا وصابونًا.

قال: عليك إذن أن تذهب إلى المستعمرة. انتظر حتى أجد لك سيارة.

غادرنا العوامة إلى الشاطئ، وكانت هناك سيارة جيب بلا سائق، فوقفنا في ظلها ننتظر.

قال: لو رأيت عمالنا الصعايدة عندما كانت شلة السويديات هنا لمت من الضحك. كانت السويديات يستلقين خارج الشاليهات بالبكيني، ويقف الصعايدة الذين لم يروا شيئًا مثل هذا من قبل … يقفون أمامهن ساعات بلا حراك أو عمل.

قلت: سنذهب بعد الظهر إلى منزل البنات؟

قال: لا مانع. سأمر عليك.

تركني ومضى إلى العوامة بحثًا عن السائق، ولمحت أمامها ذا الشورت الكاكي والقبعة الفلين يتبادل الحديث مع شاب صغير وقد أمسك بذراعه. كان يشير بإصبعه ناحية المعبد والشاب يهز رأسه نفيًا، ثم صعد الشاب إلى العوامة بينما انطلق البدين بمفرده، وظهر خليل وبرفقته السائق.

أقلَّني السائق إلى مستعمرة الأجانب وأنزلني أمام الجمعية التعاونية، وألفيت في الداخل عددًا كبيرًا من المصريين أغلبهم من العُمَّال وبينهم بعض الأجانب.

تعلَّقَت عيناي بفتاة أجنبية رائعة البشرة. كان جسدها نحيفًا وشعرها أشقر قصيرًا، وبدت شفتاها رقيقتَين للغاية، وعلا بشرة ساعدَيها وساقَيها زغَب أشقر خفيف، وكانت حركاتها تنم عن اعتداد شديد بالنفس.

كانت تُحاول التحدُّث إلى البائع الذي انهمك في شجار حادٍّ مع أحد العُمَّال، وفجأةً انفجرَت فيه صائحة بالإنجليزية: أنا أكلِّمك يا حيوان ويجب أن ترد عليَّ!

أجاب لها البائع طلباتها وانصرفت، واشتريت أنا سجائر وصابونًا، ثم انطلقت في الطريق المؤدِّي إلى الاستراحة وأنا أتطلَّع حولي يمنةً ويسرة، لكني لم ألمح شيئًا من تلك المخلوقات التي زعم خليل أنها تظهر للرائي في البكيني.

وضعت السجائر والصابون في حجرتي وعُدت إلى الخارج. مشيت حتى الخيم، وبحثت عن جرجس، فقال لي أحد العُمَّال إنه في الورشة التي تقع خلف الخيم.

وجدت جرجس يُعاون أحمد في تشحيم محرِّك سيارة، وكان الاثنان يرتديان سروالَين إفرنجيَّين. رحَّبا بي ومضى أحمد ليعد لنا الشاي، فانتهزت الفرصة لأسأل جرجس عن ذهني.

قال في صوت خافت: سافر امبارح.

قلت: سافر خلاص؟

قال: تلاجيه الوجت عدَّا الحدود.

قلت: كنت عاوز أشوفه قبل ما يسافر.

قال: إحنا استنظرناك امبارح بالليل.

قلت: أنا جيت لكن ما لقيتش حد.

قال: لازم جيت متأخر. كان لازم تجوم بدري.

قلت: إنت رحت معاه؟

قال: وصَّلته حبة.

عاد أحمد بالشاي وقدَّمت إليهما السجائر.

قال أحمد: عرفت انك شفت فهمي النهارده الصبح.

قلت: أيوة.

انتهينا من الشاي فغادرتهما واعدًا بزيارتهما مرةً أخرى، وعدت إلى الاستراحة فأخذت حمَّامًا، ثم تناولت طعام الغداء بمفردي، وكان فهمي هو الذي قدَّمه إلي.

غفوت ساعةً بعد الغداء، وحلمت أني على ظهر مركب أمام «وادي السبوع». كان الشاطئ حافلًا بتماثيل ملوَّنة زاهية لإناث جميلات، وعلى ظهر المركب استلقت عدة نساء قبيحات عرضن أجزاءً من أجسادهن للشمس. كانت إحداهن تشاركني الغطاء، وشعرت بها تداعب قدمي بأصبع قدمها فداعبتها بدوري، ثم رأيت ثديًا عاريًا لواحدة أخرى فحوَّلت وجهي أدبًا، وكنت أعرف أنهن يتقرَّبن إليَّ كي أنشر صورهن في الصحيفة.

أخذت حمَّامًا عندما استيقظت، ولم أجد أحدًا في الصالة أو المطبخ، فأعددت لنفسي كوبًا من الشاي حملته إلى الخارج وجلست أحتسيه على درج الاستراحة.

كانت حرارة الشمس ما تزال قوية، لكن مساحة الظل كانت كبيرة، وقدَّرت أن الشمس ستختفي بعد ساعة.

أعادتني سخونة الجو إلى الداخل. ذهبت إلى حجرتي وفتحت كلًّا من مصراعَي النافذة الخشبي والزجاجي. تركت المصراع الخشبي مفتوحًا وأعدت إغلاق الزجاجي، ومرَّت من أمامي شاحنة تمدَّد ثلاثة من الصعايدة فوق ظهرها وراحوا في سبات عميق.

وقفت خلف النافذة أدخِّن وأتأمَّل الطريق، بينما جهاز التكييف يطنُّ في أذني. لم يكن هناك أثر لأحد من الأحياء فيما حولي، ولم أرَّ أية مبانٍ على الناحية المقابلة، وكانت الرمال والصخور تُغطِّيانها وتتدرَّجان ارتفاعًا حتى مدى البصر.

وأدركت أني بلغت نهاية رحلتي.

***

قلت لخليل ونحن نبتعد عن الاستراحة في اتجاه بيوت الأجانب: ألَا تعرف طريقةً للسفر؟ الصندل لا يقوم قبل أسبوع، وأنا أريد العودة إلى القاهرة بأسرع وقت.

قال: الباخرة مسافرة غدًا. لماذا لم تقل لي قبل الآن؟

سألت: ليس هناك مكان؟

قال: غالبًا، لكني سأدبِّر لك واحدًا من تحت الأرض.

وضع يده في جيب قميصه الأعلى، وأخرج صورةً فوتوغرافيةً قدَّمها لي وهو يقول: هذه صورتي فربما احتجتَها إذا كنت ستكتب شيئًا.

أخذتها منه باهتمام قائلًا: كنت سأطلبها منك. طبعًا سأحتاجها.

بلغنا منزل البنات وقرعنا الجرس دون أن يُجيبنا أحدٌ كما حدث بالأمس.

قال: آه. نسيت أن فيلمًا يُعرض اليوم. لعلهم هناك الآن. تُحب أن تذهب؟

قلت: إني لا أُمانع.

انطلقنا إلى النادي الإفرنجي الذي يُعرض به الفيلم، وكان مُلوَّنًا يقوم ببطولته جيمس ماسون في دور الأمير الشجاع سير براك. ألفينا العرض قد بدأ، فأخذنا مقاعدنا في الظلام، وعندما انتهى العرض وأُضيئت الأنوار تحوَّلت أتأمَّل جمهور المتفرِّجين. كان معظمهم من الأجانب، وبينهم عددٌ ضئيل من النساء، وأشار خليل إلى فتاة طويلة ممشوقة القوام وقال: هذه هي ريختا.

كانت ريختا جديرةً حقًّا بالضجة التي أُثيرت حولها، ورأيتها تغادر الصالة معتمدةً على ذراع شاب رياضي في مثل قامتها ذي ملامح إيطالية. سألني خليل إذا كنت أُريد أن أتحدَّث إليها أو إلى غيرها، فأجبت بأني فقدت اهتمامي وأني أُريد أن أتمشَّى في الهواء الطلق.

مضينا في اتجاه الاستراحة، ومررنا بحانوت حلاق، ثم شاليه جلس في مدخله المُضاء رجل وامرأة متقابلَين، واقتعدَت الأرضَ بجوارهما امرأة ترتدي شورتًا. كانت قد مدَّت ساقَيها العاريتَين أمامها، فانعكس الضوء عليهما، وقال خليل إنهم إيطاليون.

سألته إن كان قد جرَّب الإيطاليات، فأجاب: كلا. اليونانيات فقط.

– هل توجد هنا يونانيات؟

– أبدًا. هذا كان في الإسكندرية.

قلت: احكِ لي.

قال: كنا في الصيف وأخذت شقةً في عمارة مزدحمة، ثم اكتشفت أن هناك يونانيةً رائعة الجمال تسكن تحتي بمفردها، والتقينا عدة مرات في المصعد فتبادلنا التحية بالفرنسية، وفي يوم عُدت بالليل مبكِّرًا وشربت زجاجة نبيذ «تليماك»، ثم لبست أشيك ملابسي ونزلت إليها. ضربت الجرس وكانت الساعة عشرة، ففتحت لي الباب. كانت ترتدي قميص نوم شفافًا من النايلون.

قاطعتُه: وفتحَت الباب هكذا دون أن ترتدي روبًا أو تغطِّي نفسها؟

قال: هذا ما حدث. اعتذرتُ عن دقِّ الجرس وقلت لها إني فقدت مفتاحي وكنت في حفلة وإني متعب. سألتها إن كان بوسعي أن أستريح عندها قليلًا، فقالت تفضَّل. جلست في الصالة وسألتني إذا كنت أُحب أن أشرب شايًا أو قهوة، فقلت إني لا أريد شيئًا، وجلسَت أمامي فقمت وجلست إلى جوارها. أخذت أتأمَّل ساقَيها وكانتا أروع ساقَين رأيتهما في حياتي، وقالت لي إنها رأت سيارتي وإنها تُريد أن أُعلِّمها القيادة …

قاطعته مرةً أخرى: لم تقل لي إن عندك سيارة.

قال: هذه كانت سيارة أحد أصدقائي.

قلت: وبعدين؟

قال: سألتها عن زوجها فقالت إنه في اليونان. وجدت نفسي دون أن أشعر أضع يدي على ساقها وأتحسَّسها وأنا أقول لها: ساقاك رائعتان. فقالت بهدوء: لقد شربتَ كثيرًا يا مسيو خليل. انطلقَت يدي رغمًا عني تتحسَّس فخذها، فأمسكَت بها وجعلَت تضغط عليها. المرأة عندما تفعل ذلك تكون قد انتهت. انحنيت فوقها وأملتها على الأريكة، وصرت كل يوم معها عندي وعندها وفي السيارة، وجُن الضبَّاط الذين كانوا يسكنون في العمارة.

كنا قد توقَّفنا أسفل أحد مصابيح الطريق، وتأملت ملامح خليل في الضوء لم يكن يخلو من جاذبية، لكن شيئًا في قصته مع اليونانية جعلني أرتاب في صحتها.

سألني: وأنت، ألم تجرِّب الأجنبيات؟

قلت: يعني.

***

وانحنينا على خارطة مدينتها وقد تلامست أكتافنا، وحوَّلنا الدائرة الزجاجية التي تتألَّف منها قمة البرج، وخلفها كتلة من الظلام تفصلها عن أنوار القاهرة، وعندما حاولنا أن نرى المدينة من خلف الزجاج لم نُطالع سوى وجهَينا، وتمدَّدت فوق رمال الشاطئ، ثم انحنت وأبعدت حافة القطعة السفلى من المايوه عن جسمها وتطلَّعت هناك، وفي ظلام السيارة شعَّت عيناها بالضوء، وكان الآخر يجلس إلى جوارها من الناحية الأخرى واضعًا ذراعه على حافة المقعد خلف رأسها، وقال بيتًا من الشعر، فضحكَت ساخرةً وقالت: ها هو شاعر جديد.

***

توقَّفت أمام الاستراحة، وعرض عليَّ خليل أن نذهب إلى صديقه الطبيب، فاعتذرت بأني أُريد أن أنام مبكِّرًا.

قال: سأبعث إليك في الصباح بسيارة تأتي بك، وسأكون قد أعددت كل شيء.

شكرته وانتظرت حتى سار بضع خطوات فولجت الاستراحة.

كان حلمي جالسًا في الصالة وفي حجره بعض الأوراق، وبدا منهمكًا فيما يشبه الحسابات. جلست أمامه بعد أن قدَّمت إليه سيجارةً وأشعلت واحدة. جعلت أرقبه وهو يُلصق طوابع دمغه على أوراقه.

قلت بعد لحظة: سأُسافر في الصباح.

قال: لا شك أنك مَلِلت هذا المكان، ولك حق.

قلت: كان بودي أن أواصل السفر حتى حدود السودان لأرى بقية المعابد، لكن الوقت لا يكفي.

أتى رفعت من الخارج فحيَّانا وجلس. سأله حلمي عن الأخبار فقال إن السُّلطات أعادت اليوم وراء الحدود بعض اللاجئين الأفريقيين.

استفسرت عن الموضوع فذكر لي حلمي أن اللاجئين القادمين من تشاد يعبرون الحدود خلسةً كل يوم، ويسلِّمون أنفسهم إلى أقرب نقطة شرطة فترحِّلهم إلى أسوان.

سألت: ولماذا إذن أعادوهم اليوم؟

هزَّ كتفَيه وقال: لا أعلم. ربما كانوا خطرين.

قال رفعت: لا أفهم لماذا يهجرون بلادهم أصلًا.

نهضت واقفًا وأنا أتمطَّى، وقال حلمي لرفعت إني راحل في الصباح.

قال رفعت: لكنك لم تُجرِ معنا أية أحاديث.

قلت: لقد كتبت كل شيء ولا تنقصني سوى صوركما.

أخرج رفعت من محفظة نقوده صورةً فوتوغرافيةً له وناولها لي، وقام حلمي إلى الداخل فأحضر صورةً له.

تبادلنا تحية المساء وأويت إلى غرفتي. أعددت حقيبتي، ثم أشعلت سيجارةً واستلقيت على الفراش.

تناولت رواية «كيرواك» وبدأت أقرأ، لكني وضعتها جانبًا بعد فترة، واسترجعت مغامرة خليل مع اليونانية. كانت حكايته جذَّابةً رغم شكي في صحتها، ومضيت أتذكَّر حكايات مماثلةً سمعتها أو قرأتها.

تحسست ساقي بيدي، ثم أشعلت سيجارةً أخرى بعد أن أطفأت النور، ودخَّنت في الظلام حتى انتهت السيجارة فوضعتها في المطفأة.

نمت على وجهي حتى الصباح، وحلمت أني وذهني محاصران في مكان ما ونريد أن نتسلَّل منه، وأسير أنا في المقدِّمة ولكني أُفاجأ باثنَين من الزنوج يرتديان جلبابَين أبيضَين يحرسان المكان، وأقف أمامهما في الظلام واضحًا وأنا في رعب من أن يرياني وهما يرياني أخيرًا ويجريان ورائي فأستسلم لهما شاعرًا بعجزي عن المقاومة، لكني أبذل محاولةً يائسةً فأُمسك برقبة أحدهما، وأرى ذهني ممسكًا برقبة الثاني، وإذا بالرقبة التي في يدي تلين كأنبوبة من المطَّاط وأفعصها فتندفع منها الدماء وتتحوَّل إلى شيء كقربة من الجلد أُفرِّغ ما بها، وأُطوِّح بها بعيدًا، ويتغيَّر الليل فجأةً إلى نهار، وأَجري في طريق حاشد بالمارة وأنا أنظر إلى يدَي الملوَّثتَين بالدماء، وأفكِّر بأن التخلُّص منها صعب، وأن أمري لا بد سينكشف، وأَجري نحو ذهني الذي دلَّى يدَيه في مكان ما وغسلهما، وننطلق معًا جريًا ونحن واثقَين من أننا قد أفلتنا، ونهنِّئ أنفسنا بالنجاة، وإذا بالسيارات تُحاصرنا ويقبضون علينا، وأقول لذهني إنها غلطته فقد استنجد بالشرطة في الصباح لأمر ما وأعطاهم أسماءنا وأوصافنا، فأتاح لهم فرصة اصطيادنا.

أيقظني فهمي في الصباح قائلًا إن هناك سيارةً تنتظرني. اغتسلت بسرعة بينما حمل حقيبتي إلى السيارة. أردت أن أمضي بغير إفطار، لكنه أصرَّ أن أتناول كوبًا من الشاي وقطعةً من الجبن، وأخيرًا صافحته مودِّعًا وودَّعت كلًّا من حلمي ورفعت، وأخذت مكاني إلى جوار السائق.

أدار السائق المحرِّك وسار بضع خطوات إلى الأمام، ثم قام بنصف دورة إلى اليسار وضعته في الاتجاه المعاكس على الجانب الآخر من الطريق، وضغط مفتاح السرعة فانطلقَت السيارة بأقصى سرعتها.

أخذ الجبل الصخري يتراجع من ورائنا، وأحاطت بنا الصخور والرمال المستوية من كل جانب، وما لبث النهر أن تجلَّى لأعيننا، وامتدَّ الشاطئ الرملي الضيق تحت أقدامنا وفي أقصاه ناحية اليسار كانت الباخرة تستعد للإقلاع.

***

موسكو، ٢٤ يناير (كانون الثاني) ١٩٧٣