حديث الأندية
على الرغم من القسوة والصرامة التي كان يُبديها الإمبراطور في ذلك العصر حيال المبارزات، فإن المبارزة التي وقعت بين بيير ودولوخوف لم تتبعها ذيول مؤسفة وتدابير مؤذية بالنسبة للخصمين والشهود معًا. مع ذلك، فإن الشائعات لم تلبث أن راجت حول أسباب المبارزة ودوافعها، فجاء قطع العلاقات بين بيير وهيلين منشطًا لها حتى بلغت المجتمعات الراقية، وأصبحت حديث اليوم فيها، وكان بيير — الذي عومل بمراعاة عندما كان يعتبر ابن سفاح، والذي راحوا يطرونه ويتملقونه عندما أصبح محط الأنظار، والصفقة الهائلة الكبرى في المملكة كلها — قد خسر منذ زواجه الشيء الكثير من اعتباره في المجتمعات الراقية، وفقد الاهتمام الشديد الذي كانوا يحيطونه به، فالأمهات اللاتي كنَّ يَحلمنَ في تزويجه بناتهن، والفتيات اللاتي كُنَّ ينظرن إلى الفوز به زوجًا فقدنَ اهتمامهن به.
أما الأندية والمجتمعات فقد تغاضت كذلك عنه؛ لأنه كان جاهلًا بأسباب الرياء والملق، وإلفات الأنظار إليه فيها. وعلى ذلك فقد راحوا يعتبرونه المسئول الأوحد عن كل ما حدث، ويصورونه غيورًا سخيفًا شاذًّا، خاضعًا كأبيه المرحوم لنوبات من الغضب الدموي الوحشي. فلما عادت هيلين إلى الظهور في الأندية بعد ذهاب بيير من بيترسبورج، استقبلها معارفها كلهم بودٍّ يشوبُه الاحترام بسبب المصيبة التي وقعت لها، فإذا ما دار الحديث حول زوجها اتخذت هيلين طابع الوقار الذي كان إحساسها الفطري يوحيه لها، دون أن تفهم على الضبط موضوع ذلك الحديث.
وتؤيد آنا بافلوفنا أقواله جازمة: «لقد قلت ذلك دائمًا. نعم، لقد أظهرت ذلك منذ البداية قبل كل الناس.»
كانت آنا بافلوفنا تحيي في أيام فراغها الحفلات التي تنفرد وحدها في فن إقامتها على طريقتها وتنظيمها. كانت تجمع — حسب تعبيرها الخاص — زبدة المجتمع الراقي الحقيقي، وزهرة الروح الفكرية الرفيعة الكامنة في مجتمع بيترسبورج. وإلى جانب هذا الانتقاء الرائع للمدعوين، كانت حفلات آنا بافلوفنا تعرض شيئين جذابين آخرين؛ ففي كل منها كانت تقدم لضيوفها شخصية جديدة مهمة، وتعطيهم فكرة صحيحة عن الميزان السياسي في الأوساط الحاكمة في البلاط والمدينة، الأمر الذي يتعذر وقوعه في أي مكان آخر بمثل الدقة والصحة التي يبدو عليهما عندها.
وعندما دخل بوريس، وهو الذي كان مقررًا أن يتسلى المدعوون على حسابه إلى البهو، كان الضيوف كلهم مجتمعين فيه، والحديث الذي كانت آنا بافلوفنا توجهه على عادتها يدور حول علاقات روسيا الدبلوماسية مع النمسا، والأمل الذي يراود النفوس في الارتباط بحلف مع هذه الأمة. كان بوريس مرتديًا ثوبًا أنيقًا من أثواب الضباط المساعدين، نضرًا متورد الوجنتين، ولكن أكثر رجولة من قبلُ، يمشي مشية رشيقة نشيطة. قدمت آنا بافلوفنا إليه يدها الجافة ليقبِّلها، ثم قادته حسب القاعدة المطردة لينحني أمام «ماتانت»، وبعد أن أدخلته في الحلقة الرئيسية الكبرى قدمته إلى عدد من الأشخاص الذين لم يكن يعرفهم، وهي تشير إلى كل واحد منهم وتذكر له اسمه بصوت منخفض: «الأمير هيبوليت كوراجين شابٌّ فتان، السيد كروج؛ القائم بالأعمال في مفوضية كوبنهاجن، وهو عبقري عميق التفكير، السيد شيتوف رجلٌ جم المواهب.»
وصل بوريس إلى مركز مرموق بفضل تصرفات آنا ميخائيلوفنا ومواهبها الخاصة، وبفضل عقليته المتحفظة. لقد كان ضابطًا مساعدًا لشخصية رفيعة جدًّا، فاستطاع أخيرًا أن يؤدي مهمة هامة في بروسيا. لقد وضع نصب عينيه ذلك القانون غير الرسمي الذي اطلع عليه في أولموتز فسحر به وافتنَّ؛ ذلك القانون الذي يستطيع بفضله أن يحتل حاملُ عِلْم بسيط مركزًا أرفع من مركز جنرال في الجيش، قانون لا يدين الترقي في العمل للمجهود والشجاعة والصبر والثبات، بل للموهبة التي تجعل المرء مرموقًا يستحق تلك الترقية. كان نجاحه الشخصي يدهشه أيما دهشة حتى إنه كان يتساءل لِمَ لا يحذو الآخرون حذوه؟ لقد أبدل ذلك الاكتشاف كل حياته وشخصيته وعلاقاته ومعارفه القدماء، وقلب خططه للمستقبل رأسًا على عقب. لقد كان — رغم فقره — ينفق آخر قرش لديه ليكون أحسن هندامًا من الآخرين. لقد حرم نفسه متعًا كثيرة كيلا يقطع شوارع بيترسبورج مرتديًا زيًّا باليًا أو قديمًا، ومتنقلًا في عربة حقيرة قديمة. لم يكن يتَّصل إلا بشخصيات رفيعة أرفع منه مقامًا، كانت تستطيع أن تكون مفيدة له في المستقبل. كان يحب بيترسبوج ويمقت موسكو. كانت ذكرى آل روستوف وغرامياته الصبيانية مع ناتاشا تزعجه، حتى إنه لم يطرق منزلهم منذ أن ذهب إلى الجيش، وكانت دعوته إلى حفلة آنا بافلوفنا تعتبر في نظره خطوة كبيرة إلى الأمام في طريق مستقبله، فهم على الفور الدور الذي عليه أن يلعبه، فترك لمضيفه استثمار الاهتمام الذي كانت تثيره بحضرته، وراح يعاين الموجودين فردًا فردًا بعناية واهتمام، ويزين الفوائد التي قد يجنيها من هؤلاء أو هؤلاء في المستقبل. وكان جالسًا قُرب هيلين الجميلة، في المكان الذي عُين له، يصغي بانتباه إلى الحديث العام.
كان القائم بالأعمال الدانماركي يقول: «إن فيينا ترى أن أسس المعاهدة المقترحة بعيدة المنال حتى ليتعذر الوصول إليها، ولو بواسطة سلسلة من النجاح والانتصارات الأكثر شأنًا، وهي تشك في الوسائل التي يُمكِنها أن تؤمِّن لنا كل هذا النجاح. إن هذه الجملة هي التي يتمسك بها المكتب الوزاري في فيينا.»
تدخلت آنا بافلوفنا قائلة: «آه يا عزيزي الفيكونت! إن إيروبا — كانت تعتقد أنها إذا نطقت كلمة أوروبا بالفرنسية محرفة حتى تصبح إيروبا، فإن ذلك يدل على رقة في النطق، ولا يعلم إلا الله من أين أتت بهذه البدعة — إن إيروبا لن تكون حليفتنا أبدًا.»
ولكي تمنع دخول بوريس في المناقشة، حوَّلت دفَّة الحديث فراحت تمتدح شجاعة ملك بروسيا وحزمه. أما بوريس فكان يصغي باحترام وصمت إلى الحديث الدائر حوله منتظرًا دوره للدخول في سياقه، لكن ذلك ما كان يمنعه من اختلاس نظرات إلى وجه جارته الحسناء التي قابلت نظراته مرارًا مبتسمة لذلك الضابط المساعد الشاب الجميل.
كانت لهجتها توحي بأن الأسباب التي دعتها إلى طلب مقابلته، والتي كانت مجهولة منه، تجعل زيارته لا بد منها، فوعد بالامتثال لطلبها، وراح يتحدث على انفراد مع هيلين، وعندئذ استدعته آنا بافلوفنا بحجة أن «ماتانت» تتحرق شوقًا لسماعه بدورها.
ولما ابتعد معها قالت له مشيرة إلى هيلين إشارة مشفقة ومغمضة عينيها بعد ذلك: «إنك تعرف زوجها على ما أظن؟ آه! يا لها من سيدة فاتنة وبائسة! لا تتحدث عنه أمامها. أتوسل إليك؛ إن ذلك يؤلمها أشد الإيلام.»