الناصرية والإسلام١
(١) هل تتصادم شرعيتان: الدين والثورة؟
(٢) الإخوان المسلمون والنضال الوطني قبل ١٩٥٢م
ثم نشأت حركة الإخوان المسلمين في الإسماعيلية على ضفاف القناة في مواجهة جنود الاحتلال البريطاني وفي محافظة الشرقية مهد العرابيين. نشأت الجماعة في مواجهة الاستعمار، وبطريق الكفاح المسلح كما حدث في ١٩٥١م على ضفاف القناة بالتعاون مع الضباط الأحرار (كمال رفعت) قبل أن يعرفهم أحد. وكان التعاون بينهم في فلسطين في ١٩٤٨م. كان حسن البنا تلميذ رشيد رضا في دار العلوم. أراد استئناف «المنار» بعد أن توقفت في مطلع ١٩٣٦م وأصدر منها ستة أعداد. فجماعة الإخوان المسلمين إذن سليل الحركة الإصلاحية الأولى من الأفغاني إلى محمد عبده، ومن محمد عبده إلى رشيد رضا، ومن رشيد رضا إلى حسن البنا، بالإضافة إلى تحقيق حلم الأفغاني وهو تأسيس حزب إسلامي ثوري تكون مهمته تحقيق المشروع الإصلاحي الإسلامي في مواجهة الاستعمار في الخارج والقهر في الداخل.
(٣) الأحزاب الوطنية والإسلام الليبرالي قبل ١٩٥٢م
(٤) الوئام بين الإخوان المسلمين والثورة المصرية
كان تيار الإخوان المسلمين جزءًا من تكوين حركة الضباط الأحرار. وقد ظهر ذلك في اتصالهم بالجماعة من خلال علاقة عبد الناصر والسادات بحسن البنا وإخوانه أو من خلال الضباط الأحرار المنتسبين إلى الجماعة مثل عبد المنعم عبد الرءوف أو المتعاطفين معهم مثل رشاد مهنا. بل إن أحد أسباب قيام الثورة كان التحقيق في أسباب هزيمة فلسطين وصفقة الأسلحة الفاسدة وأيضًا التحقيق في أسباب مقتل حسن البنا المرشد العام للإخوان المسلمين، استمالة للجماعة، وتقربًا إليهم، وتوددًا لهم، وظل الوئام بين الإخوان والثورة منذ اندلاعها طالما لا يوجد صراع على السلطة. قام الإخوان بدور السند الشعبي للثورة التي أتت بانقلاب عسكري دون تنظيم سياسي. وعُهد إليهم ليلة الثورة بحراسة المنشآت العامة. فقد كانوا على علم بموعد قيامها. وتمثل الوئام أيضًا في عدم حل جماعة الإخوان في قرار حل الأحزاب حرصًا عليها وأملًا فيها. لم تشارك في فساد الدولة ولا في ألاعيب القصر. وقبل مفاوضات الجلاء كانوا رسل رجال الثورة عند الإنجليز. أوفدهم عبد الناصر للتفاوض مع مستشار السفارة إيفانز لوضع أسس اتفاقية الجلاء. وطلب منهم الدخول في الوزارة بثلاثة أشخاص باعتبار أن الثورة والإخوان هم أصحاب الحق في الحكم بعد طرد الملك وحل الأحزاب. والوقوف جبهة وطنية واحدة من أجل إجلاء القوات البريطانية عن قناة السويس وقاعدة التل الكبير. وكان محمد نجيب قائد الثورة يمثل هنا الوئام بين الإخوان والثورة. فقد حظي كشخصية بكل الاحترام الواجب له من كل الرفاق بصرف النظر عن اتجاهاتهم السياسية. كان يمثل الوطنية المصرية التقليدية المتحدة بالإسلام، لا فرق لديه بين الدين والوطن، بين الإسلام والثورة. رآه الإخوان نصيرًا لهم في الثورة خاصة وأنهم قد التفوا حوله. وبدأ معه التدريب العسكري من أجل معركة التحرير في قناة السويس. وكان خطابه السياسي ديني الطابع، جماهيري الآفاق. يدعو إلى الوحدة الوطنية أو وحدة الأمة الإسلامية. لم يكن طامعًا في الحكم. فلم تصدم به الإخوان، وعينها على السلطة. كان رجل حوار، رأت فيه الإخوان منفذًا لتحقيق أغراضهم السياسية. وكانت قمة الوئام تعيين رشاد مهنا وصيًّا على العرش وكأن الإخوان قد أصبحوا قاب قوسين أو أدنى من الحكم، حكم من أعلى السلطة، وتنظيم سياسي شعبي بين الجماهير.
(٥) الصدام بين الإخوان المسلمين والثورة المصرية
وكان من الطبيعي أن يُحدث الصدام صراعًا على السلطة. فالضباط الأحرار لهم شرعية الانقلاب. والإخوان يتمسكون بالجزء. الضباط الأحرار يرون أنفسهم بالسلطة فهم الذين اقتنوها. والإخوان يرون كذلك أنهم أولى بها. فهم الذين مهدوا إليها بل وقاموا بها. كان نصف أعضاء مجلس قيادة الثورة منهم أو من المتعاطفين معهم. وكانوا هم التنظيم الشعبي القادر على تحريك الجماهير والذين لهم رصيد قديم في النضال الوطني منذ تأسس الجماعة في الثلاثينيات.
بدأ الصدام باستغناء الضباط الأحرار عن تنظيم الإخوان وإنشاء تنظيم جديد خاص بهم، هيئة التحرير، كبديل عن تنظيم الإخوان، وترك السند الشعبي الإخواني إلى سند مستقل مما أدى إلى بوادر الصراع بين الجماعة والهيئة خاصة في الجامعة أثناء زيارة نواب حضور أمير الجماعة الإسلامية في إيران في ١٩٥٤م. لقد رفض عبد الناصر من قبل بناءً على طلب عبد المنعم عبد الرءوف انضمام حركة الضباط الأحرار إلى جماعة الإخوان المسلمين حفاظًا على استقلال الحركة داخل الجيش. كما رفض طلب الضابط أبو المكارم عبد الحي أسلحة لتوزيعها على الإخوان لمساندة الثورة. ومن هنا نشأت صعوبة التعاون والالتقاء بين الحركة والجماعة. طلبت الثورة دخول الإخوان في الوزارة ولكن رفض الإخوان إلا بشروط منها: عدد الحقائب الوزارية بحيث لا يقل العدد عن ثلاثة، واختيار الإخوان الأشخاص وزرائهم دون تدخل من رجال الثورة، وإعطاء وزراء الإخوان سلطات تفويض وليست فقط سلطات تنفيذ بحيث لا يصدر قانون أو قرار إلا بموافقتهم، وفرض الحجاب على النساء وغلق المسارح ودور السينما!
فلما أبرم عبد الناصر اتفاقية الجلاء في مارس ١٩٥٤م والتي تنص على جلاء القوات البريطانية عن قناة السويس ومن قاعدة التل الكبير التي كانت تضم حوالي سبعين ألف جندي، ولكن تنص أيضًا على جواز عودة هذه القوات واستعمال مطارات القناة في حالة الحرب بين بريطانيا وخصومها. فكان جلاءً مشروطًا بقيد. كانت اتفاقية أقل مما تطالب به الحركة الوطنية المصرية منذ الاحتلال البريطاني لمصر في ١٨٨٢م. تشبه معاهدة ١٩٣٦م التي أبرمتها حكومة الوفد، الاستقلال المنقوص وليس الاستقلال التام. واعترض الإخوان، ونقدوا المعاهدة، وتكهرب الجو، ونشط الإخوان في العمل السري.
ثم انتصر الإخوان لمحمد نجيب ضد عبد الناصر في أزمة مارس ١٩٥٤م، بعد استمالة نجيب للإخوان بدعوته إلى الوحدة الإسلامية في حرم الجامعة. فلما أُقصي نجيب واستأثر عبد الناصر بالسلطة وإطلاق النار على مظاهرة الجامعة ثم تدبير حادثة المنشية في يوليو ١٩٥٤م سواء دبرها المركز العام أو دبرتها إحدى الشعب المحلية بناء على مبادرتها الخاصة تعبيرًا عن الرغبة العامة التي تسري في الجماعة أو دبرها رجال الثورة للخلاص من الإخوان. وبدأت أهوال التعذيب في السجون وراح ضحيتها الشهيد عبد القادر عودة، كما راح ضحيتها بعد ذلك بعشر سنوات المفكر الشهيد سيد قطب في ١٩٦٥م.
(٦) الإسلام بين الثورة المضادة
(٧) الثورة إسلام والإسلام ثورة
إن معارك الإسلام كما جسدتها الناصرية كانت مفروضة من الخارج، اقتنصتها الظروف، هجوم الثورة المضادة ودفاع الثورة عن نفسها بنفس السلاح وهو الدين. كانت معارك جدلية تقوم على جدل الدفاع والهجوم. وهي معارك وقتية تنقضي بانقضاء ظروفها وعصرها. فبعد وفاة عبد الناصر وبداية الثورة المضادة من داخل الثورة في مصر لم يهب أحد دفاعًا عن الاشتراكية والقومية والثورة الوطنية باسم الإسلام بعد أن حققت الرجعية العربية أهدافها، وتم تحقيق أغراض الاستعمار والصهيونية في القضاء على الثورة المصرية. كانت المعارك خارجية دعائية كلامية إعلامية بين نظامين، كل منهما يريد البقاء في السلطة والقضاء على الآخرين، كانت معارك بين أشخاص وزعامات أكثر منها معارك بين نظم وأيديولوجيات. وأحيانًا كانت الحجج واهية لا تستقيم مثل ضرورة الفصل بين الدين والسياسة أمام خلط الإخوان بينهما لأن الإسلام دين وسياسة، عقيدة وشريعة، تصور ونظام. فموقف الإخوان أقوى من موقف عبد الناصر. كما أن تصوير المعارك مع الصليبيين على أنها معارك القومية العربية ضد الاستعمار غير صحيح. بل كانت معركة المسلمين ضد المسيحيين على مستوى النظر، واستعمار وغلبة وقهر على مستوى الأهداف. ولم تكن القومية العربية واردة أيام الصليبيين.
إنما تكمن الصلة بين الإسلام والثورة داخليًّا باطنيًّا عضويًّا في أن الثورة تحقيق لأهداف الإسلام وأن الإسلام هو في الحقيقة ثورة. فالمبادئ الستة التي تم إعلانها في أول الثورة: القضاء على الملكية، القضاء على الإقطاع، القضاء على الاستعمار، القضاء على الرأسمالية، تكوين جيش قوي، إقامة حياة ديموقراطية سليمة وإن لم تذكر الإسلام صراحة إلا أنها تحقق لمقاصده العامة الممثلة في الضروريات الخمس: الحفاظ على النفس (الحياة)، والدين (الحق)، والعقل، والعرض (الكرامة)، والمال (الثروة الوطنية). الاستعمار مضاد للإسلام لأن الذي يقرر بالملكية العامة لوسائل الإنتاج، ويجعل العمل وحده مصدر القيمة بدليل تحريم الربا. والإسلام ضد الإقطاع لأن المجتمع الإسلامي مجتمع لا طبقي لا يمتلك الثروة فيه قلة من الأغنياء. والإسلام ضد النظام الملكي لأن الإمامة في الإسلام عقد وبيعة واختيار. وأمر المسلمين شورى بينهم، وكما هو الحال في المبدأ السادس: إقامة حياة ديموقراطية سليمة، ويتم تنفيذ ذلك بالفعل. والإسلام مع تأسيس جيش وطني قوي من أجل الدفاع عن دار الإسلام وكما هو معروف في الجهاد.
وإن قرارات الثورة الأولى مثل الإصلاح الزراعي، ووضع حد أعلى لملكية الأراضي وتوزيع الأرض على الفلاحين المعدمين والأجراء الزراعيين، واسترداد الفلاحين أرضهم من الملاك الغائبين أقرب إلى مبادئ الإسلام الذي يجعل الأرض لمن يفلحها، وأن من أصلح أرضًا بوارًا فهي له. وأن قرار الثورة بالتأميم، تأميم قناة السويس في ١٩٥٦م لهو قرار إسلامي يرد أرض مصر إلى شعبها وثورة الأمة إلى أصحابها. تلقائية الإسلام وروح الثورة هي روح الإسلام. لذلك أسرع عبد الناصر إلى الأزهر بعد التأميم وأثناء العدوان الثلاثي على مصر في أكتوبر ١٩٥٦م وألقى خطابه الشهير «سنقاتل … سنقاتل». فالأزهر مهد المقاومة الوطنية وليعلن بداية الكفاح المسلح ضد العدوان الاستعماري. فتحول من قاهر للحركة الإسلامية في ١٩٥٤م إلى بطل قومي وزعيم تحرري في العالم الثالث. كما يعلن بداية سيطرة الشعوب المتحررة على ثرواتها الوطنية. والتمصير في ١٩٥٧م أي سيطرة الإرادة الوطنية على الشركات الأجنبية عمل إسلامي أصيل ضد الاستغلال للثروات الوطنية. والوحدة مع سوريا في ١٩٥٨م عمل إسلامي وحدوي ضد تجزئة الأمة وتبعثرها، اقترابًا من الوحدة الشاملة للأمة شيئًا فشيئًا. فالوحدة العربية خطوة نحو الوحدة الإسلامية. وتأسيس مؤتمر باندونج في ١٩٥٥م، وتكوين كتلة عدم الانحياز في بلجراد منذ ١٩٦٤م، واتباع سياسة الحياد الإيجابي، كل ذلك تحقيق لمبادئ إسلام في الاستقلال الذاتي عن الشرق والغرب، لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ. هذا هو الإسلام الصاعد عن طريق تحقيق المصالح العامة دون ما حاجة إلى تفسير للنصوص أو تطبيق مباشر لأحكام الشريعة، وليس العمة والقفطان وإقامة الشعائر في أجهزة الإعلام، وأخذ ألقاب إمام المسلمين، وخادم الحرمين.
هذه الوحدة العضوية بين الإسلام والثورة كانت طريق الإسلام الأول في إحداث التغير الاجتماعي في الجزيرة العربية، حيث ظهرت في الأعماق وحدة الإسلام والثورة وليس طريق التوفيق الخارجي الدعائي بينهما. طبيعة الإسلام هي طبيعة الثورة والتغير الاجتماعي. وإذا كانت الثورة إسلامًا صاعدًا من القاعدة فإن الإسلام ثورة صاعدة أيضًا من أجل إحداث تغير اجتماعي في الواقع وليس مجرد تطبيق شريعة علوية نازلة. الإسلام ثورة، واقع يتحرك، نظام اجتماعي يتبدل، عبد يُعتق، وفقير يأخذ حقه من أموال الغني، وأسود يتساوى مع أبيض، وعربي مع أعجمي، وقَبَلي يتحول إلى مواطن للعالم، وبدوي يتحضر، وأقوام تتحول إلى دولة، والدولة تفتح وترث القوى الكبرى المتهاوية، إمبراطوريتي الفرس والروم. الاشتراكية شريعة العدل، والعدل شريعة الله يلخص الطريقين معًا الصاعد والنازل: الثورة إسلام، والإسلام ثورة.