تقديم
يسعدني أن أقدم للقارئ العربي هذه القصةَ الخالدة، وهي من تراث
الأغارقة الأمجاد …
كتب هذه القصة أبولونیوس رودیوس Apollonius
Rhodius الملقب «بالرودسي»، وكان عالمًا «إغريقيًّا»
وشاعرًا لقصائد البطولة من العصر السكندري. وُلد في الإسكندرية حوالي
سنة ٢٦٠ق.م.، وكان تلميذًا لكاليماخوس
Callimachus، نظَم ملحمةً طويلةً من
شعر الأبطال باسم «أرجوناوتیكا
Argonautica» في أربعة كتب، انتقل فيها
من ذوق أستاذه لشعر العلماء والشعر الصناعي؛ قاصدًا بساطة هوميروس
فِطَحْل شعراء الإغريق، فرفض حزب كاليماخوس هذه الملحمة؛ ولذلك اكتأب
أبولونیوس وانسحب إلى رودس؛ حيث أكسبته أعماله كعالم في البلاغة
وأشعارُه الحديثةُ التنقيحِ شهرةً بالغةً؛ لدرجة أن القوم هناك سمحوا
له بأن يكون من مواطني رودس؛ ومن هنا جاء لقبه. ولما عاد إلى
الإسكندرية بعد ذلك، ألقى قصيدته الملحمية مرةً أخرى فنالت الاستحسان
العام؛ ولذلك عيَّنه بطليموس أبيفانیس Ptolemaeus
Epiphanes في سنة ١٩٦ق.م.؛ خلفًا لإيراتوسثينيس
Eratosthenes في أمانة مكتبة
الإسكندرية. ومن المحتمل أن يكون قد مات وهو يشغل ذلك المنصب.
وملحمته البطولية، التي بقيت حتى الآن، ذاتُ بساطة معينة، ولو أنها
أقل بكثير من طبيعة وجمال ملحمتي هوميروس.
وقد جعلها اعتدالها المتجانس عسيرةً تمامًا ولو أنها صِيغت بعناية
فائقة؛ ولا سيما من حيث نظْمُها، فقدَّرها الرومان أعظم تقدیر
وحاكَوْها أكثر من مرة؛ فمثلًا حاكاها فارو الأتاكسي
Varro of Atax وفاليريوس فلاكوس
Valerius Flaccus. ومما يبرهن على
تقدير قُدامی رجال العلم لها قيامُهم بوضع مجموعة قيِّمة من المذكرات
والملخصات عنها.
حكی أبولونیوس في قصيدته الشعرية الطويلة قصة بحَّارة سفينة الأرجو،
تمامًا كما حكی هوميروس في إلياذته قصة حصار مدينة طروادة
Troy الذي دام عشر سنوات؛ على حين
تضمنت أوديسته قصة أوديسيوس والمغامراتِ الفريدة التي تعرَّض لها، حتى
تمكن أخيرًا من العودة سالمًا إلى أحضان زوجته بينيلوبي
Penelope، التي كانت مثال الشرف
والإخلاص، بعد غيبة دامت عشرين سنةً.
صُنعت سفينة الأبطال بید «أرجوس
Argos»؛ ومن هنا سُمیت بسفينة «الأرجو
Argo.»
أما بحَّارتها فكانوا أولئك الأبطال الذين أبحروا مع جاسون
Jason، بن أيسون
Aeson ملك أيولكوس
Iolcos في تساليا
Thessalia وحفيد كريثيوس
Cretheus بن أيولوس
Aeolus من تساليا وإیناریتي
Enarete؛ وذلك قبل الحرب الطروادية
بجيل واحد، إلى «أيا Aea» التي عُرفت
في أزمنة لاحقة باسم كولخیس Colchis،
والتي تقع على الطرف الأقصى من البحر الأسود. وكان غرض هذه الحملة
إحضار الجِزَّة الذهبية للكبش الذي هرب عليه فریكسوس
Phrixus بن أثاماس
Athamas، من والده وزوجة أبيه إینو
Ino إلى الساحر أييتيس
Aeetes ملك «أيا»، الذي أكرم وِفادته
وزوَّجه ابنته خالكيوبي Chalciope،
فنحر الكبش ضحيةً وعلَّق جِزَّتَه في حرج آريس
Ares؛ حيث ظل يحرُسها تنِّينٌ دائم
السهر لا ينام إطلاقًا.
كُلف جاسون إحضار هذه الجِزَّة ثانيةً بوساطة عمه بیلیاس
Pelias بن بوسايدون
Poseidon وتورو
Tyro الذي اغتصب مُلك أيولكوس بتساليا
من أخيه غير الشقيق أيسون. وكان أيسون قد احتاط من قبل، فلكي یَقيَ
ابنه من مكاید بیلیاس أخذه إلى القنطور خيرون
Chiron على جبل بيليون
Pelion، فربَّاه هذا حتى بلغ العشرين
من عمره.
وعندئذٍ عاد جاسون إلى وطنه وقدمُه اليسرى حافية؛ إذ فقد فردة حذائه
وهو يخوض سيلًا جبلیًّا، فقدَّم نفسه إلى بیلیاس مطالبًا بمملكة
أبيه.
بيدَ أن بیلیاس الداهية كان قد حذره وحيٌ من رجل يلبس فردة حذاءٍ
واحدةً، فلما أتاه جاسون على تلك الحال، وعده خيرًا، ودعم وعده بقَسَمٍ
بأن يعطيه ما طلب إذا ذهب بدلًا منه لإحضار الجِزَّة الذهبية. كان
الوحي قد فرض هذا العمل على بیلیاس، ولكنه كان هَرِمًا لا يستطيع
القيام به.
وهناك رواية أخرى لهذه القصة تقول: إن جاسون بعد أن أتم تعليمه لدى
خيرون، فضَّل أن يعيش في الريف، وإنه جاء بفردة حذاء واحدة ليُحضر
ذبيحة كان بیلیاس يقدمها لبوسايدون على شاطئ البحر، وإن بیلیاس سأله
ماذا يفعل لو كان ملكًا، وإنه حذَّر من أن وفاته ستكون على يد أحد
رعاياه. وعندما ردَّ عليه جاسون بأنه يجعله يُحضر الجِزَّة الذهبية،
كلَّفه هذه المهمة.
لقد وضعت الربة هيرا Hera هذا الرد
على لسان جاسون؛ لأنها كانت تَحْبوه عطفها، وأرادت أن تعاقب بیلیاس على
قتله سيديرو Sidero في معبدها.
يُقال: إن السفينة ذات الخمسين مجدافًا التي قام فيها جاسون وزملاؤه
بهذه الرحلة؛ سُميت باسم بانيها أرجوس بن فریكسوس، وبعد عودته إلى
أورخومینوس Orchomenus وطنِ آبائه،
بُنیت تلك السفينة من أخشاب الصنوبر المأخوذة من أشجار بیلیون، بإشراف
الربة أثينا Athena، التي كانت، مثل
هيرا، حامية جاسون، ووضعت في حيزوم السفينة قطعة من البلوطة الناطقة
لدودونا Dodona.
وكان الأبطال الذين لبُّوا نداء جاسون خمسين عددًا، بعدد المجاديف،
وكانوا أصلًا في الرواية التي أشاعتها الأسرة المينيانية
Minyan، المينيان في أيولكوس
وأورخومینوس وبیلوس Pylos والأمكنة
الأخرى.
وكان من بينهم أكاستوس Acastus بن
بیلیاس، وهو صديق حميم لجاسون، وأدميتوس
Admetus وإرجینوس
Erginus ويوفيموس
Euphemus وبیریكلومینوس
Periclymenus وتیفوس
Tiphus.
ولكن تبعًا لما أشاعته هذه القصة، انضم إلى هذه الرحلة جميع الأبطال
الأغارقة الموجودين وقت ذاك؛ مثل هرقل
Hercules وكاستور
Castor وبولودیوكیس
Polydeuces وإیداس
Idas ولونكیوس
Lynceus، وكالايس
Calais وزیتیس
Zetes ولده بوریاس
Boreas، وبیلیوس، وتوديوس
Tydeus ومیلیاجر
Meleager، وأمفيراوس
Amphiraus، وأورفيوس
Orpheus وموبسوس
Mopsus وإدمون
Idmon عرَّافي الرحلة وحتى الصيادة
أتالانتي Atalante.
تولى جاسون القيادة، وتولى تيفوس الدفة، وأقلعوا من باجاساي
Pagasae میناء أيولكوس، فوصل بحَّارة
الأرجو إلى جزيرة لمنوس Lemnos التي لا
يسكن فيها غير النساء. وبعد أن مكثوا هناك مدةً طويلةً، ساروا بمحاذاة
ساموتراقية Samothrace وخلال الهلسبونت
Hellespont إلى جزيرة كوزیكوس
Cysicus؛ حيث رحَّب بهم كوزیكوس ملك
الدوليونيين Doliones.
غير أنهم عندما حاولوا استئناف الرحلة تغلَّبت عليهم عاصفةٌ ليلًا،
وإذ اعتقد أصدقاؤهم القدامى أنهم قراصنة هاجموهم، ومن سوء حظهم أنهم
قتلوا ملكهم الشاب، فتركوا هرقل على ساحل موسيا
Musia؛ ليبحث عن هولاس
Hylas الذي خطِفته الحوريات.
وعلى ساحل بيثونيا Pithynia هزم
بولودیوكیس أموكوس Amycus ملك
البيبروكيين Bebrycians في مباراة
للملاكمة.
وفي سالمودیسوس Salmydessus بتراقيا
Thrace أخبرهم فينيوس
Phineus؛ العرَّاف الأعمي، الذي خلَّصه
كالايیس وزیتیس من الهاربییس Harpies
اللواتي كُنَّ يعذِّبْنه، أخبرهم بما يفعلونه في بقية الرحلة، ولا سيما
كيف يُبحرون بين السومبلیجادیس
Symplegades؛ الصخرتين الطافيتين
اللتين تصطفقان معًا عند مدخل البحر الأسود.
وتبعًا لنصيحته أرسل جاسون يمامة أمامه، ولما قطع ریش ذيلها فقط
بوساطة الصخرتين المصطدمتين، تجاسروا على التجديف بالأرجو بين
الصخرتين. وبمساعدة هيرا — أو تبعًا لرواية أخرى بمساعدة أثينا — فعلوا
ما لم يفعله إنسان قط قبلهم، فاجتازوا هذا المأزِق دون خسارةٍ سوى
فِقدان دفَّة السفينة.
وإذ عرجوا على شاطئ بونتوس Pontus،
لقوا ترحيبًا ودیًّا من لوكوس Lycus
ملك الماریاندیني Maryandini، ولو أن
العرَّاف إدمون حين قتله خنزير بريٌّ كان يصطاد هناك تیفوس من مرض
أصابه، فحلَّ أنكايوس Ancaius
محله.
وبعد أرض الأمازونیات Amazones،
وصلوا إلى جزيرة أريتياس Aretias؛ حيث
أفزعوا الطيور الستومفالية Stymphalian
وأخذوا ابن فریكسوس على ظهر سفينتهم — بعد أن تحطمت سفينته في الطريق —
إلى بلاد الإغريق، وأخيرًا وصلوا إلى مصب نهر فاسيس
Phasis بأرض الكولخيين
Colchians.
وعندما طلب جاسون الجِزَّة الذهبية، وعده أييتيس بتسليمها إليه؛ على
شرط أن يقبض جاسون على ثورین ذوَي أظلاف نُحاسية ينفُثان النار، ويضع
النِّيرَ على عنقَيهما، ويربطهما إلى محراث نحاسي، ويحرث بهما حقل
آريس، ويبذُر في خطوط الحرث أنياب التنين، ويتغلب على الرجال المسلحين
الذين ينبِتون من تلك الأنياب، فیئس البطل من ذلك وقطع كل أمل في
النجاح.
وعندئذٍ أشعلت أفروديتي Aphrodite
ربة الحب والجمال صدرَ میدیا Media
ابنة الملك بحب جارف نحو ذلك الغريب، فأعطته میدیا مرهمًا يحميه من
أنفاس الثورین النارية، كما يمُدُّه بقوة لربطهما إلى المحراث، ونصحته
بأن يلقي حجرًا بين العمالقة المولودين من الأرض، الذين يأخذون عندئذٍ
في قتل بعضهم البعض.
غير أن أييتيس رفض تسليم الجِزَّة بعد إنجاز كل ما طلبه.
بعد ذلك خدَّر جاسون التنين الذي يحرس الجِزَّة وجعله ينام؛ بمساعدة
ميديا، التي وعدها بأن يتزوجها ويأخذها معه إلى وطنه، وأخذ الجِزَّة
وهرب مع ميديا ورفقائه.
فأرسل أييتيس ابنه أبسورتوس Absyrtus
لمطاردتهم، فقتله جاسون بالحيلة.
وتقول رواية أخرى: إن ميديا أخذت أخاها الصغير أبسورتوس معها،
ومزَّقت جسمه إرْبًا إرْبًا، وألقت أعضاءه في البحر عضوًا عضوًا، حتى
إذا همَّ والدها بمطاردتها، عاقته تلك الأعضاءُ وهو يلتقطها من على سطح
الماء؛ ليحافظ عليها في مكان أمين.
•••
تختلف الأساطير في عودة بحارة الأرجو اختلافًا كبيرًا:
فتقول أسطورة من أقدم الأساطير: إنهم أبحروا من نهر فاسيس إلى نهر
أوقيانوس Oceanus، ثم من هذا إلى ليبيا
حيث أخذوا يجرُّون السفينة مدة اثني عشر يومًا فوق اليابسة إلى بحيرة
تريتونیس Tritonis، إلى أن عادوا إلى
وطنهم عن طريق البحر المتوسط.
وتتفق بعض الروايات الأخرى في هذا من حيث المادة الأصلية؛ على حين
يخلط البعض الآخر الروايةَ القديمة بمغامرات أوديسيوس
Odysseus، فيقول: أبحر الأبطال في نهر
الدنواب، ومنه إلى البحر الأدریاتیكي، وكانوا قاب قوسين أو أدنى من
جزيرة كوركورا Corcora (كورفو
Corpho)، فإذا عاصفة تهبُّ فتنبأت
قطعةُ بلُّوط دودونا بهلاكهم إلا إذا طهَّرتهم كیركي
Circe من مقتل أبسورتوس.
فأبحروا في نهر إريدانوس Eridanus
ومنه إلى نهر الرون، ومن هذا إلى البحر التورهیني
Tyrrhenian حتى وصلوا إلى جزيرة كیركي
التي طهَّرتهم.
ثم ساروا بمحاذاة جزيرة السيرينیات
Sirens، اللواتي حمَتْهم أناشيد
أورفيوس Orpheus من سحرهن. ومروا
جميعًا بسلام بمساعدة الآلهة من بين سكولا
Scylla وخاروبدیس
Charybdes ما عدا بوتیس
Butes، ووصلوا إلى جزيرة الفياكیین
Phaeacians؛ حيث تزوج جاسون میدیا
ليتجنبوا حكم مضيفهم ألكينوس Alcinus،
الذي أصدر حكمه، بصفته قاضيًا عرفيًّا، بتسليم الفتاة ميديا إلى
مطارديها.
ولما صاروا على مرأى من البيلوبونیز
Peloponnesos جرفَتْهم عاصفة إلى
السورتيس الليبي؛ حيث حملوا سفينتهم، وقد أنقذتهم عناية إلهية، إلى
بحيرة تريتونیس؛ ومن هنا أرشدهم تريتون
Triton حتى بلغوا البحر المتوسط،
وعادوا إلى أيولكوس عن طریق كریت
Crete.
في أثناء غياب أولئك الأبطال، قتل بیلیاس أيسون وابنه بروماخوس
Promachus، وانتحرت والدة جاسون، فأخذت
میدیا تعمل للأخذ بثأرهم، فذبحت تیسًا عجوزًا أمام عيون بیلیاس، وقطعته
إرْبًا إرْبًا ثم وضعته في مِرْجَل سحري يغلي، وبعد ذلك أرجعته حيًّا
وأعادت إليه شبابه، ووعدت بأن تعيد إلى بیلیاس شبابه بنفس الطريقة،
وبذا أغرَتْهن على قتل أبيهن ثم تركتهن في الانتظار. وإذ طردهما
أكاستوس Acastus ابن الملك المقتول،
لجآ (أي: جاسون ومیدیا) إلى كريون
Creon ملك كورنثة
Corinthus، غير أن جاسون، بعد حياة
زوجية سعيدة لمدة عشر سنوات، أراد الزواج بكریوسا
Creusa أو جلاوكي
Glauce بنة كريوس، عند ذلك قتلت ميديا
العروس ووالدها؛ بأن أرسلت إلى الفتاة الساذجة ثوبًا مسمَّمًا وتاجًا
كهدية عُرسٍ، وقتلت ولديها میرمیروس
Mermerus وفيريس
Pheres أمام ناظري زوجها الخائن، ثم
هربت في عربة تجرُّها الأفعوانات أرسلها إليها جدها هيليوس
Helius، وذهبت إلى أيجيوس
Aegius ملك أثينا
Athens.
ويُقال: إن جاسون لقي مصرعه تحت سفينة الأرجو التي وضعها في البرزخ
وكرَّسها، وذات يوم استلقى تحتها ليرتاح فوقع كوثلها فوقه
فقتله.
•••
أسطورة بحارة الأرجو إذن قديمة جدًّا، فحتى هوميروس يتحدث عنها على
أنها أسطورة معروفة في العالم كله، ونجدها بالتفصيل، أولًا في أشعار
بندار Pindar، ثم حاول الشاعر السكندري
أبولونیوس الرودسي أن يوفِّق بين مختلِف الروایات .. والقصة التي
نوردها في هذا الكتاب استندنا في تعريبها إلى خلاصة ما وصل إليه
أبولونيوس الرودسي بالذات في ملحمته الضخمة، التي تقع في أربعة مجلدات
باسم «الأرجوناوتیكا»، التي تحكي قصة الغرام العنيف الذي تأججت نيرانه
بين قلبي البطل المقدام جاسون وبين الفتاة الجميلة میدیا، عدا الأحداث
الأخرى التي آثرتُ أن أُجْمِلها في هذا التقديم. ولعلني أكون قد وُفقت
في تمهيد الأذهان لقراءة تفاصيل هذه المغامرة الغريبة التي كانت ذات
يوم من أمتع ما سجَّله خيالُ الإغريق القدماء، والتي ما زالت حتى يومنا
هذا من أفضل قصص ذلك التراث العريق الأصيل، بل ومن أروعها
إطلاقًا.