عودة آندريه
تقوَّست شفتها المظلَّلة بشكل آلي وهي بسبيل تصوير ابتسامة. ولما كان كل ما في ذلك البيت منذ ورود ذلك النبأ المفجع، من ابتسامات وأصوات، بل وحركات أيضًا، يحمل طابع الحداد، فإن ليز نفسها انساقت مع المجموعة دون أن تفقه شيئًا من الموجبات، واندفعت مع التيار العام، فكانت ابتسامتها تزيد في الاكتئاب العام.
هتفت ماري وهي تهرع بخطوها الثقيل المتراخي: «ماذا بك يا عزيزتي؟ ربَّاه، كم أنت شاحبة!»
وألمحت إحدى الوصيفات قائلة: «ماذا — يا صاحبة السعادة — لو أرسلنا في استدعاء ماري بوجدانوفنا؟»
كانت ماري بوجدانوفنا هذه قابِلةً تَقطُن في المدينة الصغيرة المجاورة، وقد استقرت في ليسيا جوري منذ خمسة عشر يومًا.
قالت ماري مؤيدة: «بلا شك، لعل استدعاءَها بات ضروريًّا. إنني ماضية إليها، تشجَّعي يا ملكي.»
وقبَّلت ليز قبل أن تخرج، فهتفت هذه متوسِّلةً ووجهها الشاحب المتقلص من الآلام يعكس الفزع الصبياني من العذاب والألم المنتظَرَين: «أوه، كلا، كلا، كلا! إنها المعِدة. قولي إنها المعِدة، قولي ماري قولي …»
وانخرطت في البكاء وراحت تلوي ذراعيها كالطفل الحَرُون بحركة لم تخلُ من التصنُّع.
ابتسمت ماري وخرجت مسرعةً مصحوبة ﺑ: «أوه! أوه! ويا ربي! يا ربي!» التي كانت ليز تواكبها بها.
وفي الطريق، التقت بالقابلة التي كانت قادمة وهي تفرك يديها البضَّتين السمينتين، ووجهها الخطير موسوم بالهدوء. قالت ماري وهي تُلقِي على القابلة نظراتٍ حائرةً من عينيها المتسعتين من الذعر: «يا ماري بوجدانوفنا، أعتقد أن المخاض قد بدأ.»
فقالت ماري بوجدانوفنا دون أن تسرع الخُطى: «حمدًا لله يا أميرة، لكن هذه الأمور لا يجوز للعذارى معرفتها.»
– «ولكن لمَ لم يصل الطبيب من موسكو؟»
كانوا بناءً على رغبة ليز وآندريه قد أوصوا على طبيبٍ مولِّدٍ من موسكو؛ ليحضر في الوقت المحدد، وكانوا ينتظرونه بفارغ صبر.
أجابت القابلة: «لا تبتئسي يا أميرة، لا حاجة إلى الطبيب، وسيسير كل شيء على ما يرام.»
وبعد خمس دقائق، سمعت ماري التي كانت قد انسحبت إلى جناحها صوتًا يدل على أن بعضهم ينقل شيئًا ثقيلًا، وارَبتِ الباب، فرأت عددًا من الخدم يحملون بينهم الديوان الجلدي الذي كان يزيِّن مكتب الأمير آندريه، ويدخلونه إلى مخدع ليز. وكان الخدم يؤدون عملهم بجلال وتأنٍّ.
– «آه! كم تسرني صحبتك أيتها المربية.»
– «إن الله رحيم يا حمامتي.»
أشعلت المربية الشموعَ الملفوفة بورقٍ مذهب أمام خزانة التمائم المقدسة، وعادت تجلس قرب الباب وبين يديها أشغالها، وأخذت ماري كتابًا وراحت تقرأ، فلم تكونا تتبادلان النظر دون الحديث إلا إذا طرأ مسامعهما صخبٌ أو ضجيجٌ أو أصواتُ خطًى وحديث. وكانت نظرة ماري قلِقة مترقبة بينما كانت نظرة المربية هادئة مطمئنة.
كان الشعور بالقلق الذي استحوذ على ماري في غرفتها منتشرًا في كل أنحاء الدار بين كل أهلها. وهناك خرافة قديمة تقول إنه كلما نقص عدد الأشخاص العارفين بأمر المرأة التي تعاني المخاض، كلما نقصت آلامها وخفَّت؛ لذلك فقد كان كل مَن في المنزل يتصنَّع الجهل بالأمر متظاهرًا بالهدوء، فلا حديثَ عن الولادة ولا همس، ولكن كان لونٌ من الاهتمام المشبع بالحنان والعطف يبرز خلال ذلك الجمود والحركات الخطيرة الهادئة المعروفة لدى كلِّ مَن في خدمة الأمير العجوز وحوله، وكان ذلك الاهتمام يتَّحِد مع القناعة الواضحة بوقوع حدث كبير مجهول لا زال في دور التكامل.
وفي غرفة الخادمات والوصيفات لم تكن إحداهن تبعث بضحكة. أما في المخادع والغرف الأخرى فكانت الشموع مضاءة، والمسارج مشعَلة، وكلُّ مَن في البيت يقظان، وكان الأمير العجوز يذرع غرفته على أطراف قدمَيْه حذرَ الضجَّة، فقرَّرَ أخيرًا أن يرسل تيخون للاستفسار من ماري بوجدانوفنا عن حالة الأم المنتظرة، قال له: «عليك أن تقول لها فقط إن الأمير يسأل عن الحالة، وعُدْ إليَّ بما ستقوله لك.»
فلما بلغ إلى حيث كانت القابلة، قالت له وفي عينيها نظرةٌ حافلة بالمعاني: «أخبِر الأمير أن المخاض قد دبَّ فيها.»
وعاد تيخون يحمل الجواب، فقال الأمير وهو يغلق الباب وراءه: «حسنًا، حسنًا.»
وبعد ذلك، لم يسمع تيخون ضجةً ما أو صوتًا صادرًا عن مكتب الأمير.
وبعد فترة طويلة، دخل إلى المكتب بحجة تنظيف الشموع، فرأى الأمير مستلقيًا على الأريكة. راح تيخون يتأمل وجهَه المهدم فترة، ثم اقترب منه بهدوء عظيم، وقبَّل كتفه وخرج دون أن يعمل شيئًا آخر، أو أن يفصح عن رغبته، بينما ظلَّ السر الجليل الذي لا يضاهيه شيء في العالَم يتكامل ويتحقق. وأقبَلَ الليل وراح شعور الانتظار والحنو والخشوع أمام المجهول الذي لا يمكن إدراكه يتزايد باطِّراد بدلًا من أن تخبو جذوته.
كانت تلك الليلة من ليالي آذار التي يعود فيها الشتاء فجأةً ثائرًا مغضبًا ينقضُّ بيأس بجحافله الأخيرة وعواصفه الثلجية المدَّخرة، وكان بعض الرجال على جيادهم حاملين المصابيح يقفون في أماكن معينة على الطريق المتصلة بالشبكة العامة، منتظرين وصول الطبيب الألماني من موسكو ليقودوه بين الردغات والمجرات العميقة إلى القصر. وكانوا ينتظرون قدومه بين حين وآخر، وقد أرسلوا جيادًا إلى الطريق العام لاستقباله.
تركت ماري كتابها منذ فترة طويلة، وراحت تتأمل بصمتٍ بعينيها المضيئتين وجهَ مربيتها المتغضِّن، الذي ألِفَت تقاطيعَه وعرفتها ابتداءً من خصلات شعرها الأشهب الناجية من قِماط رأسها، وحتى ذلك الجيب الجلدي الحي الذي يتدلى أسفل ذقنها أشبه بالطنف.
وفجأةً هبَّت ريح قوية على إحدى النوافذ التي رُفِع حاجزها الخشبي الخارجي نزولًا عند أوامر الأمير، الذي درج على مثل هذه العادة كلَّ عام حالَ وصولِ طير القُنْبُرة مؤذنًا بحلول الربيع، فاهتزت الدقيرة التي لم تكن مُحكَمةَ الوضعِ وفُتِحت النافذة، وأُزيح الستار الحريري، وانطفأت الشمعة. ارتعدت ماري بتأثير تلك النفحة الثلجية الباردة، وقامت المربية فوضعت أشغالها واقتربت من النافذة، وراحت تحاول الإمساك بالدرفة الخارجية لإغلاقها وهي تنحني إلى الخارج على قدر استطاعتها، وراحت الريح العاصفة تحاول انتزاع طرفَيْ قَمْطتها واختطاف خصلات شعرها الأشهب الهوجاء.
قالت وهي ممسِكةٌ بالحاجز الخشبي لا تطبقه: «يا أميرة، يا ابنتي العزيزة، هناك بعضهم قادمًا على الممشى وحوله المصابيح المضاءة. إنه «الدوختور» ولا شك.»
هتفت ماري: «حمدًا لله! ينبغي أن أهرع لاستقباله؛ إنه لا يعرف الروسية.»
ألقت شالها على كتفها وهرعت تستقبل القادمين، وبينما هي تجتاز الرَّدْهة، لمحت خلال النافذة عربةً يواكبها حَمَلةُ المصابيح تقف أمام المدخل، فهبطت السلم. وكان على قائمة حاجز السلم شمعة تصارع الريح وتصمد له، تضيء المدخل. ورأت فيليب — وهو أحد الخدم — واقفًا بذهولٍ أسفل السلم وفي يده شمعة. وعند مدخل السلم، كانت خطوات حذاء ملبد ترتفع مرتقية، وارتفع صوت لم يكن غريبًا على ماري، كان الصوت يقول: «حمدًا لله وشكرًا! وأبي؟»
فيجيبه رئيس الخدم داميان، الذي هرع إلى الأسفل: «لقد نام منذ حين.»
ونطق الصوت ببضع كلمات أخرى أجاب عليها داميان، وراحت الخطوات الخفيفة غير المنظورة ترتقي السلم مقتربة.
تساءلت ماري: «أهو آندريه؟ كلا، مستحيل، سيكون ذلك خارقًا صعبَ التصديق.»
وفي اللحظة التي راودتها تلك الفكرة، رأت على البسطة قربَ الخادم الذي كان يحمل الشمعة ظلًّا يظهر، ثم وجه الأمير آندريه ثم جسده، وقد غطت الثلوج ياقة معطفه السميك. نعم، لقد كان القادم آندريه بنفسه، لكنه كان شاحبًا هزيلًا تصعب معرفته لأول وهلة؛ لأن عذوبة غريبة كئيبة كانت تحلُّ محلَّ قَسَماته القاسية الأولى، فلما بلغ أعلى السلم ضمَّ أخته بين ذراعيه. سألها: ألم تتلقَّوا رسالتي؟
ولم ينتظر الجواب الذي ما كان ليأتي؛ لأن ماري كانت عاجزةً عن الكلام، ونزل ليأتي بالطبيب المولِّد الذي التقى به عند المرحلة الأخيرة من الطريق. وبعد حينٍ عاد بصحبة الطبيب يرتقي السلم بخطوات واسعة، وعاد يُعانق شقيقتَه من جديد.
قال: «يا لها من مصادَفة غريبة! أليس كذلك يا عزيزتي ماري؟»
ونزع معطفه وحذاءه ومضى إلى مخدع زوجته.