علم الكلام وتاريخه
(١) تعريف علم الكلام
للعلماء في تعريف علم الكلام عبارات مُختلفة، كثيرًا ما تدلُّ على الاختلاف في وجهة النظر.
ولأبي نصر الفارابي المُتوفى سنة ٣٣٩ﻫ/٩٥٠م قول في تعريف الكلام وفرق ما بينه وبين الفقه، تفرد به — فيما نعلم — وهو منْ أقدم ما وصل إلينا من تعاريف هذا العلم، قال في الكلام:
«صناعة الكلام: وصناعة الكلام يقتدر بها الإنسان على نصرة الآراء والأفعال المحدودة التي صرَّح بها واضع المِلَّة، وتزييف كل ما خالفها بالأقاويل، وهذا ينقسم إلى جزءين أيضًا: جزء في الآراء وجزء في الأفعال.»
وهي غير الفقه لأنَّ الفقه يأخذ الآراء والأفعال التي صرَّح بها واضع المِلَّة مسلَّمة ويجعلها أصولًا، فيستنبط منها الأشياء اللازمة عنها.
والمُتكلم ينصر الأشياء التي يستعملها الفقيه أصولًا من غير أنْ يستنبط عنها أشياء أُخَر.
فإذا اتَّفق أن يكون لإنسان ما قدرةٌ على الأمرين جميعًا فهو فقيه متكلم، فيكون نصرته لها بما هو متكلم، واستنباطه عنها بما هو فقيه.
إما بالمعجزات التي يَفعَلها أو تَظهَر على يده.
وإما بشهادات مَن تقدَّم قبلَه من الصادقين المقبولي الأقاويل على صدق هذا ومكانه من الله، جلَّ وعزَّ، أو بهما جميعًا.
فبهذه وما أشبهها رأى هؤلاء أن ينصروا المِلَل.
فإن لم يُمكن أن تُحمَل لفظة الملة على ما يُوافق أحد هذه، ولا أن يحمل شيء من هذه على ما يُوافق الملة، ولم يمكن أن يُطرح ولا أن يُزيَّف شيء من المحسوسات ولا من المشهورات ولا من المعقولات التي تضاد شيئًا منها، رأَوْا حينئذٍ أن ينصروا ذلك الشيء بأن يُقال إنَّه حق لأنه أخبر به مَن لا يجوز أن يكون قد كذب ولا غلط، ويقول هؤلاء في هذا الجزء من الملة بما قاله أولئك الأولون في جميعها.
فبهذا الوجه رأى هؤلاء أن ينصروا المِلَل.
وقومٌ من هؤلاء رأَوْا أنْ ينصروا أمثال هذه الأشياء، يعني التي يُخيل فيها أنها شَنِعة، بأن يتتبعوا سائر الملل؛ فيلتقطوا الأشياء الشَّنِعة التي فيها، فإذا أراد الواحد من أهل تلك الملل تقبيح شيء ممَّا في ملة هؤلاء، تلقَّاه هؤلاء بما في ملة أولئك من الأشياء الشَّنِعة فدفعوه بذلك عن ملتهم.
وآخرون منهم لمَّا رأَوْا أنَّ الأقاويل التي يأتون بها في نصرة أمثال هذه الأشياء ليست فيها كفاية في أن تصحَّ بها تلك الأشياء صحة تامة، حتى يكون سكوت خصمهم لصحتها عنده لا لعجزه عن مقاومتهم فيها بالقول، اضطروا عند ذلك إلى أن يستعملوا معه الأشياء التي تُلجِئه إلى أن يسكت عن مقولتهم إمَّا خجلًا وحصرًا أو خوفًا من مكروه يناله.
وآخَرون لمَّا كانت ملتهم عند أنفسهم صحيحة لا يشكُّون في صحتها، رأَوْا أن ينصروها عند غيرهم، ويحسِّنوها ويُزيلوا الشبهة منها، ويدفعوا خصومهم عنها بأي شيء اتفق، ولم يبالوا بأن يستعملوا الكذب والمُغالطة والبهت والمكابرة؛ لأنهم رأَوْا أن مَن يُخالف ملتهم أحد رجلين:
إما عدوٌّ، والكذب والمغالطة جائز أن يُستَعمَل في دفعه وفي غلبته، كما يكون ذلك في الجهاد والحرب.
ويقول الفارابي في الفقه:
«علم الفقه: وصناعة الفقه هي التي بها يقتدر الإنسان على أن يستنبط تقدير شيء ممَّا لم يُصرِّح واضع الشريعة بتحديده على الأشياء التي صَرَّح فيها بالتحديد والتقدير، وأنْ يَتَحَرَّى تصحيح ذلك حسب غرض واضع الشريعة بالعلة التي شرعها في الأُمَّة التي لها شرع.
وكل ملة فيها آراء وأفعال: فالآراء مثل الآراء التي تشرع في الله، وفيما يوصف به. وفي العلم أو غير ذلك، والأفعال مثل الأفعال التي يعظم بها الله، والأفعال التي بها تكون المعاملات في المدن.
ولسنا نعرف لغير الفارابي من علماء الإسلام هذا التمييز بين الكلام والفقه، بأن الأول يتعلق بنصرة العقائد والشرائع التي صرح بها واضع الملة، على حين يتعلق الثاني باستنباط ما لم يُصرح به واضع الملة؛ مما صرح به في العقائد والشرائع جميعًا. نعم، للفقه في بعض إطلاقاته عموم يشتمل جميع مسائل الدين، قال صاحب «كشاف اصطلاحات الفنون»:
«وقد يُطلَق الفقه على علم النفس بما لها وما عليها، فيشتمل جميع العلوم الدينية؛ ولهذا سمَّى أبو حنيفة — رحمه الله — الكلام بالفقه الأكبر.»
وجاء في «تاج العروس»: «وقد غلب — أي الفقه — على علم الدين لشرفه وسيادته وفضله على سائر أنواع العلم، كما غَلَبَ النجم على الثُّريَّا والعُود على المندل. قال ابن الأثير: واشتقاقه من الشقِّ والفَتْح، وقد جعلتْه العرب خاصًّا بعلم الشريعة وتخصيصًا بعلم الفروع منها.»
ومع هذا فإنَّ العُلماء يكادون يتفقون على أنَّ علم الكلام خاص بالمسائل الاعتقادية، وعلم الفقه متصل بالأحكام العملية.
وفي كتاب «التعريفات» للسيد الشريف علي بن محمد الجرجاني المتوفى سنة ٨١٦ﻫ (١٤١٣م):
«الفقه هو في اللغة عبارة عن فهم غرض المتكلم من كلامه. وفي الاصطلاح هو العلم بالأحكام الشرعية العملية المُكتسب من أدلتها التفصيلية، وقيل هو الإصابة والوقوف على المعنى الخفي الذي يتعلق به الحكم، وهو علم مستنبَط بالرأي والاجتهاد، ويُحتاج فيه إلى النظر والتأمل؛ ولهذا لا يجوز أن يُسمَّى الله — تعالى — فقيهًا؛ لأنه لا يَخفَى عليه شيء.»
الكلام علم يُبحث فيه عن ذات الله — تعالى — وصفاته، وأحوال المُمكِنات من المبدأ والمعاد على قانون الإسلام، والقَيْد الأخير لإخراج العلم الإلهي للفلاسفة … الكلام علم باحث عن أمور يُعلم منها المعاد وما يتعلق به من الجنة والنار والصراط والميزان والثواب والعقاب، وقيل الكلام هو العلم بالقواعد الشرعية الاعتقادية المكتسبة من الأدلة.
وفلاسفة الإسلام أنفسهم لا يخالفون ذلك.
نعم إنَّ الفارابي في «إحصاء العلوم» لم يقصد إلى بيان الكلام الإسلامي، والفرق بينه وبين الفقه على مصطلح أهل الإسلام، بل قصد الكلام في العلوم الدينية جملة فجعلها طائفتين: طائفة تبحثُ فيما يقتدر به الإنسان على الاستنباط من نصوص الدين المأخوذة تسليمًا، وطَائِفَةٌ تبحث فيما يقتدر به الإنسان على نصرة ما جاء به الدين من العقائد والأحكام وتزييف كل ما خالفه بالبراهين العقلية؛ ولهذا التقسيم في نفسه وجه ظاهر، وللتسمية بالفقه والكلام وجه، ولكن تطبيق ما يراه الفارابي على المعروف من مصطلح المسلمين ليس بظاهر.
أمَّا كلام أبي حيان التوحيدي؛ فلا يُخالف الاصطلاح المعروف إلا في قوله: إن الفقه والكلام يشتركان في استخدام العقل، وتتضارع أدلتهما في قيامه على النظر العقلي، وتلك نظرة فيلسوف يقوِّي سلطان العقل ويوسِّع ميدانه من غير مُخالفة للواقع ذات خطر، فإنَّ الاستنباط الفقهي يحتاجُ إلى العقل خصوصًا إذا كان معتمدًا على القياس.
أما المُتكلمون فليستْ تَعَاريفهم للكلام مُتَّفقه من كل وجه، فالغزالي المتوفى سنة ٥٠٥ﻫ/١١١١م يقول:
«القول في بيان مقصود علم الكلام وحاصله: ثم إني ابتدأت بعلم الكلام فحصلته وعقلته، وطالعتُ كتب المُحققين منهم، وصنفت فيه ما أردتُ أن أصنف، فصادفته علمًا وافيًا بمقصوده غير وافٍ بمقصودي، وإنَّما مقصوده حفظ عقيدة أهل السنة وحراستها عن تشويش أهل البدعة؛ فقد ألقى الله — تعالى — إلى عباده على لسان رسوله عقيدة هي الحق على ما فيه صلاح دينهم ودنياهم، كما نطق بمعرفته القرآن والأخبار، ثم ألقى الشيطان في وساوس المبتدعة أمورًا مُخالفة للسنة، فلهجوا بها وكادوا يشوشون عقيدة الحق على أهلها، فأنشأ الله — تعالى — طائفة المتكلمين، وحرَّك دواعيَهم لنُصْرَة السنة بكلام مرتب يكشف عن تلبيسات أهل البدعة المُحدثة على خلاف السنة المأثورة، فمنه نَشَأ علم الكلام وأهله؛ فلقد قام طائفة منهم بما ندبهم الله — تعالى — إليه، فأحسنوا الذَّبَّ عن السنة والنضال عن العقيدة المتلقَّاة بالقبول من النبوة، والتغيير في وجه ما أحدث من البدعة، ولكنهم اعتمدوا في ذلك على مقدمات تسلَّموها من خصومهم، واضطرهم إلى تسليمها إمَّا التقليد أو إجماع الأُمَّة أو مجرد القبول من القرآن والأخبار.
وكان أكثر خوضهم في استخراج مُنَاقضات الخصوم ومؤاخذتهم بلوازم مسلَّماتهم، وهذا قليل النفع في جنب مَن لا يسلِّم سوى الضروريات شيئًا أصلًا، فلم يكن الكلام في حقي كافيًا، ولا لدائي الذي كنتُ أشكوه شافيًا.
وابن خُلدون يُصَرِّح بما صرح به الغزالي، من أنَّ العقائد الإيمانية أخذها السلف عن أدلتها من الكتاب والسنة، وإنما حدث علم الكلام حجاجًا عن هذه العقائد، ودفعًا في صدور البدع والشبهات التي أثارها المبتدعة حول عقائد السلف.
ويعرف عضد الدين الإيجي المتوفى سنة ٧٥٦ﻫ/١٣٥٥م علم الكلام في كتاب «المواقف» بما نصه:
«والكلام علم يُقتَدَر معه على إثبات العقائد الدينية بإيراد الحجج ودفع الشبه، والمراد بالعقائد ما يقصد فيه نفس الاعتقاد دون العمل، وبالدينية المنسوبة إلى دين محمد. ﷺ، فإن الخصم وإن خطَّأناه لا نخرجه من علماء الكلام.»
وفي «كشاف اصطلاحات الفنون» لمحمد بن علي التهانوي الذي فرغ من تصنيفه سنة ١١٥٨ﻫ/١٧٤٥م شرح لهذا التعريف، نقتبس منه فيما يلي ما يتعلق بغرضنا:
«وهو (أي علم الكلام) علم يُقتدَر معه على إثبات العقائد الدينية على الغير بإيراد الحجج ودفع الشبه … وفي اختيار إثبات العقائد على تحصيلها إشعار بأنَّ ثمرة الكلام إثباتها على الغير، وبأنَّ العقائد يجبُ أن تؤخذ من الشرع ليعتدَّ بها، وإن كانتْ مما يستقلُّ العقل فيه، ولا يجوز حمل الإثبات هنا على التحصيل والاكتساب، إذ يلزم منه أن يكون العلم بالعقائد خارجًا عن علم الكلام ثمرة له ولا خفاء في بطلانه.
فحاصل الحد أنه علم بأمور يُقتدَر معها؛ أي يحصل مع ذلك العلم حصولًا دائمًا عاديًّا، قدرة تامة على إثبات العقائد الدينية على الغير وإلزامها إياه بإيراد الحجج ودفع الشُّبَه عنها.
فإيراد الحجج إشارة إلى وجود المقتضي، ودفع الشبه إلى انتفاء المانع، ثم المراد بالعقائد ما يُقصَد به نفس الاعتقاد كقولنا: الله — تعالى — عالمٌ قادرٌ سميعٌ بصيرٌ، لا ما يُقصَد به العمل كقولنا: الوتر واجبٌ؛ إذ قد دُوِّن للعمليات الفقه، والمُراد بالدينية المنسوبة إلى دين محمد ﷺ سواءٌ كانت صوابًا أو خطأ، فلا يخرج علم أهل البدع الذي يُقتدَر معه على إثبات عقائدهم الباطلة من علم الكلام.
ثم المراد جميع العقائد لأنَّها مُنحصرة مضبوطة لا يُزاد عليها، فلا تتعذر الإحاطة بها والاقتدار عليها، وإنما تتكثر وجوه استدلالاتها وطرق دفع شبهاتها بخلاف العمليات، فإنَّها غير مُنْحَصرة فلا تتأتَّى الإحاطة بها، وإنما مبلغ مَن يعلمها التهيُّؤ التام.»
وتعريف الإيجي على هذا التفسير غير مُختلف مع ما ذهب إليه الغزالي؛ فهو يرى أنَّ العقائد يجبُ أن تؤخذ من الشرع ليُعتدَّ بها، وإنَّما ثمرة الكلام إثبات العقائد على الغير وردُّ الشُّبَه؛ لكنَّ تعريف الإيجي يُخالف تعريف الغزالي من ناحية، هي أنَّ الغزالي يجعل علم الكلام أداة لعقائد السلف ودفاعًا عن السنة، أما الإيجي فيجعل علم الكلام أداة دفاع لكل معتقد عن عقيدته، فدفاع المبتدع عن عقيدته بالبراهين العقلية كلام أيضًا.
ويقول سعد الدين التفتازاني المتوفى سنة ٧٩٢ﻫ/١٣٨٩م في كتاب «المقاصد» تعريفًا للكلام:
«الكلام هو العلم بالعقائد الدينية عن الأدلة اليقينية، وموضوعه المعلوم من حيث يتعلق به إثباتها، ومسائله القضايا النظرية الشرعية الاعتقادية، وغايته تحلية الإيمان بالإيقان، ومنفعته الفوز بنظام المعاش ونجاة المعاد؛ فهو أشرف العلوم، والمتقدمون على أن موضوعه الموجود من حيث هو، ويتميز عن الإلهي بكون البحث فيه على قانون الإسلام؛ أي ما عُلِم قطْعًا من الدين، كصدور الكثرة عن الواحد، ونزول الملَك من السماء وكون العالَم محفوفًا بالعدم والفناء، إلى غير ذلك ممَّا تجزم به الملة دون الفلسفة، لا ما هو الحق ولو ادعاء لمشاركته الفلسفة ككلام المخالف … وقيل موضوعه ذات الله وحده أو مع ذات الممكنات من حيث استنادها إليه لما إنه يبحث عن ذلك؛ ولهذا يُعرف بالعلم الباحث عن أحوال الصانع من صفاته الثبوتية والسلبية، وأفعاله المتعلقة بأمر الدنيا والآخرة، أو عن أحوال الواجب وأحوال الممكنات في المبدأ والمعاد على قانون الإسلام … واعتُرض بأن إثبات الصانع من أعلى مطالب الكلام، وموضوع العلم لا يبين فيه، بل فيما فوقه، حتى تنتهي إلى ما موضوعه بيَّن الوجود كالموجود من حيث هو.»
وظاهر أن التفتازاني يخالف الإيجي في جعله الكلام شاملًا لكلام المخالفين؛ فهو يخصه بالكلام القائم على قانون الإسلام؛ أي ممَّا عُلم قطعًا من الدين، والتفتازاني في هذا موافق للغزالي، وإن كان يعتبر علم الكلام تحصيلًا للعقائد بالدليل العقلي ودفاعًا عنها خلافًا لرأي الغزالي.
والظاهر أن الشيخ محمد عبده المتوفى سنة ١٣٢٣ﻫ/١٩٠٥م في رسالة التوحيد ينهج نهج التفتازاني فهو يقول:
وعرض طاش كبرى زاده المُتوفى سنة ٩٦٢ﻫ/١٤٥٧-١٤٥٨م في كتاب «مفتاح السعادة ومصباح السيادة» لتعريف علم الكلام موضوعه مع ذكر الخلاف في هذا الموضوع، والخِلَاف في عدِّ كلام المبتدعة من علم الكلام. قال:
«الشعبة الخامسة من العلوم الشرعية علم أصول الدين المُسَمَّى بعلم الكلام، وهو علم يُقتدَر معه على إثبات العقائد الدينية بإيراد الحجج ودفع الشبه عنها، وموضوعه ذات الله — سبحانه وتعالى — وصفاته عند المتقدِّمين، وقبل موضوعه الوجود من حيث هو موجود، وإنما يمتاز عن العلم الإلهي الباحث عن أحوال الوجود المطلق باعتبار الغاية؛ لأنَّ البحث في الكلام على قواعد الشرع. وفي الإلهي على مقتضى العقول، وعند المتأخرين موضوع الكلام المعلوم من حيث يتعلق به إثبات العقائد الدينية المَنْسُوبة إلى دين محمد — صلوات الله عليه وسلامه — وذلك بأنْ يُسلَّم المُدَّعَى منه ثم يُقام عليه البرهان العقلي، وهذا التسليم هو معنى التديُّن اللائق بحال المكلَّفين، حتى لو لم يؤخذ منه، لا يُعَدُّ كلامًا ولا علمًا دينيًّا، وإن وافقه في الحقيقة لفوات أمر التدين، بل يُعَدُّ من الأمور الحكمية.
وجُملة القول أنَّ المتكلمين متفقون على أنَّ علم الكلام يعتمد على النظر العقلي في أمر العقائد الدينية، ثم هم يختلفون في أنَّ الكلام يثبت العقائد الدينية بالبراهين العقلية كما يدافع عنها، أو هو إنما يدفع الشبه عن العقائد الإيمانية الثابتة بالكتاب والسنة، وهذا الخلاف يرجع إلى الخلاف في أنَّ العقائد الإيمانية ثابتة بالشرع، وإنما يفهمها العقل عن الشرع، ويلتمس لها بعد ذلك البراهين النظرية أو هي ثابتة بالعقل على معنى أنَّ النصوص الدينية قررت العقائد الدينية بأدلتها العقلية.
وقد أشار إلى ذلك فخر الدين الرازي المتوفى سنة ٦٠٦ﻫ/١٢٠٩م عند تفسيره للآيتين ١٩-٢٠ من سورة «البقرة» مدنية فقال:
«إنَّ الآيات الواردة في الأحكام الشرعية أقل من ستمائة آية، وأمَّا البواقي ففي بيان التوحيد والنبوة والرد على عَبَدة الأوثان وأصناف المشركين.»
وبعد أن ذكر معاقد الدلائل في القرآن؛ مِمَّا يدلُّ على وجود الصانع وعلى صفاته وعلى النبوة والمعاد قال:
«وأنت لو فتشتَ علم الكلام لم تجد فيه إلا تقدير هذه الدلائل والذبَّ عنها، ودفعَ المطاعن والشبهات القادحة فيها.»
وقال بعد ذلك:
«وأما محمد ﷺ، فاشتغاله بالدلائل على التوحيد والنبوة والمعاد أظهر من أن يحتاج فيه إلى التطويل.»
وقد ذكر الفخر الرَّازي في ذلك المقام رأي المُخالفين القائلين بأنَّ الكلام بدعة، وأنه مذموم نهى عنه الدِّين وأنكره السلف، وبَسَطَ أدلة الفريقين، وستكون لنا فرصة للموازنة بين الرأيين عند الكلام في تاريخ البحث في العقائد الدينية عند المسلمين.
(٢) ألقاب هذا العلم وسبب تسميته بعلم الكلام
جمع التهانوي في كتاب «كشاف اصطلاحات الفنون» أسماء هذا العلم فقال: «علم الكلام، ويُسمَّى بأصول الدين أيضًا، وسمَّاه أبو حنيفة — رحمه الله تعالى (المتوفى سنة ١٥٠ﻫ/ ٧٦٧م) — بالفقه الأكبر. وفي «مجمع السلوك»: ويُسَمَّى بعلم النظر والاستدلال أيضًا، ويُسَمَّى أيضًا بعلم التوحيد والصفات. وفي «شرح العقائد» للتفتازاني: العلم المتعلق بالأحكام الفرعية، أي: العملية، يُسمَّى علم الشرائع والأحكام، وبالأحكام الأصلية؛ أي الاعتقادية يُسَمَّى علم التوحيد والصفات.»
وقد ذكر المؤلفون أقوالًا مُتباينة في سبب تسمية هذا العلم بالكلام، وجمع عضد الدين الإيجي هذه الأقوال في كتاب «المواقف» بما نصه:
«وإنما سُمِّي الكلام إمَّا لأنه بإزاء المنطق للفلاسفة، وإمَّا لأن أبوابه عنونت أولًا بالكلام في كذا، أو لأنَّ مسألة الكلام أشهر أجزائه حتى كثر فيه التشاجر والسفك فغلب عليه، أو لأنَّه يُورِث قُدرة على الكلام في الشرعيات ومع الخصم.»
ويبدو لي أنَّ البحث في أمور العقائد كان يُسَمَّى كلامًا قبل تدوين هذا العلم، وكان يُسمَّى أهلُ هذا البحث متكلِّمين؛ فلمَّا دوُّنت الدواوين وأُلِّفت الكتب في هذه المسائل، أُطلِق على هذا العلم المدوَّن ما كان لقبًا لهذه الأبحاث قبل تدوينها وعلمًا على المعترضين لها.
وإِنَّمَا سُمِّي البحث في الشئون الاعتقادية كلامًا وسُمِّي أهله متكلمين لأحد وجهين:
أولهما: يؤخذ مما رواه جلال الدين السيوطي (المتوفى سنة ٩١٤ﻫ/١٥٠٥م) في كتاب «صون المنطق والكلام عن فن المنطق والكلام»، وهو مخطوط بدار الكتب الأزهرية.
«وأخرج عن مالك — رضي الله عنه (المُتوفى سنة ١٧٩ﻫ/٧٩٥م) — قال: إياكم والبدع. قيل: يا أبا عبد الله، وما البدع؟ قال: أهل البدع الذين يتكلمون في أسماء الله وصفاته وكلامه وعلمه وقدرته، ولا يسكتون عمَّا سكت عنه الصحابة والتابعون لهم بإحسان.»
ويؤيد ذلك ما نقل السيوطي في كتابه هذا عن كتاب «ذم الكلام وأهله» لشيخ الإسلام أبي إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري الهروي (المُتوفى سنة ٤٨١ﻫ): وأخرج عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله ﷺ: «مَن تكلَّم في الدين برأيه فقد اتهمه.»
وأخرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: «لا تقوم الساعة حتى يُكفَر بالله جهارًا، وذلك عند كلامهم في ربهم.»
وأخرج مُحَمَّد بن الخليفة قال: «لا تهلك هذه الأمة حتى تتكلم في ربها.»
وأخرج عن علي بن أبي طالب قال: «يخرج في آخر الزمان أقوام يتكلمون بكلام لا يعرفه أهل الإسلام ويَدعون الناس إلى كلامهم، فمَن لَقِيَهم فليُقاتِلْهم؛ فإن قتْلهم أجرٌ عند الله.»
وأخرج عن ابن عمر قال: «إنَّ القدرية حملوا ضَعْف رأيهم على مقدرة الله، وقالوا: لِمَ؟ ولا ينبغي أن يُقال لله: لِمَ؛ لأنه لا يُسأل عمَّا يَفعَل وهم يُسأَلون.»
وأخرج عن هشام بن عبد الملك أنه قال لبنيه: «إياكم وأصحاب الكلام فإن أمرهم لا يئول إلى الرشاد.»
وأخرج عن جعفر بن محمد قال: «إذا بلغ الكلام إلى الله فأمسكوا.» وأخرج عنه قال: «تكلموا فيما دون العرش ولا تكلموا فيما فوق العرش، فإنَّ قومًا تكلموا في الله فتاهوا.»
وأخرج عن شعبة قال: «كان سفيان الثوري يبغض أهل الأهواء وينهي عن مُجالستهم أشد النهي، وكان يقول: «عليكم بالأثر، وإياكم والكلام في ذات الله».»
وأخرج عن محمد بن الحسن صاحب أَبي حنيفة قال: قال أبو حنيفة: «لعن الله عمرو بن عُبَيْد؛ فإنه فتح للناس الطريق إلى الكلام فيما لا يعنيهم من الكلام.» قال: وكان أبو حنيفة يَحُثُّنا على الفقه وينهانا عن الكلام.
فالكلام ضد السكوت، والمتكلمون كانوا يقولون حيث ينبغي الصمت اقتداء بالصحابة والتابعين الذين سكتوا عن المسائل الاعتقادية لا يخوضون فيها. وفي «الكليات» لأبي البقاء:
أمَّا الثاني فيؤخذ مما نقله ابن عبد البر (المُتوفى سنة ٤٦٣ﻫ/١٠٧٠-١٠٧١م) في كتاب «مختصر جامع بيان العلم وفضله»:
«وعن مُصعب بن عبد الله الزبيري، قال: كان مالك بن أنس يقول: الكلام في الدين أكرهه، ولم يَزَل أهل بلدنا يكرهونه وينهَوْن عنه، نحو الكلام في رأي جَهْم والقَدَر، وما أشبه ذلك، ولا أُحِبُّ الكلام إلا فيما تحته عمل.
واعتبار أنَّ الدين هو شئون الاعتقادات لا شئون الأحكام العملية، يُؤيده ما جاء في كتاب شرح أبي منصور الماتريدي (المُتوفى سنة ٣٣٢ﻫ/٩٤٣-٩٤٤م أو ٣٣٣ﻫ/٩٤٤-٩٤٥م) على كتاب «الفقه الأكبر» المنسوب إلى أبي حنيفة:
والكلام على هذا مُقابل الفعل، كما يُقال فلان قوَّال لا فعَّال، والمُتكلمون قوم يقولون في أمور ليس تحتها عمل، فكلامهم نظريٌّ لفظي لا يتعلق به فعل، بخلاف الفقهاء الباحثين في الأحكام الشرعية العملية.
وعلم الكلام علم يَبحَث فيما يتصل بالعَقَائد التي هي شئون غير عملية ورد تسمية هذا العلم بالكلام إلى أحد هذين الوجهين أرجح عندي لمُنَاسبته للواقع من سبق هذه التسمية للتدوين؛ أمَّا سائر الوجوه فتجعل التسمية لاحقة لظهور العلوم وتدوينها.
(٣) تاريخ علم الكلام
يبدو ممَّا أسلفنا أنَّ العِبَارات المُختلفة في تعريف علم الكلام مُتَّفقة على أنَّ هذا العلم يعتمد على البراهين العقلية بالعقائد الإيمانية، وهذا المعنى؛ أي البحث في العقائد الإسلامية اعتمادًا على العقل، هو الذي نُريده عند البحث في تاريخ علم الكلام.
واستيفاء القولِ في هذا الباب يستدعي الإلمام بتقرير العقائد الرُّوحية في عهد النبي ﷺ وفي عهد الخلفاء الرَّاشدين من بعده، وفيما تلا ذلك إلى عهد التدوين في علم الكلام، ثم تتبُّع الأدوار التي مرَّ بها علم الكلام بعد تدوينه.
(٣-١) تقرير العقائد الدينية في عهد الرسول ﷺ
جاء الإسلامُ يُقرر أنَّ الدين الحق واحد، هو وحي الله إلى جميع أنبيائه، وهو عبارة عن الأصول التي لا تتبدل بالنسخ ولا يختلف فيها الرسل، وهي هدًى أبدًا.
أما الشرائع العملية فهي متفاوتة بين الأنبياء، وهي هدًى ما لم تُنسَخ، فإذا نُسخت لم تبقَ هدًى.
«والمُراد بهداهم طريقتهم في الإيمان بالله وتوحيده وأصول الدين، دون الشرائع فإنها مُختلفة، وهي هدًى ما لم تُنسَخ، فإذا نُسخت لم تبقَ هدًى، بخلاف أصول الدين فإنَّها هدًى أبدًا.»
قال ابن تيمية (المتوفى سنة ٧٢٨ﻫ/١٣٢٧م):
وقد بُعث محمد ﷺ، بدين وشريعة، أمَّا الدين فقد استوفاه الله كله في كتابه الكريم ووحيه، ولم يَكِلِ الناس إلى عقولهم في شيء منه، وأمَّا الشريعة فقد استوفى أصولها ثم ترك للنظر الاجتهادي تفصيلها.
روى الطبري (المُتوفى سنة ٣١٠ﻫ/٩٢٢-٩٢٣م) عن ابن عباس في تفسير هذه الآية:
«الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ، وهو الإسلام. قال: أخبر الله نبيه ﷺ والمؤمنين، أنه قد أكمل لهم الإيمان؛ فلا يحتاجون إلى زيادة أبدًا، وقد أتمَّه الله — عزَّ وجلَّ — فلا ينقصه أبدًا، وقد رَضِيَه فلا يسخطه أبدًا.»
هذا الجدل في العقائد عرض له القرآن للحاجة وعلى مقدارها، من غير أن يشجِّع المسلمين على المُضِيِّ فيه، بل هو قد نفَّرهم منه، في مثل قوله:
جاء في كتاب «مختصر جامع بيان العلم»:
«وعن العوَّام بن حوشب عن إبراهيم التيمي في قوله تعالى: فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ، قال: الخصومات بالجدل في الدين.»
وهذا يتفق مع قول كثير من المفسرين، كالزمخشري، والبيضاوي (المتوفى سنة ٧٩١ﻫ/١٣٨٩م).
كان لهذه المعاني الدينية التي قرَّرها الإسلام منذ نشأته أثرها العظيم في توجيه النظر العقلي عند المُسلمين في عهدهم الأول، فكرهوا البحث والجدل في أمور الدين دون أمور الأحكام الفقهية.
وفي كتاب «تأويل مختلف الحديث» لابن قتيبة الدِّينَوَري (المتوفى سنة ٢٧٦ﻫ/٨٧٨-٨٧٩م) بصدد الطعن على المُختلفين في أصول الدين:
فالمُسلمون في الصدر الأول كانوا يَرَوْن ألَّا سبيل لتقرير العقائد إلا بوحي، أمَّا العقل فمعزول عن الشرع وأنظاره، كما يقول ابن خلدون.
وكانوا يَرَوْن أنَّ التناظر والتجادل في الاعتقاد يؤدي إلى الانسلاخ من الدين، فقررت عقائد الدين في القرآن الكريم المقطوع به في الجملة والتفصيل.
قال تقي الدين المقريزي (المُتوفى سنة ٨٤٥ﻫ/١٤٤١-١٤٤٢م) في كتاب «الخطط»:
«اعلم أنَّ الله — تعالى — لمَّا بعث من العرب نبيه محمدًا ﷺ، رسولًا إلى الناس جميعًا، وصف لهم ربهم — سبحانه وتعالى — بما وصف به نفسه الكريمة في كتابه العزيز الذي نزل به على قلبه ﷺ الرُّوح الأمين، وبما أوحى إليه ربه تعالى؛ فلم يسأله ﷺ أحدٌ من العرب بأسْرهم قرويِّهم وبدويِّهم عن معنى شيء من ذلك، كما كانوا يسألونه ﷺ عن أمر الصلاة والزكاة والصيام والحج وغير ذلك ممَّا لله فيه سبحانه — أمر ونهي، وكما سألوه ﷺ عن أحوال القيامة والجنة والنَّار، ولو سأله إنسان منهم عن شيء من الصفات الإلهية لنُقِل كما نُقِلت الأحاديث الواردة عنه ﷺ في أحكام الحلال والحرام ممَّا تضمَّنتْه كتب الحديث، ومعاجمها ومسانيدها وجوامعها.
ومَن أمْعَنَ النظر في دواوين الحديث النبوي ووقف على الآثار السلفية، علم أنه لم يُرْوَ قطُّ من طريق صحيح ولا سقيم عن أحد من الصحابة — رضي الله عنهم — على اختلاف طبقاتهم وكثرة عَدَدِهم، أنَّه سأل رَسُولَ الله ﷺ، عن معنى شيء مما وصف الرب — سبحانه — به نفسه الكريمة في القرآن الكريم وعلى لسان نبيه محمد ﷺ، بل كلهم فهموا معنى ذلك وسكتوا عن الكلام في الصفات.
نعم؛ ولا فرَّق أحد منهم بين كونها صفة ذات أو صفة علة، وإنما أثبتوا له — تعالى — صفات أزلية من العلم والقدرة، والحياة والإرادة، والسمع والبصر والكلام والجلال والإكرام والجود والإنعام والعز والعظمة، وساقوا الكلام سوقًا واحدًا، وهكذا أثبتوا — رضي الله عنهم — ما أطلقه الله — سبحانه — على نفسه الكريمة من الوجه واليد ونحو ذلك مع نفي مماثلة المخلوقين، فأثبتوا — رضي الله عنهم — بلا تشبيه، ونزَّهوا من غير تعطيل، ولم يتعرَّض مع ذلك أحد منهم إلى تأويل شيء من هذا ورأَوْا بأجمعهم إجراء الصفات كما وردت.
«فإن قيل فلماذا حثَّ الله على التفكير في خلق السموات والأرض وسائر المخلوقات، وهلَّا اقتصر البحث على النظر في معجزات الأنبياء وأحوالهم؟ قلنا لسنا ننكر أنَّ ذلك طريق واضح، لكنَّا نقول إنَّ هذا أيضًا طريق آخَر، والطرق إلى معرفة الله كثيرة، ولله مَن قال:
«فبِهَذه الأمور عَلِمْنَا أنَّ الأنبياء ما أخذوا عَقَائدهم عن النَّظر، ولا كانوا بحيث يجوز عليهم التواطؤ على الكَذِب، فلم يبقَ إلا أَنَّهم علموا ما دانو به علمًا ضروريًّا، ولا يُقال إنه — صلى الله عليه وآله وسلم — إنما ترك ذلك لأنَّه لم يكن في زمان مُشبِّهة؛ لأنَّ اليهود كانوا مُجاوِرين له وكانوا أهل فلسفة، ولأنَّ النَّصارى وابن الزِّبَعْرَى نَاظَروه، فلم يأتِ بشيء من جِنْس علم الكلام، وكذلك لمَّا سُئِلَ عن الرُّوح، لا يُقال إنَّه أراد جنسًا من الملائكة؛ لأنَّ السابق إلى الأفهام خلافه؛ فهو تأويل بغير دليل، كما لا يُقال إن الروح جبريل، لمثل ذلك، ولأنَّه ﷺ قد أمَرَ أحدَنا أن يقول عند أن يكثر سؤال الناس: آمنتُ بالله ورسله. ثبت ذلك في الصحيح عن أبي هريرة.
وللغزالي قول مفصَّل في الإيمان ومراتبه وطرقه، يكشف عن وجهة نظره فيما نحن بصدده من تقارير العقائد الدينية في صدر الإسلام، أورده في كتاب «إلْجام العوام عن علم الكلام»، قال:
«فصل: فإنْ قال قائل: العامي إذا مُنع من البحث والنظر لم يَعرِف الدليل، ومَن لم يعرف الدليل كان جاهلًا بالمدلول، وقد أَمَرَ اللهُ كافة عباده بمعرفته؛ أي بالإيمان به والتصديق بوجوده أولًا، وبتقديسه عن سمات الحوادث ومُشابهته غيره ثانيًا، وبوحدانيته ثالثًا، وبصفاته من العلم والقدرة ونفوذ المشيئة وغيرها رابعًا، وهذه الأمور ليست ضرورية فهي إذن مطلوبة، وكل علم مطلوب؛ فلا سبيل إلى اقتناصه وتحصيله إلا بشبكة الأَدِلَّة والنَّظر في الأدلة والتفطن لوجه دلالتها على المطلوب وكيفية إنتاجها، وذلك لا يتمُّ إلا بمعرفة شروط البراهين وكيفية ترتيب المقدمات واستنتاج النتائج، وينجز ذلك شيئًا فشيئًا إلى تمام علم البحث واستيفاء علم الكلام إلى آخر النظر في المعقولات.
وكذلك يجب على العامي أن يُصدِّق الرسول ﷺ، في كل ما جاء به، وصدقه ليس بضروري، بل هو بشر كسائِرِ الخَلْقِ، فلا بُدَّ من دليل يُميِّزه عن غيره ممَّن تحدَّى بالنبوة كاذبًا، ولا يمكن ذلك إلا بالنظر في المُعجزة ومعرفة حقيقة المعجزة وشروطها إلى آخر النظر في النبوات، وهو علم الكلام.
- الأولى: وهي أقصاها: ما يحصل بالبرهان المُستقصي المُستوفي شروطه المُحرر أصوله ومقدماته درجة درجة، وكلمة كلمة، حتى لا يبقى مجال احتمال وتمكن الْتِباس ذلك وهو الغاية القصوى، ورُبَّما يتفق ذلك في كل عصر لواحد أو اثنين ممَّن ينتهي إلى تلك الرتبة، وقد يخلو العصر عنه، ولو كانت النجاة مقصورة على مثل تلك المعرفة لقلَّتِ النجاة وقلَّ الناجون.
- الثانية: أنْ يَحصل بالأدلة الوهمية الكلامية المبنية على أمور مُسَلَّمة مصدَّق بها لاشتهارها بين أكابر العلماء، وشناعة إنكارها ونفرة النفوس عن إبداء المِرَاء فيها، وهذا الجنس أيضًا يُفِيد في بعض الأمور. وفي حق بعض الناس تصديقًا جازمًا بحيثُ لا يشعر صاحبه بإمكان خلافه أصلًا.
- الثالثة: أن يحصل التصديق بالأدلة الخطابية، أعني
القدرة التي جرت العادة باستعمالها في
المحاورات والمُخاطبات الجارية في
العادات، وذلك يُفيد في حق الأكثرين
تصديقًا ببادئ الرَّأي وسابق الفهم، إن لم
يكن الباطن مشحونًا بالتعصب وبرسوخ اعتقاد
على خلاف مُقتضى الدليل، ولم يكن
المُستَمِع مشغوفًا بتكلُّف المُماراة
والتشكك، ومُنتجعًا بتحديق المُجادلين في
العقائد، وأكثر أَدِلَّة القرآن من هذا
الجنس، فمن الدليل الظاهر المُفيد للتصديق
قولهم لا ينتظم تدبير المَنزِل بمدبِّرين؛
فلو كان فيهما آلهة إلا الله
لفسدتا.
فكل قلب باقٍ على الفطرة غير مشوَّش بمماراة المجادِلِين يسبق من هذا الدليل إلى فهم تصديق جازم بوحدانية الخالق، لكن لو شوَّشه مجادِل وقال: لم يبعد أن يكون العالَم بين إلهين يتوافقان على التدبير ولا يختلفان؛ فإسماعه هذا القدْر يشوِّش عليه تصديقَه، ثم رُبما يعسر سلُّ هذا السؤال ودفعُه في حق بعض الأفهام القاصرة، فيستولي الشك ويتعذر الرفع، وكذلك من الجلي أن مَن قدر على الخلق فهو على الإعادة أقدر. كما قال: قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ، فهذا لا يسمعه أحد من العوام، ذكي أو غبي، إلا ويبادر إلى التصديق ويقول: نعم، ليستِ الإعادة بأعسر من الابتداء، بل هي أهون.
ويُمكن أن يشوَّش عليه بسؤال ربما يعسر عليه فهم جوابه، والدَّليل المُستوفي هو الذي يُفيد التصديق بعد تمام الأسئلة وجوابها؛ بحيثُ لا يبقى للسؤال مجال، والتصديق يحصل قبل ذلك.
- الرابعة: التصديق لمجرد السماع ممَّن حسن فيه الاعتقاد، بسبب كثرة ثناء الخلق عليه، فإنَّ مَن حسن اعتقاده في أبيه وأستاذه، أو في رجل من الأفاضل المشهورين قد يُخبره عن شيء كموت شخص أو قدوم غائب أو غيره؛ فيسبق إليه اعتقاد وتصديق بما أخبر عنه، بحيثُ لا يبقى لغيره مجال في قلبه، ومستنده حُسن اعتقاده فيه، فالمجرد بالصدق والورع والتقوى مثل الصِّدِّيق — رضي الله عنه — إذ قال رسول الله ﷺ، كذا، فكم من مُصَدِّق به جزمًا وقابل له قبولًا مُطلقًا لا مستند لقوله إلا حسن اعتقاده فيه، فمثله إذا لقَّن العامي اعتقادًا وقال له: اعلم أنَّ خالق العالَم واحد، وأنه عالِم قادِر، وأنه بعث محمدًا ﷺ، رسولًا، بادر إلى التصديق ولم يُمازجْه ريب ولا شك في قوله، وكذلك اعتقاد الصبيان في آبائهم ومعلِّميهم، فلا جرم يسمعون الاعتقادات ويصدِّقون بها، ويستمرون عليها من غير حاجة إلى دليل وحجة.
- الرتبة الخامسة: التصديق به الذي يسبق إليه القلب عند
سماع الشيء مع قرائن أحوال لا تُفيد القطع
عند المُحقق، ولكن يلقي في قلب العوام
اعتقادًا جازمًا، كما إذا سُمع بالتواتر
مرض رئيس البلد ثم ارتفع صراخ وعويل من
داره، ثم يسمع من أحد غلمانه أنه قد مات،
اعتقد العامي جزمًا أنه مات، وبنَى عليه
تدبيره ولا يخطر بباله أن الغلام رُبما
قال ذلك عن إجاف سمعه، وأنَّ الصراخ
والعويل لعله عن غشية أو شدة مرض أو سبب
آخر، لكن هذه خواطر بعيدة لا تخطر للعوام؛
فتنطبع في قلوبهم الاعتقادات
الجازمة.
وكم من أعرابي نظر إلى أسارير وجه رسول الله ﷺ، وإلى حُسن كلامه ولطف شمائله وأخلاقه، فآمن به وصدَّقه، جزمًا لم يخالجه ريب من غير أن يطالبه بمعجزة يُقيمها أو يذكر وجه دلالتها.
- الرُّتبة السادسة: أن يسمع القول فيُناسب طبعه وأخلاقه
فيبادر إلى التصديق لمجرد موافقته لطبعه
لا من حُسن اعتقاد في قائله، ولا من قرينة
تشهد له، لكن لمناسبة ما في طباعه.
فالحريص على موت عدوِّه وقتْله وعزله يصدق جميع ذلك بأدنى إجاف، ويستمر على اعتقاده جازمًا، ولو أخبر بذلك في حق صديقه أو بشيء يُخالف شهوته وهواه، توقَّف فيه أو أباه كل الإباء، وهذه أضعف التصديقات وأدنى الدرجات؛ لأنَّ ما قبله استند إلى دليل ما، وإن كان ضعيفًا، من قرينة أو حسن اعتقاد في المخبر أو نوع من ذلك، وهي أمارات يظُنُّها العَامي أدلة فتعمل في حقه عمل الأدلة.
فإذا عرفتَ مراتب التصديق؛ فاعْلَم أنَّ مُستند إيمان العوام هذه الأسباب، وأعلى الدرجات في حقه أدلة القرآن وما يجري مجراه مما يحرك القلب إلى التصديق، ولا ينبغي أن يُجاوَز بالعامي إلى ما وراء أدلة القرآن، وما في معناه من الجليات المسكنة للقلوب، المستجرة لها إلى الطمأنينة والتصديق، وما وراء ذلك ليس على قدر طاقته.
وأكثر الناس آمنوا في الصِّبا، وكان سبب تصديقهم مجرد التقليد للآباء والمعلمين، لحسن ظنهم بهم وكثرة ثنائهم على أنفسهم، وثناء غيرهم عليهم، وتشديدهم النكير بين أيديهم على مُخالفيهم، وحكايات أنواع النكال النازل بمَن لا يعتقد اعتقادهم، وقولهم إنَّ فلانًا اليهودي في قبره مُسِخ كلبًا وفلانًا الرَّافضي انقلب خنزيرًا، وحكايات منامات وأحوال من هذا الجنس تغرس في نفوس الصبيان النَّفرة عنه والميل إلى ضده؛ حتى ينزع الشك بالكلية عن قلبه.
فالتعلم في الصغر كالنقش في الحجر، ثم يقع نشؤه عليه ولا يزال يُؤكد ذلك في نفسه، فإذا بلغ استمر على اعتقاده الجازم وتصديقه المُحكم الذي لا يُخالجه فيه ريب؛ ولذلك ترى أولاد النَّصارى والروافض والمجوس والمسلمين كلهم لا يبلغون إلا على عقائد آبائهم، واعتقاداتهم في الباطل والحق جازمة لو قُطِّعوا إربًا إربًا لما رجعوا عنها، وهم قط لم يسمعوا عليه دليلًا لا حقيقيًّا ولا رسميًّا، وكذا ترى العبيد والإماء يُسبَوْن من المشرك ولا يعرفون الإسلام، فإذا وقعوا في أسْر المسلمين وصحبوهم مدة ورأَوْا ميلهم إلى الإسلام، مالوا معهم واعتقدوا اعتقادهم، وتخلَّقوا بأخلاقهم، كل ذلك لمجرد التقليد والتشبه بالمتبوعين، والطبائع مجبولة على التشبيه، لا سيما طباع الصبيان وأهل الشباب؛ فبهذا يعرف أنَّ التصديق الجازم غير موقوف على البحث وتحرير الأدلة.
فصل: لعلك تقول: لا أُنكر حصول التصديق الجازم في قلوب العوام بهذه الأسباب، ولكن ليس ذلك من المعرفة في شيء، وقد كلف الناس المعرفة الحقيقية دون اعتقاد هو من جنس الجهل الذي لا يتميز فيه الباطل عن الحق، فالجوابُ أنَّ هذا غلط ممَّن ذهب إليه، بل سعادة الخلق في أنْ يعتقدوا الشيء على ما هو عليه اعتقادًا جازمًا؛ لتنتفش قلوبهم بالصورة الموافقة لحقيقة الحق، حتى إذا ماتوا وانكشف لهم الغطاء فشاهدوا الأمور على ما اعتقدوها لم يُفتَضَحوا، ولم يَحتَرِقوا بنار الخِزْي والخجلة ولا بنار جهنم ثانيًا.
وصورة الحق إذا انتفش بها قلبه فلا نظر إلى السبب المفيد له، أهو دليل حقيقي أو رسمي أو إقناعي، أو قبول بحسن الاعتقاد في قائله، أو قبول لمجرد التقليد من غير سبب، فليس المطلوب الدليل المفيد بل الفائدة وهي حقيقة الحق على ما هي عليه.
فمن اعتقد حقيقة الحق في الله وفي صفاته وكتبه ورسله واليوم الآخر على ما هو عليه فهو سعيد، وإن لم يكن ذلك بدليل مُحرَّر كلامي، ولم يكلِّف الله عباده إلا ذلك، وذلك معلوم على القطع بجملة أخبار متواترة عن رسول الله ﷺ، في موارد الأعراب عليه، وعرضه الإيمان عليهم، وقبولهم ذلك وانصرافهم إلى رعاية الإبل والمواشي من غير تكليفه إياهم التفكير في المعجزة ووجه دلالته، والتفكر في حدوث العالم وإثبات الصانع. وفي أدلة الوحدانية وسائر الصفات، بل الأكثر من أجلاف العرب لو كُلفوا ذلك لم يفهموه ولم يدركوه بعد طول المدة، بل كان الواحد منهم يُحلِّفه ويقول: والله، آلله أرسلك رسولًا؟ فيقول: والله، الله أرسلني رسولًا، وكان يصدِّقه بيمينه وينصرف، ويقول الآخَر إذا قدم عليه ونظر إليه: والله ما هذا وجه كذاب. وأمثال ذلك مما لا يُحصَى.
وابن تيمية يرى أنَّ القرآن قرَّر أصول الدين وقرر دلائلها وبراهينها، والمبتدعة يخالفون ما في القرآن من أصول الاعتقاد، ومن أدلتها السمعية والعقلية، قال في كتاب «النبوات»:
«فصل: قد ذكرنا في غير موضع أنَّ أصول الدين الذي بعث الله به رسوله محمدًا ﷺ، قد بيَّنها الله في القرآن أحسن بيان، وبيَّن دلائل الربوبية والوحدانية ودلائل أسماء الرَّب وصفاته، وبيَّن دلائل نبوة أنبيائه، وبيَّن المعاد، بيَّن قدرته عليه في غير موضع، وبيَّن وقوعه بالأدلة السمعية والعقلية.
لم يكن بين المسلمين في عهد النبي ﷺ، خلاف ظاهر، ورُوي عنهم في مُدَّة مرض النَّبي خلاف في أمور اجتهادية لا تتصل بمسائل العقائد، وذلك كاختلافهم عند قول النبي في مرض موته: «ائتوني بقرطاس أكتب لكم كتابًا لا تضلوا بعدي.» حتى قال عمر: إنَّ النبي قد غلبه الوَجَع، حسبُنا كتاب الله! وكثر اللغط في ذلك حتى قال النبي: «قوموا عنِّي لا ينبغي عندي التنازع.» وكاختلافهم في التخلُّف عن جيش أسامة، فقال قوم بوجوب الاتباع لقوله عليه السلام: «لعن الله مَن تخلَّف عنه.» وقال قوم بالتخلُّف انتظارًا لما يكون من رسول الله في مرضه.
وإنْ رُويت عنهم ألوان من الجدل؛ نهاهم رسول الله ﷺ عنها.
جاء في كتاب «صون المنطق والكلام عن فن النطق والكلام» للسيوطي نقلًا عن كتاب «ذم الكلام وأهله» لشيخ الإسلام أبي إسماعيل الهروي (المتوفى سنة ٤٨١ﻫ):
«وأخرج من طريق عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: خرج رسول الله ﷺ، على أصحابه ذات يوم وهم يَتَرَاجَعون في القَدَر، فخرج مُغضَبًا حتى وقف عليهم، فقال: «يا قوم، بهذا ضلَّتِ الأُمم قبلكم باختلافهم على أنبيائهم وضربهم الكتاب بعضه ببعض، وإن القرآن لم ينزل لتضربوا بعضه ببعض، ولكنْ نزل القرآن فصدَّق بعضه بعضًا، ما عرفتم منه فاعملوا به وما تشابه فآمنوا به.»
وأخرج عن أبي هريرة قال: خرج علينا رسولُ الله، ﷺ، ونحن نتنازع في القَدَر؛ فغضب حتى احمرَّ وجهُه، ثم قال: «أبهذا أُمِرْتم؟ أم بهذا أُرسِلت إليكم؟ إنما هلك مَن كان قبلكم حتى تَنَازَعوا في هذا الأمر، عزمتُ عليكم ألَّا تنازَعوا.» وأخرج عن أبي الدرداء وأبي أُمامة وأنس بن مالك وواثلة بن الأسقع قالوا: خرج إلَيْنا رسولُ الله، ﷺ، ونحنُ نتنازع في شيء من الدين فغَضِب غضبًا شديدًا لم يَغضَب مثلَه، ثم انتَهَرَنا، قال: «يا أمة محمد، لا تُهيِّجوا على أنفسكم.» ثم قال: «أبهذا أمرتكم؟ أوَلَيس عن هذا نهيتكم؟ إنما هلك مَن كان قبلكم بهذا.» ثم قال: «ذروا المِراءَ لقِلَّة خَيْره، ذروا المراء فإن نفعه قليل ويُهيِّج العداوة بين الإخوان، ذروا المِراء فإنه لا تؤمن فتنته، ذروا المراء فإن المراء يورث الشك ويُحبِط العمل، ذروا المراء فإن المؤمن لا يُماري، ذروا المراء فكفى بك إثمًا ألَّا تزال مُماريًا، ذروا المراء فإنَّ المماري لا أشفع له يوم القيامة، ذروا المراء فأنا زعيم بثلاثة أبيات في الجنة في وسطها ورياضها وأعلاها لمَن ترك المراء وهو صادق، ذروا المراء فإنه أول ما نهاني الله عنه بعد عبادة الأوثان وشرب الخمر، ذروا المراء فإن الشيطان قد يئس من أن يُعبَد، ولكن رَضِيَ بالتحريش وهو المراء في الدين، ذروا المراء فإن بني إسرائيل افترقوا على إحدى وسبعين فرقة والنصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وإنَّ أُمَّتي ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلهم على الضلالة إلا السواد الأعظم.» قالوا: يا رسول الله، ومَن السواد الأعظم؟ قال: «مَن كان على ما أنا عليه وأصحابي.» ثم قال: «إنَّ الإسلام بدأ غريبًا وسيعود غريبًا، فطوبى للغرباء.» قالوا: يا رسول الله، ومَن الغرباء؟ قال: «الذين يَصلُحون إذا فَسَد الناس، ولا يُمارون في دين الله.»»
(٣-٢) العقائد الإيمانية في عهد الخلفاء الراشدين من سنة ١١ﻫ/٦٣٢م إلى سنة ٤٠ﻫ/٦٦٠م
كان أمر العقائد في عهد الخلفاء الرَّاشدين على ما كان عليه في عهد النبي ﷺ، لكنَّ النبي كان يصدع بكلمة الوحي؛ فلا يستطيع مؤمن أن يجد عنها محيصًا، وما كان من خلاف بين المسلمين قُضي الأمر فيه بردِّه إلى الرسول، وقد حدث في عهد الخلفاء الراشدين خلاف في أمور اجتهادية، إن تكن متصلة بالأحكام العملية، فإنَّ لها من الخطر ما جعلها أساسًا لاختلافات مستمرة بين المسلمين ورفع من شأنها؛ حتى وصلها بأمور العقائد، وعلى قواعدها قام كثير من الفرق الإسلامية.
وحديث الخلافة له شأن عظيم في قيام الفِرَق الإسلامية، وهو أكبر مظاهر الخلاف التي حدثت منذ وفاة النبي إلى ختام عهد أبي بكر وأيام عمر، حتى ليقول الإمام أبو الحسن الأشعري (المتوفى سنة ٣٢٤ﻫ/٩٣٦م) في كتاب «مقالات الإسلاميين واختلافات المصلين»:
وقد اختلف المُسلمون في عهد أبي بكر في قتال مانعي الزكاة حتى قال عمر: كيف تقاتلهم وقد قال ﷺ: «أُمرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا منِّي دماءهم وأموالهم»؟ فقال له أبو بكر: أليس قد قال: «إلَّا بحقها»؟ ومن حقِّها إقامة الصلاة وإيتاء الزَّكاة، ولو منعوني عِقالًا ممَّا أدَّوْه إلى النبي لقاتَلتُهم عليه، ويبدو لي أنَّ الخلاف في قتال مانعي الزكاة أو أهل الرِّدَّة — كما يُسمونهم — كان أصلًا لما حدث بعد ذلك من الخلاف في الإيمان والإسلام وتضمُّنهما للعمل أو عدم تضمُّنهما له.
واختلف المُسلمون في تنصيص أبي بكر على عمر بالخلافة، وفيما اتخذه عمر في أمر الخلافة من الشورى بين ستة من الصحابة، وذلك من ذيول حديث الخلافة الذي بدأ في عهد أبي بكر.
ثم اختلفوا في أمر عثمان، وأنكر قوم عليه في آخِر أيامه أفعالًا، واختلفوا في قتله، فقال قائلون قُتل ظلمًا وعدوانًا، وقال قائلون بخلاف ذلك.
وبُويع عليُّ بن أبي طالب فاختلف الناس في أمره، فمنْ بينِ مُنكِر لإمامته، ومن بين قاعد عنه، ومن بين قائل بإمامته مُعتقد لخلافته، ثم حَدَثَ الاختلاف في أمر طلحة والزبير وحربهما إياه. وفي قتال مُعاوية إياه في الوقائع المعروفة بوقعة أصحاب الجَمَل، ووقعة صفين. وفي حال الحَكَمَيْن، وظهر من ظهر خلاف الخوارج، ويقول الإمام أبو المظفَّر طاهر بن محمد الإسفراييني (المتوفى سنة ٤٧١ﻫ/١٠٧٨م) في كتاب «التبصير في الدين، وتمييز الفرقة الناجية عن فِرَق الهالكين»:
«وظهر في وقته — أي عليٍّ — خلاف السبئية من الروافض، وهم الذين قالوا إنه إله الخلق، حتى أحرق عليٌّ جماعة منهم.»
ويتبين مما ذكرنا أن أُسس الخلافات التي قامت عليها بعض الفرق الإسلامية وُجدت في عهد الخلفاء الرَّاشدين، ولئن كان الحِجاج بين هذه المذاهب قام على النقل في غالب أمره؛ فهو كان أحيانًا مشوبًا بالنظر العقلي.
وقد ذكر ابن عبد البر مُناظرة ابن عباس للحرورية، وهم الخوارج، وهي مناظرة تعتمد على النقل ولا تخلو من نظر عقلي، وروى ابن عبد البر أنه لمَّا ظهر على البصرة يوم الجمل جعل لأصحابه ما في عسكر القوم من السلاح، ولم يجعل لهم غير ذلك، فقالوا: كيف تحلُّ لنا دماؤهم ولا تحلُّ لنا أموالهم ولا نساؤهم؟ قال: هاتوا سهامكم، فأقرعوا على عائشة، فقالوا: نستغفر الله! فخصمهم عليٌّ وعرَّفهم أنها إذا لم تحل لم يحل بنوهم.
(٣-٣) العقائد الدينية في عهد الأمويين من سنة ٤١ﻫ/٦٦١م إلى سنة ١٣٢ﻫ/٧٥٠م
انتهى عهد الصحابة في هذا العصر ما بين تسعين ومائة من الهجرة.
وفي كتاب «التبصير في الدين»:
وفي كتاب «مفتاح السعادة»:
بل قد رُوي أنَّ النبي ﷺ، نهى الصحابة لمَّا رآهم يتكلمون في مسألة القَدَر وقال: «إنما هلك مَن قبلكم بخوضهم في هذا.»
وذلك يدلُّ على أنَّ مسألة القَدَر كانت أول ما خاض فيه المسلمون وتجادلوا من مسائل الاعتقاد.
وفي هذا العهد ظهرت طائفة تُكفِّر مرتكب الكبيرة، وطائفة تقول لا يضر مع الإيمان كبيرة، وقالت فرقة المعتزلة بالمنزلة بين المنزلتين، وأخذ الجَدَل في هذه المسائل ينتشر وينحو منحًى كلاميًّا.
قال طاش كبرى زاده في «مفتاح السعادة»:
وجملة القول أنه في هذا العهد ظهر الخلاف بين الفِرَق التي أشرنا إلى مناشئ وجودها في هذا العهد السالف واحتدم النزاع بينها، واعتمد هذا النزاع على كل وسائل الدِّفاع من جَدَل يقوم على أدلة نقلية وعقلية، ثم تولَّدت مسائل اعتقادية كانت موضع تجادل وتنازع، وافترق المسلمون فيها فِرَقًا، فظهر علم الكلام على أيدي هذه الفرق، خصوصًا المعتزلة، وإذا كان واصل بن عطاء هو أول مَن أظهر الاعتزال وأشاعه، فإنَّه أخذ الاعتزال عن الإمام أبي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية الهاشمي (المتوفى سنة ٩٨ﻫ/٧١٦-٧١٧م).
وفي «مفتاح السعادة»:
«قيل كان أول مَن أحدث مذهب الاعتزال واخترعه، كان الإمام هاشم المذكور وأخوه الإمام الحسن بن محمد بن الحنفية (المتوفى سنة ١٠١ﻫ/٧١٩-٧٢٠م، وقيل: سنة ٩٥ﻫ/٧١٣-٧١٤م).
وعلى هذا يكونُ التدوين في مسائل الكلام قد بدأ في العهد الذي نحنُ بصدده، ولكن التدوين في هذا العهد لم يكن في جملته إلا بداية، ولم يصل إلينا من مؤلفات ذلك العهد شيء.
(٣-٤) العقائد الدينية منذ عهد العباسيين في سنة ١٣١ﻫ/٧٤٨-٧٤٩م أو علم الكلام منذ تدوينه
في صدر هذا العهد ظهر التدوين وأُلِّفت الكتب في علم الكلام كما أُلِّفت في غيره من العلوم الإسلامية.
أَلَّف في علم الكلام أهل الفِرَق مثل واصل بن عطاء، وله كما في «خطط» المقريزي كتاب «المنزلة بين المنزلتين»، وكتاب «الفُتيا»، وكتاب «التوحيد»، ومثل عمرو بن عُبَيْد المُتكلم المعتزلي (المتوفى سنة ١٤٢ﻫ/٧٥٩-٧٦٠م تقريبًا)، وقد ذكروا له كتابًا في الرَّد على القَدَرية، وكبعض متكلِّمي الشيعة مثل هشام بن الحكم (المتوفى بعد نكبة البرامكة، وقيل في خلافة المأمون)، وله كُتُب في الإمامة وفي الرد على المعتزلة وغيرهم، ذكرها صاحب «الفهرست»، كما ذكر متكلمي المجبِّرة وأسماء ما صنَّفوه من الكتب، ومتكلِّمي الخوارج وكتبهم، وأُلِّفت في هذا العهد كتب في العقائد لأهل السنة، مثل كتاب «الفقه الأكبر» المنسوب لأبي حنيفة النعمان (المتوفى سنة ١٥٠ﻫ/٧٦٧م)، وكتاب «العالم والمتعلم» له أيضًا، وقد صرَّح فيهما بأكثر مباحث علم الكلام، ومثل «الفقه الأكبر» المنسوب للشافعي (المتوفى سنة ٢٠٤ﻫ/٨١٩-٨٢٠م).
وراج مذهب الاعتزال لِمَا فيه من مظاهر البحث العقلي والاعتماد على أساليب المنطق والجدل، فمالت إليه الطباع وكثر أنصاره، وأَصبَح المذهب السائد من بين المذاهب الكلامية، قال صاحب كتاب «مفتاح السعادة»:
وتوفي الأشعري على الأرجح سنة ٣٢٤ﻫ/٩٣٦م، والأشعري هو أول مَن عرض لنصرة عقائد أهل السنة بالبراهين العقلية، وأخذ في مجادلة مخالفيهم، خصوصًا المعتزلة، اعتمادًا على النقل والعقل، وقام بمثل ما قام به في زمنه الماتريدي أبو منصور محمد بن محمد بن محمود (المتوفى سنة ٣٣٣ﻫ/٩٤٤-٩٤٥م)، وله كتاب في المقالات كما أنَّ للأشعري كتابًا في المقالات، وله كتب في الرد على المعتزلة والقرامطة والروافض، وكتاب الجدل وكتاب في التوحيد، وله شرح لكتاب الأشعري في علم الكلام المُسمى ﺑ «الإبانة عن أصول الديانة» على أنه قد حدث بين أتباع الأشعري وأتباع الماتريدي خلاف ذكره المقريزي في «الخطط» بقوله:
بدأ الأشعري بكتبه في الرد على المعتزلة، وطريقته في نصرة العقائد الإيمانية على مذهب السلف بالأدلة العقلية، عهدًا جديدًا تزلزل فيه سلطان الاعتزال، ويقول في هذا الصدد صاحب «مفتاح السعادة»:
وإذا كان مذهب الأشعري في محاربة المعتزلة بمثل سلاحهم من أساليب النظر العقلي قد أضعف مذهب الاعتزال، وأذلَّ من طغيانه، فإنَّ سلطان السياسة كان كبير الأثر فيما ناله مذهب الاعتزال من القوة والسيادة أولًا، وكان له أثر في نزوله عن عرشه أخيرًا.
وقد نقل المؤرخون صورًا من جدل الأشعري تُمثِّل لنا روح مذهبه، تناظر الأشعري مع أبي علي الجُبَّائي أحد أئمة المعتزلة (المتوفى سنة ٣٠٣ﻫ/٩١٥-٩١٦م)، وكان الجُبَّائي أستاذًا للأشعري قبل أن ينتقل هذا عن مذهب الاعتزال:
كان زمن الأشعري قد امتلأ بالفِرَق ومجادلتها القائمة على أصول فلسفية، وقد كانت الفلسفة منتشرة المذاهب في الناس منذ أَمَرَ بتعريب كُتُبها المأمونُ في أعوام بضع عشرة سنة ومائتين. قال المقريزي:
وأبو محمد عبد الله بن محمد بن سعيد بن «كُلَّاب»، كخُطَّاف لفظًا ومعنًى، كما في «طبقات الشافعية» لابن السبكي، هو عبد الله بن سعيد، ويُقال عبد الله بن محمد أبو محمد بن كُلَّاب القطان أحد أئمة المتكلمين، وذكر ابن السبكي أنَّ وفاة ابن كلاب فيما يَظهَر بعد الأربعين ومائتين بقليل، ونَفَى ما نسبه إليه محمد بن إسحاق النديم من أنه من أئمة الحشوية، وإن كان يقول إنَّ كلام الله هو الله.
ويقول صاحب «طبقات الشافعية الكبرى» (المتوفى سنة ٧٥٦ﻫ/١٣٥٥م):
ويقول ابن السبكي أيضًا:
وقد فصَّل المقريزي (المتوفى سنة ٨٤٥ﻫ/١٤٤١م) حال المذهب الأشعري منذ نشأته إلى عهده فقال:
«وحقيقة مذهب الأشعري — رحمه الله — أنه سلك طريقًا بين النَّفْي الذي هو مذهب الاعتزال، وبين الإثبات الذي هو مذهب أهل التجسيم، وناظَر على قوله هذا واحتجَّ لمذهبه؛ فمالَ إليه جماعة وعوَّلوا على رأيه، منهم القاضي أبو بكر محمد بن الطيب الباقِلَّاني المالكي، وأبو بكر محمد بن الحسن بن فورك، والشيخ إبراهيم بن محمد بن مهران الإسفراييني، والشيخ أبو حامد محمد بن محمد بن أحمد الغزالي، وأبو الفتح محمد بن عبد الكريم بن أحمد الشهرستاني والإمام فخر الدين محمد بن عمر بن الحسين الرازي، وغيرهم ممَّن يَطول ذكره، ونصروا مذهبه وناظروا عليه وجادلوا فيه، واستدلوا له في مصنفات لا تكاد تُحصَر، فانتشر مذهب أبي الحسن الأشعري في العراق من نحو سنة ثمانين وثلاثمائة وانتقل منه إلى الشام …»
وبعد أن ذكر انتشار المذهب في مصر، على يَدِ المَلِك ناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب ومَن بعده من ملوك الأيوبيين، وانتشار هذا المذهب في بلاد المغرب على يد أبي عبد الله محمد بن تومرت. قال: «فكان هذا هو السبب في اشتهار مذهب الأشعري وانتشاره في أمصار الإسلام بحيث نُسِي غيره من المذاهب وجُهل، حتى لم يبقَ اليوم مذهبٌ يُخالِفه، إلا أن يكون مذهب الحنابلة أتباع الإمام أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل، رضي الله عنه، فإنهم كانوا على ما كان عليه السلف لا يَرَوْن تأويل ما وَرَد من الصفات إلى أنْ كان بعد السبعمائة من الهجرة اشتُهر بدمشق وأعمالها تقيُّ الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحَرَّاني، فتصدَّى للانتصار لمذهب السلف، وبالَغَ في الردِّ على مذهب الأشاعرة، وصَدَع بالنَّكِير عليهم وعلى الرافضة وعلى الصوفية.
بدأ الأشعري أول ما بدأ في طوره الثاني بعد أن ترك الاعتزال مقتصدًا في علم الكلام، مقتصدًا في مجادلة الخصوم، وقد نقل ابن السبكي في «طبقات الشافعية» حكايات تدل على أنه كان لا يتكلم في علم الكلام إلا حيثُ يجبُ عليه، نصْرًا للدين، ودفعًا للمُبْطِلين، وكان صاحب فِرَاسة تُعِينه على الْتِماس وجوه من الأساليب مُختلفة في مُناظرة مَن يناظرهم.
كان أهل السُّنة من قبلِ الأشعري لا يعتمدون إلا على النقل في أمور الاعتقاد على حين أخذتِ الفلسفة توجِّه أهل الفِرَق إلى الاعتماد على العقل؛ فلمَّا أخذ الأشعري في مناضلة المبتدعة بالعقل حفاظًا للسنة، جاء أنصار مذهبه من بعده يُثبِتون عقائدهم بالعقل تدعيمًا لها ومنعًا لإثارة الشُّبَه حولها، ووضعوا المُقدمات العقلية التي تتوقف عليها الأدلة والأنظار مثل: إثبات الجوهر الفرد والخلاء، وأنَّ العَرَض لا يقوم بالعَرَض، وأنه لا يبقى زمانين، وأمثال ذلك ممَّا تتوقَّف عليه أدلتهم، وجعلوا هذه القواعد تَبَعًا للعقائد في وجوب الإيمان بها، وأنَّ بطلان الدليل يؤذن ببطلان المدلول، وهذه الطريقة هي المسماة بطريقة المتقدمين، ورأسها القاضي أبو بكر الباقلاني (المتوفى سنة ٤٠٣ﻫ/١٠١٣م)، وإمام الحرمين أبو المعالي (المتوفى سنة ٤٧٨ﻫ/١٠٨٥م) من بعده، ولم يكن المنطق يومئذٍ منتشرًا في المِلَّة لاعتباره جزءًا من أجزاء الفلسفة يجري حكمها عليه، ويُتحرَّج منه كما يُتحرَّج منها.
ثم مارَس أتباع مذهب الأشعري المنطق، وفرَّقوا بينه وبين العلوم الفلسفية، وراعَوْا في استدلالاتهم ومناظراتهم قواعده، وقرَّروا أنَّ بطلان الدليل لا يؤذن ببطلان المدلول الذي يُمكن أن يَثبُت بدليل آخَر، فصارت هذه الطريقة مُبايِنة للطريقة الأولى، وسُميت طريقة المتأخِّرين.
وأوَّل مَن كتب في الكلام على هذا المنحى الغزالي وتبعه فخر الدين الرازي، وبعد ذلك توغَّل المتكلمون في مخالطة كتب الفلسفة، والْتَبَس عليهم شأن الموضوع في العلمين فحسبوه واحدًا، واختلطت مسائل الكلام بمسائل الفلسفة بحيث لا يتميز أحد الفنين عن الآخَر كما فعل البيضاوي (المتوفى سنة ٦٩١ﻫ/١٢٨٦م)، في «الطوالع»، وعضد الدين الإيجي (المُتوفى سنة ٧٥٠ﻫ/١٣٥٥م) في كتاب «المواقف».
هذا ما ذكره ابن خلدون (المتوفى سنة ٨٠٨ﻫ/١٤٠٥م) في «المقدمة» ولم يَعرِض ابن خلدون لِمَا حدث في علم الكلام من نزوع مقاوِم لغلوِّ الغالين في خلْط الفلسفة، وذلك بنهوض ابن تيمية (المتوفى سنة ٧٢٨ﻫ/١٣٢٧) وتلميذه ابن قَيِّم الجوزية (المتوفى سنة ٧٥١ﻫ/١٣٥٠م) لإحياء مذهب السلف على طريقة الحنابلة ومُقاوَمة الأشعري كما أسلفنا.
ويقول المقريزي في «خططه»: إنَّ مذهب الحنابلة الذي أحياه ابن تيمية كان له أنصار بمصر.
ثم ضعفت الهِمَم عن الدراسات القوية لعلم الكلام، «ولم يبقَ بين الناظرين في كتب السابقين إلا تحاور في الألفاظ وتناظر في الأساليب، على أنَّ ذلك في قليل من الكتب اختارها الضعف وفضَّلها القصور»، كما يقول الشيخ محمد عبده في «رسالة التوحيد».
أمَّا النهضة الحديثة لعلم الكلام فتقوم على نوع من التنافس بين مذهب الأشعرية ومذهب ابن تيمية.
وإنا لنَشهَد تسابُقًا في نشر كُتب الأشعري وكتب ابن تيمية وتلميذه ابن القَيِّم ويُسمِّي أنصار هذا المذهب الأخير أنفسَهم بالسَّلَفية، ولعلَّ الغلبة في بلاد الإسلام لا تزال إلى اليوم لمذهب الأشاعرة.