بداية التفكير الفلسفي الإسلامي
من أجل هذا رأينا أنَّ البحث في تاريخ الفلسفة الإسلامية يكون أدنى إلى المسلك الطبيعي، وأهدى إلى الغاية حين نبدأ باستكشاف الجراثيم الأولى للنظر العقلي الإسلامي في سلامتها وخلوصها، ثم نُساير خُطاها في أدوارها المُختلفة، من قبل أن تدخل في نطاق البحث العلمي، ومن بعد أن صارت تفكيرًا فلسفيًّا.
وجريًا على هذه الخطة نشرع في البحث عن بداية التفكير الفلسفي عند المسلمين.
والبحث في بداية التفكير الفلسفي الإسلامي يستدعي إلْمَامه بحال الفكر العربي واتجاهاته حين ظهر الإسلام.
(١) العرب عند ظهور الإسلام
ومهما يكن من أمر العرب عند ظهور الدين المُحمدي، فإنَّهم لم يكونوا في سذاجة الجماعات الإنسانية الأُولى من الناحية الفكرية التي تهمنا، يدل على ذلك ما عُرف من أديانهم، وما روي من آثارهم الأدبية.
(١-١) الدين والجدل الديني
جاء الإسلامُ والعرب في تشعب ديني وبوادر انبعاث إلى نهضة دينية، والقرآن هو أصدق مرجع في تصوير حالة العرب من هذه النَّاحية، فإن القرآن هو أقدم ما نعرفه من الكتب العربية، وهو بما لقي من العناية بحفظه على مر العصور أجدر المراجع بالثقة، وقد جمع القرآن الأديان التي كان للعرب اتصال بها في عهده في الآية ١٧ من السورة ٢٢: الحج، مدنية: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ.
كان في العرب يهود ونصارى، وكان فيهم صابئة ومجوس، ثم كان فيهم مشركون … ومذهب الصابئة — على ما يُحيط بتاريخه من غموض — يكادُ يتم الاتفاق على أنَّه يُقرُّ بالألوهية، ويرى أنا نحتاج إلى معرفة الله ومعرفة أوامره وأحكامه إلى متوسط، لكن ذلك المتوسط يكون روحانيًّا لا جسمانيًّا، ففزعوا إلى هياكل الأرواح، وهي الكواكب، فهم عَبَدة الكواكب.
أما المجوس، فهم ثَنَوية: أثبتوا للعالم أصلين اثنين مُدبرين يقتسمان الخير والشر، يسمُّون أحدهما النور، والآخَر الظلمة.
وكان هذا الجدل يتناول بالضرورة شئون الألوهية والرِّسالة والبعث والآخرة والملائكة والجن والأرواح، ويدعو إلى المُوازنة بين المذاهب المختلفة في تلك الشئون، وقوي أمر هذا الجدل الديني في ذلك العهد، حتى تولَّدت نزعة ترمي إلى تلمُّس دين إبراهيم أبي العرب.
ذكر ابن هشام المتوفى بالفسطاط سنة ٢١٨ﻫ/٨٣٣م في سيرته:
«دين العرب: قال ابن إسحاق: واجتمعت قريشٌ يَومًا في عيد لهم عند صنم من أصنامهم كانوا يُعَظِّمونه وينحرون له، ويعكفون عنده ويديرون به، وكان ذلك عيدًا لهم في كل سنة يومًا، فخلص منهم أربعة نفر نجيًّا، ثم قال بعضهم لبعض: تصادقوا وليكتم بعضُكم على بعض، قالوا أجَلْ، وهم وَرَقة بن نوفل بن أسد بن عبد العُزى، وعبيد الله بن جحش، وعثمان بن الحُوَيْرث، وزيد بن عمرو بن نُفَيْل.
فقال بعضهم لبعض: تعلموا والله ما قومكم على شيء، لقد أخطئوا دين أبيهم إبراهيم، ما حجر نُطيف به لا يسمع ولا يبصر ولا يضر ولا ينفع؟ يا قوم، الْتَمِسوا لأنفسكم، فإنكم والله ما أنتم على شيء، فتفرقوا في البلدان يلتمسون الحنيفية دين إبراهيم؛ فأمَّا ورقة بن نوفل فاستحكم في النصرانية واتبع الكتب من أهلها حتى علم علمًا من أهل الكتاب، وأمَّا عبيد الله بن جحش فأقام على ما هو عليه من الالتباس حتى أسلم … قال ابن إسحاق: وأمَّا عثمان بن الحويرث فقَدِم على قيصر ملك الروم فتنصَّر وحسُنَت منزلته عنده.
وذكر المسعودي المتوفى بالفسطاط سنة ٣٤٦ﻫ/٩٥٧م في «مروج الذهب» أسماء أناس من العَرب دَعَوْا قومَهم إلى الله ونبَّهوهم على آياته في زمن الفترة، كقُسِّ بن ساعدة الإيادي، ورباب السَّبْتي وبَحِيرا الرَّاهب، وكانا من عبد القيس.
كل ذلك يدلُّ على أنَّ العرب عند ظهور الإسلام كانوا يتشبَّثون بأنواع من النظر العقلي يُشبه أن تكون من أبحاث الفلسفة العلمية، لاتصالها بما وراء الطبيعة من الألوهية وقِدَم العالم أو حدوثه، والأرواح والملائكة والجن والبعث ونحو ذلك.
(١-٢) التفكير العملي
وقد كان عند العرب نوع آخَر من التفكير عمليٌّ، دَعَتْ إليه حاجة الجماعة البشرية، لا يتصل بما كان يتنازعهم من مُختلف العقائد والنحل.
قال صاعد بن أحمد المتوفى سنة ٤٦٣ﻫ/١٠٧٠-١٠٧١م في كتابه «طبقات الأُمم»، بعد أن ذكر معرفة العرب لأحكام لغتها ونظم الأشعار وتأليف الخطب وعلم السِّيَر:
ومن حكماء العرب أطباؤهم؛ لما كان لهم من العلم والتجربة ونفوذ الكلمة.
وتُسمى هذه الأمثال حكمة وحُكْمًا وفي الحديث: «إنَّ من الشعر لحُكْمًا»؛ أي كلامًا نافعًا، يمنع من الجهل والسفه، وينهى عنهما، ويُروى: «إنَّ من الشعر لحكمة»، وهو بمعنى الحكم، كما في «لسان العرب».
(١-٣) الحكمة
«والحكم لا يختلف عن الحكمة اختلافًا كبيرًا.
ويؤخذ من ذلك أنَّ ما وسم به العرب علماءهم من صفات الحكمة والحكم كانت تعبِّر عن معانٍ مُتقاربة من العلم والفقه، بما يُفيد صلاحًا للناس في أبدانهم ويُحقق معنى العدل والنظام بينهم، ويمنع الخصام.
ولعَلَّنا إذا استعرضنا باختصار تاريخ جماعة من حُكماء العرب الذين يقول فيهم أبو الفتح محمد الشهرستاني المتوفى ٥٤٨ﻫ/١١٥٣م في «كتاب الملل والنحل»:
ومن هؤلاء الحُكماء الحارث بن كلدة الثقفي، وقد ترجم له ابن أبي أُصيبعة المصري المتوفى ٦٦٨ﻫ/١٢٦٩م في كتابه «عيون الأنباء في طبقات الأطباء»، وذكره الوزير جمال الدين القفطي المُتوفى سنة ٦٤٦ﻫ/١٩٤٨م في كتابه «إخبار العُلماء بأخبار الحكماء». كان الحارث من الطائف وسافر البلاد وتعلَّم الطب بفارس وتمرَّن هناك، وكان يضرب العود، تعلَّم ذلك بفارس أيضًا، وعاش إلى زمن معاوية، ومن حِكَمه المأثورة: دافِعْ بالدواء ما وجدتَ مدفعًا، ولا تشربْه إلا من ضرورة؛ فإنه لا يُصلِح شيئًا إلا أفسد مثله.
ومن حكماء العرب أكثم بن صيفي بن رباح، وكان حَكَمًا من حُكَّام تميم، فصيحًا عالمًا بالأَنْسَاب، وأدرك أوائل الإسلام، ومن حِكَمه: مقتل الرجل بين فكَّيْه، ويلٌ لعالِم أمرٍ من جاهِله. وذكر الآلوسي من حِكَم أكثم بن صيفي: إنَّ قول الحق لم يَدَعْ لي صديقًا، يتشابه الأمر إذا أقبل، وإذا أدبر عرفه الكَيِّس والأحمق، لا تغضوا عن اليسير فإنه يجني الكثير، حيلة مَن لا حيلة له الصبر.
إن الذي يدعو إليه محمد لو لم يكن دينًا كان في أخلاق الناس حسنًا، أطيعوني واتبعوا أمري أسأل لكم أشياء لا تُنزَع منكم أبدًا، وأصبحتم أعزَّ حيٍّ في العرب وأكثرهم عددًا وأوسعهم دارًا؛ فإني أرى أمرًا لا يَجْتنبه عزيز إلا ذل، ولا يلزمه ذليل إلا عَزَّ، إنَّ الأول لم يَدَع للآخر شيئًا، وهذا أمر له ما بعده، ومَن سبق إليه غمر المعالي واقتدى به التالي، والعزيمة حزم والاختلاف عجز.
ومنهم عامر بن الظَّرِب العَدْواني من حُكَّام قيس، وكانت العرب لا تَعدِل بفهمه فهمًا، ولا بحُكْمه حُكْمًا، ومن كلماته: «مَن طلب شيئًا وجده، وإن لم يجده يوشك أن يقع قريبًا منه، رُبَّ زارع لنفسه حاصد سواه، رُبَّ أكلة تمنع أكلات.»
ومنهم عبد المطلب بن هاشم جد النَّبي ﷺ، وكان من حُكَّام قريش، وتُؤثَر عنه سُنَن جاء القرآن بأكثرها: كالمنع من نكاح المحارم وقطع يد السارق، والنهي عن قتل الموءودة.
بل قد ذكر المؤرخون أسماء حكيمات من العرب طبيبات وغير طبيبات: كزينب طبيبة بني أود، كانت عارفة بالأعمال الطبية، خبيرة بالعلاج ومُداواة آلام العين والجراحات، مَشهورة بذلك، قال أبو الفرج الأصبهاني في كتاب «الأغاني»: «أخبرنا مُحَمَّد بن خلف المرزُباني قال: حدثني حمَّاد بن إسحاق عن أبيه عن كناسة عن أبيه عن جَدِّه قال: أتيتُ امرأة من بني أود لتكحِّلني من رمد كان أصابني فكحَّلتْني، ثم قالت: اضطجع قليلًا حتى يدور الدواء في عينيك، فاضجعتُ ثم تمثلتُ قول الشاعر:
فضحكت ثم قالت: أتدري فيمَن قيل هذا الشعر؟ قلت: لا، قالت: فيَّ والله قيل هذا، وأنا زينب التي عناها، وأنا طبيبة بني أود، أفتدري مَن الشاعر؟ قلت: لا. قالت: عمك أبو سماك الأسدي.»
ومن حكيمات العرب اللواتي اشتُهِرن بإصابة الحُكْم، وفصل الخصومات وحُسن الرأي خُصَيْلة بنت عامر بن الظرب العَدْواني، ولعلها هي التي كان أبوها عامر يقول لها: مسِّي سُخَيْل بعدَها أو صَبِّحي بناء على أنَّها كانت تُسمى سُخَيْلا أيضًا. قال الميداني عند شرحه لهذا المثل:
«سخيل: جارية كانت لعامر بن الظرب العدواني، وكان عامر حَكَم العرب، وكانت سُخيل ترعى عليه غنمه، فكان عامر يُعاتبها في رَعْيتها إذا سرحت قال: أصبحتِ يا سخيل، وإذا راحت قال: أمسيتِ يا سخيل، وكان عامر عيَّ في فتوى قوم اختلفوا إليه في خنثى يحكم فيه، وسهر في جوابهم ليالي؛ فقالت الجارية: أتْبِعْه المَبَال فبأيهما بال فهو هو، ففُرِجَ عنه وحكم به، وقال: مَسِّي سُخَيْل بعدها أو صبحي. أي: بعد جواب هذه المسألة لا سبيل لأحد عليك بعد ما أخرجتِني من هذه الورطة، يُضْرَب لمن يُباشر أمرًا لا اعتراض لأحد عليه فيه.»
وذكر الآلوسي في «بلوغ الأرب» من حُكَّام العرب غير مَن ذكرنا: حاجب بن زرارة من حكام تميم، وله معرفة تامَّة بأخبار العرب وأحوالها وأنسابها، وكان من مشاهير فُصَحاء زمانه، والأقرع بن حابس من حكام تميم، وكان مرجعهم في واقعاتهم ومنافراتهم، كان حكمًا في الجاهلية وأدرك الإسلام وأسلم، وربيعة بن مخاشن وضَمرة بن ضمرة وكلاهما من تميم، وغيلان بن سلمة الثقفي من حكام قيس، وقد أَدرك الإسلام، وهاشم بن عبد مناف، وتنافرت قريشٌ وخزاعة إليه فخطبهم بما أذعن له الفريقان بالطاعة، وأبا طالب عم النبي وناصره، والعاص بن وائل والد عمرو بن العاص، وكان من حكام قريش وأدرك الإسلام ولم يُسلِم، والعلاء بن حارثة القرشي، وربيعة بن حذار الأسدي، ويعْمُر بن عوف الشَّدَّاخ الكناني، وكان من حكام كنانة، وصفوان بن أُمَيَّة، وسلمى بن نوفل وكلاهما من حكام كنانة، ومالك بن جبير العامري، كان من حكام العرب وحكمائهم، ومن كلامه الذي ضُرب به المثل: على الخبير سقطتَ. وعمرو بن جمعة الدوسي، واختلفوا في أنه أدرك الإسلام، والحارث بن عباد الرَّبعي من حكام ربيعة وفرسانها، والقَلَمَّس الكناني.
ولسنا نقطع بأنَّ ما رُوي من هذه الأخبار صحيح ثابت، ولكنَّا نرى أنه في جملته يكفي في الدلالة على وجهة التفكير الذي كان يُسَمَّى حكمة عند العرب وحكمًا، ويُسمى أهله حكماء وحكامًا، وهو تفكير عملي مُتَّصل بالفصل فيما يقع بينهم من نزاع، والفتوى فيما يحدث لهم من أقضية، والطب لمَا يعرض لهم من مرض.
وبالجملة فقد كان العرب حين نزول القرآن في منازعة وجدل في العقائد الدينية، وكان البحث في إرسال الرسل والحياة الآخرة وبعث الأجساد بعد الموت، موضع الأخذ والرد على الخصوص بين النِّحَل المتباينة.
قال الآلوسي في «بلوغ الأرب»: «وشُبُهات العرب كانت مقصورة على إنكار البعث وجحد إرسال الرسل؛ فعلى الأول قالوا: أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ، إلى غير ذلك من الآيات، وذكروا ذلك في أشعارهم، قال قائلهم:
وقال شدَّاد بن الأسود بن عبد شمس بن مالك يرثي كُفَّار قريش يوم بدْر لمَّا قُتلوا وألْقاهم النبي ﷺ في القليب، وهي البئر التي لم تُطوَ:
وكان يُعِدُّ العرب للجدل الديني ويحفِّزهم إليه، إمَّا الدفاع عن أديانهم الموروثة ضد الأديان الدخيلة عليهم، وإما المهاجمة لهذه الأديان جميعًا من أجْل ما يلتمسون من الدين الحنيف، دين إبراهيم، وهو دين قومي كانت تشرئبُّ إليه أُمَّة تدبُّ فيها مبادئ الحياة القومية.
وكان عندهم نوع من النظر العقلي هو أهدأ من هذا وأقل عنفًا، هو علم الطبقة المميزة، وهو علم الحكمة النافعة في الحياة.
(٢) العرب بعد ظهور الإسلام: دين وشريعة
جاء الإسلام يقرِّر أن الدين الحق واحد، هو وحي الله إلى جميع أنبيائه، وهو عبارة عن الأُصول التي لا تتبدل بالنسخ، ولا يختلف فيها الرسل، وهي هدًى أبدًا.
وقال مجاهد في معنى هذه الآية: أوصيناك يا محمد وإياهم دينًا واحدًا.
وروى الطبري عن قتادة أيضًا: «الدين واحد، والشريعة مختلفة.»
والمُراد بهداهم طريقتهم في الإيمان بالله وتوحيده، وأصول الدين دون الشرائع فإنها مُختلفة، وهي هدًى ما لم تُنسَخ، فإذا نُسخت لم تبقَ هدًى، بخلاف أصول الدين فإنها هدًى أبدًا.»
قال الشاطبي المُتوفى سنة ٥٩٠ﻫ/١١٩٣-١١٩٤م في كتاب «الاعتصام»:
(٢-١) الإسلام والجدل في الدين
(٢-٢) الإسلام والحكمة
وإذا كان القرآن قد نفَّر المسلمين من الجدل في أمور العقائد، فإن القرآن قد ذكر الحكمة التي كانت معروفة عند العرب، وكانت شرفًا لأهلها وجاهًا، وأثنى عليها وشجَّع على حياتها ونموها.
والقرآنُ إنَّما استعمل الحِكْمَة والحُكْم وما إليهما في معانيها اللغوية، أو في معانٍ ذات نسب واتصال بها شديد.
ويُفسِّر مالك الحكمةَ في كثير من آيات القرآن بالفقه في دين الله والعمل به، كما رواه ابن عبد البر في كتاب: «مختصر جامع بيان العلم وفضله».
ويقول الشافعي في كتاب «الرسالة» في أصول الفقه، بعد أن أورد آيات فيها ذكر الكتاب والحكمة ما نصه:
وفي كتاب «أصول الفقه» لفخر الإسلام البزدوي عند الكلام على «علم الفروع» وهو الفقه: «وقد دلَّ على هذا المعنى: (أي إنَّ العمل بالعلم مُعتبر في معنى الفقه) أنَّ الله — تعالى — سَمَّى علم الشريعة «حكمة»، فقال: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا، وقد فسر ابن عباس — رضي الله عنهما — الحكمة في القرآن بعلم الحلال والحرام، وقال: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، أي: بالفقه والشريعة، والحكمة في اللغة هي العلم والعمل، فكذلك موضع اشتقاق هذا الاسم، وهو الفقه، دليل عليه: وهو العلم بصفة الإتقان مع اتِّصال العمل به، والموعظة الحسنة هي التي لا يخفى على مَن تعظه أنك تُناصحه وتقصد نفعه فيها، ووصف الموعظة بالحسنة دون الحكمة؛ لأنَّ الموعظة رُبَّما آلت إلى القبح، بأن وقعت في غير موضعها ووقتها.
وفي كتاب «المبسوط» لشمس الدين السَّرَخْسي»:
وفي «شرح تنوير الأبصار في فقه الإمام الأعظم»:
وفي تفسير الطبري لهذه الآية:
«يعني بذلك — جلَّ ثناؤه: يؤتي الله الإصابة في القول والفعل مَنْ يشاء من عباده، ومَن يُؤْتَ الإصابة منهم في ذلك فقد أوتيَ خيرًا كثيرًا، وقد بَيَّنا فيما مضى معنى الحكمة وأنها مأخوذة من الحُكمْ وفصل القضاء، وأنها الإصابةُ بما دَلَّ على صحته، فأغنى ذلك عن تكريره في هذا الموضع.»
وفي كتاب «العواصم من القواصم» لأبي بكر محمد بن عبد الله بن العربي:
والنظر فيما ورد في القرآن والسنة من استعمال كلمة «الحكمة» يدل على أن المراد بها العلم الذي يتصل بالعمل. وفي حديث الصحيحين: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالًا فسلَّطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلِّمها.»
كان لهذه المعاني الدينية التي قرَّرها الإسلام منذ نشأته أثرها العظيم في توجيه النظر العقلي عند المسلمين في عهدهم الأول، فكرهوا البحث والجدل في أمور الدين.
قال ابنُ عبد البر المتوفى سنة ٤٦٣ﻫ/١٠٧٠-١٠٧١م في كتاب «مختصر جامع بيان العلم وفضله»:
وفي كتاب «تأويل مختلف الحديث» لابن قتيبة الدينوري المتوفى سنة ٢٧٦ﻫ/٨٨٩-٨٩٠م بصدد الطعن على المختلفين في أصول الدين:
ويقول ابن قتيبة نفسه في كتاب «الاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية والمُشبِّهة»:
فالمسلمون في الصدر الأول كانوا يرون أن لا سبيل لتقرير العقائد إلا الوحي، أمَّا العقل؛ فمعزول عن الشرع وأنظاره كما يقول ابن خلدون في المقدمة. وفي كتاب «النبوات» لابن تيمية:
وكانوا يرون أنَّ التناظر والتجادل في الاعتقاد يُؤَدِّي إلى الانسلاخ من الدين، من أجل ذلك كان المسلمون عند وفاة النبي ﷺ على عقيدة واحدة إلا من كان يُبْطِنُ النِّفاق، ولم يَظهَر البحث والجدل في مسائل العقائد إلا في أيام الصحابة، حين ظهرت بِدَع وشُبَه اضطُرَّ المسلمون إلى مدافعتها.
وفي كتاب «التبصير في الدين وتمييز الفرقة الناجية من فِرَق الهالكين» لأبي المظفر طاهر بن محمد الإسفراييني المُتوفى سنة ٤٧١ﻫ/١٠٧٨م:
ومن ثَمَّ تفرَّقت الفِرَق، ونشأ علم الكلام حجاجًا للمُبتدعة الحائدين عن طريق السلف والمُخالفين للدين، ونشأ على أنه ضرورة تُقدَّر بقدرها.
أمَّا النظر العقلي في المسائل الشرعية العملية؛ فقد نشأ في الإسلام مؤيدًا من الدين، وقد ورد في الكتاب والسُّنَّة الثناء على الحكمة والحكم والتنويه بفضلهما، فمهد ذلك لانتعاش النَّظر العقلي في الشئون العملية، وهو نوع من التفكير كانت العرب مُسْتَعِدَّة لنموه بينها على ما أشرنا إليه آنفًا، ووجدت الحاجة إلى هذا النظر في استنباط أحكام الوقائع المُتجدِّدة التي لم يكن من المُمكن أن تُحيط بها النصوص الشرعية.
قال ابن عبد البر في كتاب «مختصر جامع بيان العلم وفضله»: «وقال المزني: الفقهاء من عصر رسول الله ﷺ إلى يومنا هذا وهلمَّ جرًّا، استعملوا المقاييس في الفقه في جميع الأحكام في أمر دينهم.»
وسنَّ الرسول لولاته في الأمصار أن يجتهدوا رأيهم حين لا يجدون نصًّا، وجاء في القرآن نفسه بأحكام كُلِّف بها المسلمون على أن يكون سبيلهم في طاعتها الاسترشاد بالعقل، كما في مسألة التوجُّه إلى القِبْلة للبعيد عن الكعبة، وقد فصَّل الشافعي، المتوفى سنة ٢٠٤ﻫ/٨١٩-٨٢٠م ذلك في «رسالته» فحدث الاجتهاد في التشريع الإسلامي منذ عهد الإسلام الأوَّل في كنف القرآن بترخيص من الرسول عليه السلام.
وقد روى ابن عبد البر في كتاب «مختصر جامع بيان العلم وفضله»: «عن معاذ أنَّ رسول الله ﷺ، لمَّا بعثه إلى اليمن قال له: كيف تصنع إن عرض لك قضاء؟ قال: أَقضي بما في كتاب الله، قال: فإن لم يكن في كتاب الله؟ قال فبسُنَّة رسول الله ﷺ، قال: فإن لم يكن في سنة رسول الله؟ قال أجتهد رأيي لا آلُو، قال: فضرب بيدِه في صدري، وقال الحمد لله الذي وفَّقَ رسولَ رسولِ الله لما يرضاه رسولُ الله.»
(٢-٣) الاجتهاد بالرأي هو بداية النظر العقلي
هذا الاجتهاد بالرأي في الأحكام الشرعِيَّة هو أول ما نبت من النظر العقلي عند المسلمين، وقد نما وترعرع في رعاية القرآن وبسبب من الدين، ونشأت منه المذاهب الفقهية وأينع في جنباته علم فلسفي هو علم «أصول الفقه»، ونبت في تربته التصوُّف أيضًا كما سنبيِّنه، وذلك من قبل أن تفعل الفلسفة اليونانية فعلها في توجيه النظر عند المسلمين إلى البحث فيما وراء الطبيعة والإلهيات على أنحاء خاصة.
والباحثُ في تاريخ الفلسفة الإسلامية يجبُ عليه أولًا أن يدرس الاجتهاد بالرأي منذ نشأته الساذجة إلى أن صار نَسَقًا من أساليب البحث العلمي، له أصوله وقواعده.
يجبُ البدء بهذا البحث؛ لأنَّه بداية التفكير الفلسفي عند المسلمين، والترتيب الطبيعي يقضي بتقديم السابق على اللاحق، ولأنَّ هذه النَّاحية أقل نواحي التفكير الإسلامي تأثرًا بالعناصر الأجنبية، فهي تمثِّل لنا هذا التفكير مُخلصًا بسيطًا يكاد يكون مسيرًا في طريق النمو بقوته الذاتية وحدها، فيسهل بعد ذلك أن نتابع أطواره في ثنايا التاريخ، وأن نتقصَّى فعله وانفعاله فيما اتصل به من أفكار الأمم.