النظريات المختلفة في الفقه الإسلامي وتاريخه
(١) منزع المستشرقين في الفقه وتاريخه
البحث في الرأي وأطواره وأثره في تكوين المذاهب الفقهية يستدعي نظرة في تاريخ الفقه الإسلامي ومصادره في أدواره المختلفة، وللنَّاظرين في هذا البحث من المستشرقين منزع، ولمَن عرض له من المسلمين منزع غيره، والمُقارنة بين وجهتي النظر قد تنتهي بنا إلى تمحيصٍ أوسع مدًى، وطريقة أدنى إلى السداد.
(١-١) وجهة نظر كارا دي فو
هذه هي النظرية الأساسية، وبناء عليها ذكر الفقه في الكتب الإسلامية على أنه وليد القرآن والآثار الإسلامية من غير إشارة إلى أصول أجنبية قط، وهذه نظرية لا تَثبُت عند النقد، وإذا قرأ قارئ بعض آيات الأحكام في القرآن، ثم قرأ صفحتين أو ثلاثة من بعض مبسوطات الفقه الإسلامي، أحسَّ بما بين الاثنين من فرق؛ فذاك نص ساذج مُبهَم في صورة من صور البداوة الأولى، وهذا تحليل علمي دقيق من آثار التفكير المثقَّف، ذاك شبه مسوَّدة جافة بالية قائمة في صحراء، وهذا ممحَّص مصقول متَّسِق مع الرقي المدني.
هذه هي المعلومات القليلة التي لدينا في الموضوع، وهي مُقدمات ليس التوصل منها إلى نتيجة سهلًا على مَنْ يُحاوله.»
(١-٢) ملاحظات على كلام كارا دي فو
والخلاصة التي يصح التعويل عليها من كلام البارون كارا دي فو، هي أنَّ نظرية الإسلاميين ترد الفقه إلى مصادر إسلامية من غير ملاحظة أي تأثير أجنبي في تكوينه.
والنظرية الأخرى تلحظ في نشأة الفقه وتطوُّره العوامل الخارجية على الخصوص، هذا المِقْدَار صحيحٌ في تقرير النظريتين، على ما في بيان المؤلف من تساهل في مثل قوله: «إنَّ الفقه يُعتبر في كتب الإسلام وليد القرآن وآثار الصحابة والجيلين الأوَّلين من التابعين، وليست آثارهما أصلًا من أصول الفقه.» دع عنك ما في مقارنته بين نصوص القرآن ونصوص الكتب الفقهية من عسف وحيف في غير رفق، فما كان القرآن كتابًا فنيًّا يصحُّ أن تقارن نصوصه بكتب الفنون، وقد يُلحَظ أن كارا دي فو يميل في فروضه إلى رد معظم التأثير في تكوين الفقه الإسلامي إلى المذاهب المسيحية.
(١-٣) وجهة نظر جولدزيهر
ولئن كان ذلك مُقَرَّرًا من قبل ومُعترفًا به، فإنَّه لم يتناول بالبحث إلا في جزئيات قليلة.
ويقول فون كريمر: «إنَّ بعض أحكام القوانين الرُّومانية التي دخلت في الإسلام لم تَصِل إليه إلا في خلال اليهودية، ويجبُ البحث عَمَّا قد يكون للمجوسية من أثر في فروع الفقه الإسلامي وعن مبلغ هذا الأثر.»
ويبيِّن جولدزيهر في كتابه «عقيدة الإسلام وشرعه» مداخل العناصر الأجنبية إلى الفقه الإسلامي: فيذكر أولًا أنَّه وإن كان القرآن لبث في كل تاريخ الإسلام عند أتباع دين محمد ﷺ أصلًا من الأصول وكتابًا إلهيًّا مجيدًا، وظلَّ موضعًا لإعجاب لا يظن أنَّ أثرًا من الآثار الأدبية في العالم نال مثله — فإنَّه من الخطأ أن يُنسب للقرآن أرجح قسط في رسم حدود الإسلام، إنما تَحَكَّم القرآن مدة لا تزيد عن عشرين عامًا في صدر التاريخ الإسلامي، ولئن كنَّا لا نستطيع أن نتصور الإسلام من غير القرآن، فإنَّ القرآن ليس مغنيًا وحده في كمال الفهم للإسلام.
إلى جانب ما ورد في القرآن من أحكام شرعية مكتوبة، وُجدت أحكام منقولةٌ مشافَهةٌ كما هو الأمر عند اليهود، تلك هي السُّنَّة، وهي ما صدر عن النبي من قول أو فعل أو تقرير، وما يدلُّ على هذه السنة من عبارة يصلها الإسناد إلى عهد الرسول، هو الحديث، ويدلُّ على ما للسنة عندهم من شأن، كلمة منسوبة للإمام عليٍّ، وهي وصية يُقال إنَّه وصَّى بها عبد الله بن عباس؛ إذ أرسله لمحاجَّة الخوارج: «لا تحتجَّ عليهم بالقرآن، فإنَّ القرآن حمَّال أوجه، ولكن احتجَّ عليهم بالسنَّة، فإنها لا تدفع لهم مخرجًا.»
وما كان للحديث أن يكفي وحده أساسًا تقوم عليه قواعد العبادة والمعاملة؛ ولهذا الاعتبار أثر كبير فيما ساد منذ بدء تكوين الفقه من نزوع إلى استنباط الأحكام الدينية باجتهاد الرَّأي، كما تُؤخذ هذه الأحكام مما صَحَّ عندهم من السُّنَن مع اعتقاد أنه من المُسْتَطاع ضبط الحوادث المُتجددة بالقياس الفقهي والاستقراء، بل الاستدلال العقلي، وما ينبغي لنا أن نعجب من أن يكون لبعض المعارف الأجنبية أثر أيضًا في تكوين هذه الطريقة وفي تفاصيل تطبيقها، ومن آيات ذلك أنَّ في الفقه الإسلامي، أصوله وأحكامه الفرعية، شواهد غير منكورة لتأثير الفقه الروماني.»
وبقيام الدولة الجديدة آنَ لنهضة التشريع الإسلامي أن تُزْهِر بعدما نشأت ضعيفة مُتضائلة، وكما أُريد جَمْع الأحكام الشرعية للحاجة إليها في ضبط أمور الدولة على منهاج شرعي، تقررت أصول أربعة لاستنباط الأحكام الشرعية الفقهية، وهي: القرآن، والسنة، والقياس، والإجماع. واعترف علماء الدين بها، وكان الاختلاف بينهم على حسب اختلافهم في كثرة الاعتماد على أصل من الأصول دون الآخر، وفي الاستناد إلى بعض الأحاديث المُتضاربة دون بعض، ونشأ عَمَّا بين هذه النزعات من تباين مناهج مُختلفة في أحكام الوقائع الجزئية. وفي بعض طرائق الاستنباط، وهم يُسمونها «مذاهب» واحدها «مذهب»، بمعنى وجهة أو طريقة، ولا يُريدون معنى البدعة بحال من الأحوال؛ ذلك بأنَّ اختلاف المذاهب في الفقه قام على أساس من التسامح والتعاون على خدمة الدين، وإنَّما نجمت مظاهر الروح المذهبي وانساقت في سبيل التعصُّب منذ طغى سلطان الغرور من جانب الفقهاء.»
هذا الذي بَيَّناه من أقوال جولدزيهر يكادُ يجمع خلاصة ما توجَّهت إليه أبحاث المستشرقين في الموضوع الذي نحن بصدده، وجملتُه أنَّ أُصول الفقه تأثرت في تكوينها بعناصر أجنبية كما تأثر الفقه نفسه.
وأنَّ القياس والإجماع إنما تقررا أصلين من أصول الاستنباط للأحكام الشرعية حينما تكوَّن الفقه في عهد العباسيين، وإن كانت طلائع النزوع إليهما في زمن الأمويين.
وأنَّ المذاهب الفقهية نشأت مع تكوُّن الفقه واستقرار أصوله، وأساس الخلاف بينها كثرة الاعتماد على بعض الأصول دون بعض، والأخذ ببعض الأحاديث دون بعض.
(٢) منزع علماء الإسلام في الفقه وتاريخه
(٢-١) ابن خلدون
أمَّا علماء الإسلام، فمنهم مَن يرون أنَّه على عهد النبي كانت الأحكام تُتلقَّى منه بما يُوحَى إليه من القرآن ويُبيِّنه بفعله وقوله بخطاب شفاهي لا يحتاج إلى نقل ولا إلى نظر وقياس، ومن بعده — صلوات الله وسلامه عليه — تَعَذَّر الخطاب الشفاهي وانحفظ القرآن بالتواتر، وأَجْمَعَ الصَّحَابة على وجوب العمل بما يصل إلينا من السُّنة، قولًا أو فعلًا، بالنقل الصحيح الذي يغلب على الظن صدقه، وأجمع الصحابة على النكير على مُخَالفيهم مع شهادة الأدلة بعصمة الجماعة، فصار الإجماعُ دليلًا ثابتًا في الشرعيات، ثم إنَّ كثيرًا من الواقعات بعده ﷺ لم تندرج في النصوص الثابتة، فقاسها الصحابة بما نص عليه، وصار ذلك دليلًا شرعيًّا بإجماعهم عليه.
ذلك ما يقوله ابن خلدون المتوفى سنة ٨٠٨ﻫ/١٤٠٦م في «المقدمة»: (الفصل التاسع في أصول الفقه).
وقد أشار ابن خلدون، في الفصل السابع في علم الفقه وما يتبعه من الفرائض، إلى أسباب الاختلاف بين علماء التشريع ونشوء المذاهب؛ إذ يقول:
«الفقه معرفة أحكام الله — تعالى — في أفعال المُكلَّفين بالوجوب والحظر والندب والكراهة والإباحة، وهي مُتلقَّاة من الكتاب والسنة وما نصبه الشارع لمعرفتها من الأدلة، فإذا استخرجت الأحكام من تلك الأدلة، قيل لها فقه، وكان السلف يستخرجونها من تلك الأدلة على اختلاف فيما بينهم، ولا بدَّ من قوعه ضرورة أنَّ الأدلة غالبها من النصوص وهي بلُغة العرب. وفي اقتضاء ألفاظها لكثير من معانيها اختلاف بينهم معروف، وأيضًا فالسُّنة مختلفة الطرق في الثبوت، وتتعارض في الأكثر أحكامُها فتحتاج إلى الترجيح، وهو مختلف أيضًا.
(أ) موازنة بين نظرية المستشرقين ونظرية ابن خلدون
والذي يعنينا في هذا المقام هو أن نُميِّز بين النظريتين فيما يتعلق بالرأي؛ نظرية المستشرقين، ونظرية ابن خلدون. والنظريتان متفقتان على أنَّ الرَّأي وُجد بعد زمن النبوة حين لم تَعُدِ النصوص كافية لما يلزم الجماعة من قوانين، وتختلف بعد ذلك النظريتان.
والمرحوم الشيخ محمد الخضري بك في كتابه «تاريخ التشريع الإسلامي» يتفق مع ابن خلدون من كل وجه، لكن جولدزيهر يُقرِّر أن هذين الأصلين — الإجماع والقياس — إنما وُجدا في الإسلام بعد اتصاله بالقانون الروماني فيما استولى عليه من البلاد التي كانت تابعة للرومانيين، فلا يخلو نشوء هذين الأصلين وتكوُّنهما من أثر القانون الروماني.
(٢-٢) مذهب ابن القيِّم وابن عبد البر من قبله
وسبق لنا أن نقلنا مثل هذا النص عن ابن عبد البر في كتاب «مُختصر جامع بيان العلم وفضله»، ويقول ابن القيِّم في موضع آخر:
وهذه نظرية غير النظريتين الأوليين، تُقَرِّر أنَّ الرأي وُجد مع الكتاب والسنة في عهد النبي، وأنَّ العناصر التي كوَّنت المذاهب المُختلفة في التشريع الإسلامي عندما شرع في تدوين الفقه، وُجِدَت في عهد النبي أيضًا.
ومذهب ابن قيِّم الجوزية، وابن عبد البر من قبله، يُوافق ما بيَّنَّاه آنفًا، من أنَّ الرَّأي نشأ منذ عهد الإسلام الأوَّل في ظل القرآن ورعايته، وهذا هو المذهب الذي نرضاه، وسيزيده ما نورده بعدُ بيانًا وتوكيدًا.
(٣) نظرة إجمالية
وجُملة القول أن الرَّأي بمعناه العام نشأ في التشريع الإسلامي مع القرآن والسُّنة منذ عهد النبي على المذهب الذي نرجِّحه، أو هو نشأ بعد عهد النبي وظل الرأي أصلًا من أصول التشريع يُستعمَل كثرة وقلة، وضيقًا وسعة، على حسب الحاجة إليه بكثرة السُّنَن المروية كما في الحجاز، وقلَّتها كما في العراق.
فلمَّا انتهت الخلافة إلى العباسيين ونهضوا لإحكام الصلة بين دولتهم وبين الشرع، كما بيَّنه جولدزيهر، ونشأت العلوم وأُخذ في تدوينها، تكوَّنت المذاهب الفقهية، ووضع علم أصول الفقه، وظهرت الخلافات بين المذاهب ظهورًا واضحًا في الفروع وفي الأصول، فكان أهل العراق أهل الرأي، يتوسَّعون في استعماله ما لا يتوسع غيرهم، وإمامهم الذي بقي مذهبه إلى اليوم هو أبو حنيفة المُتوفى سنة ١٥٠ﻫ/٧٦٧م، وكان أهل الحجاز أهل الحديث لوفرة حظهم منه، وما ترتب على ذلك من قلة استعمالهم للرأي، مع اعترافهم بأنَّه أصل من أصول التشريع، وإمامهم الذي انتشر مذهبه واستقرَّ هو مالك بن أنس المُتوفى سنة ١٧٩ﻫ/٧٩٥م.
وتوسَّط بين أهل الحديث وأهل الرأي محمد بن إدريس الشافعي المُتوفى سنة ٢٠٤ﻫ/٨٢٠م، وهو الذي وضع نظام الاستنباط الشَّرعي من أصول الفقه، وحدَّد مجال كل أصل من هذه الأصول في رِسالته في أصول الفقه، ويُعتبر هذا المذهب أدنى إلى أصحاب الحديث؛ لذلك نشأ من بين أتباعه الإفراط في احترام الفقه المأخوذ من النصوص، نشأ ذلك أولًا في مذهب أحمد بن حنبل المُتوفى سنة ٢٤١ﻫ/٨٥٥م. ثم نشأ أشد وأقوى في مذهب الظاهرية، وهو المَذهب الذي أسَّسه داود بن علي الأصفهاني المُتوفى سنة ٢٧٠ﻫ/٨٨٣م، وداود هو أول مَن استعمل قول الظاهر، وأخذ بالكتاب والسنة، وألْغَى ما سوى ذلك من الرأي والقياس.
وقد كُتب البقاء للمذاهب الأربعة الأولى المعمول بها عند جمهور المسلمين إلى اليوم، وكُتب لها التغلُّب على سواها من مذاهب أهل السُّنة: كمذهب الحسن البصري بالبصرة المُتوفى سنة ١١٠ﻫ/٨٢٨-٨٢٩م، ومذهب سفيان الثوري بالكوفة المتوفى سنة ١٦١ﻫ/٧٧٧-٧٧٨م، ولم يَطُلِ العمل بهذين المذهبين لقلة أتباعهما، وبطل العمل بمذهب الأوزاعي عبد الرَّحمن بن عمرو أبي عمر من الأوزاع — بطن من هَمْدان — المتوفى سنة ١٥٧ﻫ/٧٧٣-٧٧٤م وكان مذهبه بالشام والأندلس وغيرهما.
هذا وَإنَّا وإن كُنَّا نرى الدلائل مُتضافرة على أن الرأي نشأ في التشريع الإسلامي منذ نشأ الإسلام، ومن قبل أن يمتدَّ به الفتح إلى ما وراء البلاد العربية، فإنا لا ننكر أنه كان في تدوينه وتفريعه وضبط قواعده موضعًا للتأثر بعناصر خارجية، حتى لقد انتهى علم «أصول الفقه» بأن جمع من مسائل المنطق وأبحاث الفلسفة والكلام شيئًا غير قليل، ويقول أهل هذا العلم إن مبادئه مأخوذة من العربية وبعض العلوم الشرعية والعقلية، على أنَّ هذا لا يمس ما قررناه من أنَّ النظر العقلي نشأ أصلًا من أصول التشريع في الإسلام يؤيده ويحميه.
ولم تنزل مكانة الرأي في الفقه الإسلامي إلا من يوم أن جاء دور الجمود، ووقف العلم والعمل بين المسلمين عند حدٍّ محدود.