الرأي وأطواره
ذكرنا في الفصل السابق مذاهب الباحثين في تاريخ الفقه الإسلامي ومصادره في أدواره المُختلفة تمهيدًا لدرس نشوء الرأي في الإسلام وأطواره.
ونُريد بالرَّأي في هذا الموضع معناه اللغوي أو ما يقرب من معناه اللغوي؛ ففي «المصباح المنير في غريب الشرح الكبير» لأحمد بن محمد بن علي المَقَّرِي الفيومي المتوفى سنة ٧٧٠ﻫ/١٣٦٨م:
«الرأي في اللغة العقل والتدبير، ورجل ذو رأي أي بصيرة وحذق بالأمور، وجمع الرأي: آراء.» وفي «النهاية في غريب الحديث والأثر» لمحمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني الملقَّب بابن الأثير الجَزَري المُتوفى سنة ٦٠٦ﻫ/١٣٠٩م: وفي حديث عمر وذكر المتعة: «ارتأى امرؤ بعد ذلك ما شاء أن يرى»؛ أي فَكَّر وتأنَّى، وهو افتعل من رؤية القلب أو من الرأي، ومنه حديث الأزرق بن قيس: وفينا رجلٌ له رأي، يُقال فلان من أهل الرَّأي؛ أي يرى رأي الخوارج ويقول بمذهبهم، وهو المراد ها هنا، والمحدِّثون يسمون أصحاب القياس أصحاب الرأي، يعنون أنَّهم يأخذون برأيهم فيما يُشكل من الحديث أو ما لم يأتِ فيه حديث ولا أثر.»
وفي «المغرب في ترتيب المعرب» لأبي الفتح المطرزي المُتوفى سنة ٦١٠ﻫ/١٣١٣م «والرَّأي ما ارتآه الإنسان واعتقده، ومنه ربيعة الرأي — المتوفى سنة ١٣٦ﻫ/٧٥٣-٧٥٤م على الصحيح — بالإضافة، فقيه أهل المدينة، وكذلك هلال الرَّأي بن يحيى البصري المُتوفى سنة ٢٤٥ﻫ/٨٥٩-٨٦٠م.»
(١) القياس
والرأي بهذا المعنى مُرادف للقياس بالمعنى العام، قال الشوكاني في كتاب «إرشاد الفحول» في بيان معنى القياس:
(٢) الاجتهاد
والاجتهاد مرادف للقياس فهو مرادف للرأي أيضًا، يقول الشافعي في «الرسالة»:
وقد شرح أبو الحسن علي بن أبي علي بن محمد بن سالم الثعلبي المُلقَّب بسيف الدين الآمدي المُتوفى سنة ٦٣١ﻫ/١٢٣٣-١٢٣٤م في كتاب: «الإحكام»، معنى الاجتهاد فقال:
فالرأي الذي نتحدَّث عنه هو الاعتماد على الفكر في استنباط الأحكام الشرعية وهو مُرادنا بالقياس والاجتهاد، وهو أيضًا مُرادف للاستحسان والاستنباط، قال ابن حزم في كتاب «الإحكام»:
ودرْس نُشوء الرَّأي وأطواره يستدعى الإلمام به في عهد الإسلام الأول؛ أي في حياة النبي ﷺ ثم تتبُّع ما مرَّ به من الأدوار بعد ذلك.
(٣) الرأي في عهد النبي
الرأي في عهد النبي ﷺ يشتمل على وجهين؛ أحدهما: تشريع النبي نفسه بالرأي من غير وحي. والثاني: اجتهاد الصحابة في زمن النبي واستنباطهم برأيهم أحكامًا ليست بعينها في الكتاب ولا في السُّنَّة.
(٣-١) اجتهاد النبي
«وممَّا احتُجَّ به على وقوع الاجتهاد من النَّبي ما روي عنه ﷺ أنه لمَّا سألتْه الجارية الخثْعَميَّة وقالت: يا رسول الله، إنَّ أبي أدركتْه فريضة الحج شيخًا زمنًا لا يستطيع أن يحج، إنْ حججتُ عنه أينفعه ذلك؟ فقال لها: «أرأيتِ لو كان على أبيك دَيْن فقضيتِهِ أكان ينفعه ذلك؟» قالت: نعم، قال: «فدَينُ الله أحق بالقضاء.» ووجه الاحتجاج به أنَّه ألْحَق دَين الله بدَين الآدمي في وجوب القضاء ونفعه، وهو عين القياس …
ومما يدخل في هذا الباب ما جاء في كتاب «مرآة الجنان وعبرة اليقظان» للإمام عبد الله بن أسعد بن علي بن سُليمان اليافعي اليمني المكي المُتوفى سنة ٧٦٨ﻫ/١٣٦٧م: «قُتَيْلة بضم القاف وفتح المثناة من فوق وتسكين المثناة من تحت، ابنةُ النضر بن الحارث التي أنشدتْ عَقِب وقْعة بدر الأبيات التي من جملتها:
«ظلت سيوف بني أبيه تنوشُه … إلخ.»
(٣-٢) اجتهاد الصحابة في عصر النبي في حضرته وفي غيبته
ويَدُلُّ على جواز الاجتهاد من الصحابة في غيبة النَّبي ﷺ، في حياته ما رُوي عن النَّبي أنه قال لمُعاذ حين بعثه إلى اليمن قاضيًا: «بِمَ تحكم؟» قال: بكتاب الله. قال: «فإن لم تجد؟» قال: فبسُنَّة رسولِ الله، قال: «فإن لم تجد؟» قال: أجتهد رأيي. والنبي ﷺ أقرَّه على ذلك، وقال: «الحمد لله الذي وفَّق رسولَ رسولِ الله لما يحبه الله ورسوله.»
وقد جمع ابن حزم حُجَج القائلين بالرأي، قال في كتاب «الإحكام»: «وأمَّا الرأي؛ فإنهم احتجوا في تصويب القول به، بقول الله عزَّ وجل: «وشاورهم في الأمر، فإذا عزمت فتوكل على اللهِ»، وبقوله تعالى: «وأمرهم شورى بينهم».
ومن الحديث بالأثر الصحيح في مُشاورة النبي ﷺ المسلمين فيما يعملون لوقت الصلاة قبل نزول الأذان، فقال بعضهم: نار، وقال بعضهم: بوق، وقال بعضهم: ناقوس، وبما حدثناه أحمد بن عمر بن أنس، ثنا أبو داود، عن الزهري، وذكر حديث مشاورة النبي ﷺ أصحابه في القتال يوم الحديبية، قال الزهري: فكان أبو هريرة يقول: ما رأيتُ أحدًا قط كان أكثر مشاورة لأصحابه من رسول الله ﷺ.»
حدثنا المهلب، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن حسين، قال: سُئِلَ رسول الله ﷺ عن الحزم، فقال: تستشير الرجل ذا الرأي ثم تمضي إلى ما أمرك به، وبه إلى ابن وهب، عن عيسى الواسطي يرفعه، قال: ما شَقِيَ عبدٌ بمشورة ولا سَعِد عبدٌ استغنَى برأيه.
حدثنا أحمد بن محمد الطلمنكي، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن أبيه قال: «جاء خصمان إلى رسول الله ﷺ قال لي: «يا عمرو، اقض بينهما.» قلت: أنت أوْلى مني بذلك يا نبي الله، قال: «وإن كان»، قلتُ: على ماذا أقضي؟ قال: «إن أصبتَ القضاء بينهما فلك عشر حسنات، وإن اجتهدتَ فأخطأتَ فلك حسنة.»
قال سعيد بن منصور: وحدثنا فرج بن فضالة عن رَبيعَة بن يزيد، عن عقبة بن عامر، عن رسول الله ﷺ، مثله، إلا أنه قال: «إن أصبتَ فلك عشرة أجور، وإن أخطأتَ فلك أجر واحد.» عن أناس من أهل حمص من أصحاب معاذ أنَّ رسول الله، ﷺ، لمَّا أراد أن يبعث معاذًا إلى اليمن قال: «كيف تقضي إذا عرض لك القضاء؟» قال: أقضي بكتاب الله عزَّ وجلَّ. قال: «فإن لم تجد في كتاب الله؟» قال: فبسُنَّة رسول الله ﷺ. قال: «فإن لم تجد في سنة رسول الله ولا في كتاب الله؟» قال: أجتهد رأيي ولا آلو. فضرب رسول الله ﷺ صدره، وقال: «الحمد لله الذي وفَّق رسولَ رسولِ الله لما يُرضي رسول الله.»
كتب إليَّ يوسف بن عبد الله بن عبد البر النمري، عن علي بن أبي طالب، قال: قلتُ: يا رسول الله، الأمر ينزل بنا لم ينزل فيه قرآن، ولم يمضِ فيه منك سنة؟ قال: «اجمعوا له العالمين — أو قال: العابدين — من المؤمنين فاجعلوه شورى بينكم، ولا تقضوا فيه برأي واحد.»
وقد ذكر ابن حزم هذه الأدلة بيانًا لحجة القائلين بالرأي، ثم كرَّ عليها يُنازع في دلالتها؛ ولذلك قال بعد ما ذكر:
(٣-٣) أصول التشريع في عهد النبي
أمَّا الكتاب فهو القرآن، وهو الكلام المُنَزَّل على الرَّسول، المكتوب في المصاحف، المنقول إلينا نقلًا متواترًا، وأمَّا السنة في اصطلاح أهل الشرع، عند الكلام على الأدلة الشرعية، فهي ما صدر عن النَّبي ﷺ غير القرآن من قول أو فعل أو تقرير، والحديث هو قول الرسول وحكاية فعله وتقريره.
وقيل الحديث خاص بقول الرَّسول دون رواية ما يدل على فعله أو تقريره، وقد يُطلق الحديث على ما يشمل قول الصحابة والتابعين والمروي من آثارهم. وفي كتاب «مناقب الإمام الشافعي» لفخر الدين الرازي:
قال الدهلوي في «حجة الله البالغة»، مُبَيِّنًا طريقة تشريع النبي بسنته في بساطة ويُسر أيام حياته:
«اعلم أنَّ رَسُول الله ﷺ لم يكن الفقه في زمانه الشريف مدوَّنًا، ولم يكن البحث في الأحكام يومئذٍ مثل البحث من هؤلاء الفقهاء، حيث يبيِّنون بأقصى جهدهم الأركان والشروط وآداب كل شيء ممتازًا عن الآخَر بدليله، ويفرضون الصور، يتكلمون على تلك الصور المفروضة، ويحدُّون ما يَقبَل الحدَّ، ويحصرون ما يقبل الحصر، إلى غير ذلك من صنائعهم، أمَّا رسول الله ﷺ فكان يتوضَّأ فيرى الصحابة وضوءه فيأخذون به من غير أن يُبيِّن أن هذا ركن وذلك أدب، وكان يُصَلِّي فيَرَوْن صلاته فيُصلُّون كما رأَوْه يُصلي، وحجَّ فرَمَقَ الناس حجَّه ففعلوا كما فعل؛ فهذا كان غالب حاله ﷺ ولم يُبيِّن أن فروض الوضوء ستة أو أربعة، ولم يفرض أنه يحتمل أن يتوضأ إنسان بغير موالاة حتى يحكم عليه بالصحة والفساد إلا ما شاء الله، وقلَّمَا كانوا يسألونه عن هذه الأشياء.
قال القاسم: إنكم تسألون عن أشياء ما أدري ما هي، ولو علمناها ما حلَّ لنا أن نكتمها.
(٣-٤) الاختلاف في الرأي في ذلك العهد
ولم يكن للخلاف الذي ينشأ حتمًا عن الاجتهاد بالرأي أثر ظاهر في التشريع لذلك العهد، وهو تشريع — كما رأينا — بسيط، لجماعة تأخذ باليسر في أمرها والبساطة، كان النبي ﷺ غير بعيد من القوم، يفصل بينهم فيما هم فيه مختلفون من أمر الأحكام.
حدثنا عبد الله بن يوسف، نا أحمد بن فتح، نا عبد الوهاب بن عيسى، ثنا أحمد بن محمد، نا أحمد بن علي، نا مسلم بن الحجاج، ثنا أبو كامل فضيل بن حسين الجحدري، نا حماد بن زيد، ثنا أبو عمران الجوني، قال: كتب إليَّ عبد الله بن رباح الأنصاري، أنَّ عبد الله بن عمرو، قال: هجَّرتُ إلى رسول الله ﷺ يومًا، فسَمِع أصوات رجلين اختلفا في آية، فخرج علينا رسول الله ﷺ، يُعرَف في وجهه الغضب فقال: «إنَّما هلك مَن كان قبلكم باختلافهم في الكتاب.»
حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله، ثنا أبو إسحاق البلخي، ثنا الفهري، ثنا البخاري، ثنا أبو الوليد هو الطيالسي، ثنا شعبة، أخبرني عبد الملك بن ميسرة، قال: سمعت النَّزَّال بن سَبْرة، قال: سمعتُ عبد الله بن مسعود، قال: سمعتُ رجلًا قرأ آية سمعتُ من رسول الله ﷺ خلافَها فأخذتُ بيَدِه فأتيتُ به رسول الله ﷺ، فقال: «كلاكما محسن.» قال شعبة: أظنه قال: «لا تختلفوا، فإن مَن قبلكم اختلفوا فهلكوا.»
حدثنا محمد بن سعيد، ثنا أحمد بن عون الله، ثنا قاسم بن أصبغ، ثنا محمد بن عبد السلام الخُشَني، ثنا بُندار، ثنا غُندَر، ثنا شعبة، عن عبد الله بن ميسرة عن النَّزَّال عن ابن مسعود عن النبي ﷺ بهذا الحديث، وذكر شعبة في آخره، قال: حدثني مِسعَر عنه يرفعه إلى ابن مسعود عن رسول الله ﷺ قال: «لا تختلفوا.»
حدثنا عبد الله بن يوسف، ثنا أحمد بن فتح، ثنا عبد الوهاب بن عيسى، ثنا أحمد بن محمد، ثنا أحمد بن علي، ثنا مسلم، ثنا عبيد الله بن معاذ، ثنا أبي، ثنا شعبة، ثنا عن محمد بن زياد، سمع أبا هريرة عن النبي ﷺ قال: «ذروني ما تركتُكم؛ فإنما هلك الذين من قبلكم بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم.» وبه إلى مسلم، ثنا يحيى بن يحيى، وإسحاق بن منصور، وأحمد بن سعيد بن صخر الدارمي، قال يحيى: أنا أبو قُدامة الحارث بن عبيد، وقال إسحاق: ثنا عبد الصمد، وهو ابن عبد الوارث التنوري، ثنا همام، وقال أحمد ثنا حبان، ثنا أبان، قالوا كلهم ثنا أبو عمران الجوني عند جندب بن عبد الله البَلْخي عن النبي ﷺ أنه قال: «اقرءوا القرآن ما ائتلفتْ عليه قلوبكم، فإذا اختلفتم فقوموا.» وبه إلى مسلم، حدثني زهير بن حرب، ثنا جرير، عن سُهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله ﷺ: «إن الله — تعالى — يرضى لكم ثلاثًا ويكره لكم ثلاثًا، فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا، ويكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال.»
(٣-٥) نظرة إجمالية
وجملة القول أن التشريع في عهد النبي كان يقوم على الوحي من الكتاب والسُّنة، وعلى الرأي من النبي ومن أهل النظر، والاجتهاد من أصحابه بدون تدقيق في تحديد معنى الرأي، وتفصيل وجوهه، وبدون تنازع ولا شقاق بينهم.
وفي نُسخة خطية بدار الكتب الأهلية بباريس من كتاب «طبقات الفقهاء» للشيخ أبي إسحاق إبراهيم الفيروزآبادي الشيرازي:
«ذِكْر فقهاء الصحابة رضي الله عنهم: اعلم أنَّ أكثر أصحاب رسول الله ﷺ الذين صحبوه ولازَموه كانوا فقهاء؛ وذلك أنَّ طريق الفقه في حق الصحابة، خطاب الله عزَّ وجلَّ، وخطاب رسوله ﷺ، وما عقل منها، فخطاب الله — عزَّ وجلَّ — هو القرآن، وقد أُنزل ذلك بلغتهم على أسباب عرفوها، وقصص كانوا فيها، فعرفوها مسطورة ومفهومة ومنطوقة ومعقولة؛ ولهذا قال أبو عبيدة في كتاب «المجاز»: لم ينقل أنَّ أحدًا في الصحابة رجع في معرفة شيء من القرآن إلى رسول الله ﷺ، وخطاب رسول الله ﷺ أيضًا بلغتهم، يعرفون معناه ويفهمون منطوقه وفحواه، وأفعاله هي التي فعلها من العبادات والمُعاملات والسِّيَر والسياسات، وقد شاهدوا ذلك كله وعرفوه، وتَكَرَّر عليهم وتحرَّوْه؛ ولهذا قال ﷺ: «أصحابي كالنُّجوم، فبأيِّهم اقتديتم اهتديتم.» ولأنَّ مَن نظر فيما تعلَّموه عن رسول الله ﷺ من أقواله، وتأمَّل ما وصفوه من أفعاله في العبادات وغيرها، اضطر إلى العلم بفقههم وفضلهم، غير أنَّ الذي اشتُهر منهم بالفتاوى والأحكام، وتكلم في الحلال والحرام جماعة مخصوصة … إلخ.»
(أ) المُفتون من الصحابة في عهد النبي
ويقول ابن حزم: «المُكثِرون من الصحابة — رضي الله عنهم — فيما رُوي عنهم من الفتيا، عائشة أم المؤمنين، عمر بن الخطاب، ابنه عبد الله، علي بن أبي طالب، عبد الله بن العباس، عبد الله بن مسعود، زيد بن ثابت، فهم سبعة يُمكن أن يُجمع من فتيا كل واحد منهم سِفْرٌ ضخم، وقد جمع أبو بكر محمد بن موسى بن يعقوب ابن أمير المؤمنين فتيا عبد الله بن العباس في عشرين كتابًا، وأبو بكر المذكور أحد أئمة الإسلام في العلم والحديث.
وكان التشريع على الوجه الذي ذكرنا كافيًا في إقامة الدين وسياسة جماعة قريبة عهد بحياة البداوة، لا تزالُ تخطو خطواتها الأولى في سبيل تكوين الدولة وإقرار النظام.
(ب) شرائع العرب قبل الإسلام
على أنَّ الرسول — عليه السلام — إنَّما كان يُريد بشريعته إصلاح ما عند العرب لا تكليفهم بما لا يعرفونه أصلًا.
قال الدهلوي: «وكان الأنبياء — عليهم السلام — قبلَ نبيِّنا ﷺ يَزيدون ولا ينقصون ولا يبدِّلون إلا قليلًا، فزاد إبراهيم — عليه السلام — على ملة نوح — عليه السلام — أشياء من المناسك وأعمال الفطرة والختان، وزاد موسى — عليه السلام — على ملة إبراهيم — عليه السلام — أشياء؛ كتحريم لحوم الإبل ووجوب السبت، ورجْم الزنا وغير ذلك، ونبيُّنا ﷺ زاد ونقص وبدَّل، والنَّاظر في دقائق الشريعة، إذا استقرأ هذه الأمور وجدها على وجوه: منها أنَّ الملة اليهودية حملها الأحبار والرهبان فحرَّفوها بالوجوه المذكورة فيما سبق، فلمَّا جاء النبي ﷺ ردَّ كل شيء إلى أصله، فاختلفت شريعته بالنسبة إلى اليهودية، التي هي في أيديهم، فقالوا هذه زيادة ونقص وتبديل، وليس تبديلًا في الحقيقة.
- فالأولى: إنما كانت إلى بني إسماعيل، وهو قوله تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا منْهُمْ، وقوله تعالى: لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ، وهذه البعثة تستوجب أن يكون مادة شريعته ما عندهم من الشعائر وسنن العبادات ووجوه الارتفاقات؛ إذ الشرع إنما هو إصلاح ما عندهم لا تكليفهم ما لا يعرفونه أصلًا، ونظيره قوله تعالى: قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ، وقوله تعالى: وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ، وقوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا منْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ.
- والثانية: كانت إلى جميع أهل الأرض عامة.»٦٣ فكان العرب حين يدخلون في الإسلام يظلون بالضرورة على شريعتهم كما هي، إلا ما يغيره الدين الجديد.
ويبيِّن هذا المعنى ما ذكره مؤلفو أصول الفقه عند الكلام على شرع مَن قبلنا، قالوا: إنَّ العلماء اختلفوا في النبي ﷺ، وأمته بعد البعثة، هل هم متعبَّدون بشرع مَن تقدَّم؟
- (١)
أنه لم يكن مُتعبَّدًا باتِّباع شرع مَن قبله، بل كان منهيًّا عنه، ونَسَب الآمدي هذا المذهب للأشاعرة والمعتزلة.
- (٢)
أنه كان مُتعبَّدًا بشرع مَن قبله إلا ما نُسخ منه، ونقل هذا المذهب عن أصحاب أبي حنيفة، وعن أحمد في إحدى الروايتين، وعن أصحاب الشافعي.
- (٣)
الوقف. حكاه ابن القشيري وابن برهان.
وفي كتاب «الإحكام في أصول الأحكام» لابن حزم:
وليس يعنينا أن نعرض لاستدلالات هذه المذاهب ومناقضاتها؛ فذلك ما لا طائل تحته.
(ﺟ) النبي وشريعة العقل
ولكنَّ الذي يعنينا أنَّ من عُلماء المسلمين مَن يرى أنَّ النبي كان على شريعة العقل قبل أن يأتيه الوحي، ومنهم مَن يَرى في الشرائع الماضية أصلًا من أصول التشريع الإسلامي، وذلك يبيِّن وجه ما أشرنا إليه من كفاية التشريعات القليلة التي رُويت عن عهد النبي لحاجات الأمة العربية في ذلك الحين.
وعلى الذي أسلفناه من قول بعض الأئمة: إنَّ النبي ﷺ كان مُتعبدًا قبل الوحي بشريعة العقل، فإنَّ ذلك يقتضي أن يكون النبي ظلَّ على هذه الشريعة بعد الوحي إلا ما غيَّره الشرع الجديد، والعقل كان أصلًا من أصول تشريعه فيما لم ينزل به تنزيل.
وإذا كان شرع مَن قبلنا معتبرًا في التشريع الإسلامي حين لا يَرِد في الإسلام ما يُبطِله، فمعنى ذلك أنَّ شرائع مَن قبلنا كانت أصلًا من أصول التشريع في صدر الإسلام، يثبت بها الحكم فيما لم يَرِد في الدين الجديد.
وقد ذكر علماء الأصول الاستصحاب باعتباره أصلًا من أصول الفقه في بعض المذاهب.
قال الشوكاني: «الاستصحاب أي استصحاب الحال لأمْر وجودي أو عدمي عقلي أو شرعي، ومعناه أنَّ ما ثبت في الزمن الماضي فالأصل بقاؤه في الزمن المستقبل، مأخوذ من المصاحبة وهو بقاء ذلك الأمر ما لم يوجد ما يُغيره؛ فيُقال الحكم الفلاني قد كان فيما مضى، وكل ما كان فيما مضى ولم يظن عدمه فهو مظنون البقاء … العقل في الأحكام الشرعية كبراءة الذمة من التكليف حتى يدل دليل شرعي على تغيره، وكنفي صلاة سادسة.
قال القاضي أبو الطيب: وهذا حجة بالإجماع من القائلين بأنَّه لا حكم قبل الشرع، قال: الثالثة: استصحاب الحكم العقلي عند المعتزلة، فإنَّ عندهم أن العقل يحكم في بعض الأشياء إلى أن يَرِد الدليل السمعي، وهذا لا خلاف بين أهل السنة في أنه لا يجوز العمل به؛ لأنَّه لا حكم للعقل في الشرعيات.
قال: الرابعة: استصحاب الدليل مع احتمال المعارض، إما تخصيصًا إن كان الدليل ظاهرًا، أو نسخًا إن كان الدليل نصًّا، فهذا أمر معمول به إجماعًا، وقد اختُلف في تسمية هذا النوع بالاستصحاب، فأثبته جمهور الأصوليين، ومنعه المحقِّقون، منهم: إمام الحرمين في «البرهان»، والكِيَا في «تعليقه» وابن السمعاني في «القواطع»؛ لأنَّ ثبوت الحكم من ناحية اللفظ لا من ناحية الاستصحاب.
وبذلك يتبيَّن أنَّ الاستصحاب في بعض صوره أصل من أصول التشريع، يزيد على الأصول التي ذكرناها، ويؤيد اعتبار حكم العقل وشرع مَن قبلنا في تقرير الأحكام العملية في الإسلام.
وبناء على ما ذكرنا تكون مصادر الحكم في عهد النبي غير ضيقة بما تستلزمه حاجات الجماعات ولا حاجات الأفراد.
(٤) الرأي في عهد الخلفاء الراشدين
مضى عهد النبي ﷺ، وجاء بعده عهد الخلفاء الراشدين منذ سنة ١١ﻫ/٦٣٢م إلى ٤٠ﻫ/٦٦٠م.
ويكفينا من ابن حزم الظَّاهري أن يعترف بوقوع الرأي من الصحابة كثيرًا، وإن ذهب في تأويل وقوعه مذهبًا عجبًا.
(٤-١) عهد أبي بكر
(٤-٢) عهد عمر
ومن ذلك أنَّه جلد أبا بكرة؛ حيث لم يُكمِل نصاب الشهادة، بالقياس على القاذف وإن كان شاهدًا لا قاذفًا.
وحلق رأس نصر بن حجاج ونفاه من المدينة لتشبيب النِّساء به، وضرب صبيغ بن عسيل التميمي على رأسه لمَّا سأله عمَّا لا يَعنِيه، وصادر عمَّاله، فأخذ شطر أموالهم لمَّا اكتسبوها بجاه العمل، واختلط ما يخصون به بذلك، فجعل أموالهم بينهم وبين المسلمين شطرين.
(٤-٣) عهد عثمان
ومن ذلك قول عثمان لعمر في واقعة: «إنْ تتبع رأيك فرأيك أسَدُّ، وإنْ تتبع رأي مَن قبلَك فنِعْم ذلك الرأي!» ولو كان فيه دليل قاطع على أحدهما لم يَجُزْ تصويبهما.
(٤-٤) عهد علي
ومن ذلك قول علي — رضي الله عنه — في حدِّ شارب الخمر: إنه إذا شرب سَكِر، وإذا سَكِر هَذى، وإذا هذى افترى، فحدُّوه حَدَّ المفترين. قاس حَدَّ الشارب على القاذف.
ومن ذلك أنَّ عمر كان يشك في قَوَد القتيل الذي اشترك في قتْله سبعة، فقال له علي: يا أمير المؤمنين، أرأيتَ لو أن نفرًا اشتركوا في سرقة أكنتَ تقطعهم؟ قال: نعم، قالوا: كذلك، وهو قياس للقتل على السرقة.
ومن ذلك تحريق علي — رضي الله عنه — الزنادقة الرافضة وهو يعلم سنة رسول الله ﷺ في قتل الكافر، لكن لمَّا رأى أمرًا عظيمًا جعل عقوبته من أعظم العقوبات ليزجر الناس عن مثله؛ ولذلك قال:
(٤-٥) ظهور الخلاف بالرأي في الأحكام
وفي شرح السيد الشريف على «المواقف»: «قال الآمدي: كان المسلمون عند وفاة النبي ﷺ على عقيدة واحدة وطريقة واحدة، إلا مَن كان يُبطِن النفاق ويُظْهِرُ الوفاق، ثم نَشَأ الخلاف فيما بينهم أولًا في أمور اجتهادية لا تُوجب إيمانًا ولا كفرًا، وكان غرضهم منها إقامة مراسم الدين وإدامة مناهج الشرع القويم، وذلك كاختلافهم عند قول النبي في مرض موته: «ائتوني بقرطاس أكتب لكم كتابًا لا تضلوا بعدي»، حتى قال عمر: إنَّ النبي قد غلبه الوجع، حسبنا كتاب الله.
وكثر اللغط في ذلك حتى قال النبي: «قوموا عني، لا ينبغي عندي التنازع.» وكاختلافهم بعد ذلك في التخلُّف عن جيش أُسامة، فقال قومٌ بوجوب الاتباع لقوله عليه السلام: «جهزوا جيش أسامة. لعن الله مَن تخلَّف عنه»، وقال قوم بالتخلُّف انتظارًا لمَا يكون من رسولِ الله في مَرَضِهِ، وكاختلافهم بعد ذلك في موته حتى قال عمر: مَن قال: إنَّ مُحَمَّدًا قد مات علوتُه بسيفي، وإنما رُفع إلى السماء، كما رُفع عيسى بن مريم، وقال أبو بكر: مَن كان يعبُد مُحَمَّدًا فإنَّ مُحَمَّدًا قد مات، ومَن كان يعبد إله محمد فإنه حي لا يموت، وتلا قوله تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ منْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ … الآية. فرجع القوم إلى قوله، وقال عمر: كأنِّي ما سمعتُ هذه الآية إلا الآن.
وكاختلافهم بعد ذلك في موضع دفنه بمكة أو بالمدينة أو القدس، حتى سَمِعُوا ما رُوي عنه، من أنَّ الأنبياء يُدفَنون حيث يموتون، وكاختلافهم في الإمامة، وثبوت الإرث عن النبي كما مر. وفي قتال مانعي الزَّكاة حتى قال عمر: كيف نُقاتلهم وقد قال ﷺ: «أمِرْتُ أن أُقاتل النَّاس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا منِّي دماءهم وأموالهم»؟ فقال له أبو بكر: أليس قد قال: «إلا بحقِّها»؟ ومن حقِّها إقامة الصلاة وإيتاء الزَّكاة، ولو منعوني عقالًا ممَّا أدَّوْه إلى النبي لقاتلتُهم عليه.
وقد عرض ابن حزم في كتاب «الإحكام» لقِصَّة الصحيفة التي تعتبر أول خلاف قائم على الرأي ظهر في الإسلام فقال: «عن ابن عباس قال: لما اشتد برسول الله ﷺ وجعه، قال: «ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابًا لا تضلوا بعدي»، فقال عمر: إنَّ النبي ﷺ غلبه الوجع، وعندنا كتاب الله حسبنا، فاختلفوا وكثر اللغط، فقال: «قوموا عني ولا ينبغي عندي التنازع»؛ فخرج ابن عباس يقول: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله وبين كتابه.
وحدثنا عبد الله بن ربيع عن ابن عباس فذكر هذا الحديث وفيه: أن قومًا قالوا عن النبي ﷺ في ذلك اليوم: «ما شأنه؟ هَجَر؟» قال أبو محمد هذه زلَّة العالم التي حُذِّر منها الناس قديمًا، وقد كان في سابق علم الله — تعالى — أن يكون بيننا الاختلاف، وتضل طائفة، وتهتدي بهدى الله أخرى، فلذلك نطق عمر ومَن وافقه ممَّا نطقوا به، مِمَّا كان سببًا إلى حرمان الخير بالكتاب الذي لو كتبه لم يضل بعده، ولم يَزَلْ أمر هذا الحديث مهمًّا لنا وشجًى في نفوسنا وغُصَّة نألم لها، وكنا على يقين من أنَّ الله — تعالى — لا يَدَع الكتاب الذي أراد نبيه ﷺ، أن يكتبه فلن يضل بعده دون بيان؛ لِيَحْيَا مَن حيَّ عن بينة إلى أن منَّ الله — تعالى — بأن أوجَدَناه، فانجلت الكُرْبة، والله المحمود، وهو ما حدثناه عبد الله بن يوسف عن عائشة، قالت: قال لي رسول الله ﷺ في مرضه: «ادعي لي أبا بكر وأخاك حتى أكتب كتابًا، فإني أخاف أن يتمنَّى مُتَمَنٍّ ويقول قائل: أنا أولى، ويأبَى الله والنبيون إلا أبا بكر.»
قال أبو محمد: هكذا في كتاب عن عبد الله بن يوسف. وفي أم أخرى: «ويأبى الله والمؤمنون»، وهكذا حدثناه عبد الله بن ربيع عن عائشة عن النبي ﷺ، وفيه أن ذلك كان في اليوم الذي بُدئ فيه ﷺ بوجعه الذي مات فيه.
(أ) أسباب الاختلاف
ويُشير ابن حزم إلى أسباب الاختلاف الحادث في هذه القصة. وفي نحوها مما وقع في عهد الصحابة بقوله:
«وقد تجد الرَّجل يحفظ الحديث ولا يحضره ذكره؛ حتى يُفتي بخلافه، وقد يعرض هذا في آي القرآن، وقد أمر عُمَر على المنبر بألَّا يُزاد في مهور النِّساء على عدد ذكره، فذكرتْه امرأة بقول الله تعالى: «وآتيتم إحداهن قنطارًا»، فترك قوله وقال: كل واحد أفْقَهُ منك يا عمر! وقال: امرأة أصابتْ وأمير المؤمنين أخطأ.
(ب) تفاوت الخلاف في عهود الخلفاء الراشدين
ولم يكن وقوع الاختلاف مطردًا على سواء في عهود الخلفاء الراشدين.
فلما أفضتِ الخلافة إلى عليٍّ — كرَّم الله وجهه — صار الاختلاف بالسيف.»
(٤-٦) أصول الأحكام الشرعية في هذا العهد
(أ) الإجماع
وليس يخلو من غموض هذا المعنى الذي اتفق المُختلفون عليه في بيان معنى الإجماع، ثم اختلفوا توضيحه.
(ب) الإجماع طور من أطوار الرأي
كل هذه المعاني المُختلفة للإجماع لم تُفَصَّل هذا التفصيل إلا حينما دُوِّنَتِ العلوم ونُظِّمت قواعدها، لكنَّها تدل على أنَّ الإجماع في نشأته كان معنًى مُبهمًا صالحًا لأن يُحْمَل على كل هذه المعاني، كما كان الرَّأي نفسه مبهمًا غير مقسَّم ولا معيَّن، وما الإجماع في بدء أمره إلا طور من أطوار الرأي ومظهر من مظاهر تنظيمه، وتنظيم التشريع والديمقراطية به، في دولة أخذت تخرج من دور البداوة إلى صورة من صور الحكم الديمقراطي المنظم.
(ﺟ) شأن عمر في هذا الباب
وجاء في كتاب: «الإدارة الإسلامية في عز العرب»: للأستاذ محمد كرد علي بك المطبوع سنة ١٩٣٤م:
«ومما تعلقت به هِمَّة عمر إحداثُ أوضاع جديدة اقتضتْها حالة التوسع في الفتوح: فهو أول مَنْ حمل الدِّرَّة، وهو أوَّل مَن دوَّن الدواوين على مثال دواوين الفرس والروم، دوَّنها عَقِيل بن أبي طالب ومخْرَمة بن نوفل، وجبير بن مُطْعِم، وكانوا من نُبَهاء قريش لهم علم بالأنساب وأيام الناس.
والديوان: الدفتر أو مجتمع الصحف، والكتاب يُكتب فيه أهل الجيش وأهل العطية، وعرَّفوا الديوان بأنَّه موضع لحفظ ما تعلق بحقوق السلطنة من الأعمال والأموال ومَن يقوم بها من الجيوش والعمال، وأُطلق بعد حين على جميع سجلات الحكومة، وعلى المكان الذي يجلس فيه القائمون على هذه السجلات والأضابير والطوامير، وثبتَ أَنَّه كان له سجن، وأنه سجن الحُطَيْئة على الهَجْو، وسجن صبيغًا على سؤاله عن «الذاريات»، و«المرسلات» و«النازعات» وشبههن، وضربه مرة بعد مرَّة ونفاه إلى العراق، وكتب ألَّا يُجالسه أحد، فلو كانوا مائة تفرقوا عنه، حتى كتب إليه عامله أن حسُنت توبته، فأمره عمر فخلَّى بينه وبين الناس، وكانت أعمال عمر جدًّا كلها، لا يجوز لأحد أن يجلس في المسجد في غير أوقات الصلاة، وبنى في المسجد رحبة تُسَمَّى البطيحا. قال: مَنْ كان يُريد أن يلفظ أو ينشد شعرًا أو يرتفع صوته فليخرج إلى الرَّحبة، وما كان المسجد في أيامه لغير الصلاة والقضاء، وكان الخلفاء يجلسون في المسجد لقضاء الخصومات، ولما كثُرت الفتوحات وأسلمت الأعاجم وأهل البوادي وكثُر الولدان أمر عمر ببناء بيوت المكاتب، ونصب الرجال لتعليم الصبيان وتأديبهم.
وضع عمر أول ديوان في الإسلام للخراج والأموال بدمشق والبصرة والكوفة على النحو الذي كان عليه قبل، وقيل إنَّ أول ديوان وُضِعَ في الإسلام هو ديوان الإنشاء، ودواوين الشام تكتب بالرومية، ودواوين العراق بالفارسية ودواوين مصر بالقبطية يتولَّاها النَّصارى والمجوس دون المسلمين، والسبب في تدوين الدواوين أنَّ عامل عمر على البحرين أتاه يومًا بخمسمائة ألف درهم، فاستعْظَمَها، وجعل عليها حراسًا في المَسْجِد، فأشار عليه بعض مَنْ عرفوا فارس والشام أن يدوِّن الدواوين يكتبون فيها الأسماء، وما لواحد واحد، وجعل الأرزاق مشاهرة، وجعل عمر تابوتًا — أي صندوقًا — لجمع صكوكه ومعاهداته، وجَنَّد الأجناد — أي ألَّف الفيالق — فصيَّر فلسطين جندًا، والجزيرة جندًا، والموصل وقِنَّسْرين جندًا، وأصبح كل جند في الشام والعراق يتألف من مقاتلة المسلمين يقبضون أعطياتهم من البلد الذي نزلوه، فأصبحت الجندية خاصة بفئة المسلمين، ويسير الناس بقضِّهم وقَضِيضهم إلى الزحف عند الحاجة حتى النساء والأولاد، وما كان الجند يجعلون كلهم في المسالح، بل يترك بعضهم في البلاد يكونون على استعداد للوثبة عند أوَّل إشارة، والغالب أنه كان يُترك فَضْلٌ في بيوت الأموال خارج الحجاز؛ ليُستخدم في طارئ إذا طرأ، وما كانت الصوافي تُحمل كلها إلى الحجاز بل يُدَّخر بعضها في بيوت الأموال في الشام والعراق ومصر، وجزء عظيم من دخل الدولة يُصرف في الوجوه التي أشرنا إليها.
وعمر هو أول مَن لُقِّب بأمير المؤمنين، وأوَّل مَن استقضى القضاة، وأول مَن أحدث التاريخ الهجري فأرَّخ سنة ستة عشر لهجرة رسول الله من مكة إلى المدينة، فكان أوَّل مَن أرَّخ الكتب وختم على الطين. قال اليعقوبي: وأمر زيد بن ثابت أن يكتب الناس على منازلهم، وأمره أن يكتب لهم صكاكًا من قراطيسه ثم يختم أسفلها، فكان أول مَن صك وختم أسفل الصكاك، وغيَّر أَسْمَاء المُسلمين بأسماء الأنبياء، وكان أوَّل مَن مصَّر الأمصار: مصَّر المصرين البصرة والكوفة، وكان إذا جاءتْه الأقضية المعضِلة قال لعبد الله بن العباس: إنَّها قد طرأت علينا أقضية وعُضَل فأنت لها ولأمثالها، ثم أخذ بقوله، وما كان يدعو لذلك أحدًا سواه، وكان في المسائل العامة يسأل الناس في المسجد عن آرائهم ثم يعرض رأيه ورأيهم على مجلس شوراه، وهم من كبار الصحابة، فما استقرَّ عليه رأيهم أمضاه.
فكانت أعماله ثمرة ناضجة من الآراء الصائبة؛ ولذلك ندرت هفواته في الإدارة بالقياس إلى غيره؛ لأنه يتروَّى ويعمل بآراء أهل الرأي، ولمَّا أرسل عبدَ الله بن مسعود إلى العراق وزيرًا ومُعلِّمًا مع عمار بن ياسر الذي ولاه الإمارة كتب إلى أهل العراق: «وقد جعلتُ على بيت مالكم عبد الله بن مسعود وآثرتُكم به على نفسي.» وقد يبعثُ إلى بعض الأقطار عاملًا على الصلاة والحرب ويُسَمِّيه أميرًا، وعاملًا على القضاء وبيت المال ويُسَمِّيه مُعَلِّمًا ووزيرًا، كما فعل في العراق، أو يجمع للعامل بين الصلاة والخراج كعامل مصر.
(د) تفسير ظهور الإجماع
ويُفسر ظهور الإجماع في هذا العصر، أنَّ الأئمة بعد النبي ﷺ، كانوا يستشيرون في الأحكام.
قال الشاطبي في «الاعتصام»:
وفي كتاب «مُختصر جامع بيان العلم وفضله»:
وكان أبو بكر وعمر إذا لم يكن لهما علم في المسألة يسألان الناس.
وفي كتاب «إعلام الموقعين»:
وكان العُلماء من الصحابة يومئذٍ، وهم المُعتَبَرون في الإجماع قِلَّة، كما بيَّنَّا آنفًا، لا يتعذر علاج التوفيق بين آرائهم، وتَعَرُّف الاتفاق بينهم على حكم من الأحكام.
(٥) الرأي في عهد بني أمية
وكان بعد ذلك عصر بني أُمية من سنة ٤٠ﻫ/٦٦٠م إلى سنة ١٣٢ﻫ/٧٤٩م.
ولما انقرض عهد الصحابة وجاء على أثرهم التابعون، انتقل أمر الفُتيا والعلم بالأحكام إلى الموالي إلا قليلًا.
(٥-١) تشعُّب وجوه الاختلاف في هذا العصر وأسبابها
- (١) الخلاف العارض من جهة اشتراك الألفاظ واحتمالها التأويلات الكثيرة، وهذا الباب ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
- أحدها: اشتراك في موضوع اللفظة المفردة،
بأن تكون اللفظة موضوعة لمعانٍ مختلفة
متضادة أو غير متضادة، ومن هذا النوع قوله
ﷺ: «قصُّوا الشوارب واعفوا
اللِّحى»، قال قوم معناه وفِّروا وأكثروا،
وقال آخَرون قصِّروا وانقصوا، وكلا
القولين له شاهد من اللغة. هذا من
الاشتراك في المعاني المتضادة.
أمَّا الاشتراك في المعاني المُختلفة غير المتضادة فهو كثير جدًّا، ومنه قوله تعالى: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ منْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا من الْأَرْضِ. ذَهَبَ قومٌ إلى أن كلمة «أو» هنا للتخيير، فقالوا السلطان مخيَّر في هذه العقوبات، يفعل بقاطع السبيل أيَّها يشاء، وهو قول الحسن البصري وعطاء، وبه قال مالك، وذهب آخرون إلى أن كلمة «أو» هنا للتفصيل والتعيين: فمَن حارب وقتل وأخذ المال، صُلِب، ومَن قتل ولم يأخذ المال قُتل، ومَن أخذ المال ولم يقتل، قُطعت يده، وهو قول أبي مِجلَز لاحق بن حُمَيد التابعي، وحجاج بن أرطاة النخعي الكوفي، وبه قال أبو حنيفة والشافعي واختلفوا في النفي من الأرض ما هو؟ فقال الحجازيون يُنفى من موضع إلى موضع، وقال العراقيون يُسْجَن ويُحبس، والعرب تستعمل النفي بمعنى السِّجن.
- وثانيها: الاشتراك العارض من قِبَل اختلاف
أحوال الكلمة دون موضع لفظها، مثل قوله
تعالى: وَلَا
يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ.
قال قوم: مضارة الكاتب أن يكتب ما لم
يُمْلَ عليه، ومضارة الشهيد أن يشهد بخلاف
الشهادة، وقال آخرون: مضارتهما أن
يُمْنَعا من أشغالهما ويُكلَّفا الكتابة
والشهادة في وقت يَشُقُّ ذلك فيه عليهما،
وإنما أوجب هذا الخلاف أن قوله وَلَا يُضَارَّ
يحتمل أن يكون تقديره ولا يضارَر بفتح
الراء، ويحتمل أن يكون تقديره أيضًا بكسر
الراء، وقد رُويت القراءتان بإظهار
التضعيف مع الفتح ومع الكسر، قرأ بالأولى
ابن مسعود، وبالثانية ابن عمر.
ومثل هذا قوله تعالى: لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ.
- وثالثها: الاشتراك العارض من قِبَل تركيب
الكلام، وبناء بعض الألفاظ على بعض: ومنه
ما يَدُلُّ على معانٍ مختلفة مُتَضَادَّة،
ومنه ما يدلُّ على معانٍ مختلفة غير
متضادة؛ فمن النوع الأول قوله تعالى:
وَمَا يُتْلَى
عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى
النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ
مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ
تَنْكِحُوهُنَّ. قال قوم: معناه
وترغبون في نكاحهن لمَا لهن، وقال آخَرون:
إنما أراد وترغبون عن نكاحهن لدمامتهن
وقِلَّة ما لهن، ومنه قول علي رضي الله
عنه: «أيها الناس، أتزعمون أني قتلتُ
عثمان؟ ألَا وإن الله قتله وأنا معه.»
أراد علي — رضي الله عنه — أنَّ الله قتله
وسيقتلني معه، فعطف «أنا» على «الهاء» من
«قتله»، وجعل «الهاء» في «معه» عائدة على
عثمان، وتأوَّله الخوارج على أنه عطف
«أنا» على الضمير الفاعل في قَتَلَه، أو
على موضع المنصوب بأن، كما تقول: إن زيدًا
قائم وعمرو، فترفع عمرًا عطفًا على موضع
زيد وما عمل فيه، وجعلوا الضمير في قوله
معه عائدًا على الله تعالى، فأوجبوا عليه
من هذا اللفظ أنه شارك في قتل عثمان رضي
الله عنه.
ومن الدالِّ على معانٍ مختلفة غير مُتضادة قوله تعالى: وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا، فإنَّ قومًا يرون الضمير من «قتلوه» عائدًا إلى المسيح ﷺ، وقومًا يرونه عائدًا إلى العلم المذكور في قوله: مَا لَهُمْ بِهِ منْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ فيَجْعَلونه من قول العرب: «قتلت الشيء علمًا»، ومنه قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ منْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. اختلفوا في هذا التشبيه: من أين وقع؟ فذهب قوم إلى أنَّ التشبيه إنما وقع في عدد الأيام، واحتجوا بحديث روَوْه: أنَّ النَّصارى فُرِض عليهم في الإنجيل صوم ثلاثين يومًا، وأنَّ ملوكهم زادوا فيها تطوُّعًا حتى صيَّروها خمسين، وذهب آخرون إلى أنَّ التشبيه إنما وقع في الفرض لا في عدد الأيام.
يقول البطليوسي: وهذا القول هو الصحيح، وإن كان القولان جائزين في كلام العرب، فإنك إذا قلت: أعطيت زيدًا كما أعطيت عمرًا، احتمل أن تريد تساوي العطيتين، واحتمل أن تُريد تساوي الإعطائين، وإن أعطيت أحدهما خلاف ما أعطيت الآخر.
- أحدها: اشتراك في موضوع اللفظة المفردة،
بأن تكون اللفظة موضوعة لمعانٍ مختلفة
متضادة أو غير متضادة، ومن هذا النوع قوله
ﷺ: «قصُّوا الشوارب واعفوا
اللِّحى»، قال قوم معناه وفِّروا وأكثروا،
وقال آخَرون قصِّروا وانقصوا، وكلا
القولين له شاهد من اللغة. هذا من
الاشتراك في المعاني المتضادة.
- (٢)
الخلاف العارض من جهة الحقيقة والمجاز، وقد ذهب قوم إلى إثباته. يقول صاحب «الإنصاف»: «وإنما كلامنا فيه على مذهب مَن أثبته؛ لأنه الصحيح الذي لا يجوز غيره.» والمجاز ثلاثة أنواع: نوع يعرض في موضوع اللفظة، ونوع يعرض في أحوالها المختلفة عليها من إعراب وغيره، ونوع يعرض في التركيب وبناء بعض الألفاظ على بعض. فمثال النوع الأول: السلسلة، فإن العرب تستعملها حقيقة وتستعملها مجازًا بمعنى الإجبار والإكراه؛ كقوله ﷺ: «عجبتُ لقوم يُقادون إلى الجنة بالسلاسل.» بمعنى المنع من الشيء والكف عنه، كقول أبي خراش الشاعر المخضرم التابعي:
فليس كعهدِ الدارِ يا أمَّ مالكٍولكنْ أحاطَتْ بالرقاب السلاسلُيُريد بالسلاسل حدود الإسلام وموانعه، التي كفَّت الأيدي الغاشمة، ومنعت من سفك الدماء إلا بحقها، وبمعنى ما تتابع بعضه في أثر بعض، واتصل كقولهم تسلسل الحديث، وقولهم سلاسل الرمل، ومن هذا النوع قول الله عز وجل: يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ، ومعلوم أنَّ الله لم يُنزل من السماء ملابس تُلْبَس، وإنما تأويله — والله أعلم — أنَّه أنزل المطر فنبت عنه النبات، ثم رعتْه البهائم فصار صوفًا وشعرًا ووبرًا على أبدانها، ونبت عنه القطن والكتان، واتُّخذت من ذلك أصناف الملابس، فسمَّى المطر لباسًا إذ كان سبب ذلك، ومن هذا الباب أيضًا قوله ﷺ: «يَنْزِلُ رَبُّنا كل ليلة إلى سماء الدنيا ثلثَ الليل الأخير، فيقول: هل من سائل فأُعطِيَه؟ هل من مستغفر فأغفرَ له؟ هل من تائب فأتوبَ عليه؟» جعلته المجسِّمةُ نزولًا على الحقيقة، وقد أجمع العارفون على أنَّ الله لا ينتقل؛ لأنَّ الانتقال من صفة المُحْدثات؛ ولهذا الحديث تأويلان:- أحدهما: أنَّ معناه: يَنْزِلُ أمرُه في كل سَحَرٍ؛ أي إنَّ الله — تعالى — يأمر مَلَكًا بالنزول إلى سماء الدنيا، وقد تقول العرب: كتب الأمير إلى فلان كتابًا وقطع الأمير يد اللص، وضرب السلطان فلانًا؛ إذ هي تَنسِب الفعل إلى مَنْ أَمَرَ به، كما تنسبه لمَن فعله، ويقول العرب: جاء فلان إذا جاء كتابه، ويقولون للرجل: أنت ضربتَ زيدًا وهو لم يضربه، إذا كان قد رضي بذلك وشايع عليه.
- وثانيهما: أنَّ من المعاني المجازية للنزول
الإقبال على الشيء بعد الإعراض عنه،
والمُقاربة بعد المباعدة، فيكون معنى
الحديث على هذا أنَّ العبد في هذا الوقت
أقرب إلى رحمة الله منه في غيره من
الأوقات، وأنَّ الباري — سبحانه — يُقبِل
على عباده بالتحنُّن والعطف في هذا الوقت
بما يُلقيه في قلوبهم من التنبيه والتذكير
الباعثين لهم على الطاعة والجد في العمل،
ومن استعمال العرب النزول في هذا المعنى
قول حِطان بن المُعَلَّى من شعراء
«الحماسة»:
أنزَلني الدهرُ على حُكمِهمن شاهقٍ عالٍ إلى خَفْضِأي: جعلني أُقارب مَن كنتُ أُباعده، وأُقْبِل على مَنْ كنت أُعرض عنه؛ ومن ذلك أيضًا قوله تعالى: اللهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، توهم المُجسمة أنَّ الله نور، وإنما المعنى هادي السموات والأرض، والعرب تسمِّي كل ما جلا الشبهات وأزال الالتباس وأوضح الحقَّ، نورًا. قال الله تعالى: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا يعني القرآن، ثم قال المؤلف: ولو مُنِحَتْ المجسمة طرفًا من التوفيق، وتأملت الآية بعين التحقيق، لوجدت فيها ما يُبطِل دعواهم بدون تكلف تأويل، ومن غير طلب دليل؛ لأن الله — تعالى — قال بعقب هذه الآية: وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
أما النوع الثاني: نوع الحقيقة والمجاز العارضين في اللفظة من قِبَل أحوالها، فمثاله قوله تعالى: فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْر، والأمر لا يَعزِم وإنما يُعزَم عليه، ونحو قوله تعالى: بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَار، أي: مكركم في الليل والنهار، ويقول العرب: نهارك صائم، وليلك قائم.وأمَّا النوع الثالث: أي: المجاز والحقيقة العارضان من طريق التركيب وبناء بعض الألفاظ على بعض، فنحو الأمر يَرِد بصيغة الخبر، والخبر يرد بصيغة الأمر، والإيجاب يرد بصيغة النفي، والنفي يرد بصيغة الإيجاب، والواجب يرد بصيغة الممكن أو الممتنع، والممكن والممتنع يردان بصيغة الواجب، والمدح يرد بصيغة الذم، والذم يرد بصيغة المدح، والتقليل يرد بصيغة التكثير، والتكثير يرد بصيغة التقليل، ونحو ذلك من أساليب الكلام التي لا يقف عليها إلا مَن تحقق بعلم اللسان.
فمن الأمر الوارد بصيغة الخبر قوله تعالى: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ، وإنَّما المعنى لترضع الوالدات أولادهن، والخبر الوارد بصيغة الأمر كقوله تعالى: أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ أي: ما أسمعهم وأبصرهم! أمَّا الإيجاب الوارد بصيغة النفي، فكقولك: ما زال زيد عالمًا، فإنَّ صيغته كصيغة قولك: ما كان زيدٌ عالمًا، والأول إيجاب، والثاني نفي، وأمَّا النفي الوارد بصورة الإيجاب فنحو قولهم: لو جاءني زيدٌ لأكرمته، فصورته صورة كلام موجب لأنَّه ليس فيه أداة من أدوات النفي، وهو منفي في المعنى لأنه لم يقع المجيء ولا الإكرام، ومنه قوله تعالى: وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا، وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا.وورود الواجب بصورة الممكن كقوله تعالى: فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ: وقوله: عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا، وورود الممتنع بصورة الممكن كقول النابغة الذبياني يرثي النعمان بن الحارث الغساني:فإن تحْيَ لا أملَلْ حياتي وإن تمُتْفما في حياتي بعد موتك طائلوأمَّا ورود المَدح في صورة الذَّم فمنه ما ذكره ابن جِنِّي أنَّ أعرابيًّا رأى ثوبًا فقال: ما له؟ محقه الله! قال فقلتُ له: لِمَ تقول هذا؟ فقال: إذا استحسنَّا شيئًا دعونا عليه، وأصل هذا أنَّهم يكرهون أن يمدحوا الشيء فيصيبونه١١٣ بالعين فيعدلون عن مدحه إلى ذَمِّه، وأمَّا ورود الذم في صورة المدح فكقوله تعالى: إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ. - (٣) الخلافُ العارض من جهة الإفراد والتركيب: وذلك أنَّك تجد الآية الواحدة رُبَّما استوفت الغرض المقصود بها من التعبُّد، فلم تُحْوِجك إلى غيرها، مثل قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ، وقوله تعالى: وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ، وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ، فإنَّ كل واحدة من هذه الآيات قائمة بنفسها مُستوفية للغرض المراد منها، وكذلك الأحاديث الواردة كقوله: «الزعيم غارم، والبَيِّنَة على المُدَّعي، واليَمينُ على المدَّعَى عليه.» وربما وردت الآية غير مستوفية للغرض المراد من التعبد، وورد تمام الغرض في آية أخرى وكذلك الحديث، ومثال ذلك قوله تعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ، ثم قال آية أخرى: بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ، فدلَّ اشتراط المشيئة في هذه الآية الثانية على أنه مُراد في الآية الأولى، ورُبَّما وردت الآية مُجملة ثم يفسرها الحديث، كالآيات الواردة مجملة في الصلاة والزكاة والصيام والحج، ثم شَرحت السنة والآثار جميع ذلك، ولأجل هذا صار الفقيه مضطرًّا في استعمال القياس إلى الجمع بين الآيات المفترقة وبين الأحاديث المُتغايرة وبناء بعضها على بعض، ووجه الخلاف العارض في هذا الموضع أنَّه رُبَّما أخذ بعض الفقهاء بمفرد الآية أو بمفرد الحديث، وبنى آخرُ قياسَه على جهة التركيب الذي ذكرنا، بأن يأخذ بمجموع آيتين أو بمجموع حديثين، أو بمجموع آيات أو بمجموع أحاديث، فيُفضي بهما الحال إلى الخلاف فيما يُنْتِجَانه، فعلى مثل هذا رُكِّبت القياسات وأنتِجت النتائج، ووقع الخلافُ بين أصحاب القياس. وخالفهم قومٌ آخَرون لم يَرَوا القياس، ورأَوا الأخذ بظاهر الألفاظ، فنشأ من ذلك نوع آخَر من الخلاف، ومما اختلفت فيه أقوال الفقهاء من هذا الباب ما يكون لأخذ كل واحد منهم بحديث مفرد اتصل به ولم يتصل به سواه.
- (٤) الخلاف العارضُ من جهة العموم والخصوص، وهو نوعان؛ أحدهما: يعرض في موضوع اللفظة المفردة. والثاني: يعرض في التركيب. فالأول:«كالإنسان»، يستعمل عمومًا نحو قوله تعالى: إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ، ويدلُّ على أنه لفظ عام لا يخص واحدًا دون آخر قوله: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا فإنَّ الاستثناء لا يكون إلا من جملة، ويستعمل خصوصًا نحو ذلك: جاءني الإنسان، تُريد شخصًا معينًا.والثاني: نحو قوله تعالى: لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ. قال قوم: هذا خصوص في أهل الكتاب لا يُكرَهون على الإسلام إذا أدَّوا الجزية، وقال قوم: هي عموم ثم نُسخت بقوله: جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ، وقد يأتي من هذا الباب ما موضوعه في اللغة على العموم ثم تُخَصِّصه الشريعة كالمُتعة، فإنَّها عند العرب اسم لكل شيء استُمتِعَ به لا يخص به شيء دون آخر، ثم نُقلت عن ذلك واستُعملت في الشريعة على ضربين؛ أحدهما: المُتعة التي كانت مُباحة في أوَّل الإسلام، ثم نُهي عنها ونُسِخَت بالنكاح والولي.والثاني: ما تُمتَّع به المرأة من مهرها، كقوله تعالى: وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ، وقد وقع الخلاف في قوله تعالى: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ منْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً، فكان ابن عباس يذهب بمعناه إلى المتعة الأولى، وذهب جماعة الفقهاء إلى أنَّ المُتعة الأولى منسوخة، وأنَّ هذه الآية كالتي في «البقرة»، وأنَّ معنى قوله: فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ إنما المراد المهر.١١٤
- (٥) الخلاف العارض من جهة الرواية: والعلل التي تعرض للحديث فتُحِيل معناه، فرُبما أوهمت فيه مُعارضته بعضه لبعض، وربما ولَّدت فيه إشكالًا يحوج العلماء إلى طلب التأويل البعيد على أضْرُب:
- العلة الأولى: فساد الإسناد، وهذه العلة أشهر
العلل عند الناس، حتى إنَّ كثيرًا منهم
يتوهم أنه إذا صح الإسناد صَحَّ الحديث،
وليس كذلك، وفساد الإسناد يكون من
الإرسال١١٥ وعدم الاتصال، ويكون من أنَّ
بعضَ الرُّواة صاحب بدعة أو مُتَّهم بكذب
وقلة ثقة، أو مشهورًا ببَلَه وغفلة، أو
يكون مُتعصِّبًا لبعض الصحابة منحرِفًا عن
بعضهم، فإنَّ مَن كان مشهورًا بالتعصُّب
ثم رَوَى حديثًا في تفضيل مَن يتعصب له،
ولم يَرِد من غير طريقه، لزم أن يُستراب
به.
ومِمَّا يبعث على الاسترابة بنقل الناقل أن يُعْلَم منه حرصٌ على الدنيا وتهافُت على الاتصال بالملوك، ونيل المكانة والحظوة عندهم، فإنَّ من كان بهذه الصفة لم يؤمن عليه التغيير والتبديل والافتعال للحديث والكذب، حرصًا على مكسب يحصل عليه، وقد روي أنَّ قومًا من الفرس واليهود وغيرهم لمَّا رَأَوا الإسلام قد ظهر وعمَّ ودوَّخ وأذلَّ جميع الأمم، ورأَوا أنه لا سبيل إلى مناصبته، رجعوا إلى الحيلة والمكيدة، فأظهروا الإسلام من غير رغبة فيه، وأخذوا أنفسهم بالتعبُّد والتقشف، فلمَّا حمد الناس طريقتهم ولَّدوا الأحاديث والمقالات، وفرَّقوا الناس فرقًا، وأكثر ذلك في الشيعة، كما يُحكى عن عبد الله بن سبأ اليهودي أنَّه أسلم واتصل بعلي — رضي الله عنه — وصار من شيعته، فلمَّا أُخبِر بقتْله وموته قال: كذبتم والله! لو جئتمونا بدماغه مصرورًا في سبعين صُرَّة ما صدَّقنا بموته، ولا يموت حتى يملأ الأرض عدلًا كما مُلئت جورًا، نجد ذلك في كتاب الله، فصارت مقالة يُعرَف أهلها بالسبئية، ويُقال: إنه قال: علي هو إله، وإنه يُحيي الموتى، وإنما غاب ولم يَمُت، وإذا كان عمر بن الخطاب — رضي الله عنه — يتشدَّدُ في الحديث ويتوعد عليه، والزَّمان زمان والصحابة متوافرون، والبِدَع لم تَظهَر، فما ظَنُّك بالحال في الأزمنة التي ذمَّها الرَّسُول، وقد كثرت البدع وقلَّت الأمانة؟
- العلة الثانية: نقل الحديث على المعنى دون اللفظ بعينه، فرُبَّما اتفق أن يسمع الراوي الحديث فيتصوَّر معناه في نفسه على غير الجهة التي أرادها، وإذا عبر عن ذلك المعنى بألفاظ أُخَر، كان قد حدَّث بخلاف ما سمع منْ غير قصد منه، وذلك أنَّ الكلام الواحد قد يحتمل معنيين وثلاثة، وقد يكون فيه اللفظة المشتركة، ومن ظريف الغلط الواقع في اشتراك الألفاظ ما روي أنَّ النبي ﷺ وهب عليًّا — رضي الله عنه — عمامة تُسمَّى «السحاب»، فاجتاز علي — رضي الله عنه — مُتعمِّمًا بها، فقال النبي ﷺ، لمَن كان معه: «أما رأيتم عليًّا في السحاب؟» أو نحو ذلك من اللفظ. فسمعه بعض المُتشيِّعين لعلي — رضي الله عنه — فظنَّ أنه يريد السحاب المعروف، فكان ذلك سببًا لاعتقاد الشيعة أنَّ عليًّا في السحاب إلى يومنا هذا.
- العلة الثالثة: الجهل بالإعراب ومباني كلام العرب ومجازاتها.
- العلة الرابعة: وهي التصحيف، وذلك أنَّ كثيرًا من
المُحدِّثين لا يضبطون الحروف، ولكنَّهم
يُرسلونها إرسالًا غير مُقيَّدة ولا
مُثقَّفة اتِّكالًا على الحفظ، فإذا غفل
المُحدِّث عمَّا كتب مُدَّة من زمانه، ثم
احتاج إلى قراءة ما كتب أو قرأه غيره،
فربما رَفَعَ المنصوبَ ونصَبَ المرفوع،
فانقلبت المعاني إلى أضدادها، ورُبَّما
تصحَّف له الحرف بحرف آخر لعدم الضبط فيه؛
فانعكس المعنى إلى نقيض المراد، كما
يحرِّف «أفْرَع» بمعنى تام الشعر إلى
«أقرع» بالقاف بمعنى لا شعر برأسه، وذلك
أن هذا الخط العربي شديد الاشتباه.
ومن ظريف ما وقع من التصحيف في كتاب مسلم ومسنده الصحيح: «نحن يوم القيامة على كذا انظر» وهذا شيء لا يتحصَّل له معنًى، وهكذا نجده في كثير من النُّسخ، وإنما هو: «نحنُ يوم القيامة على كوم»، والكوم جمع كومة وهو المكان المُشرِف، فصحَّفه بعض النَّقَلة فكتب: «نحن يوم القيامة على كذا»، فقرأ مَن قرأ فلم يَفهَم ما هو فكتب على طرَّة الكتاب: «انظر»، يأمر قارئ الكتاب بالنظر فيه وينبِّهه عليه، فوجده ثالث فظنه من الكتاب وألحقه بمتْنه.
- العلة الخامسة: هي إسقاط شيء من الحديث لا يتم المعنى إلا به.
- العلة السادسة: هي أن ينقل المحدِّثُ الحديث ويغفل عن نقل السبب الموجِب له فيعرض من ذلك إشكال في الحديث أو معارضة لحديث آخَر.
- العلة السابعة: هي أن يسمع المحدِّث بعض الحديث ويفوته سماع بعضه، كنحو ما رُوي من أنَّ عائشة — رضي الله عنها — أُخبرتْ أنَّ أبا هريرة حَدَّث أنَّ رسول الله ﷺ قال: «إن يكن الشؤم ففي ثَلاث: الدار والمرأة والفَرس»، وهذا الحديث معارض للأحاديث الكثيرة الناهية عن التطير، فغضبت عائشة وقالت: والله ما قال هذا رسول الله قط. إنَّما قال: «أهل الجاهلية يقولون: إن يكن الشؤم ففي ثلاث: الدار والمرأة والفرس.» فدخل أبو هريرة فسمع الحديث ولم يسمع أوله، وهذا غير منكَر أن يعرض؛ لأنَّ النبي ﷺ كان يذكر في مجلسه الأخبار حكاية ويتكلم بما لا يريد به أمرًا ولا نهيًا، ولا أن يجعله أصلًا في دينه ولا شيئًا يستسنُّ به، وذلك معلوم من فعله ومشهور من قوله.
- العلة الثامنة: نقل الحديث المصحَّف دون لقاء الشيوخ والسماع من الأئمة والاكتفاء بالأخذ من الصحف المسوَّدة والكتب التي لا يُعلَم صحَّتها من سقمها، وربما كانت مخالفة لرواية شيخه، فيصحِّف الحروف ويبدِّل الألفاظ، وينسب جميع ذلك إلى شيخه ظالمًا.
- العلة الأولى: فساد الإسناد، وهذه العلة أشهر
العلل عند الناس، حتى إنَّ كثيرًا منهم
يتوهم أنه إذا صح الإسناد صَحَّ الحديث،
وليس كذلك، وفساد الإسناد يكون من
الإرسال١١٥ وعدم الاتصال، ويكون من أنَّ
بعضَ الرُّواة صاحب بدعة أو مُتَّهم بكذب
وقلة ثقة، أو مشهورًا ببَلَه وغفلة، أو
يكون مُتعصِّبًا لبعض الصحابة منحرِفًا عن
بعضهم، فإنَّ مَن كان مشهورًا بالتعصُّب
ثم رَوَى حديثًا في تفضيل مَن يتعصب له،
ولم يَرِد من غير طريقه، لزم أن يُستراب
به.
- (٦)
الخلاف العارض من قِبَل الاجتهاد والقياس، وهو نوعان؛ أحدهما: الخلاف الواقع بين المنكِرين للاجتهاد والقياس والمثبِتين لهما، والثاني: خلاف يعرض بين أصحاب القياس في قياسهم.
- (٧)
الخلاف العارض من قِبَل النَّسْخ وهو يعرض بين مَن أنكر النسخ ومن أثبته، ويعرض بين القائلين بالنَّسخ من جهة اختلافهم في الأخبار: هل يجوز فيها النسخ كما يجوز في الأمر والنهي أم لا؟ واختلافهم في نسخ السنة للقرآن، واختلافهم في أشياء من القرآن والحديث، ذهب بعضهم إلى أنها نُسِخَتْ وبعضهم إلى أنها لم تُنسخ.
- (٨) الخلاف العارض من قِبَل الإباحة؛ أي من قِبَل أشياء أوْسَع الله — تعالى — فيها على عباده، وأباحها لهم على لسان نبيه، كاختلاف الناس في الأذان ووجوه القراءات السبع، ونحو ذلك.١١٦
وُجدت في العصر الذي نحن بصدده كلُّ هذه الخلافات أو أكثرها تبعًا لاستقرار المُلْك واتساعه، وتشعُّب حاجاته التشريعية، وخروج العرب من طور البداوة والأمية واتصالهم بأمم أعجمية لها حظ من العلم والمدنية، وكانت هذه الخلافات من بواعث النهضة الأولى لإنشاء العلوم العربية، وتدوين الحديث والتفسير على أنها أدوات لاستنباط الأحكام الشرعية من دلائلها، وللاجتهاد بالرأي الذي هو أصل من أصول الشرع.
(٦) نظرة إجمالية
وجملة القول أنَّ التشريع في عهد النبي ﷺ، كان يقوم كما بيَّنَّا آنفًا على الوحي من الكتاب والسُّنة، وعلى الرأي من النَّبي ومن أهل النظر، والاجتهاد من أصحابه بدون تدقيق في تحديد معنى الرأي وتفصيل وجوهه، وبدون تنازع ولا شقاق بينهم.
ومضى عهد النبي ﷺ، وجاء بعده عهد الخلفاء الراشدين من سنة ١١ﻫ/٦٣٢م إلى ٤٠ﻫ/٦٦٠م، وقد اتفق الصحابة في هذا العهد على استعمال القياس في الوقائع التي لا نص فيها من غير نكير من أحد منهم.
ولم يكن يُفْتى من الصحابة إلا حَمَلة القرآن الذين قرءوه وكتبوا وفهموا وجوه دلالته وعرفوا ناسخه ومنسوخه، وكانوا يُسمَّوْن «القُرَّاء» لذلك، وتمييزًا لهم عن سائر الصحابة بهذا الوصف الغريب في أمة أمية لا تقرأ ولا تكتب.
ولم يكن الرأي في هذا الدور قد تعَيَّن معناه ولا تخصص، قال المرحوم الشيخ محمد الخضري بك في كتاب «تاريخ التشريع الإسلامي»:
«بيَّنَّا أنهم كانوا (أي الصحابة) يعمدون إلى الفتوى بالرأي، إن لم يكن هناك عندهم في الحادثة نص من القرآن والسنة، والرأي عندهم إنَّما كان للعمل بما يَرَوْنه مصلحة وأقرب إلى روح التشريع الإسلامي من غير نظر إلى أن يكون هناك أصل معيَّن للحادثة أو لا يكون.
ألا ترى أنَّ عمر حتَّم على محمد بن مسلمة أن يمرَّ خليجُ جاره في أرضه لأنه ينفع الطرفين ولا يضر محمدًا في شيء، وأفتى بوقوع الطلاق الثلاث مرة واحدة؛ لأن الناس قد استعجلوا أمرًا كانت لهم فيه أناة، وحرَّم على مَن تزَّوج امرأة في عِدَّتها أن يتزوج بها مرة أُخرى بعد التفريق بينهما، زجرًا له، والنَّظر في المصالح يختلف باختلاف الناظرين؛ لذلك نجد بعض المُفتين في عصر عمر خالفوه فيما رأى، وهناك مسائل خالف فيها عمر أبا بكر وقضى بغير ما كان يقضي به، كما ذكرنا في ميراث الجد مع الأخوة. وفي التفضيل في العطاء، وكذلك هناك مسائل أفتى فيها عليٌّ بغير ما أفتى به غيره من إخوانه، فقد كان يُخرج الزَّكاة عن أموال اليتامى الذين في حجره، وكان غيره يقول ليس على مال اليتيم زكاة.
وقد بَيَّنا أنَّ الخلاف لم يكن في هذا العصر بالشيء الكثير؛ لأنَّ أقضيتهم كانت بقدْر ما ينزل من الحوادث، ولم تدوَّن هذه الأقضية في عصرهم، فقد انتهى ذلك الدور والفقه هو نصوص القرآن الكريم والسنة الطاهرة المُتَّبعة وما ارتضاه كبارُ الصحابة، مما رواه لهم غيرهم من الصحابة أو ما سمعوه هم، وقليل من الفتاوى صادرة عن آرائهم بعد الاجتهاد والبحث.
وفي كتاب «إعلام الموقعين» لابن قيِّم الجوزية: «وقال محمد بن جرير: لم يكن أحد له أصحاب معروفون حرَّروا فتياه ومذاهبه في الفقه غير ابن مسعود، وكان يَترك مذهبَه وقولَه لقول عمر، وكان لا يكاد يُخالفه في شيء من مذاهبه، ويرجع من قوله إلى قوله، وقال الشعبي كان عبد الله لا يقنُت، وقال لو قنت عمر لقنت عبد الله.
(٦-١) علم وفقه
ثم كان عصر بني أُمية من سنة ٤٠ﻫ/٦٦٠م إلى سنة ١٣٢ﻫ/٧٤٩م، وتكاثر الممارسون للقراءة والكتابة من العرب، ودخلت في دين الله أُمم ليست أُمِّية، فلم يعد لفظ القُرَّاء نعتًا غريبًا يصلح لتمييز أهل الفتوى ومَن يُؤخَذ عنهم الدين، هنالك استعمل لفظ «العلم» للدلالة على حفظ القرآن ورواية السنن والآثار، وسُمي أهل هذا الشأن «العلماء»، واستعمل لفظ الفقه للدلالة على استنباط الأحكام الشرعية بالنظر العقلي فيما لم يَرِد فيه نصُّ كتاب ولا سنة، وسُمي أهل هذا الشأن «الفقهاء»، فإذا جمع امرؤ بين الصفتين جمع له اللفظان أو ما يُرادفهما.
وفي «طبقات» ابن سعد: كان ابن عمر جيد الحديث غير جيد الفقه، وكان زيد بن ثابت فقيهًا في الدين وعالمًا بالسُّنَن.
(٦-٢) الخلاف في كتابه العلم وتخليده في الصحف
وقد كان كثير من الصَّحابة والتَّابعين يكره كتابة العلم، وتخليده في الصحف كعمر وابن عباس والشَّعبي والنَّخَعي وقتادة ومَن ذهب مذهبهم.
قال ابن عبد البر في «مختصر جامع بيان العلم»:
«من كَرِه كتاب العلم إنما كرهه لوجهين؛ أحدهما: ألَّا يُتَّخَذ مع القرآن كتاب يُضاهَى به، ولئلا يتَّكل الكاتب على ما يُكتب فلا يَحفَظ فيقلَّ الحفظ.»
وقال ابن عبد البر أيضًا في الكتاب نفسه:
ولمَّا مَضَى عهد الصحابة ما بين تسعين ومائة من الهجرة، وجاء عهد التابعين انتقل أمر الفتيا والعلم بالأحكام إلى الموالي إلا قليلًا.
جاء في كتاب «مناقب الإمام الأعظم» للبزَّار:
وجاء في كتاب «الخطط» للمقريزي:
(٦-٣) تدوين العلم
وفي شرح الزرقاني على «موطأ مالك»:
ويقول المرحوم محمد بن الخضري في كتاب «تاريخ التشريع الإسلامي»:
وجاء في كتاب «الإحكام» لابن حزم:
وقد بدت مخايل نهضة في التشريع الإسلامي منذ ذلك العهد، فحصل تدوين بعض السنن وبعض المسائل، ولم يصل إلينا من تلك المدوَّنات إلا صدًى.
(أ) أول تدوين السنن بالمعنى الحقيقي
أمَّا أول تدوين للسنن بالمعنى الحقيقي فيقع ما بين سنة ١٢٠ﻫ/٧٣٨م، سنة ١٥٠ﻫ/٧٦٧م.
ويقول ابن قتيبة إنَّ ابن شهاب الزهري المُتوفى سنة ١٢٤ﻫ/سنة ٧٤١-٧٤٢م هو أول مَن كتب الحديث.
وفي «إعلام الموقعين»:
وفي كتاب «كشف الظنون»:
وجاء في «خطط المقريزي»:
وقال الغزالي في «الإحياء»:
وفي كتاب «مُختصر جامع بيان العلم»:
ويقول جولدزيهر في مقاله عن كلمة «فقه» في دائرة المعارف الإسلامية:
«وينبغي ألَّا يُعطى كبير ثقة لما نُسب لهشام بن عروة، من أنه في يوم الحرة حُرِّقت لأبيه كتب فقه، ولا يمكن أن يُتصوَّر بحال أنه في ذلك العهد البعيد كانت توجد كتب بالمعنى الصحيح، وإنَّما هي صحائف مُتفرقة، وتُوفي عروة سنة ٩٤ﻫ/٧١٢م، وتلك السنة هي التي كانت تُسَمَّى سنة الفقهاء لكثرة من مات فيها من الفقهاء …»
لكن جولدزيهر يذكر في المقال الذي أشرنا إليه آنفًا ما يأتي:
«وقد اكتشف جِرِفيني بين المخطوطات القديمة في المكتبة الأمبروزية بميلانو الخاصة ببلاد العرب الجنوبية مختصرًا في الفقه اسمه «مجموعة زيد بن علي» المتوفى سنة ١٢٢ﻫ/٧٤٠م، وهو منسوب إلى مؤسس فرقة الزيدية من الشيعة، وعلى ذلك تكون هذه المجموعة أقدم مجموعة في الفقه الإسلامي.
وعلى كل حال ينبغي أن يوضع هذا الكتاب موضع الاعتبار فيما يتعلق بتاريخ التأليف في الفقه الإسلامي، وإذا صح أنَّه وصل إلينا من بطانة زيد بن علي، وَجَبَ أن نعترف بأنَّ أقدم ما وصل إلينا من المصنفات الفقهية هو من مؤلفات الشيعة الزيدية، على أنَّ البحث الذي أُثير لتعيين مركز هذا الباب بين المؤلفات الفقهية لم يكمل.»
وقد ذكر صاحب «الفهرست» عند الكلام على الزيدية ما نصه:
وعلاقة ابن عيينة والثوري بنهضة الفقه عند أهل السنة تجعل للبحث الذي يشير إليه جولدزيهر شأنًا خطيرًا.
وفي «رسائل الجاحظ» (كتاب فضل بني هاشم):
قال المرحوم الشيخ الخضري في كتاب «تاريخ التشريع الإسلامي»:
(ب) سبق الشيعة إلى تدوين الفقه
وعلى كل حال؛ فإنَّ ذلك لا يخلو من دلالة على أنَّ النزوع إلى تدوين الفقه كان أسرع إلى الشيعة من سائر المُسلمين، ومن المعقول أن يكون النزوع إلى تدوين الأحكام الشرعية أسرع إلى الشيعة؛ لأنَّ اعتقادهم العصمة في أئمتهم أو ما يُشبه العصمة كان حريًّا أن يسوقهم إلى الحرص على تدوين أقضيتهم وفتاواهم؛ ذلك إلى أن التشيُّع تأثَّر منذ بداية أمره بعناصر من غير العرب الأُمِّيين الذين كانوا مجبولين على الحفظ نافرين من الكتابة والتدوين، كما سبقت الإشارة إلى ذلك.
(٧) الرأي في العصر العباسي الأول من ١٣٢ﻫ/٧٤٩-٧٥٠م إلى ٢٣٢ﻫ/٨٤٦-٨٤٧م
جاء عهد العباسيين منذ ١٣٢ﻫ/٧٤٩-٧٥٠م، وشجَّع الخلفاء الحركة العلمية وأمدُّوها بسُلْطَانهم، فكان طبيعيًّا أنْ تنتعش العلوم الدينية في ظلهم، بل كانت حركة النهوض أسرع إلى العلوم الشرعية؛ لأنَّها كانت في دَوْر نمو طبيعي وتكامل.
وهناك سبب يذكره «جولدزيهر» في كتابه «عقيدة الإسلام وشرعه» «وهو أن حكومة الأُمويين كانت مُتهمة بأنها دنيوية، فحلَّت محلَّها دولة دينية سياستها سياسة ملية.
(٧-١) تطوُّر معنى كلمة الفقه في هذا العهد
وفي صدر العهد العباسي تمكَّن الاستنباط واستقرت أصوله، وجعل لفظ الفقه ينتهي بالتدريج إلى أن يكون غير مقصور على المعنى الأصلي؛ أي الاستنباط من الأدلة التي ليست نصوصًا، وأصبح المعنى الأول للفقه هو، كما يقول الآمدي في كتاب «الإحكام»:
أو هو العلم بالأحكام الشرعية عن أدلتها التفصيلية كما اختاره الشوكاني في كتاب «إرشاد الفحول» والمُراد من الأدلة التفصيلية ما كان نصًّا أو رأيًا، وسُمِّي أهل هذا الشأن بالفقهاء.
(٧-٢) أهل الرأي وأهل الحديث
ونشأ التأليف على هذا المعنى، وانقسم الفُقهاء انقسامًا ظاهرًا إلى فريقين؛ أصحاب الرأي والقياس وهم أهل العراق، وأهل الحديث وهم أهل الحجاز.
ومقدَّم جماعة أهل الرأي الذي استقر المذهب فيه وفي أصحابه هو أبو حنيفة النعمان بن ثابت المُتوفى سنة ١٥٠ﻫ/٧٦٧م المُعتبر أبًا لمذهب أهل العراق. أسَّسه وأعانَه على تأسيسه تلميذاه الجليلان أبو يوسف القاضي المتوفى سنة ١٨٢ﻫ/٧٩٨م ومحمد بن الحسن الشيباني المتوفى سنة ١٨٩ﻫ/٨٠٤م.
وبدأ النزاع بين الرأي والحديث، وظهور أنصار لكلٍّ منهما يسبق عهد أبي حنيفة، فقد كان في كبار التابعين أهل رأي وأهل حديث.
قال الدهلوي في كتابه «حجة الله البالغة»:
وقال المرحوم الخضري في كتاب «تاريخ التشريع الإسلامي» عند الكلام على الدور الثالث — التشريع في عهد صغار الصحابة، ومَن تلقَّى عنهم من التابعين — في مميزات هذا الدور: بدء النزاع بين الرأي والحديث، وظهور أنصار لكل من المبدأين:
قدمنا أن كبار الصحابة كانوا في العصر الأول يستندون في فتواهم أولًا إلى الكتاب ثم إلى السنة، فإن أعجزهم ذلك أفتَوْا بالرأي وهو القياس بأوسع معانيه، ولم يكونوا يميلون إلى التوسع في الأخذ بالرأي، ولمَّا جاء هذا الخلف — يريد صغار الصحابة ومَن تلقَّى عنهم من التابعين — وجد منهم مَن يقف عند الفتوى على الحديث ولا يتعدَّاه، يفتي في كل مسألة بما يجده من ذلك، وليست هناك روابط تربط المسائل بعضها ببعض، ووجد فريق آخر يرى أن الشريعة معقولة المعنى، ولها أصول يرجع إليها، فكانوا لا يخالفون الأولين في العمل بالكتاب والسنة ما وجدوا إليها سبيلًا، ولكنهم لاقتناعهم بمعقولية الشريعة وابتنائها على أصول محكمة فهمت من الكتاب والسنة، كانوا لا يحجمون عن الفتوى برأيهم فيما لم يجدوا فيه نصًّا.
وجد بذلك أهلُ حديث، وأهل رأي، الأوَّلون يقفون عند ظواهر النصوص بدون بحث في عِلَلها وقَلَّمَا يُفتون برأي، والآخرون يبحثون عن علل الأحكام وربط المسائل بعضها ببعض، ولا يُحجِمون عن الرَّأي إذا لم يكن عندهم أثر، وكان أكثر أهل الحجاز أهل حديث، وأكثرُ أهل العراق أهل رأي؛ ولذلك قال سعيد بن المسيب لربيعة (ابن أبي عبد الرحمن المتوفى سنة ١٣٦ﻫ/٧٥٣-٧٥٤م) لمَّا سأله عن علة الحكم: أعراقي أنت؟
(٧-٣) أهل الرأي من فقهاء العراق
وممَّن اشتُهر بالرأي والقياس من فُقهاء العراق إبراهيم بن يزيد النخعي الكوفي فقيه العراق، وهو شيخ حمَّاد بن أبي سُليمان المُتوفى سنة ١٢٠ﻫ/٧٣٧-٧٣٨ شيخ أبي حنيفة المُقدَّم من أهل العراق، وقد أَخَذَ إبراهيم الفقه عن خاله علقمة المتوفى سنة ٦٠ﻫ/٦٧٩-٦٨٠م أو ٧٠ﻫ/٦٨٩-٦٩٠م، وهو علقمة بن قيس النخعي الكوفي، وهو من متقدمي فقهاء التابعين من الطبقة الأولى منهم، وكان أنبل أصحاب ابن مسعود.
وكان إبراهيم يُعاصر عامر بن شُرَحْبِيل الشَّعْبي المتوفى سنة ١٠٤ﻫ/٧٣٢-٧٣٣م محدِّث الكوفة وعالمها، وكان الأمر بعيدًا بينهما، فإنَّ الشَّعبي كان صاحب حديث وأثر، إذا عرضت له الفتيا ولم يجد فيها نصًّا انقبض عن الفتوى، وكان يكره الرأي وأرأيت، وقال مرة: أرأيتم لو قُتل الأحنف وقُتل معه صغير، أكانت ديتهما سواء، أم يفضل الأحنف لعقله وحكمه؟ قالوا: بل سواء، قال: فليس القياس بشيء. فالفرق بين الرجلين أنَّ الشعبي ومَن على طريقته من رجال الحديث والأثر يقفون عند السنة لا يتعدَّوْنها، وينقبضون أن يقولوا بآرائهم فيما فيه سنة وما ليس فيه سنة، ولا يحكم العقل في شيء من ذلك، وليس هناك مصالح مُنضبطة اعتبرها الشارع في تشريعه يرجعون إليها عند الفُتيا، كأنَّه لا رابطة بين الأحكام الشرعية.
وقد تألم سعيد بن المسيِّب شيخ فقهاء أهل الحديث من ربيعة لمَّا سأله عن المعقول في دية الأصابع، وكان أهل المدينة يسمون ربيعة هذا بربيعة الرأي، لمَا يبحث في علل الشريعة، حتى قال ربيعة بن سوار القاضي: ما رأيتُ أحدًا أعلم من ربيعة بالرأي. فقيل له: ولا الحسن وابن سيرين؟ فقال: ولا الحسن وابن سيرين.
(أ) أبو حنيفة
ولئن كان حمَّاد بن أبي سُليمان الكوفي المُتوفى سنة ١٢٠ﻫ/٧٣٨م هو أوَّل مَن جمع حولَه طائفة من التلاميذ يعلِّمهم الفقه مع ميلٍ غالبٍ للرأي، وكان أبو حنيفة من هؤلاء التلاميذ — كما في مقال جولدزيهر — فإنَّ حمادًا لم يترك أثرًا علميًّا مكتوبًا.
ثم جاء الأئمة من بعده فاقتبسوا من علمه واقتدَوْا به، وقرنوا كتبهم على كتبه؛ ولهذا رُوينا بإسناد حسن عن الشافعي — رحمه الله — أنه قال في حديث طويل: العلماء عيال على أبي حنيفة في الفقه، ورُوي عن ابن سُريح أنَّه سمع رجلًا يتكلم في أبي حنيفة فقال له: يا هذا، مَهْ، فإن ثلاثة أرباع العلم مسلَّمة له بالإجماع، والرَّابع لا يُسلِّمه لهم. قال: وكيف ذلك؟ قال: لأن العلم سؤال وجواب، وهو أول مَن وضع الأسئلة، فهذا نصف العلم، ثم أَجَابَ عنها، فقال بعض: أصاب، وبعض: أخطأ، فإذا جعلنا صوابه بِخَطائه صار له نصف النصف الثاني، والربع الرابع ينازعهم فيه ولا يُسلِّمه لهم …
ويقول صاحب كتاب «المبسوط»: «وأوَّل من فرَّع فيه (يُريد الفقه) وألَّف وصنَّف سراج الأُمَّة أبو حنيفة، رحمة الله عليه، بتوفيق من الله — عزَّ وجلَّ — خصَّه به، واتفاق من أصحاب اجتمعوا له كأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم بن خنيس الأنصاري، — رحمه الله تعالى — المقدَّم في علم الأخبار، والحسن بن زياد اللؤلئي المقدَّم في السؤال والتفريع، وزُفَر بن الهُذيل — رحمه الله — ابن قيس بن سليم بن قيس بن مكمل بن ذهل بن ذؤيب بن جذيمة بن عمرو المقدم في القياس، ومحمد بن الحسن الشيباني — رحمه الله تعالى — المُقدم في الفِطْنة وعلم الإعراب والنحو والحساب.
(ب) أثر أهل الرأي في الفقه الإسلامي
وجُملة القول أنَّ مذهب أهل الرأي هو الذي رَتَّب أبواب الفقه، وأكثر من جمع مسائله في الأبواب المُختلفة، وكان الحديث قليلًا في العراق فاستكثروا من القياس ومهروا فيه، فلذلك قيل أهل الرأي. وفي شرح أصول البزدوي المُسَمَّى «كشف الأسرار» لعبد العزيز البُخاري: «سمَّوْهم أصحاب الرأي تعييرًا لهم بذلك، وإنما سمَّوْهم بذلك لإتقان معرفتهم بالحلال والحرام، واستخراجهم المعاني من النصوص لبناء الأحكام، ودقة نظرهم فيها، وكثرة تفريعهم عليها، وقد عجز عن ذلك عامة أهل زمانهم، فنسَبوا أنفسهم إلى الحديث، وأبا حنيفة وأصحابه إلى الرأي …
عن مالك بن أنس أنه كان يقول: اجتمعتُ مع أبي حنيفة وجلسنا أوقاتًا، وكلَّمتُه في مسائل كثيرة فما رأيتُ رجلًا أفقه منه، ولا أغوَصَ منه في معنًى وحجة، وروي أنه كان ينظر في كتب أبي حنيفة — رحمهما الله — وكان يتفقَّه بها.
وإنما كان أهل الحجاز أكثر رواية للحديث من أهل العراق؛ لأنَّ المدينة دار الهجرة ومأوى الصحابة، ومَن انتقل منهم إلى العراق كان شغلهم بالجهاد وغيره من شئون الدولة أكثر، ومذهب أهل العراق كان يقصد إلى جعل الفقه وافيًا بحاجة الدولة التشريعية، فكان همُّه أن يجعل الفقه فصولًا مرتبة، يسهل الرجوع إليها عند القضاء والاستفتاء، وكان همُّه أن يُكثِر التفاريع حتى تقوم بما يعرض ويتجدَّد من الحوادث.
أبو حنيفة: وذكر الإمام المرغيناني أنَّ رجلًا جاء إليه وقال: حلفتُ ألَّا أغتسل من هذه الجنابة، فأخذ الإمام بيده وانطلق به، حتى إذا مرَّ على قنطرة نهر فدفعه في الماء فانغمس في الماء ثم خرج، فقال قد طهرتَ وبررتَ؛ لأنَّ اليمين كان على منع نفسه عن فعل الغسل ولم يحصل منه فعل، وسأله رجل عمَّن حلف بطلاق امرأته إن اغتسل من جنابة اليوم، ثم حلف كذلك إنْ ترك صلاة من هذا اليوم، ثم حلف كذلك إنْ لم يطأها اليوم. قال: يُصلي العصر ثم يطؤها، ثم يؤخر الاغتسال إلى الغروب، فإذا غربت الشمس اغتسل وصلى المغرب ولا يحنث؛ لأنه لم يغتسل في اليوم ولم يترك الصلاة ولا الجماع، وبه قال: سُئل عن امرأة صعدت السلم، فقال زوجها: إن صَعِدْتِ فأنتِ طالق، وإن نزلتِ فكذلك، قال: يُرفع السلم وهي قائمة عليه ثم يوضع على الأرض، أو تُرفع المرأة وتوضع على الأرض، ولا يحنث لأنها ما نزلت ولا طلعت.
وسُئل أيضًا عن رجل قال لامرأته: إن لبستِ هذا الثوب فأنت كذا، وإن لم أجامعك فيه فأنت كذا، فتحيَّر علماء الكوفة، فقال يَلبسه الزوج ويُجامِعها فيه، وسئل أيضًا عمَّن حلف بالطلاق ألَّا يأكل البيض، فجاءتِ امرأته وفي كمِّها بيض ولم يعلم به؛ فقال: إن لم آكل ما في كمِّك فأنت كذا، قال: تحضن البيض تحت الدجاجة، فإذا خرج منه فرخ شواه إذا كبر وأكله، ولا يعتبر القشر والدم لأنهما لا يؤكلان، أو يطبخ الفرخ في قدر ويأكله ويأكل المرقة فلا يحنث في اليمين.
وبه عن أبي بكر محمد بن عبد الله أنَّ الموالي قدموا الكوفة وكان لواحد منهم امرأة فائقة الجمال، فتعلق بها رجل كوفي، وادَّعى أنَّها زوجته، واعترفتِ المرأة أيضًا بذلك، وادَّعى المولى المرأة وعجز عن البينة، فعُرضت القضية على الإمام فذهب إلى رَحْلِهم مع ابن أبي ليلى وجماعة، وأمر جماعة من النساء أن يَدخُلْنَ رَحْل المَوْلى، فلمَّا قرُبْنَ عوَتْ عليهِنَّ كلابه، فأمر المرأة أن تَدخُلَ وحدَها، فلما قرُبتْ بصبص الكلاب حولها، فقال الإمام: ظهر الحق، فانقادت المرأة للحق واعترفت.
(ﺟ) بين أهل الرأي وأهل الحديث
لا جرم كان مذهب أهل الرأي مذهب القضاء، وكان أئمته قضاة؛ كأبي يوسف ومحمد.
وكان أهل الحديث يَعِيبون أهل الرأي بكثرة مسائلهم وقِلَّة روايتهم.
وسُئل رقبة بن مصقلة عن أبي حنيفة، فقال:
ويَرْوِي ابن عبد البر في كتاب «الانتقاء»:
(٧-٤) أهل الحديث
أَمَّا أهل الحديث — أهل الحجاز — فإمَامُهم مالك بن أنس المتوفى سنة ١٧٩ﻫ/٧٩٥م، وكانت طريقة أهل الحجاز في الأسانيد أعلى من سواهم وأمْتَن في الصحة لاشتدادهم في شروط النقل من العدالة والضبط، وتجافيهم عن قبول المجهول الحال في ذلك.
(أ) مالك بن أنس وكتاب «المُوَطَّأ»
وكتب مالك كتاب «الموطَّأ»، أودعه أُصول الأحكام من الصحيح المُتَّفق عليه، ورتَّبه على أبواب الفقه.
في «حاشية» الزُّرقاني على «الموطأ»: وقال أبو عبد الله محمد بن إبراهيم الكتاني الأصفهاني، قلتُ لأبي حاتم الرازي: موطأ مالك، لِمَ سُمِّي الموطأ؟ فقال: شيء صنعه ووطَّأه للناس، حتى قيل موطأ مالك، كما قيل جامع سفيان، وروى أبو الحسن بن فهر عن علي بن أحمد الخلنجي، سمعتُ بعض المشايخ يقول: قال مالك: عرضتُ كتابي هذا على سبعين فقيهًا من فقهاء المدينة، فكُلُّهم واطَأَني عليه فسمَّيتُه المُوَطَّأ.
قال ابن فِهْر: لم يَسبِق مالكًا أحدٌ إلى هذه التسمية، فإن مَن ألَّف في زمانه بعضهم سَمَّى بالجامع، وبعضهم سَمَّى بالمصنف، وبعضهم بالمؤلَّف، ولفظة «الموطأ» بمعنى المُمَهَّد المُنَقَّح، وأخرج ابن عبد البر عن الفضل بن محمد بن حرب المدني، قال: أوَّل مَن عمل كتابًا بالمدينة على معنى الموطأ من ذِكْر ما اجتمع عليه أهل المدينة عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشُون، وعمل ذلك كلامًا بغير حديث، فأتى به مالكًا فنظر فيه، فقال: ما أحسن ما عمل! ولو كنتُ أنا الذي عملتُه ابتدأتُ بالآثار، ثم سددتُ ذلك بالكلام.
قال: ثم إن مالكًا عزم على تصنيف «الموطأ»، فصنَّفه فعمل مَن كان يومئذٍ بالمدينة من العلماء الموطَّآت، فقيل لمالك: شغلتَ نفسَك بعمل هذا الكتاب، وقد شَرَكَك فيه الناسُ وعَمِلوا أمثاله، فقال: ائتوني بِمَا فعلوا، فأُتي بذلك فنظر فيه، وقال: لتعلمُنَّ أنه لا يَرتَفِع إلَّا ما أُريد به وجه الله، قال: فكأنما أُلقِيَتْ تلك الكتب في الآبار، وما سمعتُ لشيء منها بعد ذلك بذكر، وروى أبو مصعب أنَّ أبا جعفر المنصور قال لمالك: ضَع للناس كتابًا أحملهم عليه، فكلَّمه مالك في ذلك فقال: ضَعْه؛ فما أحدٌ اليوم أعلم منك، فوضع «الموطأ»، فما فرغ منه حتى مات أبو جعفر. وفي رواية أنَّ المنصور قال: ضع هذا العلم ودوِّن كتابًا وجنِّب فيه شدائد ابن عمر، ورُخَص ابن عباس، وشواذَّ ابن مسعود، واقصد أوْسَطَ الأمور وما أجمع عليه الصحابة والأئمة. وفي رواية قال له: اجعل هذا العلم علمًا واحدًا فقال له: إنَّ أصحاب رسول الله — رضي الله عنهم — تفرَّقوا في البلاد، فأفتى كلٌّ في مصره بما رأى، فلأهل المدينة قول، ولأهل العراق قول تعدَّوْا فيه طَوْرَهم، فقال: أمَّا أهل العراق فلا أقبَل منهم صرفًا ولا عَدْلًا، وإنما العِلْم علم أهل المدينة، فضعْ للناس العلم. وفي رواية عن مالك: فقلتُ له: إنَّ أهل العراق لا يَرضَوْن علمنا، فقال أبو جعفر: يُضرَب عليه عامَّتهم بالسيف وتُقطع عليه ظهورهم بالسياط.
وقد يكون المنصور أراد أن يُحقِّق مشورة ابن المقفع بما كان يُحاول أن يحمل الناس على «الموطأ» لولا أن أدركه الأجل.
وفي كتاب «تبييض الصحيفة» أنَّ مالكًا في ترتيبه «للموطأ» مُتابِع لأبي حنيفة، ومن العسير إثبات ذلك، فإنَّ أبا حنيفة ومالكًا كانا مُتعاصرَيْن، وإن تأخَّر الأجَل بمالك، وأقدم ما حُفظ من المجاميع الفقهية المُؤلَّفة في عصور الفقه الأولى بين السُّنِّيِّين هو «موطأ» مالك.
في حاشية مُحَمَّد الزرقاني على «موطأ» مالك: «و«الموطأ» من أوائل ما صُنِّف، قال في مُقَدِّمة فتح الباري: اعلم أنَّ آثار النبي ﷺ، لم تكن في عصر أصحابه، وكبار تَبَعِهم مدوَّنة في الجوامع ولا مرتَّبة لأمرين؛ حدهما: أنهم كانوا في ابتداء الحال قد نُهوا عن ذلك كما في «مسلم»، خشية أن يختلط بعض ذلك بالقرآن. والثاني: سعة حفْظِهم وسيلان أذهانهم، ولأن أكثرهم كانوا لا يعرفون الكتابة، ثم حدث في أواخر عصر التابعين تدوين الآثار، وتبويب الأخبار لَمَّا انتشر العُلماء في الأمصار، وكثر الابتداع من الخوارج والروافض ومنكري الأقدار.
فأول مَن جمع ذلك الربيع بن صبيح، وسعيد بن أبي عَرُوبة، وغيرهما، فصنفوا كل باب على حِدَة، إلى أنْ قَامَ كبار أهل الطبقة الثالثة في منتصف القرن الثاني فدوَّنوا الأحكام؛ فصنف الإمام مالك «الموطأ» وتوخَّى فيه القويَّ من حديث أهل الحجاز ومزجه بأقوال الصحابة وفتاوى التابعين، وصنف ابن جريج بمكة، والأوزاعي بالشام، وسفيان الثوري بالكوفة، وحمَّاد بن سلمة بالبصرة، وهشيم بواسط، ومعمر باليمن، وابن المبارك بخراسان، وجرير بن عبد الحميد بالري، وكان هؤلاء في عصر واحد؛ فلا يُدرَى أيُّهم أسبق.
وقال أبو طالب المكي في «القوت»: «هذه الكتب حادثة بعد سنة عشرين أو ثلاثين ومائة، ويُقال إنَّ أول ما صُنِّف كتاب ابن جريج بمكة في الآثار وحروف من التفاسير، ثم كتاب مَعْمَر باليمن جمع فيه سُنَنًا مَنْثُورة مبوَّبة، ثم «الموطأ» بالمدينة، ثم ابن عُيَيْنة الجامع والتفسير في أحرف عن علم القرآن وفي الأحاديث المُتفرِّقة، وجامع سفيان الثوري صنَّفه أيضًا في هذه المدة، وقيل إنها صُنِّفت سنة ستين ومائة. انتهى.»
وكانت وجهة أهل الحجاز كوجهة أهل العراق تدوين الأحكام الشرعية مبوبة مُرَتَّبة، إلا أنَّ اعتماد أهل الحديث على السُّنة أكثر من اعتمادهم على الرأي، بل هم كانوا يعتبرون الرأي ضرورة لا يلجئون إليها إلا على كُرْه، وعلى غير اطمئنان.
وكان أهل الحديث يكرهون أن يتكاثر الناس بالمسائل كما يتكاثر أهل الدرهم بالدراهم، وكانوا يكرهون السؤال عمَّا لم يكن قالوا، ألَا ترى أنهم كانوا يَكرَهون في الجواب في مسائل الأحكام ما لم تنزل، فكيف بوضع الاستحسان والظن والتكلُّف ونظير ذلك واتخاذه دينًا؟
وفي «الانتقاء» قال الهيثم بن جميل: «شهدتُ مالك بن أنس سُئل عن ثمانٍ وأربعين مسألة، فقال في اثنتين وثلاثين منها: «لا أدري.»
ولم يكن أهل الحديث مع ذلك يُنكِرون اجتهاد الرأي والقياس على الأصول في النازلة تنزل عند عدم النصوص.»
(ب) الشافعي وأمر الفقه عند ظهوره
ظهر الشافعي والأمر على ما وصفناه من نهضة الدراسة الفقهية في بلاد الإسلام، نهضة ترمي إلى الوفاء بالحاجة العملية في دولة تُريد أن تجعل أحكام الشرع دستورًا لها.
ومن انقسام الفقهاء إلى أهل رأي يعتمدون في نهضتهم على سعة أفهامهم ونفاذ عقولهم وقوتهم في الجدل، وأهل حديث يعتمدون على السُّنَن والآثار ولا يأخذون من الرأي إلا بما تدعو إليه الضرورة.
وفي شرح عبد العزيز البُخاري على أصول البزدوي: أنَّه سأل واحدًا من أهل الحديث عن صبيَّيْن ارتضعا لبن شاة، هل تثبُت بينهما حُرْمة الرَّضاع؟ فأجاب بأنها ثبتت عملًا بقوله ﷺ: «كلُّ صبيين اجتمعا على ثديٍ واحد حرم أحدهما على الآخر.» فأخطأ لفوات الرأي، وهو أنه لم يتأمَّل أنَّ الحكم متعلِّق بالجزئية والبعضية، وذلك إنَّما يثبت بين الآدميين لا بين الشاة والآدمي.
هم ضعاف في الاستنباط وفي القدرة على دفع المطاعن والشبهات عن الحديث، وكان أهلُ الحديث يَعِيبون أهل الرأي بأنهم يأخذون في دينهم بالظن، وأنهم ليسوا للسنة أنصارًا، ولا هم فيها بمتثبِّتين، فإنَّ أصحاب أبي حنيفة يقدِّمون القياس الجلي على خَبَر الواحد، وهم يَقبَلون المراسيل والمجاهيل.
نشأة الشافعي
كانت الحال على ما ذكرنا حين جاء الشافعي، وقد تفقَّه الشافعي أوَّل ما تفقَّه على أهل الحديث من علماء مَكَّة: كمُسلم بن خالد الزِّنجي المُتوفى سنة ١٧٩ﻫ/٧٩٥م، وسُفيان بن عُيَيْنة المتوفى سنة ١٩٨ﻫ/٨١٣م، ثم ذهب إلى إمام أهل الحديث «مالك» بن أنس في المدينة؛ فلزمه ولقِيَ من عطفه وفضله ما جعله يُحِبُّه ويُجِلُّه.
على أنَّ نشأة الشافعي لم تكن من كل وجه نشأة أهل الحديث، ولا استعداده استعدادهم.
لقد توجَّه في أول أمره إلى درس اللغة والشعر والأدب وأخبار الناس، ولم يقطع صلته بهذه العلوم حين وصل حبْلَه بأهل الحديث الذين كانوا لا يَرَوْنها من العلم النافع.
وفي كتاب «طبقات الشافعية» للنووي من نسخة خطية في ترجمة محمد بن علي البجلي القيرواني: «قال البجلي: وقال لي الربيع: كان الشافعي إذا خلا في بيته كالسيل يهدر بأيام العرب.»
وفي كتاب «طبقات الشافعية» للقاضي شمس الدين الصَّفَدي في صفة الشافعي:
«وكان مُقتصدًا في لباسه، يتختَّم في يساره، وكان ذا معرفة تامَّة في الطب والرمي، وكان أشجع الناس وأفرسهم، يأخذ بأذنه وأذن الفرس والفرس يعدو.»
وفي كتاب «مفتاح السعادة» لطاش كبرى زاده:
ويَظهَر أنه لم يكن شديدًا في جرح الرجال كعادة أهل الحديث، وقد نقل صاحب «طبقات الشافعية الكبرى» حكاية تدلُّ على سخرية الشافعي من تزمُّت المُزَكِّين.
ولما ذهب الشافعي إلى العراق استرعى نظرَه تحامُلُ أهل الرَّأي على أستاذه مالك وعلى مذهبه، وكان أهل الرأي أقوى سندًا وأعظم جاهًا بما لهم من المكانة عند الخلفاء وبتولِّيهم شئون القضاء، ذلك إلى أنَّهم أوسع حيلة في الجدل من أهل الحديث وأنفذ بيانًا، ويُمثل حال الفريقين من هذه الناحية ما رُوِي عن إمامَيْ أهل الرأي وأهل الحديث: أبي حنيفة ومالك.
أمَّا أبو حنيفة فيَنقِل في شأنه الموفَّق المكي في كتاب «المناقب» عن معمر بن الحسن الهروي يقول: اجتمع أبو حنيفة ومحمد بن إسحاق المُتوفى سنة ١٥٠ﻫ/٧٦٧م عند أبي جعفر المنصور، وكان جَمَعَ العُلماء والفقهاء من أهل الكوفة والمدينة وسائر الأمصار لأمرٍ حزبه، وبعثَ إلى أبي حنيفة فنقله على البريد إلى بغداد، فلم يُخرِجْه من ذلك الأمر الذي وقع له إلا أبو حنيفة، فلمَّا قُضيت الحاجة على يدَيْه حبسه عند نفسه ليرفع القضاةُ والحكام الأمور إليه، فيكون هو الذي ينفِّذ الأمور ويفصِّل الأحكام، وحبس محمد بن إسحاق ليجمع لابنه المهدي حروب النبي ﷺ وغزواته، قال: فاجتمعا يومًا عنده وكان محمد بن إسحاق يحسده، لِمَا كان يرى من المنصور من تفضيله وتقديمه واستشارته فيما يَنُوبه وينوب رعيته وقضاته وحُكَّامه، وسأل أبا حنيفة عن مسألة أراد بها أن يُغِير المنصور عليه، فقال له: ما تقول يا أبا حنيفة في رجل حَلَف ألَّا يفعل كذا وكذا، أو أن يفعل كذا وكذا، ولم يَقُلْ: «إن شاء الله» موصولًا باليمين، وقال ذلك بعدما فرغ من يمينه وسكت. فقال أبو حنيفة: لا ينفعه الاستثناء إذا كان مقطوعًا من اليمين، وإنما ينفعه إذا كان موصولًا به.
فقال: وكيف لا ينفعه وقد قال جدُّ أمير المؤمنين الأكبر أبو العباس عبد الله بن عباس — رضي الله عنهما — إن استثناءه جائز ولو كان بعد سنة، واحتجَّ بقوله عزَّ وجلَّ: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ. فقال المنصور لمحمد بن إسحاق: أهكذا قال أبو العباس، صلوات الله عليه؟ قال: نعم، فالتفتَ إلي أبي حنيفة — رحمه الله — وقد علاه الغضب، فقال: تُخالِف أبا العباس؟ فقال أبو حنيفة: لم أُخالِف أبا العباس، ولقول أبي العباس عندي تأويل يخرج على الصحة، ولكنْ بَلَغَنِي أن النبي ﷺ قال: «مَن حلف على يمين واستثنى فلا حنث عليه.» وإنما وضعْناه إذا كان موصولًا باليمين، وهؤلاء لا يَرَوْن خلافتك؛ لهذا يحتجُّون بخَبَر أبي العباس.
كان هذا الحِجاج عن مذهب مالك في قدوم الشافعي إلى العِرَاق أوَّل أمره، وأقام الشافعي في العِرَاق زمنًا غير قصير، درس فيه كتب محمد بن الحسن وغيره من أهل الرَّأي فيما درس في العراق، ولازم محمد بن الحسن، وردَّ على بعض أقواله وآرائه مناصرة لأهل الحديث.
ولا شك أنَّ الشافعي في ذلك العهد كان متأثرًا بمذهب أهل الحديث، ومتأثرًا بملازمة عالِم دار الهجرة؛ فهو كان يُدافع عن مذهبه هو، مع دافع من حَمِيَّته لأستاذه وأنصار أستاذه من المستضعفين.
واختلف إلى دروس الشافعي جماعة من كبار أهل الرَّأي كأحمد بن حنبل وأبي ثور، فانتقلوا عن مذهب أهل الرأي إلى مذهبه.
مذهب الشافعي القديم ومذهبه الجديد
ويَظهَر من ذلك أنَّ مذهب الشافعي القديم الذي وضعه في بغداد كان في جُلِّ أمره ردًّا على مذهب أهل الرأي، وكان قريبًا إلى مذهب أهل الحديث.
ونقل ابن حجر عن البيهقي أنَّ كتاب «الحجة» الذي صنَّفه الشافعي ببغداد حمله عنه الزَّعفراني، وله كتب أخرى حملها غير الزَّعفراني، منها كتاب «السِّيَر» رواية أبي عبد الرحمن أحمد بن يحيى الشافعي. وفي كتاب «كشف الظنون»: ««الحجة» للإمام الشافعي، وهو مجلَّد ضخم ألَّفه بالعِراق، إذا أُطلِق القديم من مذهبه يُراد به هذا التصنيف، قاله الإسْنَوي في «المُبهمات»، ويُطلق على ما أفتى به هناك أيضًا.»
وفي مصر آزره تلاميذ مالك، حتى إذا وضع مذهبه الجديد وأخذ يُؤلف الكتب ردًّا على مالك تنكَّروا له وأصابتْه منهم مِحَن.
وفي كتاب طبقات الشافعية للنووي من نسخة خطية بدار الكتب المصرية في ترجمة يوسف بن يحيى أبي يعقوب البويطي:
«قال أبو بكر الصيرفي في كتابه «شرح اختلاف الشافعي ومالك، رضي الله عنهما»: عن البويطي: قَدِم علينا الشافعي مصر فأكثر الردَّ على مالك، فاتهمتُه وبقيتُ مُتحيِّرًا، فكنتُ أُكثِر الصلاة والدعاء رجاءَ أن يُرِيَني الله مع أيِّهما الحق، فأُريتُ في منامي أنَّ الحق مع الشافعي، فذهب ما كنتُ أجده.
فالبويطي مشهور أنه كان يرى مذهب مالك قبل أن يقول بقول الشافعي، وذكر فيه أيضًا أنَّ المُزَني كان يرى أهل العراق.»
قال الرَّبيعُ: «سمعتُ الشَّافعي يقول: قدمتُ مصر لا أعرف أنَّ مالكًا يُخالِف من أحاديثه إلا ستة عشر حديثًا، فنظرتُ فإذا هو يقول بالأصل ويَدَع الفرع، ويقول بالفرع ويَدَع الأصل.
ثم ذكر الشافعي في ردِّه على مالك المسائل التي ترك الأخبار الصحيحة فيها بقول واحد من الصحابة أو بقول واحد من التابعين أو لرأي نفسه.
ثم ذكر ما ترك فيه أقاويل الصحابة لرأي بعض التابعين أو لرأي نفسه، وذلك أنه يدَّعي الإجماع، وهو مختلف فيه.
وفي كتاب «مغيث الخلق في اختيار الأحق» تصنيف إِمَام الحرمين الجويني من نُسْخَة خَطِّية بدار الكتب المصرية:
«فمالك أَفْرَطَ في مراعاة المصالح المُطلَقة المُرسَلة غير المُستَنِدة إلى شواهد الشرع، وأبو حنيفة قصر نظره على الجزئيات والفروع والتفاصيل من غير مُراعاة القواعد والأصول، والشافعي — رضي الله عنه — جمع بين القواعد والفروع، فكان مذهبه أقصدَ المذاهب، ومطلبه أسدَّ المطالب.»
مذهب الشافعي الجديد
ومَذهب الشَّافعي الجديد الذي وضعه في مصر هو الذي يَدُلُّ على شخصيته وينم على عبقريته، ويُبرِز استقلاله.
وفي كتاب «مغيث الخلق»: «للشافعي مذهبان: مذهبٌ قديم ومذهب جديد ناسخ للقديم، فلا يجوز أن يُفتَى ويُؤخَذ بالقديم مع إمكان الأخذ بالجديد؛ لأنَّ القديم صار منسوخًا، ولأنَّ المُتأخِّر يرفع المُتقدِّم لا محالة كالمنسوخ لا يَبقَى مع الناسخ، فعلى هذا لا تردُّد، فلم يبقَ للشافعي تردُّد إلا في ثماني عشر مسألة، إذ لم يفرغ للتخريج على أصله ويُحكِمه ويُتمُّه؛ لأنه اخترمتْه المَنِيَّة في ريعان شبابه.»
قال البيهقي: وبعض كتبه الجديدة لم يُعِدْ تصنيفها وهي: الصيام، والحدود، والرهن الصغير، والإجارة، والجنائز. فإنه أَمَر بقراءة هذه الكتب عليه في الجديد وأمر بتحريق ما يُغاير اجتهاده، قال: ورُبَّما تركتُه اكتفاءً بما نبَّه عليه من رجوعه عنه في مواضع أُخرى. قلتُ: وهذه الحكاية مُفيدة ترفع كثيرًا من الإشكال الواقع بسبب مسائل اشتُهر عن الشافعي الرُّجوع عنها، وهي موجودة في بعض هذه الكتب.
ثم نَقَل ابن حجر أنَّ لأصحاب الشافعي من أهل الحجاز والعراق عنه مسائل وزيادات، قال: وهذا يَدُلُّ على أنَّ كتبًا أخرى حملها عنه هؤلاء؛ لأن هذه المسائل ليست في الكتب المقدَّم ذكرها.
على أني رأيتُ في كتاب «طبقات الشافعية» للنَّووي، من نُسخة خطية بدار الكتب المصرية، عند ترجمة محمد بن يعقوب بن يوسف أبي العباس السناني النيسابوري المعروف بالأصم المولود سنة ٢٤٩ﻫ/٨٦٣م: «و«مسند الشافعي» المعروف ليس من جَمْع الشافعي وتأليفه، وإنما جمعه من سماعات الأصم بعض أصحابه؛ ولذلك لا يَستوعِب حديث الشافعي؛ فإنه مقصور على ما كان عند الأصم من حديثه.»
توجيه الشافعي للدراسات الفقهية توجيهًا جديدًا
كان اتجاه المَذاهب الفِقْهية قبل الشافعي إلى جمع المسائل وترتيبها ورَدِّها إلى أدلتها التفصيلية، خصوصًا عندما تكون دلائلها نصوصًا.
وأهل الحديث لكثرة اعتمادهم على النص كانوا أكثر تعرُّضًا لذكر الدلائل من أهل الرأي.
فلما جاء الشافعي بمذهبه الجديد كان قد درس المذهبين ولاحظ ما فيهما من نقص بدا له أن يُكمله، وأخذ ينقض بعض التعريفات من ناحية خروجها عن متابعة نظام مُتَّحد في طريقة الاستنباط.
وذلك يُشعِر باتجاهه في الفقه اتجاهًا جديدًا هو اتجاه العقل العلمي الذي لا يَكَادُ يُعنَى بالجزئيات والفروع.
وليس هذا النَّوع من التفكير الهادئ في ظلمة الليل كتفكير مَن يهتم بالمسائل الجزئية والتفاريع، بل يُعنَى بضبط الاستدلالات التفصيلية بأصول تجمعها، وذلك هو النَّظر الفلسفي.
قال ابن سينا في منطق الشفاء: «إنَّا لا نشتغل بالنَّظر في الألفاظ الجزئية ومعانيها، فإنها غير مُتناهية فتُحصَر، ولا، لو كانت مُتناهية، كان علمنا بها من حيث هي جزئية يُفيدنا كمالًا حكميًّا أو يبلغنا غاية حكمية.»
وقد حاول الشافعي أن يجمع أصول الاستنباط الفقهي وقواعدها علمًا ممتازًا، وأن يجعل الفقه تطبيقًا لقواعد هذا العلم، وبهذا يمتاز مذهب الشافعي من مذهب أهل العراق وأهل الحجاز.
قال الغزالي في «المستصفى»: «بيانُ حَدِّ أصول الفقه: اعلم أنك لا تفهم حدَّ أصول الفقه ما لم تعرف أولًا معنى الفقه، والفقه عبارة عن العلم والفهم في أصل الوضع، يُقال: فلانٌ فقيه الخير والشر؛ أي يعلمه ويفهمه، ولكن صار بعُرْف العلماء عبارة عن العلم بالأحكام الشرعية الثابتة لأفعال المكلفين خاصة، حتى لا يُطلق بحكم العادة اسم الفقيه على متكلم، وفلسفي، ونحوي، ومحدِّث، ومفسِّر.
بل يختص بالعُلماء بالأحكام الشرعية الثابتة للأفعال الإنسانية كالوجود والحظر والإباحة والنَّدب والكراهة، وكون العقد صحيحًا وفاسدًا وباطلًا، وكون العبادة قضاء وأداء وأمثاله، ولا يَخفَى عليك أنَّ للأفعال أحكامًا عقلية؛ أي مُدرَكة بالعقل، ككونها أعراضًا وقائمة بالمحل ومخالِفة للجوهر، وكونها أكوانًا حركة وسكونًا وأمثالها، والعارف بذلك يُسَمَّى مُتكلمًا لا فقيهًا، وأمَّا أحكامها من حيث إنها واجبة ومحظورة ومُباحة ومكروهة ومندوب إليها، فإنما يتولَّى الفقيه بيانها، فإذا فهمتَ هذا فافهم أنَّ أصول الفقه عبارة عن أدلة هذه الأحكام، وعن معرفة وجوه دلالتها على الأحكام من حيث الجملة، لا من حيث التفصيل.
الشافعي أول مَن وَضَع مصنَّفًا في العلوم الدينية على منهج علمي
إذا كان الشافعي هو أول مَن وجَّه الدراسات الفقهية إلى ناحية علمية؛ فهو أيضًا مَن وضع مصنَّفًا في العلوم الدينية الإسلامية على منهج علمي بتصنيفه في أصول الفقه.
الشافعي واضع علم الأصول
ثم قال الرازي: «واعلم أنَّ نسبة الشافعي إلى علم الأصول كنسبة أرسططاليس إلى علم المنطق، وكنِسْبَة الخليل بن أحمد إلى علم العروض، وذلك أنَّ الناس كانوا قبل أرسططاليس يَسْتَدلون ويعترضون بمجرد طباعهم السليمة، لكن ما كان عندهم قانون مخلص في كيفية ترتيب الحدود والبراهين، فلا جرم كانت كلماتهم مشوَّشة ومضطربة، فإنَّ مُجَرَّد الطبع إذا لم يستَعِن بالقانون الكلي قلَّما أفلح، فَلمَّا رأى أرسططاليس ذلك اعتزل عن الناس مدة مديدة، واستخرج لهم علم المنطق، ووضع للخلق بسببه قانونًا كليًّا يُرجَع إليه في معرفة الحدود والبراهين.
وفي كتاب «مغيث الخلق في اختيار الأحق» لإمام الحرمين الجويني: «ولا يَخفَى على المسترشِد المستبصِر، وعلى الشادي والمبتدي، وعلى الطغام والعوام رجحان نظر الشافعي في فن الأصول، فإنَّه أول مَن ابتدع ترتيب الأصول ومهَّد الأدلة ورتَّبها وبيَّنها وصنَّف فيها رسالته.»
ويقول بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي المتوفى سنة ٧٩٤ﻫ/١٢٩١-١٢٩٢م في كتابه «أصول الفقه»، المُسَمَّى بالبحر المحيط: «فصل: الشافعي أول مَن صنف في أصول الفقه، صنَّف فيه كتاب «الرِّسالة» وكتاب أحكام القرآن واختلاف الحديث، وإبطال الاستحسان، وكتاب جماع العلم، وكتاب القياس الذي ذكر فيه تضليل المُعتزِلة ورجوعه عن قبول شهادتهم.
وفي موضع آخر من هذه النسخة عند الكلام على منْع الشافعي نَسْخَ السنة للكتاب: «كيف وهو الذي مهَّد هذا الفن ورتَّبه وأول مَن أخرجه؟»
ويقول ابن خلدون في المُقَدِّمة: «وكان أول مَن كتب فيه — أي في علم أصول الفقه — الشافعي، أملَى فيه رسالته المشهورة، تكلَّم فيها في الأوامر والنواهي، والبيان والخبر، والنَّسْخ وحكم العِلَّة المنصوصة من القياس.
وفي كتاب «طبقات الفقهاء» للقاضي شمس الدين العُثماني الصفدي: «ثم خرج الشافعي إلى مصر سنة تسع وتسعين ومائة، وصنف بها كتبه الجديدة، وسار ذكره في البلدان وقصده الناس من الشام واليمن والعراق وغيرها من النواحي للأخذ عنه وسماع كتبه، وابتكر الشافعي ما لم يُسبَق إليه من ذلك أصول الفقه، فإنه أول مَن صنَّف أصول الفقه بلا خلاف.
الباحثون في هذا الشأن من الغربيين يَرَوْن الشافعي واضعًا لأصول الفقه، يقول جولدزيهر في مقالته في كلمة «فقه» في دائرة المعارف الإسلامية: «وأظهر مزايا محمد بن إدريس الشَّافعي أنه وضع نظام الاستنباط الشرعي في أصول الفقه، وحَدَّد مجال كل أصل من هذه الأصول، وقد ابتدع في «رسالته» نظامًا للقياس العقلي الذي ينبغي الرجوع إليه في التشريع من غير إخلال بما للكتاب والسنة من الشأن المُقدَّم، رَتَّب الاستنباط من هذه الأصول، ووضع القواعد لاستعمالها بعد ما كان جزافًا.»
على أنَّ القول بأنَّ أبا يوسف هو أوَّل مَن تكلم في أصول الفقه علمًا ذا قواعد عامة يرجع إليها كل مستنبِط لحكم شرعي، هذا وقد نقلنا آنفًا عن ابن عابدين أنَّ أبا حنيفة كان إذا وقعت واقعة شاور أصحابه شهورًا أو أكثر حتى يستقرَّ آخِر الأقوال فيُثبِته أبو يوسف حتى أثبت الأصول على هذا المنهاج.
وكل ذلك يدلُّ على أن أبا يوسف هو أول مَن أثبت الأصول التي هي فتاوى اتفق عليها الإمام وأصحابه، وأنَّ مُحمدًا جمع من كتب السنة مسائل الأصول، وتُسمَّى ظاهر الرواية أيضًا، وهي — كما يقول ابن عابدين في الرِّسالة المذكورة — مسائل رُويت عن أصحاب المذهب، وهم: أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد، رحمهم الله تعالى، ويُقال لهم العلماء الثلاثة.»
وقد لا يكون بعيدًا عن غرض الشافعي في وضع أُصول الفقه أن يُقرِّب الشُّقَّة بين أهل الرأي وأهل الحديث، ويمهِّد الوحدة التي دعا إليها الإسلام.
وفي كتاب «تقويم النظر» لمحمد بن علي المعروف بابن الدَّهَّان، من نسخة خطية بدار الكتب الأهلية بباريس:
«وقيل لبعض القُصَّاص: ما السر في قِصَر عُمْر الشافعي؟ فقال حتى لا يزالوا مختلفين، ولو طال عمره رفع الخلاف.»
تحليل الرسالة
وصف الشافعي في خطبة «الرسالة» حال الناس عند بعثة النبي من الجهة الدينية، فبيَّن أنهم كانوا صنفين: «أهل الكتاب بدَّلوا أحكامه وكفروا بالله وافتعلوا كذبًا صاغوه بألسنتهم، فخلطوه بحق الله الذي أنزل إليهم.
وصنف كفروا بالله فابتدعوا ما لم يأذن به الله، ونصبوا بأيديهم حجارة وخشبًا وصورًا استحسنوها، ونبزوا أسماء افتعلوها ودَعَوْها آلهة عبدوها، أو عبدوا ما استحسنوا من حوت ودابة ونجم وغار وغيره.»
ثم ذكر الشافعي أنَّ الله أنقذ الناس بمحمد من هذا الضلال، وأنزل عليه كتابه فقال: وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ منْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا منْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ منْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ فنقلهم به من الكفر والعمى إلى الضياء والهدى.
وتكَلَّم على منزلة القرآن من الدين واشتماله على ما قد أحلَّ الله وما حرَّم، وما تَعَبَّد الناس به، وما أعدَّ لأهل طاعته من الثواب، وما أوجبَ لأهل معصيته من العقاب، ووَعَظَهم بالإخبار عمَّن كان قبلهم.
ورتَّب الشافعي على ذلك ما يحق على طلبة العلم بالدين من بلوغ غاية جهدهم في الاستكثار من علم القرآن وإخلاص النية لله، لاستدراك علمه نصًّا واستنباطًا، فإن مَن أدرك علم أحكام الله — عزَّ وجلَّ — في كتابه نصًّا واستدلالًا ووفَّقه الله — تعالى — للقول والعمل بما علم منه، فاز بالفضيلة في دينه ودنياه، وانتفت عنه الريبة، ونورت في قلبه الحكمة، واستوجب في الدين موضع الإمامة.
ثم ختم الشافعي خطبة «الرسالة» بقوله: «فليست بأحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله — جلَّ ثناؤه — الدليل على سبيل الهدى فيها، قال الله تعالى: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ من الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيد، وقال: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ، وقال: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ، وقال: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا منْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ منْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللهِ … الآية.»
ولما كان قد وضح من هذه المُقَدِّمة أنَّ القرآن هو تبيان لكل شئون الدين قال تعالى: هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ، وأراد به القرآن، وإنه الدليل على سبيل الهدى في كل نازلة تنزل بأي أحد من أهل دين الله، فإنَّ الشافعي عقد بعد هذه المُقدمة بابًا عنوانه: «باب كيف البيان»، بدأه بتعريف البيان بأنه اسم جامع لمعانٍ مجتمعة الأصول متشعِّبة الفروع، فأقل ما في تلك المعاني المجتمعة المُتشعِّبة أنَّها بيان لمَن خُوطب بها ممَّن نزل القرآن بلسانه، مُتقارِبة الاستواء عنده، وإن كان بعضها أشدَّ تأكيد بيان من بعض، ومختلفة عند مَن يَجهَل لسان العرب.
عَرَض مَن جاء بعد الشافعي لتحديد معنى البيان على وجه أوضح، قال الغزالي في «المُستصفى»: «مسألة في حد البيان: اعلم أنَّ البيان عبارة عن أمر يتعلق بالتعريف والإعلام، وإنما يحصل الإعلام بدليل، والدليل محصل للعلم، فها هنا ثلاثة أمور: إعلام، ودليل به الإعلام، وعلم يحصل من الدليل. من الناس مَن جعله عبارة عن التعريف فقال في حدِّه: إنه إخراج الشيء من حيِّز الإشكال إلى حيِّز التجلِّي، ومنهم مَن جعله عبارة عمَّا تحصل به المعرفة فيما يحتاج إلى المعرفة، أعني الأمور التي ليست ضرورية، وهو الدليل، فقال في حدِّه: إنه الدليل الموصِّل بصحيح النظر فيه إلى العلم بما هو دليل عليه، وهو اختيار القاضي، ومنهم مَن جعله عبارة عن نفس العلم وهو تبيين الشيء، فكأن البيان عنده والتبيين واحد، ولا حَجْر في إطلاق اسم البيان على كل واحد من هذه الأقسام الثلاثة، إلا أنَّ الأقرب إلى اللغة وإلى التداول بين أهل العلم ما ذكره القاضي، إذ يُقال لمَن دلَّ غيره على الشيء: بيَّنه له — وهذا بيان منك، لكنه لم يتبين، وقال تعالى: هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وأراد به القرآن.
ويوشك أن يكون مذهب القاضي الباقلاني هو أقرب المذاهب إلى رأي الشافعي.
ثم جعل الشافعي ما أبان الله لخلقه في كتابه ممَّا تعبَّدهم به من وجوه خمسة، وقد سمَّاها المتأخِّرون مراتب البيان للأحكام؛ أولها: ما أبان الله في كتابه نصًّا جليًّا لا يتطرق إليه التأويل فلم يَحتَجْ مع التنزيل فيه إلى غيره، وسمَّاه المتأخِّرون بيان التأكيد. ثانيها: ما أبانه القرآن بنص يحتمل أوجُهًا، فدلَّتِ السنة على تعيين المراد به من هذه الأوجه، كما يؤخذ من كلام الشافعي، وقد أسقط الشافعي هذا الثاني في مواضع من «الرسالة» حصل فيها جملة وجوه البيان، كما في الفصل الذي عقده للبيان الرابع.
وذكر الشوكاني وغيره من الأصوليين معنًى آخَر لهذا البيان. قال الشوكاني: «الثاني النص الذي ينفرد بإدراكه العلماء، كالواو وإلى في آية الوضوء، وأنَّ هذين الحرفين مقتضيان لمعانٍ معلومة عند أهل اللسان.»
وحمْل كلام الشافعي على هذا بعيد.
ثالثها: ما أتى الكتاب على غاية البيان في فرضه، وبيَّن رسول الله كيف فَرَضَه وعلى مَن فرضه، ومتى يزول فرضه ويثبت.
رابعًا: ما بيَّن الرسول ممَّا ليس لله فيه نص حكم، وقد فرض الله في كتابه طاعة رسوله والانتهاء إلى حكمه، فمَن قَبِل عن رسول الله فبفرض الله قَبِل.
خامسها: ما فرض الله على خلقه الاجتهاد في طلبه وهو القياس، «والقياس ما طُلب بالدلائل على موافقة الخبر المتقدِّم من الكتاب أو السنة»، وقد سمَّى المتأخِّرون هذا البيان ببيان الإشارة. قال الشوكاني: «الخامس بيان الإشارة وهو القياس المستنبَط من الكتاب والسنة، مثل الألفاظ التي استُنبِطت منها المعاني وقِيس عليها غيرها؛ لأنَّ الأصل إذا استُنبط منه معنًى وأُلحق به غيره لم يُقَل: لم يتناوله النص، بل تناوله؛ لأن النبي ﷺ، أشار إليه بالتنبيه كإلحاق المطعومات في باب الربويات بالأربعة المنصوص عليها؛ لأنَّ حقيقة القياس بيان المراد بالنص، وقد أمر الله — سبحانه وتعالى — أهل التكليف بالاعتبار والاستنباط والاجتهاد.»
وبعد أن أجمل الشافعي مراتب البيان الخمس أخذ يوضحها ويُبيِّن لها الأمثلة والشواهد في أبواب خمسة.
وبعد أن أتم الكلام على البيان الخامس قال: «وهذا الصنف من العلم (يعني الاجتهاد) دليل على ما وصفتُ قبلَ هذا، على أن ليس لأحد أبدًا أن يقول في شيء حلَّ ولا حرُم إلا من جهة العلم، وجهةُ العلم الخبرُ في الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس.»
وهذا يُفِيد أن الشافعي يرى الإجماع من مراتب البيان، وإن لم يذكره مستقلًّا، قال الشوكاني: «ذكر هذه المراتب الخمس للبيان الشافعي في أول «الرسالة»، وقد اعترض عليه قوم وقالوا: قد أهمل قسمين، وهما: الإجماع، وقول المُجتهد إذا انقرض عصره وانتشر من غير نكير، قال الزركشي في «البحر»: إنما أهملهما الشافعي لأنَّ كل واحد منهما إنما يُتوَصَّل إليه بأحد الأقسام الخمسة التي ذكرها الشافعي؛ لأنَّ الإجماع لا يصدر إلا عن دليل، فإن كان نصًّا فهو من الأقسام الأُوَل، وإن كان استنباطًا فهو الخامس.»
وما قاله الزركشي في «البَحر» مُتعلِّقًا بالإجماع بَيِّنٌ من كلام الشافعي نفسه في «الرسالة» في باب الإجماع.
وذكر الشافعي في الباب الخامس أنَّ القُرآن الذي هو الأصل لكل أقسام البيان عربي، وأنه يُخاطِب العرب بلسانها «على ما تَعرِف من معانيها، وكان ممَّا تَعرِف من معانيها اتساع لسانها، وأنَّ فِطْرَته أن يُخاطب بالشيء منه عامًّا ظاهرًا يُراد به العام الظاهر، ويُستغنى بأول هذا منه عن آخره، وعامًّا ظاهرًا يُراد به العام ويدخله الخاص؛ فيُستَدَل على هذا ببعض ما خُوطب به فيه، وعامًّا ظاهرًا يُراد به الخاص، وظاهرًا يُعرَف في سياقه أنه يُراد به غير ظاهره، وكل هذا موجود علمه في أول الكلام أو وسطه أو آخره، وتبتدئ الشيء من كلامها يبين أوَّل لفظها فيه عن آخره، وتبتدئ الشيء من كلامها يبين آخر لفظها فيه عن أوله، وتكلم بالشيء تعرفه بالمعنى دون الإيضاح باللفظ كما تعرف الإشارة، ثم يكون هذا عندها من أعلى كلامها لانفراد أهل علمها به دون أهل جهالتها، وتسمي الشيء الواحد بالأسماء الكثيرة، وتُسمي بالاسم الواحد المعاني الكثيرة، وكانت هذه الوجوه التي وصفتُ اجتماعها في معرفة أهل العلم منها به، وإن اختلفت أسباب معرفتها، معرفة واضحة عندها ومُستنكرًا عند غيرها ممَّن جهل هذا من لسانها، وبلسانها نزل الكتاب وجاءت السنة.»
وأخذ الشافعي يشرح وجود هذه الوجوه في القرآن في أبواب مرتَّبة كما يأتي: باب ما نزل من الكتاب عامًّا يُراد به العامُّ ويدخله الخصوص. باب بيان ما نزل من القرآن عام الظاهر، وهو يجمع العام والخصوص. باب ما نزل من الكتاب عام الظاهر يراد به كله الخاصٌ. باب الصنف الذي يُبَيِّن سياقه معناه. باب الصنف الذي يدل لفظه على باطنه دون ظاهره. باب ما نزل عامًّا فدلت السنة خاصة على أنه يراد به الخاص.
ولما كان في هذا الباب الأخير ما يدلُّ على أن السنة تُخصِّص الكتاب؛ فقد عرض الشافعي للسنة وحجِّيَّتها ومنزلتها من الدين، فوضع لذلك الأبواب الآتية: باب بيان فرض الله — تعالى — في كتابه اتباع سنة نبيه، ﷺ. باب فرض الله طاعة رسوله ﷺ، مقرونة بطاعة الله — جلَّ ذكرُه — ومذكورة وحدها. باب ما أمر الله به من طاعة رسوله ﷺ. باب ما أبان الله لخلقه من فرضه على رسوله اتباع ما أوحى إليه، وما شهد له به من اتباع ما أمر به ومن هُداه، وأنه هادٍ لمَن اتبعه.
وفي هذا الباب كَرَّر الشَّافعي القول بأنَّ رَسول الله سنَّ مع كتاب الله، وبيَّن فيما ليس فيه بعينه نص كتاب، وأخذ يستدلُّ على ذلك ويحاجُّ المُخالفين في أنَّ النبي يسنُّ فيما ليس فيه نص كتاب، ثم قال: «وسأذكر ممَّا وصفنا من السنة مع كتاب الله، والسنة فيما ليس فيه نص كتاب، بعض ما يدل على جملة ما وصفنا منه، إن شاء الله تعالى، فأوَّل ما نبدأ به من ذكر سنة رسول الله ﷺ، مع كتاب الله ذكر الاستدلال بسُنَّته على النَّاسخ والمَنسوخ من كتاب الله، عزَّ وجلَّ، ثم ذكر الفرائض الجمل التي أبان رسولُ الله ﷺ عن الله كيف هي ومواقيتها، ثم ذَكر العام من أمر الله — تعالى — الذي أراد به العامَّ، والعامَّ الذي أراد به الخاص، ثم ذكر سنته فيما ليس فيه نصُّ كتاب.»
وبعدُ وَضَع فصلًا عنوانه: «ابتداء الناسخ والمَنسوخ» ذكر فيه حكمة النسخ التي هي التخفيف والتوسعة.
وذكر أنَّ الكتاب إنما يُنسَخ بالكتاب، والسنة إنما تُنسَخ بالسنة، ويلي ذلك الفصول الآتية: الناسخ والمنسوخ الذي يدلُّ الكتاب على بعضه والسنة على بعضه. باب فرض الصلاة الذي دلَّ الكتاب، ثم السنة على مَن تزول عنه بالعذر وعلى مَن لا تكتب صلاته بالمعصية. باب الناسخ والمنسوخ الذي تدلُّ عليه السنة والإجماع. باب الفرائض التي أنزلها الله — تعالى — نصًّا. باب الفرائض المنصوصة التي سَنَّ رسول الله ﷺ معها. باب ما جاء في الفرض المنصوص الذي دلت السنة على أنه إنَّما أُريدَ به الخاص. جُمَل الفرائض التي أحكم الله — تعالى — فرضها بكتابه وبيَّن كيف فرضها على لسان نبيه ﷺ. باب في الزكاة.
ثم ذكر الشافعي بابًا عنوانه: «باب العِلَل في الأحاديث» ذكر فيه ما يكون بين الأحاديث من اختلاف بسبب أنَّ بعضها نَاسِخٌ وبَعْضَها مَنسوخ، ومَا يكون من الاختلاف بسبب الغلط في الأحاديث وذكر بعض مناشئ الغلط.
ثم عقد أبوابًا للناسخ والمنسوخ من الأحاديث، وأبوابًا للاختلاف بسبب غير النسخ، وتكلم في بعض هذه الأبواب على الاختلاف في القراءات في القرآن وسببه.
ووضع بعد ذلك أبوابًا في النَّهي الوارد في الأحاديث، يوضِّح بعضها معاني بعض، وتكلم على النهي وأقسامه.
ثم وضع بابًا للعلم فقال: إنَّ العلم علمان: علمُ عامَّةٍ لا يَسَع بالغًا غيرَ مغلوب على عقله جهلُه، وهذا الصنف كله من العلم موجود نصًّا في كتاب الله — تعالى — وموجود عامًّا عند أهل الإسلام ينقله كله عوامُّهم عمَّن مَضَى من عوامِّهم، يحكونه عن رسولِ اللهِ لا يتنازعون في حكايته، ولا في وجوبه عليهم، وهذا العلم العامُّ الذي لا يمكن فيه الغلط من الخبر، ولا التأويل.
أما الثاني فهو ما ينوب العباد من فروع الفرائض، وما يخصُّ به من الأحكام وغيرها ممَّا ليس فيه نص كتاب ولا في أكثره نص سنة، وإن كانت في شيء منه سنة فإنَّما هي من أخبار الخاصَّة لا أخبار العامَّة، وما كان منه يحتمل التأويل ويُستدرَك قياسًا، والفرضُ في هذا مقصودٌ به قصد الكفاية، فإذا قام به من المسلمين مَنْ فيه الكفاية خرج مَن تخلَّف عنه من المأثم، ولو ضيَّعوه لم يخرج واحد منهم مُطِيق فيه من المأثم.
ثم عقد بابين؛ أولهما: باب خبر الواحد، والثاني: الحجة في تثبيت خبر الواحد، ويتجلَّى في هذين البابين أسلوب الشافعي في الجدل ومنهجه في الترجيح.
أمَّا أبواب الرسالة بعد ذلك فهي: باب الإجماع، باب إثبات القياس والاجتهاد، وحيث يجب القياس ولا يجب، ومَن له أن يقيس، باب الاجتهاد، باب الاستحسان، وهو يُبَيِّن فيه أنَّ حرامًا على أحد أن يقول بالاستحسان إذا خالف الاستحسان الخبر، وقد أفاض في هذا الباب في الكلام على القياس وأنواعه، ورد القول بالاستحسان.
وختم الشافعي رسالة الأصول بالكلام على الاختلاف، فبيَّن أنَّ الاختلاف من وجهين: أحدهما: مُحَرَّمٌ. والآخر: غير مُحَرَّم.
أما الاختلاف المُحرَّم فهو: كل ما أقام الله به الحجة في كتابه، أو على لسان نبيه منصوصًا بيِّنًا، فمَن عَلِمه لم يحلَّ له الاختلاف فيه. والثاني: الاختلاف فيما يحتمل التأويل أو يُدرَك قياسًا؛ فيذهب المتأوِّل أو القائِس إلى معنًى يحتمله الخبر أو القياس، وإن خالفه فيه غيره.
وعقَّب الشافعي على باب الاختلاف بباب في المواريث يذكر فيه أوجهًا من الاختلاف في المواريث، ويَلي ذلك باب الاختلاف في الجَدِّ، وبه تكمل الرسالة، وقد ذكر في هذا الباب الأخير رأيه في أقاويل الصحابة إذا تفرقوا فيها، وصرَّح بأنه هو يَصِير إلى اتِّباع قول واحدهم إذا لم يجد كتابًا ولا سُنَّة ولا إجماعًا، ولا شيئًا في معنى هذا أو وجد معه القياس.
ورتَّبَ الشافعي بعد ذلك مراتب الأصول وأنزلها منازلها بما نصه: «نحكم بالكتاب والسنة المُجْتَمَع عليها التي لا اختلاف فيها، فنقولُ لهذا: حكمنا بالحق في الظاهر والباطن، ونحكم بسنة رُوِيت من طريق الانفراد لا يجتمع الناس عليها، فنقول: حكمنا بالحق في الظاهر؛ لأنَّه قد يُمكن الغلط فيمَن روى الحديث، ونحكم بالإجماع، ثم القياس وهو أضعف من هذا، ولكنَّها منزلة ضرورةٍ؛ لأنَّه لا يحل القياس والخبر موجود.»
مظاهر التفكير الفلسفي في الرسالة
ورسالة الشافعي كما رأينا تسلك في سرد مباحثها وترتيب أبوابها نسقًا مُقرَّرًا في ذهن مؤلِّفها، قد يختلُّ اطِّراده أحيانًا، ويَخفَى وجه التتابع فيه، ويعرض له الاستطراد ويلحقه التكرار والغموض، ولكنه على ذلك كله بداية قوية للتأليف العلمي المُنظَّم في فن يجمع الشافعي لأوَّل مرة عناصره الأولى.
وإذا كنَّا نَلمَح في «الرِّسالة» نشأة التفكير الفلسفي في الإسلام من ناحية؛ للعناية بضبط الفروع والجزئيات بقواعد كلية، وإن لم تغفل جانب الفقه؛ أي استنباط الأحكام الشرعية الفرعية من أدلَّتها التفصيلية؛ فإنَّا نَلمَح للتفكير الفلسفي في الرسالة مظاهر أخرى.
منها هذا الاتجاه المنطقي إلى وضع الحدود والتَّعاريف أولًا، ثم الأخذ في التقسيم مع التمثيل والاستشهاد لكل قسم، وقد يَعْرِضُ الشافعي لسرد التعاريف المُختلفة ليُقارن بينها، وينتهي به التمحيص إلى تخيُّر ما يرتضيه منها.
ومنها أسلوبه في الحوار الجدلي المشبع بصور المنطق ومعانيه، حتى لتكاد تحسبه لما فيه من دِقَّة البحث ولُطف الفهم، وحُسن التصرف في الاستدلال، والنقض ومُرَاعاة النظام المنطقي، حوارًا فلسفيًّا على رغم اعتماده على النقل أولًا وبالذات واتصاله بأمور شرعية خالصة.
ومنها الإيماء إلى مباحث من عِلم الأُصول تكاد تهجم على الإلهيات أو علم الكلام؛ كالبحث في العلم، وأنَّ هناك حقًّا في الظاهر والباطن وحقًّا في الظاهر دون الباطن، وأنَّ المُجتهد مُصيبٌ أو مُخطئٌ معذور، والفرق بين القرآن والسنَّة، وعِلَل الأحكام، وترتيب الأصول بحسب قوتها وضعفها، وقد استدل الشافعي على حجِّيَّة السنة وما دُونَها من الأصول؛ فلَفَتَ الأذهان إلى حُجِّية القُرآن نفسه، وهي مسألة وثيقة الاتصال بأبحاث المُتكلمين.
شُرَّاح الرسالة متكلمون وفقهاء
وقد أثارت رِسَالة الشَّافعي اهتمام العُلماء يَروُونها، ويتناولونها بالشرح وبالنقد، فمَن شرحها: محمد بن عبد الله أبو بكر الصيرفي المُتوفى سنة ٣٣٠ﻫ/٩٣٢م. وفي ترجمته في «طبقات الشافعية الكبرى» لابن السبكي: «الإمام الجليل الأُصولي، أحد أصحاب الوجوه المُسفِرة عن فضله، والمقالات الدالة على جلالة قدْره، وكان يُقال إنه أعلم خلق الله — تعالى — بالأصول بعد الشافعي، ومن تصانيفه شرح الرسالة.» وذكر له صاحب «الفهرست» من الكتب في الأصول كتاب «البيان في دلائل الأعلام على أصول الأحكام»، وكتاب «شرح رسالة الشافعي»، وقال صاحب «كشف الظنون»: «ومن شروحها — أي «الرِّسالة» — «دلائل الأعلام للصيرفي».» فجعل الكتاب الأوَّل شرحًا للرسالة، وذكر صاحب «الفهرست» من كُتُب الصيرفي: «كتاب نقض كتاب عبيد الله بن طالب الكاتب لرسالة الشافعي».
ومنهم حسان بن محمد القرشي الأُموي أبو الوليد النيسابوري المُتوفى سنة ٣٤٩ﻫ/٩٦٠م. روى صاحب «الطبقات الشافعية الكُبرى» عن الحاكم أنه قال: «كان إمامَ أهل الحديث بخراسان، وأزهد مَن رأيتُ من العُلماء وأعبدهم، وأكثرهم تقشُّفًا ولزومًا لمدرسته وبيته.» ولم يُشِرْ صاحب الطبقات إلى شَرْحِهِ لرسالة الشافعي، لكنَّ صاحب «كشف الظنون» ذكره فيمَن شرح الرِّسالة، وذكر الزركشي في «البحر المُحيط» شرحه للرسالة فيما عنده من كتب الفن؛ أي فن الأصول.
ومنهم محمد بن علي بن إسماعيل القفَّال الكبير الشاشي المتوفى سنة ٣٦٥ﻫ/٩٧٥-٩٧٦م. قال صاحب «طبقات الشافعية الكبرى»: «كان إمامًا في التفسير، إمامًا في الحديث، إمامًا في الكلام، إمامًا في الأصول، إمامًا في الفروع.» وقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي: «كان إمامًا، وله مصنفات كثيرة ليس لأحد مثلها، وهو أول مَن صنف الجدل الحسن من الفقهاء؛ فإنه كتاب في أصول الفقه، وله شرح الرسالة، وعنه انتشر فقه الشافعي فيما وراء النهر.» وذُكر في «البحر المحيط» للزركشي وفي «كشف الظنون» وفي «الطبقات»: «وقال الحافظ أبو القاسم بن عساكر: بلغني أنه كان مائلًا عن الاعتدال، قائلًا بالاعتزال في أوَّل أمره، ثم رجع إلى مذهب الأشعري.»
ولم أعثر على تراجم للشُّرَّاح الخمسة الأخيرين.
والشراح الذين تناولوا رِسَالة الشافعي كانوا ما بين مُتكلمين وفقهاء، فنزع كل فريق منهم المنزع المُناسب لفنه، فعُنِي الفقهاء بجانب الاستنباط والتفريع في «الرسالة»، وعُنِي المتكلمون بما تُوحي به مباحث الكلام.
وجملة القول أنَّ المتكلمين منذ القرن الرابع الهجري وضعوا أيديهم على علم أصول الفقه، وغلبت طريقتهم فيه طريقة الفقهاء؛ فنفذت إليه آثار الفلسفة والمنطق، واتصل بهما اتصالًا وثيقًا.
هوامش
رُوي عن ابن عُلَيَّة عن رجاء بن أبي سلمة قال: بلغني أنَّ مُعاوية كان يقول: عليكم من الحديث بما كان في عهد عمر، فإنه كان قد أخاف الناس في الحديث عن رسول الله ﷺ («تاريخ التشريع الإسلامي» لمحمد الخضري، ص٩٩-١٠٠).
«الإحكام»، ج٤، ص٥٢–٥٦.
وفي كتاب «نيل الأوطار»: «والإفراد هو الإهلال بالحج وعدُّه، والاعتمار بعد الفراغ من أعمال الحج لمَن شاء، ولا خلاف في جوازه، والقِرَان هو الإهلال بالحج والعمرة معًا، وهو أيضًا متفق على جوازه، أو الإهلال، بالعُمرة ثم يدخل عليها الحج أو عكسه، وهذا مُختلف فيه، والتمتُّع هو الاعتمار في أشهر الحج ثم التحلُّل من تلك العمرة، والإهلال بالحج في تلك السنة ويطلق التمتُّع في عرف السلف على القِرَان. قال ابن عبد البر: «ومن التمتع أيضًا القران، ومن التمتع أيضًا فسخ الحج إلى العمرة» (وحكى النووي في شرح مسلم الإجماع على جواز الأنواع الثلاثة وتأول ما ورد من النهي عن التمتع من بعض الصحابة، ج٤، ص١٩٠).»
وفي «منتقى الأخبار»: «ولأحمد ومسلم: نزلت آية المتعة في كتاب الله — تعالى — يعني متعة الحج، وأمرنا بها رسول الله ﷺ، ثم لم تنزل آية تنسخ آية متعة الحج، ولم ينهَ عنها حتى مات، وعن عبد الله بن شقيق أنَّ عليًّا كان يأمر بالمُتعة وعثمان ينهى عنها، فقال عثمان: كلمة فقال علي: لقد علمتَ أنَّا تمتَّعنا مع رسول الله ﷺ. فقال عثمان: أجَلْ، ولكنَّا كنَّا خائفين (رواه أحمد ومسلم، ج٤، ص١٩٠).»
قال الجاحظ في كتاب «فضل هاشم على عبد شمس»: «والذي حسَّن أمره — يريد عمر بن عبد العزيز — وشبَّه على الأغبياء حاله أنَّه قام بعقب قوم بدَّلوا عامة شرائع الدين وسُنَن النبي ﷺ، وكان الناس قبلَه من الظلم والجور والتهاون بالإسلام في أمر صغُر في جنبه ما عايَنوا منه وألْفَوْه عليه؛ فجعلوه لمَا نقص من تلك الأمور اللفظية في عداد الأئمة الرَّاشدين» («رسائل الجاحظ»، جمع السندوبي، ص٩١).
وذكر الغزالي أنَّ الناس تصرَّفوا في اسم الفقه فخصوه بعلم الفتاوى والوقوف على دلائلها وعللها، واسم الفقه في العصر الأول كان مطلقًا على علم الآخرة ومعرفة دقائق النفوس والاطلاع على الآخرة وحقارة الدنيا. قال أصحاب الشافعي: الفقه هو العلم بالأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية، والمراد بالحكم النِّسبة التامة الخبرية التي العلم بها تصديق وبغيرها تصوُّر، فالفقه عبارة عن التصديق بالقضايا الشرعية المتعلقة بكيفية العمل تصديقًا حاصلًا من الأدلة التفصيلية التي نصَّت في الشرع على تلك القضايا، وهي الأدلة الأربعة: الكتاب والسنة والإجماع والقياس» (ج٢، ص٥٥٩-٥٦٠).
«كتاب إتمام الدراية لقراء النقابة» لجلال الدين السيوطي المطبوع بهامش «مفتاح العلوم»، ص٧٩.