وتبلغ ذروة الحديث كما رواه البخاري في التوحيد والعدل. له
كتاب عن التوحيد وليس له كتاب في العدل؛ فهو أشعري من أهل
التوحيد وليس مُعتزليًّا من أهل التوحيد والعدل. وقد طغت
الأشعرية على عِلم العقائد منذ القرن الخامس الهجري حتى العصر
الحديث عندما حاول رائد الإصلاح الديني محمد عبده، الخروج من
الأشعرية التاريخية عن طريق الماتريدية في «رسالة التوحيد»
للاقتراب من العدل. وقال بالحُسن والقبح العقليين، وفي نفس
الوقت أثبت حاجة العقل إلى وحي، وهذا الوحي هو النبي. وظلَّ
أشعريًّا في التوحيد وإن حاول أن يكون مُعتزليًّا في
العدل.
وقد جرت العادة على جعل التوحيد أساس العدل حتى عند
المعتزلة، في الأصول الخمسة الشهيرة؛ التوحيد هو الأول، والعدل
هو الثاني. وفي الواقع العدل هو أساس التوحيد؛ فبناءً على ما
يفعله الإنسان في الواقع يتحدَّد مثله الأعلى؛ إذا فعل وأنجز
وحقق ونجح في الواقع فإنَّ التوحيد لديه يكون مجموعةً من
القِيَم والمُثل العليا، وإذا لم ينجز ولم يفعل ولم يُحقِّق
ولم ينجح تتحجَّر هذه القِيَم وتتشخَّص في نظرية الذات والصفات
والأفعال والأسماء، وتتحوَّل إلى كائن حي مُشخَّص يفعل وينجز
ويُحقِّق بدلًا عنه، وطالما أنه بعيد المنال لم يتحقَّق فإنه
يُناجيه ويدعوه ويخاطبه ويعبده أي يؤلِّهه. وكلما زاد العجز
زاد التأليه.
لا يُقال إنَّ هذا هو علم أصول الدين، وليس علم الحديث لأن
عِلم الحديث بُني على عِلم أصول الدين في مضمونه العقلي
ومضمونه الواقعي. والبخاري أشعري حتى النخاع ولو أنه عاش قبله
بحوالي نصف قرنٍ إلا أنه عبَّر عن البيئة العقائدية التي كانت
موجودة في نفس العصر. وهو موضوع جدير بالدراسة: أثر علم
العقائد في تدوين عِلم الحديث. وعلم العقائد علم سياسي
بالأصالة، أيديولوجيا المجتمع الديني. وعِلم الحديث تشريع لهذا
العِلم عن طريق التدوين والنسبة إلى الرسول، ثم إخفاء نقْد
المتن عن طريق نقد السند. وهذا الكتاب «من نقد السند إلى نقد
المتن» هو محاولة لإزاحة الستار عن هذا التأسيس لعِلم الحديث
من باطن علم أصول الدين.
(أ) التوحيد
والتوحيد يحمي المُوحد من أي خوفٍ من المستقبل، ويبعث
على الاطمئنان فيه بل والسعي إليه. وهو ما سمَّاه
الكلاميُّون حماية المُوحد من عذاب النار.
٣١٤ وإذا اقترن التوحيد العملي بالتوحيد النظري
يكون ذلك ضمانًا للمُستقبل. فمن يَخُط ببدَنه لمستقبل
الآخرين يضمن مُستقبله، مثل شهداء بدر الذين وجبت لهم الجنة.
٣١٥ التوحيد النظري طريق مسدود. فالسؤال له نهاية،
حتى الله خالق كل شيء قيل: فمن خلق الله؟
٣١٦ والتوحيد العملي لا حدود له؛ فلا حول ولا قوة
إلا الله كنز من كنوز الجنة.
٣١٧ والعياذ بالله يحمي من الشرور. هذا ما يشعر به
الإنسان إذا كان التوحيد قد تحوَّل إلى قوةٍ بديلة عن قوة
الذات. يرتكن إليها حين ضعفِه. ويجد فيها النصر والعون
والتأييد.
والشرك بالله أكبر الكبائر. ومعه عقوق الوالدين لتقوية الخبر.
٣١٨ فالشرك بالله أي عدَم احترام الآخَر، مثل عقوق
الوالدين، وهو أيضًا عدم احترام الآخر. والمبايعة على عدَم
الشرك بالله هي مُبايعة على عدم السرقة والزنا والقتل
وشهادة الزور والافتراء والبهتان. يعاقبه الله في الدنيا
أو يستره عنه ويُعذبه في الآخرة.
٣١٩ وعدم الشرك ليس مجرد الاعتراف بقضية عددية؛ أن
الله واحد، بل هو التزام بقِيَم الأخلاق البديهية التي لا
شكَّ فيها لأنَّ أصلها واحد وليس اثنين كما هو الحال في
الشرك. فالتوحيد والشرك قضيَّتان أخلاقيَّتان. الأولى أساس
القِيَم اليقينية، والثانية أساس الشك والظن والنسبية في
القيم.
والذبح باسم الله، والدعاء باسم الله، وفِعل أي شيءٍ
باسم الله مدعاة للاطمئنان. فالذبح عملٌ قاسٍ، دمٌ يسيل،
وإزهاق روح. والدعاء باسم الله لتحقيق أكبر قدرٍ مُمكن من
الإنجازات باستلهام أكبر قوة.
٣٢٠
ولا يحلف الإنسان باللات والعُزَّى بل بالله وبقول «لا
إله إلا الله.» فالله أقوى من كل الآلهة، والإله الواحد
أقوى من إلهَين أو ثلاثة أو أكثر. ولا يجوز الحلف بالآباء
بل بالله أو الصمت.
٣٢١ فالله هو أغلى ما ينتسِب إليه الإنسان. وهو
أعزُّ من الآباء والأبناء والبنات والزوجات، والتسمية
بالله تُعطي قوة وتسلُب عن الآخر المقاومة. وقد تصدَّرت
خطاب الرسول إلى هرقل عظيم الروم.
٣٢٢ فكل فعلٍ يبدأ باسم الله ليأخُذ صيغةً شرعية
ويعلن عن تأسيسه على نيةٍ خالصة مجردة دون أهواء أو ميول
شخصية. وهناك كتاب بأكمله بعنوان «الأيمان والنذور».
٣٢٣ وصيغته «والذي نفسي بيده»، «ورب الكعبة» أي
الصدق المُطلق، والتجرُّد الخالص.
والولوج باليمين في الأهل آثِم عند الله من إعطاء
الكفارة التي فرضها الله عليه. فالوفاء للأهل أسبق من
الوفاء لله. والحلف بالله ليس بالآباء.
٣٢٤ والحلف بالله مُقلِّب القلوب دليل على التغيُّر.
٣٢٥ والحلف بالثابت أولى بالحلف من
المُتغيِّر.
وكيف يتصوَّر البعض الولد لله وهو يُعاقبهم ويرزقهم؟
٣٢٦ فالله هو المُتعالي الذي ليس كمثله شيء. هو
الكائن الموجود بذاته وليس الموجود بغيره؛ لذلك وصف
المتكلمون ذاته بأنه موجود، قديم، باق، ليس في محل، يُخالف
الحوادث وواحد.
٣٢٧ وهو وجود على الطرف الآخر من الوجود الإنساني
الموجود الهش، الحادث، والكثير. فالله والإنسان وجود
مُتضايف ولكن على النقيض.
والله عالم على الإطلاق قبل حدوث المعلوم. لديه عِلم
الغيب، ومفاتيح الغيب خمسة: ما تغيض به الأرحام، وما يحدث
في الغد، ومتى يأتي المطر، وبأي أرض تموت النفس، ومتى تقوم الساعة.
٣٢٨ ولعلَّ الله اطَّلع إلى أهل بدر وغفر لهم.
٣٢٩ وهو وراء علم العباد. ومن يُرِد الله به خيرًا
يُفقهه في الدين
٣٣٠ والله يستر على المؤمن في الصباح ما عمل البارحة.
٣٣١
وهو افتراض يُبرِّر به الإنسان علمه المحدود المتغير
النسبي. يساعده على مزيدٍ من البحث والمعرفة وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ
عَلِيمٌ. ويحثُّه على التقدُّم المستمر
للعِلم. وما يُقال في العلم يُقال في باقي الصفات السبعة
كما حدَّدها المُتكلمون: القدرة، الحياة، السمع، البصر،
الكلام، الإرادة. القدرة لأن الإنسان عاجز، والحياة لأنه
ميت، والسمع والبصر والكلام والإرادة لأنه قد يكون أصمَّ،
أعمى، أبكم، هوائيًّا.
وقد تعني سبحان الله «العجب» على كل ما لم يتعوَّد
الإنسان عليه.
٣٣٢ فالله هو النموذج الفريد، وهو الأمل الذي
يتطلَّع إليه الإنسان. هو التطلُّع نحو الكمال، بعيد
المنال. لا تصف العبارة شيئًا في ذاته بل تُعبِّر عن موقفٍ
ذاتي. هي أقرب إلى الأدب منها إلى العِلم، ومن التعبير
منها إلى الوصف.
ويعني كتاب الله الشريعة أي القانون أي العدل.
٣٣٣ الله بلَّغ وحيًا إلى الرسول الذي بلَّغه إلى
الناس. وخوفًا عليه من الضياع، وهو نفس الخوف على الحديث
من التبديل والوضع فيما بعد، تمَّ تدوينه. وحفظه كتابه،
وسُمِّي مجازًا كتاب الله مع أن كُتَّاب الوحي هم الذين
دوَّنوه. والله ليس له كتاب. والخطورة أن يتمَّ التوحيد
بين الله والكتاب فيتحوَّل الكتاب إلى وثن، طباعةً
وتجليدًا وزخرفةً واستعمالًا هدايا، وتبرُّكًا، لمسًا
وتقبيلًا.
وهو نفس ما حدث بالنسبة لتعبير «إن شاء الله»، وربط
الفعل الإنساني بالمشيئة الإلهية «إنا فاعلون غدًا إن شاء
الله.» تعني إمكانية ظهور عوامل جديدة في المستقبل غير
مُتوقَّعة أثناء تحقيق الفعل ودور اتخاذ القرار.
٣٣٤ لذلك تحمِل أمثال هذه العبارات معانيَ مجازية
وإلا تمَّ إحالة كل شيءٍ في الإنسان والتاريخ والطبيعة إلى
الله. فإن قيل الله هو الذي حمل وليس الرسول فمعناه أن
التوفيق من الله، وأن على الإنسان أن يسعى وليس عليه
الوصول بالضرورة إلى نتائج مسعاه.
٣٣٥ وإنْ قيل أيضًا: إرادة المؤمنين إرادة الله
وإرادة الله إرادة المؤمنين، أي أنَّ إرادة المؤمنين تحقيق
لمقاصد الوحي وأنَّ مقاصد الوحي تحقيق للمصالح العامة.
٣٣٦ وإن قيل أيضًا تظلُّ طائفة من الأمَّة ظاهرةً
حتى يأتيها أمر الله، فإن ذلك يعني أن كل شيءٍ في التاريخ
باقٍ ببقاء فعله، وأن التاريخ هو مجموع تراكُم الأفعال.
٣٣٧ وبهذا المعنى، الله خالق كل شيء، وكاتب كل شيء
وخالق كل نفس.
٣٣٨ وهذا لا يعني إنكار العِلل الثانية إلا على
سبيل الاتكال وتبرير العجز عن الفعل. صحيح أنَّ الله لا
يُستكره على شيء، ولكنه أيضًا لا يَستكرِه أحدًا على شيء.
٣٣٩
وفي الثقافة الشعبية: عبد الله رجل صالح.
٣٤٠ وتسمية البشر عباد الله دليل على الطاعة
والخضوع. فالأسماء مواقف وعبد الله خير إنسانٍ بلا غطاء
ولا سند. وفي الثقافة الشعبية المجهول أو غير المعروف
الاسم يُنادى بعبد الله، والأم العاقر حرصًا على كرامتها
تسمَّى «أم عبد الله». والعبد لله خير من أن يكون عبدًا
لأي مخلوقٍ كان، يكون سيدًا له.
وأكبر ذنب ادِّعاء الندية لله وهو الخالق.
٣٤١ فكل المخلوقات عبيد الله. وللعبد هنا معنًى
مجازي أي مخلوق لله وليس رقًّا له. فكل إنسان حُر لا سيِّد
له. ومع ذلك أكبر الكبائر الشرك بالله، وقتل النفس، وعقوق
الوالدين، وقول الزور وشهادته.
٣٤٢ فالآخَر هو الآخَر سواء كان الله أو الإنسان
أو الذات أو الحقيقة. فالتوحيد يؤدي إلى احترام الإنسان،
واحترام الذات سواء كانت الذات الإنسانية أو تعويضها في
الذات الإلهية. ومن يحترم الذات الإلهية من التدنيس يحترم
الذات الإنسانية وحقوقها من الضياع. وإراقة دم الأبرياء
تُعادل الإلحاد في الحرم واتِّباع الجاهلية بعد الإسلام.
٣٤٣الذات الإنسانية والذات الإلهية كلتاهما
تشاركان في الحياة كوصفٍ وقصد. التوحيد يعصم الإنسان؛ فهو
حق الإنسان الأول، وواجبه الحفاظ على الذات قيمةً واحدة
سواء كانت الذات الإنسانية أم سموَّها في الذات الإلهية؛
ومن ثم لا يجوز قتل المُخالفين في الرأي ما داموا
مُوحِّدين بالله. ولا يمكن لأحدٍ الحكم على إيمان الآخر.
فلم يَشُقَّ عن قلبه، وليس تصوره لله مقياسًا لتصورات الآخرين.
٣٤٤ بل لا يجوز تسميتهم خوارج؛ فهو لفظ أتى بعد
نهاية النبوَّة يدلُّ على توجيه رواية الحديث صحيحًا أم
ضعيفًا أم موضوعًا توجيهًا سياسيًّا من السلطة ضد
المُعارضة. وإذا كان القرآن قد أُنزِل على سبعة أحرف
فلماذا حصرَه في حرفٍ واحد، هي الفرقة الناجية، فرقة
السلطان؟ والدعاء للحفظ من الكُفر والطغيان كما دعت سارة
امرأة إبراهيم أن يحفظها من الملك الطاغية بعد أن طلبها.
فلمَّا دعت وتوضَّأت وصلَّت غطَّ في نومه.
٣٤٥
لذلك يتحمَّل الإنسان ما يلاقيه من تعبٍ ونصَب في سبيل الله.
٣٤٦ فالله هو الغاية القصوى التي يسعى الإنسان إلى
تحقيقها. هو العلة الغائية أكثر منه العِلة الفاعلة.
والجهاد في سبيل الله، والغزو في سبيل الله، والاستشهاد في
سبيل الله، أي من أجل غاية نبيلة وليس من أجل مصلحةٍ شخصية
أو بطولة فردية. والعذاب في سبيل الله لدرجة الشقِّ
بالمنشار والتمشيط بالحديد حتى اللحم والعظم كما حدث
للأنبياء، نماذج الشهداء.
٣٤٧ وهم قدوة جميع المؤمنين ونموذج لتحقق الإيمان
في التاريخ. ويُعرض على الرسول غزاة الأمة يركبون البحر
ملوكًا على الأسرَّة.
٣٤٨ وذلك تشجيعًا للفتح واستثارةً للهمم وتحقيقًا
لرؤيةٍ مستقبلية بالنصر ووراثة القياصرة والأباطرة على
كراسيهم. والقتل في سبيل الله تمنٍّ وشهادة، فيتمناها
الإنسان أكثر من مرة.
٣٤٩ فالحياة عقيدة أو جهاد كما قال أحد المُصلحين
المُعاصرين. من جاهد في سبيل الله دخل الجنة.
٣٥٠ بداية صادقة ومسار صادق ونهاية صادقة
وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا
فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ
رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ من قاتل لتكون كلمة
الله هي العُليا يكون في سبيل الله.
٣٥١ وهذا يعني الانتصار للحق والعدل، كلمة
الله.
والإيمان أن يسير الإنسان من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف
إلا الله، والذئب على غنمه.
٣٥٢ فالتوحيد يُعطي الإنسان الثقة بالنفس دون أن
يتخلى عن الحذر، ويُلقي بنفسه إلى التهلكة. والرسول أعلم
الناس بالله وأشدُّهم خشية منه.
٣٥٣ الخوف على الخارج، والخشية في الداخل. الخوف
على المُحيط الخارجي، والخشية في الشعور الداخلي. ومن
السبعة الذين يظلهم الله رجل ذكَر الله ففاضت عيناه خشية.
٣٥٤ الخشية هي الوازع الداخلي والضمير الحي بلا
رقيب خارجي أو خوف من عقاب. هي راحة الضمير في سكونه
والرضا عن النفس. فإن قلَّ تحوَّل إلى خوفٍ من عقاب خارجي،
نار جهنم. والموت استراحة الإنسان من تعَب الدنيا وأذاها
إلى رحمة الله.
٣٥٥ الرحمة هي السماحة والعفو والإنسانية والعفو
والقبول والمحبة والتعاطف. قد يُعبَّر عنها بالصورة
الفنية. فبعد أن خلق الله الخلق كتب في كتابه أنه كتب على
نفسه الرحمة ووضع يدَه على عرشه أنَّ رحمته تغلب غضبه.
٣٥٦
ويُرى الله، ولا شكَّ في رؤيته مثل رؤية الشمس دون سحاب،
والقمر ليلة البدر. ويطلب الله إلى كلِّ من كان يعبد أحدًا
سواه فليتبعه، كالشمس أو القمر أو الطاغوت. ويأتي
المنافقين في صورةٍ أُخرى ويكشف لهم عن نفسه فيتبعونه إلى
جسر جهنم به شوك السعدان. ثم يخرج منهم من بقي فيه آثار
لسجودٍ ويُصبُّ عليهم ماء الحياة فيبعثون من جديد.
ويستمرُّ الحوار مع الله في حديثٍ طويل.
٣٥٧ فمُنتهى النعيم رؤية الذات الإلهية من الذات
الإنسانية، رؤية داخلية وليست رؤية موضوعية خارجية.
ويتنوَّع الخيال وتتبدَّل الصور الفنية طبقًا للقُدرة على
التشبيه البلاغي. ورؤية الله تصوير فني للقُرب والوصول
والوصال. والطريق الصلاة قبل طلوع الشمس وقبل الغروب في
أوقات السحر، أي الانتقال من الليل إلى النهار حيث تنتقِل
النفس من القديم إلى الجديد وتكون في حالة حركةٍ لا سكون.
٣٥٨
وتتكرَّر صِيَغ التوحيد في كل صلاةٍ لتوحيد قوى الإنسان
ودفعها نحو غايةٍ واحدة.
٣٥٩ تتوحَّد قواه الداخلية، الشعور والفكر، وقواه
الخارجية، القول والعمل، ضدَّ كل مظاهر الازدواجية في
السلوك، مثل النفاق والخوف والجبن واللامبالاة. ثم تتوحَّد
قوى المجتمع وطبقاته الاجتماعية بلا تفاوُتٍ بين الطبقات،
أغنياء وفقراء، شرفاء ووُضَعاء. ثم تتوحَّد القوى
الإنسانية بين الدول. فلا مركز ولا أطراف، ولا بِيض ولا
ملونَّين، سُود وسُمر وصُفر، ولا مُتقدِّمين ومُتخلفين،
ولا شمال ولا جنوب، ولا غرب ولا شرق. فالتوحيد ليس مجرد
عقيدة بل هو قيمة تتحقَّق على كل المستويات الفردية
والاجتماعية والدولية.
(ب) العدل
والعدل كما هو لدى المعتزلة في أصولهم الخمسة هو الأصل
الثاني بعد التوحيد، الأصل الأول. وفي الحقيقة هو الأصل
الأول الذي على أساسه يتمُّ تصوُّر التوحيد. فما يحدُث في
الواقع ينعكس في تصوُّر المثال. وقدرة الإنسان على الأرض
هي التي تُحدِّد تصوُّره للسماء؛ فالعمل يسبق النظر،
والفعل يسبق التصوُّر. وبناء على نجاح الإنسان وإحباطاته
يتم تصوُّر مُثُله وتصوُّراته. وكما هو الحال في التحليل
النفسي، كل مضمون الأحلام، عالم التمنيات، هو انعكاس لِما
يحدُث في عالم اليقظة من إشباعات أو إخفاقات. فالدين هو
حلم الإنسانية الطويل بعالَمٍ من الحق والعدل والمساواة،
والفضيلة والخير والسلام.
والأخلاق هي هذا العالَم المتوسط بين الحلم والواقع، بين
الدين والمجتمع، بين ما ينبغي أن يكون وما هو كائن.
فالمَثل الأعلى هو تجريد أخلاقي لله. والله هو دفع المَثل
الأعلى درجةً نحو التشخيص والتسكين والتجسيم، ونقله من
الذات إلى الموضوع، ومن الزمان إلى الخلود. الله هو المَثل
الأعلى، النية الخالصة في مقابل نوايا الدنيا؛ ثروة أو
سلطة أو جنس.
٣٦٠ الله هو مجموع القيم الأخلاقية.
٣٦١ هو مجموع المبادئ التي تُحدِّد سلوك الإنسان
مع نفسه ومع الجماعة وإلا ظلَّ الإنسان خاضعًا لمُجرَّد
الأعراف والعادات النسبية المُتغيِّرة. وأصبح بتعبير
الفلاسفة كائنًا «لا أخلاقيًّا»، مجرد كائن اجتماعي
تاريخي.
والله لا يقبل الصلاة بلا وضوء. وإذا كان الوضوء شرط
صحَّة الصلاة فالله هنا رمزٌ للصحة والكمال.
٣٦٢ الله هنا رمز للفعل الأخلاقي الكامل الشروط.
يُحال إليه لأنَّ المجتمع دينيٌّ ما زال يتكوَّن. لم يُصبح
عقلانيًّا «علمانيًّا» بعدُ يدرك الأخلاق في ذاتها، والقيم
في ذاتها. فالأخلاق الدينية تسبق الأخلاق الذاتية. الأولى
تنبع من لبِّ العقيدة وهو الله لأن المجتمع صاحب رسالة
جديدة. كل شيء يرتبط بها. يفسر كل شيء بالعلة البعيدة وليس
بالعلل القريبة. يُرى كلُّ شيءٍ من منظور الأيديولوجيا
الجديدة؛ الدين، وليس في ذاته مما يتطلَّب وقتًا طويلًا
لتأسيس المجتمع المدني.
ومن القيم الأخلاقية التي أخذت ثوبًا دينيًّا التواضُع.
فأسماء البشر عبيد لله، عبد الرحمن، عبد الرحيم، عبدالله.
٣٦٣ عبد الواحد، عبد الحي، عبد القادر، عبد السميع
عبد السلام، عبد المؤمن، عبد القاهر، عبد الغفار، عبد
القوي. وكلها خاضعة للذات والصفات والأفعال الإلهية التي
تعلو كلَّ شيء، وكل شيء آخر خاضع لها. وأخسُّ الأسماء من
تسمَّى بملك الملوك لأنه اسم من أسماء الله. وهي مجموع
القِيم الأخلاقية الإرشادية المُطلقة للسلوك الإنساني.
فسلوك الإنسان له سند من أسماء الله ليستمدَّ منها مثاليته وتعاليه.
٣٦٤
ومن يتصبَّر يُصبِّره الله، تقوية للصبر.
٣٦٥ فالصبر فضيلة إنسانية. كثيرًا ما أبرزها
الصوفية حتى أصبح أحد المقامات.
٣٦٦ فالله هنا يُمثل قوة إضافية على التشجيع على
الاستمرار في مُمارسة الفضيلة وعدَم التخلِّي عنها طالَما
أنها ما زالت لم تُصبح قيمة ذاتية. فالأخلاق الدينية
الإلهية مُقدِّمة للأخلاق الإنسانية الذاتية.
والكذب في الله صِدق، فالضرورات تُبيح المحظورات، فقد
كذب إبراهيم على الملك وقال إنَّ سارة أخته وليست امرأته
لإنقاذها من رغبات الملك.
٣٦٧ فالإنسان هو الأولى. فبالرغم من أنَّ القيمة
مُطلقة مثل الصدق إلا أنها تتراجَع لقيمةٍ أخرى أعلى منها
مثل الكرامة، طبقًا لسُلَّم القِيَم، وتنازل الأدنى للأعلى
أو الأعلى للأدنى في حالة الخطر، إنقاذًا لمقاصد الشريعة.
وهو ما سُمِّي في ثقافاتٍ أُخرى الغايات تُبرِّر الوسائل.
وهو ما يُقِرُّه الواقع والطبيعة والتلقائية. فالمَثل
الأعلى ليس صوريًّا جامدًا بل يرعى حياة الناس. هو مثل
أعلى مُستمد من الواقع ومُستقرأ منه.
وفي نفس المعنى تكون الدعوة إلى اليُسر والتيسير عن طريق
اللجوء إلى «الله» كوسيلة للإقناع مثل «من شاقَّ شقَّ الله عليه.»
٣٦٨ وفي صياغةٍ أُخرى قد يُضاف يوم القيامة لمزيدٍ
من الإقناع. فالله ليس كما هو في ذهن المحافظين
المُتشدِّدين يُضحِّي بالبشر وبالحياة في سبيل إرادته
ومشيئته، بل الغاية هي المحافظة على حياة الناس. الله غني
عن العالمين. والإنسان في حاجة إليه كمَثلٍ أعلى. والدين
ليس مشقَّة. الدين يُسر وليس عسرًا. والله رحمة للعالمين
وليس شقاءً لهم. يُحب الرفق في الأمور وليس التشديد فيها.
٣٦٩
والله هو السلام؛ لذلك يُقال في آخر الصلاة في التشهُّد
«التحيات لله، والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي
ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله
الصالحين.» فيُصيب كل عبد صالح في السماء والأرض التشهُّد.
٣٧٠ وللحديث صياغات وضعية أُخرى دون إدخال الله.
هو السلام مع النفس وعيش حياة الرضا، والسلام مع الآخر
وعيش حياة الوفاق، والسلام مع العالَم وعيش حياة الانسجام
على عكس التصوُّر الشعبي أنَّ الدين حياة الصراع مع النفس
بالزجْر ومع الآخرين بالمنع ومع العالَم بالتحريم. الجهاد
فقط في حالة العدوان والدفاع الشرعي الطبيعي عن النفس. لا
يبدأ الإسلام بالعدوان على أحدٍ بل يدعو بالحِكمة
والمَوعظة الحسنة ويُجادل بالتي هي أحسن
فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ
عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ.
وبالإضافة إلى القِيَم الفردية، هناك أيضًا القِيَم
الاجتماعية. فالإسلام دين اجتماعي. الترغيب لزيادة الرزق
والولد لصِلة الرحم.
٣٧١ «تكاثَروا تناسَلوا فإني مُباهٍ بكم الأُمَم
يوم القيامة.» والإسلام هو المسلمون. والمُسلمون أمة.
تكويناتهم الأولى جماعية؛ المهاجرون والأنصار. ونشأ في
بيئة جماعية، القبائل والعشائر. ودخل غزوات دفاعًا عن
النفس. وأقام حروبًا لتحرير مُستعمرات الفُرس والروم على
أطراف شبه الجزيرة العربية. وإذا كان لكلِّ أمةٍ شهيد فإن
الرسول شهيد على الأُمَم
فَكَيْفَ
إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا
بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا. والمال
والبنون زينة الحياة الدنيا. وأول تجمعٍ الوالدان. بعد
عبادة الله
وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا
تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ
إِحْسَانًا.
والحرام من الله وليس فقط من الطبيعة. فقد حرَّم الله
الدماء والأموال الأعراض، تأكيدًا على يقين الحُرمة وليس
فقط ظنيَّتها.
٣٧٢ فحُرمة الطبيعة قد يختلف فيها الناس طبقًا
لاختلاف الطبائع؛ لذلك لزمت وحدة الشرائع من وحدة
الألوهية. يقين الطبيعة يقين أول، ويقين الله يقينٌ ثانٍ
لتأكيد اليقين الأول وإعطائها مزيدًا من اليقين. ولتصحيح
الطبيعة إذا ما تحوَّلت إلى ظنٍّ نظرًا لتعدُّدها
واختلافها. في الأصل هي حلال لأنَّ الطبيعة خيِّرة.
والاستثناء سُوء فهم أو تأويل الإنسان لها أو عدم إدراك أبعادها.
٣٧٣
وتُستعمَل العقائد كأسُسٍ للأخلاق مثل «لا يؤمن من لا
يأمن الجار بوائقه.» و«من يؤمن بالله واليوم الآخر لا يؤذي
جاره.» و«يكرم ضيفه ويقُل خيرًا أو ليصمت.» وكل معروف
صدقة، وكل إمساك عن الشر صدقة، والكلمة الطيبة صدقة.
والمؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشدُّ بعضه بعضًا.
٣٧٤ هنا يُصبح الآخر هو الله، الله هو الآخر.
والله في عون العبد مادام العبد في عون أخيه. فالأولوية
للآخر الإنساني. والآخر الإلهي ما هو إلا تعويض عن الآخر
الإنساني في حالة غيابه. الأُفقي أولًا، فإذا غاب نشأ
الرأسي كما حدَثَ في التصوُّف.
٣٧٥ من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقُل خيرًا
أو ليصمت.
٣٧٦ وفي صياغات أخرى يُضاف: وليكرم ضيفَه وليصِلْ
رحمه. فالله هو الآخر الرأسي، والآخر هو الله
الأفقي.
والله لا يُكلِّم يوم القيامة ولا يُزكي ويَعِدُ بالعذاب
الأليم لمن يمنع أحدًا من فضل ماءٍ بالطريق، ومن يُبايع
الإمام للدنيا، ومن باع وحلف بالثمن كذبًا.
٣٧٧ فالماء حياة البدوي في الصحراء. ومُبايعة
الإمام على الدنيا وليس على الحق خيانة للأمانة، ونبذ
للشهادة، وطمَع في مغانم الدنيا. ومن كذب في التجارة فقد
غشَّ أخاه. فالظاهر أن الدين أساس الأخلاق. وفي الواقع
الأخلاق أساس الدين في حالة عدَم تحقُّقها. الدين أساس
الأخلاق في الثقافة الشعبية والأخلاق أساس الدين في
الثقافة العامة.
والترحُّم بالله على إنسانٍ للعزاء. فالفقد يُلجئ إلى
الوجد كما هو الحال عند الصوفية. الدين تعويض عن الدنيا،
والخلود بديل نفسي عن الزمان. وفي العزاء الشعبي إما أن
يكون باقي الزمان في حياة قريب المُتوفَّى «الباقية في
حياتك.» أو في الرحمة الإلهية «الله يرحمه.»
٣٧٨
جعل الله الإخوان تحت أيدي المُسلمين يُطعمونهم
ويُلبسونهم ولا يُكلفونهم من العمل ما لا يُطيقون أو
يُعينونهم عليه.
٣٧٩ وهو معنى حديث «الله في عون العبد ما دام
العبد في عون أخيه.» وللحديث صِيَغ أخرى مثل «وكونوا عباد
الله إخوانًا.» فالوجود الإسلامي وجود جماعي. الفرد
للجماعة، والجماعة للفرد ويَدُ الله مع الجماعة.
والمسلم أخو المسلم لا يظلمه. ومن كان في حاجة أخيه كان
الله في حاجته.
٣٨٠ ويموت عبد الله وهو آخِذ بالعروة الوُثقى. وفي
المنام الروضة روضة الإسلام. والعموم عدو الإسلام، والعروة
الوثقى التمسُّك بالإسلام.
٣٨١ وسباب المُسلم فسوق، وقتاله كفر.
٣٨٢ وهي قيمة احترام الآخر. فالمُسلم من سلِم
المسلمون من لسانه ويده. الإسلام حُرمة بين المسلمين
احترامًا للأخوة في الدين أي الترابُط الاجتماعي. لا يُهان
ولا يُعتدى عليه. ومن ثَمَّ كل ما يقع بين المسلمين من
شجار، وكل ما يقع بين المواطنين من عُنفٍ وتكفير أو بين
المحكوم والحاكم من عنفٍ مُتبادل خارج عن الأخوة
الإسلامية.
وقد يكون الترغيب في صلة الرحم عن طريق حديث الله مع
خلقِه بعد الخلق. فقد سألت الأرحام عن مَقام العائذ به من
القطيعة فأخبرَها الله أنه يصِل مَن وصلها، ويقطع من قطعها.
٣٨٣ وللحديث صِيَغ أخرى بنفس الصورة، حديث الرحمن
للأرحام. وقد تأتي صورة أخرى بأنَّ الله وليُّ من يصِل
الأرحام. والصورة بليغة ومؤثرة «صِلة الرحِم» منذ الميلاد،
وربط المواليد. وقد يكون الترغيب بحديث الله عن الساعي على
الأرملة والمسكين كالمُجاهد في سبيل الله.
٣٨٤ فالجهاد من أجل إعطاء الحياة للآخرين مثل
الجهاد لنَيل الشهادة للذات. وقد يكون فعل الله بالتصوير
والحكاية برَجُلٍ اشتدَّ عليه العطش فنزل بئرًا وشرِب ثم
نزل مرةً أخرى لريِّ كلب عطش بخفِّه فغفر الله له.
٣٨٥ فللإنسان في كل كبدٍ رطبة أجر. الحياة حياة،
لا فرق بين نبات أو حيوان أو إنسان. فالحفاظ على الزرع
الأخضر مثل الحفاظ على حياة الحيوان أو الإنسان. وإن أشرَّ
الناس عند الله يوم القيامة من ترَكَه الناس اتِّقاء شره.
٣٨٦
ولمَّا كان الإسلام جماعة، والمسلمون أمَّة، فإن أبغض
الناس إلى الله الألد الخصيم.
٣٨٧ الخصومة لا تكون إلا في الله، أي خصومة على
المبادئ والقِيَم الخلقية وليست الخصومة الشخصية بناء على
الأهواء والانفعالات البشرية. الإسلام صُلح بين الأخوين
وبين الطائفتَين. المُصالحة توحيد، والخصومة تفريق. وقد
طلب الرسول من عائشة الرفق في التعامُل مع الناس حتى مع
الأعداء، لأنَّ الله يُحب الرفق.
٣٨٨ والجدال بالتي هي أحسن تُحيل الخصيم إلى ولي،
والعدو إلى صديق
ادْعُ إِلَى سَبِيلِ
رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ
الْحَسَنَةِ،
فَإِذَا
الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ
وَلِيٌّ حَمِيمٌ.
والمدح تملُّق ومُداهنة. ومن يمدح فكأنما يقطع عُنق
الممدوح. وإن كان لا بدَّ فيكون ظنًّا وحسبانًا. ولا
يُزكِّي على الله أحدًا.
٣٨٩ والذم اغتياب ونقص في المواجهة. وكلاهما ليس
من خُلق المسلم. ومن يرائي يُرائي الله به.
٣٩٠ وأحيانًا تأتي أحاديث مُضادَّة مثل حُب الله
للمدح إذا كان اعترافًا بحسنات الغير وتشجيعًا عليها.
٣٩١ ومع ذلك فالأخذ بالأحوط أفضل
قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ،
وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ
فَيُدْهِنُونَ فالمُداهنة كذِب. والمُكذِّب لا
يُطاع
فَلَا تُطِعِ
الْمُكَذِّبِينَ.
وتضم الأخلاق مجموعةً من الآداب العامة البديهية. الله
مرآة لها. في الصلاة يكون الإنسان أمام وجه الله فلا يتنخَّم.
٣٩٢ وكذلك إذا كان أمام وجه الآخرين احترامًا
لكرامة الوجه الذي يرمُز إلى وجود الآخر. والله يُحب
العطاس، ويكرَه التثاؤب. إذا عطس أحد يحمد الله، وعلى كل
مُسلم أن يُشمِّته.
٣٩٣ قد يكون العطاس دليلًا على النشاط الزائد أو
إثباتًا للوجود، في حين أن التثاؤب مَلل من وجود الآخر،
ورغبة في النوم. فالأخلاق ليست فقط معايير لأفعال الجوارح
بل هي أيضًا لحركات الجسد الإرادية واللاإرادية. فالجسد
لغة، تعبير وإشارة. وكما هو الحال عند بعض الفلاسفة
المُعاصرين في الغرب. استعملها الرسول بيدَيه
ورأسه.
وأخيرًا، قد تكون الغاية «من نقد السند إلى نقد المتن»
بعد اكتشاف عِلم أصول الدين في بطن عِلم الحديث هو العودة
بالتوحيد إلى فاعلية في الفرد والجماعة وإلى حركةٍ في
التاريخ وتحريره من تدوين الحديث ونِسبته إلى الرسول،
والعودة بأصول الدين إلى مبادئ الأخلاق، ومن النظر إلى
العمل، من الاعتقاد إلى السلوك. فصيغة التوحيد الأولى
«أشهد أن لا إله إلا الله» تتضمَّن ثلاثة أفعال للشعور:
الأول فعل «أشهد» أي أرى وأسمع وأتكلَّم وأعبر عن كل ما
يَحدُث حولي دون خوفٍ أو وجَل أو نفاق أو كذِب على نقيض
الحِكمة الصينية الشهيرة «لا أرى، لا أسمع، لا أتكلَّم».
وفعل نفي «لا إله» تحرير الشعور من كل الآلهة المُزيفة لكل
عصر، الجاه، الثروة، السلطة، الشهرة، المرأة. وفعل إثبات
عن طريق الاستثناء «إلا الله» أي الله الواحد الحق العدل
الذي يتساوى أمامه الجميع.
٣٩٤ فالتأليه هنا تحرير لا يحتاج إلى قتالٍ فِعلي
بل إلى جهدٍ شعوري. وهو ما سُمِّي «جهاد النفس» دون
الإقلال من «الجهاد الأكبر». جهاد النفس في الداخل والجهاد
الأكبر في الخارج. الأول ضدَّ القهر الداخلي، والثاني ضد
التسلُّط الخارجي.
٣٩٥
وإذا كان «نقد السند» عند القدماء قد ربط عِلم الحديث
بعلم التاريخ فإن «نقد المتن» عند المُحدثين يربط الحديث
بالعلوم الإنسانية؛ النفس والأخلاق والاجتماع والفلسفة، من
أجل معرفة مدى تطابُقه مع العقل ومع الواقع، وهما
الركيزتان الرئيسيتان للوحي، وبالتالي تظهر وحدة الوحي
والعقل والطبيعة التي وراء نشأة العلوم الإسلامية كلها،
النقلية التي بدأت بالنقل، والعقلية التي بدأت بالعقل،
والنقلية العقلية التي جمعت بين الاثنين.
٣٩٦