الفسكونت المشطور

مؤسسة هنداوي مؤسسة هنداوي

أسلافنا

مقدمة المؤلف

جمعت في هذا الكتاب ثلاث قصص كتبتها في عقد الخمسينيات. ما يجمع بين هذه القصص الثلاث هو الخيال، فأحداثها تقع في أزمنة سحيقة وأمكنة متخيَّلة. وعلى الرغم من الاختلافات بين القصص فإن هذه الخصائص المشتركة تجعلني أسميها «حلقة» بل «حلقة متكاملة»، أي منتهية؛ ذلك لأني لا أنوي أن أكتب قصصًا أخرى من هذا النوع. وها قد أتيحت لي الفرصة لأعيد قراءة هذه القصص ولأحاول أن أجيب على أسئلة كنت أغض الطرف عنها كلما خطرت لي على بال: لماذا كتبت تلك القصص؟ ماذا أردت أن أقول؟ وما الذي قلته بالفعل؟ وما دلالة هذا النوع من السرد القصصي في إطار الأدب اليوم؟

في البداية كنت أؤلف قصصًا تتبع مذهب «الواقعية الجديدة»، كما كانوا يسمونها في ذلك الوقت، أي أنني كنت أحكي قصصًا حدثت ليس لي ولكن للآخرين، أو كنت أتخيل إمكانية حدوثها أو أتخيل أنها حدثت بالفعل، و«الآخرون» كانوا أناسًا «من الشعب» ولكن غالبًا ما كانوا حالات استثنائية. فهي شخصيات غريبة يمكن تقديمها فقط من خلال كلماتها أو إيماءاتها، دون أن أبحث كثيرًا في خلفياتها الفكرية أو العاطفية. كنت أكتب جملًا مختصرة وسريعة؛ وكل ما يهمني هو انطلاقة معينة أو سلوك معين. وكانت تعجبني القصص التي تدور أحداثها في الهواء الطلق وفي الأماكن العامة، كالمحطات، وكل تلك العلاقات الإنسانية بين الأشخاص الذين يتقابلون بالمصادفة؛ ولم تكن تهمني — وربما لم أتغير كثيرًا منذ ذلك الوقت — الحالة النفسية، وبواطن الأمور، والأمور الداخلية والحياة العائلية والعادات والمجتمع (وخاصة إذا كان مجتمعًا صالحًا).

ولسبب ما بدأت بقصص المناضلين من رجال المقاومة؛ إذ إنها كانت تحقق نتائج ناجحة حيث تمتلئ قصصهم بالمغامرات والحركة، وطلقات الرصاص، كانت قاسية ومرحة إلى حد ما، مثل سمة هذا العصر، وتتميز بروح «الإثارة» التي تشبه الملح في الرواية. وكتبت أيضًا رواية قصيرة عام ١٩٤٦م بعنوان «مدق أعشاش العنكبوت»، وفيها أخذت أصبغ كل شيء بقسوة الواقعية الجديدة، ولكن بدأ النقاد يقولون إنني «أسطوري»، وفهمت أصول اللعبة؛ أدركت جيدًا أن الكاتب يحصل على هذا التقدير عندما يكتب بشكل أسطوري وخرافي عن مشاكل الطبقة الكادحة، أو عن أخبار الحوادث، ولكنه لا يمكن أن يكون أسطوريًّا إذا كتب عن القصور والبجع؛ إذ إن ذلك لا يتطلب أي مهارة.

وهكذا حاولت أن أكتب روايات تتبع اتجاه الواقعية الجديدة، تحكي عن حياة الشعب في تلك الأعوام، ولكنها لم تحظَ برضاي فتركتها كما هي بخط اليد في درج مكتبي. فإذا أخذت أحكي بنبرة مرحة، كان الأمر يبدو مصطنعًا، فالحقيقة كانت معقدة جدًّا، وكان كل أسلوب أدبي استخدمته للتعبير عن هذا الواقع يبدو مصطنعًا. وإذا استخدمت نبرة أكثر جدية وتأملًا كان كل شيء يتحول إلى اللون الرمادي، للحزن، وكنت أفقد أي بصمة تشير إليَّ، أي الدليل الوحيد على أن من يكتب هو أنا وليس شخصًا آخر. لقد كان جرس الأشياء هو الذي تغيَّر؛ فلقد تباعد زمن الحياة المنفلتة إبان فترة المقاومة وفترة ما بعد الحرب، ولم يعد المرء يصادف كل تلك الأنماط الغريبة التي كانت تحكي قصصًا استثنائية، أو ربما كنت ما زلت أصادفهم، ولكنني لم أعد أتعرف على نفسي من خلالهم ومن خلال قصصهم. واتخذت الحقيقة مواقف مختلفة وطبيعية في مظهرها الخارجي، وأصبحت تلك الحقيقة حقيقة مؤسسية، فلم يعد من السهل رؤية الطبقات الشعبية إلا من خلال المؤسسات التي تمثلها، وأصبحت أنا أيضًا منضمًّا إلى فئة لها وضعها القانوني، فئة المثقفين في المدن الكبرى، بحللهم الرمادية وقمصانهم البيضاء. ولكني فكرت: ما أسهل إلقاء اللوم على الظروف الخارجية، ربما لم أكن كاتبًا حقيقيًّا، ربما كنت شخصًا كتب مثل كثيرين مأخوذًا بفترة التغييرات؛ ثم انطفأ بداخله هذا الحماس.

وهكذا، بغصةٍ في نفسي وبإحساس المرارة من كل شيء حولي، شرعت في كتابة الفسكونت المشطور عام ١٩٥١م لاستغلال وقت الفراغ. لم يكن لدي أي غرض ولم أكن أنوي اتباع اتجاه أدبي معين دون غيره، ولم تكن نيتي أيضًا استخدام الرموز الأخلاقية أو حتى العمل السياسي بمعناه الضيق. كنت بالفعل متأثرًا — وإن لم أدرك ذلك — بالجو السائد في تلك الأعوام، فلقد كنا في قلب الحرب الباردة، وكان يسود حولنا نوع من التوتر والتمزق الأبكم اللذين لم يظهرا في صورة مرئية، ولكنهما كانا يسيطران على نفوسنا. ودون أن أدري وجدت نفسي أكتب رواية خيالية تمامًا، وأعبر ليس فقط عن معاناة تلك اللحظة الخاصة ولكن أيضًا عن محاولة الخروج منها؛ أي أنني لم أقف مكتوف اليدين أمام الواقع السلبي ولكنني نجحت في أن أبث فيه الحركة والغرابة، القسوة والاقتصاد في التعبير والتفاؤل القاسي؛ وهذه جميعًا كانت عناصر أدب المقاومة.

لم يكن لدي في البداية سوى هذا الدافع، مجرد قصة في ذهني أو الأفضل أن نقول إن القصة كانت مجرد صورة في ذهني. ففي أصل كل رواية كتبتها كانت هناك صورة تدور في رأسي — لا أعرف كيف ولدت — وأجد نفسي مهمومًا بها ربما لسنوات. ورويدًا رويدًا أجد نفسي أعمل على تطوير تلك الصورة لتصبح قصة لها بداية ونهاية، وفي الوقت ذاته أقنع نفسي بأن هذه القصة تحتوي على معنًى، ولكن عادةً ما كانت هاتان العمليتان تتمَّان بشكل متوازٍ ومستقل. وبمجرد أن أبدأ الكتابة يتكشف لي كل ما كان معلقًا كما أشرت توًّا. بالكتابة فقط يمضي كل شيء في ذهني إلى مكانه الصحيح.

منذ فترة قليلة كنت أفكر في رجل انشطر طوليًّا إلى نصفين، وكل نصف منهما ذهب إلى حال سبيله. هل هي قصة جندي في حربٍ حديثة؟ ولكن استخدام أسلوب الهجاء فيما يتعلق بهذه الحرب قد صار مستهلكًا، ورأيت أنه من الأفضل تناول حرب من الزمن البائد، الأتراك مثلًا. وماذا عن الإصابة؟ هل تكون بسبب سيف؟ لا، الأفضل أن تكون بسبب طلقة مدفع، وهكذا سيكون الاعتقاد أن هناك جزءًا قد دُمِّر تمامًا، ولكنه سيظهر فيما بعد. ولكن أكان لدى الأتراك مدافع؟ نعم، ليكن موضوعنا هو الحروب بين النمسا والأتراك في نهاية القرن السابع عشر، في عصر الأمير أوجينيو. وعلى أن يبقى كل شيء مبهمًا إلى حد ما، فالرواية التاريخية لم تكن تهمني (بعد). إذن ينجو أحد النصفين، ويظهر النصف الآخر في وقت لاحق. ولكن كيف يمكن التمييز بينهما؟ إن طريقة التأثير الأكيدة هي أن يكون هناك نصف طيب ونصف شرير، تضاد على طريقة ستيفنسون مثل دكتور جيكل ومستر هايد، أو الأخوين في رواية سيد بالانتراي. وهكذا نظمت القصة نفسها على أساس شكل هندسي دقيق. وكان يمكن للنقاد أن يمضوا في الطريق الخاطئ ويقولوا إن ما كان في ذهني هو عرض فكرة الخير والشر. لا لم يكن هذا ما أريده مطلقًا، بل إنني لم أفكر لحظة واحدة في فكرة الخير والشر. فكما يفعل الرسام عندما يستخدم التضاد في الألوان ليظهر شكلًا ما، هكذا استخدمت أنا تضادًّا روائيًّا واضحًا لأظهر ما يهمني؛ أي الانقسام.

فالإنسان المعاصر ممزق، منقسم، غير مكتمل، بل عدو لنفسه، يصفه ماركس بأنه «مغترب» وفرويد بأنه «مُقمع»، فإن حالة التناغم القديمة قد ولت، وبدأنا نتطلع إلي نوع جديد من التكامل. تلك هي النواة الأيديولوجية الأخلاقية التي كنت أريد إضافتها بوعي للقصة، ولكن بدلًا من أن أعمل على تعميقها على الصعيد الفلسفي، فضلت أن أعطي للرواية هيكلًا يعمل عمل آلة متكاملة، وأن أعطيها جسدًا ودمًا من التراكيب الخيالية الغنائية.

ولم أستطع أن أحمِّل البطل وحده نموذج أنماط تمزق الإنسان المعاصر؛ إذ إنه كان يكفيه أن يمضي قدمًا بأحداث القصة وآليتها، لذلك وزعت هذا التمزق على بعض الشخصيات المحيطة به. كانت إحدى تلك الشخصيات هي شخصية المعلم بيتروكيودو النجار، والتي يمكن أن أقول إنها الشخصية الوحيدة التي لها دور أخلاقي خالص وبسيط. وهذا الشخص يصنع مشانق وأدوات تعذيب دقيقة ومتطورة، محاولًا ألا يفكر في مجال استخدامها، هكذا مثلما يفعل العالم أو التقني اليوم عندما يصنع قنابل ذرية أو حتى عادية دون أن يعرف في أي مجتمع ستستخدم، ويظل التزامه الوحيد هو «إجادة صنعته» غير كافٍ لتهدئة ضميره. وموضوع العالم «الصرف» المحروم (أو غير الحر) من التكامل مع الإنسانية الحية يظهر أيضًا في شخصية الدكتور تريلاوني، والتي ظهرت بطريقة مختلفة تمامًا وكأنها صورة مصغرة لنمط روبرت لويس ستيفنسون، تستدعيها كل الدلالات الأخرى لهذا المناخ، واكتسبت بذلك نوعًا من الاستقلالية النفسية.

وتنتمي مجموعتا «مرضى الجذام» و«الهوغونيين» إلى شكل من أشكال الخيال أكثر تعقيدًا، فهما يشكلان خلفية غنائية خيالية للرواية قد تكون مرتبطة بالتقاليد التاريخية القديمة المحلية لقرى مرضى الجذام (في أرض ليجوريا أو بروفينسا، ومجموعات الهوغونيين الهاربين من فرنسا في كونييزي، وذلك بعد إلغاء قرار «كانت»، أو قبل ذلك أيضًا، بعد ليلة القديس بارتولوميو). فلقد ظهر مرضى الجذام ليمثلوا لي اللذة وعدم المسئولية والسقوط السعيد والعلاقة بين النزعة الجمالية والمرض، أي بطريقة ما مذهب الانحطاط الفني والأدبي المعاصر، ليس فقط، ولكن أيضًا ذلك المذهب الموجود منذ الأزل (أركاديا). ويمثل الهوغونيون الانقسام المضاد، الأخلاقيات، ولكن بوصفهم صورة لشيء أكثر تعقيدًا حيث يدخل في ذلك نوع من السر العائلي (افتراض أصل اسم عائلتي لم يتأكد حتى الآن)؛ فهو تصوير (هجائي ومليء بالإعجاب في الوقت ذاته) للأصول البروتستانتية للرأسمالية كما وصفها ماكس فيبر، وبالتالي لأي مجتمع آخر مبني على الأخلاقيات الفعَّالة، وهو استدعاء مفعم بالتعاطف وخالٍ من الهجاء لأخلاقيات دينية بلا دين.

ويبدو لي أن كل الشخصيات الأخرى لرواية الفسكونت المشطور لا معنى لها سوى وظيفتها في الحبكة الروائية. بعضها خرج بصورة جيدة بالفعل — أي اكتسب حياة حقيقية — مثل المربية سيباستيانا، والفسكونت أيولفو، أيضًا بالرغم من ظهوره الخاطف. أما عن شخصية الفتاة (الراعية باميلا) فقد كانت مجرد نموذج للواقعية الأنثوية في مقابل لا إنسانية المشطور.

وماذا عن مداردو المشطور؟ لقد قلت إنه كان يتمتع بحرية أقل من الآخرين؟ فمسيرته محددة مسبقًا لتتفق مع الحبكة الروائية. ولكن بالرغم من كونه محدودًا هكذا إلا أنه نجح في أن يظهر غموضًا عميقًا يتوافق مع شيء ما لم يكن قد اتضح بعد في ذهن المؤلف. كان هدفي المؤكد هو محاربة كل انقسامات الإنسان، والبحث عن الإنسان الكامل. ولكن الواقع أن مداردو الكامل الذي ظهر في البداية، بعدم حسمه، لم تكن له شخصية أو شكل، أما مداردو الذي أعيد اكتماله في النهاية فلم نعرف عنه شيئًا؛ ذلك أن الذي عاش في الرواية هو فقط مداردو المنقسم على ذاته. والنصفان، هاتان الصورتان المتضادتان لما هو غير إنساني، صارا أكثر إنسانية؛ فلقد كانا يحركان علاقة متضادة، النصف الشرير التعس يُثير الشفقة، والنصف الطيب الأكثر تألمًا يثير السخرية، وكنت أجعل كلًّا منهما يتغنى بمديح الانقسام وكأنه أفضل طريقة للوجود، ويصب اللعنات على «الكمال البليد»، وذلك من خلال وجهتَي النظر المتضادتين. أيكون السبب هو أن الرواية ولدت في عصر من الانقسامات فأصبحت تمثِّل على الرغم منها الضمير الممزَّق؟ أو بالأحرى لأن التكامل الإنساني الحقيقي لا يكمن في سراب لكمال أو كونية غير محددين أو متاحين، وإنما يكون في البحث المتعمق المدقق فيما نحن عليه طبيعيًّا وتاريخيًّا وفي ذلك الاختيار الإرادي الشخصي، أو لبناء ذات أو تخصص، أو مجرد اختيار أسلوب أو مجموعة من الدلالات الشخصية الداخلية والتنازلات الفاعلة، التي يجب أن نستكملها حتى النهاية؟! كانت الرواية تدعوني من جديد بقوة دفعها الداخلية التلقائية لما كان وما سيظل دائمًا موضوعي الروائي؛ موضوع شخص يفرض على نفسه بكامل إرادته قاعدة صعبة ويتتبعها بالرغم من كل العواقب، لأنه دون هذه القاعدة لن يحقق ذاته لا من أجل نفسه أو الآخرين.

يتكرر هذا الموضوع نفسه في قصة أخرى هي «البارون ساكن الأشجار»، والتي كتبتها بعد ذلك ببضعة أعوام في فترة العامين ١٩٥٦-١٩٥٧م. وهنا أيضًا فإن تاريخ تأليف الرواية يوضح الحالة النفسية. فنحن في حقبة إعادة التفكير في الدور الذي يمكن أن نقوم به في الحركة التاريخية، بينما تتعاقب آمال جديدة، ومرارات جديدة. ورغمًا عن كل شيء فإن الزمن يمضي نحو الأفضل؛ إلا أن الأمر يتعلق باكتشاف العلاقة الصحيحة بين الضمير الفردي ومسار التاريخ.

وهنا أيضًا كان لدي منذ فترة طويلة صورة ما في ذهني؛ صبي يصعد فوق شجرة، يتسلقها، وماذا يحدث له؟ يدخل عالمًا آخر؛ لا بل يصعد ويتقابل مع شخصيات عجيبة؛ بل يصعد ويسافر من شجرة إلى أخرى لأيام عديدة، بل لا يعود مطلقًا إلى الأرض، يرفض النزول إلى الأرض ويعيش فوق الأشجار طيلة حياته. هل كان علي أن أجعل منها قصة هروب من العلاقات الإنسانية، أم من المجتمع أم من السياسة … إلخ؟ لا، كانت ستكون واضحة جدًّا وتافهة؛ تعجبني اللعبة، فقط إذا لم أجعل من هذه الشخصية — التي ترفض السير على الأرض مثل الجميع — شخصية انطوائية وإنما إنسان يكرس نفسه لعمل الخير لقريبه، مندمجًا في حركة زمانه، ويريد أن يشارك في كل ملامح الحياة العملية؛ بدءًا من التقدم التكنولوجي مرورًا بالإدارة المحلية، وحتى حياة الرفاهية. لكن كل هذا وهو يعرف أنه لكي يستطيع الحياة بالفعل مع الآخرين فإن الطريق الوحيد هو أن يكون منفصلًا عنهم، وأن يفرض بصرامة على نفسه وعلى الآخرين في كل لحظة من لحظات حياته تلك الفردية والوحدة المزعجة، تمامًا كما هو الحال مع نزعة الشاعر والمكتشف والثائر.

على سبيل المثال فقد كان الحدث المتعلق بالإسبان أحد الأحداث القليلة الواضحة في ذهني منذ البداية، ذلك التضاد بين من وجد نفسه فوق الأشجار لأسباب طارئة وبانتهاء تلك الأسباب يعود إلى الأرض، ولكن «ساكن الأشجار» يبقى على الأشجار استجابة لدعوة داخلية حتى عندما لا يكون هناك أي سبب خارجي يدعوه للاستمرار في ذلك.

إن الإنسان الكامل، الذي لم أقدمه بوضوح في الفسكونت المشطور، تماثل مع «البارون ساكن الأشجار» مع ذلك الذي يحقق اكتماله بخضوعه بمحض إرادته لنظام شاق وصارم. وكان يحدث شيء غريب بالنسبة لي مع هذه الشخصية؛ كنت آخذه مأخذ الجد وأصدقه وأتوحد معه. فضلًا عن ذلك فإنني أثناء بحثي عن عصر ماضٍ أجد فيه بلدًا ما مغطًّى بالأشجار وقعت في سحر القرن الثامن عشر وتحديدًا في فترة التحول بين ذلك القرن والقرن التالي له. فها هو البطل البارون كوزيمو دي روندو يخرج من الإطار الساخر للحدث ويتجسد أمامي في لوحة أخلاقية بدلالات ثقافية محددة؛ وصارت أبحاث أصدقائي المؤرخين عن التنويريين واليعاقبة الإيطاليين دافعًا قيمًا للخيال. والشخصية النسائية أيضًا (فيولا) دخلت في لعبة الرؤى الأخلاقية والثقافية، وذلك بالتضاد مع الحسم التنويري ومع الدفعة الباروكية ثم الرومانسية تجاه كل شيء والتي تخاطر دائمًا بأن تكون دفعة مدمرة واندفاعًا نحو العدم.

ولذلك كان «البارون ساكن الأشجار» مختلفًا تمام الاختلاف عن الفسكونت المشطور، فبدلًا من قصة خارج الزمن تلتزم بالسيناريو الذي ذكرته للتو وبالشخصيات الرمزية المركبة تركيبًا دقيقًا ومن الحبكة الروائية لقصص تحكى للأطفال، كنت أجد نفسي منجذبًا باستمرار في كتابتي لأن أصنع «مزيجًا» تاريخيًّا وذخيرة من الصور المرتبطة بالقرن الثامن عشر، مدعمة بتواريخ وأحداث مرتبطة بشخصيات هامة؛ بمناظر طبيعية، وطبيعة نابعة من الخيال بالتأكيد ولكنها موصوفة بدقة وحنين للماضي، لأصنع حدثًا يهتم بأن يجعل خيال البداية قابلًا للتبرير بل حقيقة؛ أي أن الأمر انتهى بأنني كنت «أستمتع بالرواية» بالمعنى التقليدي جدًّا للكلمة.

ليس هناك الكثير يمكن أن نقوله عن الشخصيات الثانوية، والتي تمخض عنها جو الرواية، ولكن الصفة التي تجمعها هي أنها جميعًا شخصيات منعزلة، فكل منهما منعزل بطريقة خاطئة مقارنة بالطريقة الوحيدة الصحيحة الخاصة بالبطل. أنظر إلى شخصية الفارس المحامي، والتي نجد فيها تكرارًا لملامح الدكتور تريلاوني، فالقرن الثامن عشر — قرن غريب الأطوار — يبدو وكأنه وُضع خصوصًا ليشكل هذا المعرض الذي يضم الأنماط الغريبة. ولكن هل يمكن إذن أن ننظر لكوزيمو على أنه شخص غريب الأطوار يحاول أن يبحث عن معنًى كوني لغرابته؟ إذا كان الأمر كذلك فإن البارون لن يستطيع أن يعرض المشكلة التي طرحتها على نفسي.

فالواضح أننا اليوم نعيش في عالم يرفض الشخصيات الاستثنائية، عالم يُحرم فيه المرء من أبسط خصوصيات الشخصية الفردية، حتى أصبح الجميع مجرد نسق من السلوكيات المحددة سلفًا. فالمشكلة اليوم لم تعد مجرد فقدان المرء لجزء من ذاته، ولكنها مشكلة الفقدان التام، مشكلة عدم كون الإنسان ذاته على الإطلاق.

وانطلاقًا من الشخص البدائي الذي يمكن وصفه بأنه ما زال غير موجود لأنه لم يختلف عن المادة العضوية وذلك لأنه ما زال متحدًا مع الكون، وصلنا رويدًا رويدًا إلى الشخص المُصطنع الذي نظرًا لكونه متحدًا مع المنتجات والمواقف فهو أيضًا غير موجود لأنه لا يتناقض مع أي شيء ولا علاقة له بأي شيء مما يحيط به من طبيعة أو تاريخ؛ علاقة تبدأ بالصراع ومن خلاله تصل للتناغم فهو «يؤدي دوره» بطريقة مجردة.

هذه العقدة من التأملات بدأت تتجسد رويدًا رويدًا أمامي بصورة شغلت ذهني منذ فترة، بذلة محارب تسير ولا شيء بداخلها. حاولت عام ١٩٥٩م أن أكتب قصة حول ذلك فجاءت رواية «فارس بلا وجود»، والتي يمكنها أن تشغل الموقع الأول أو الأخير في الثلاثية — على اعتبار الأسبقية الزمنية لفرسان كارلومانيو — وأيضًا مقارنة بالروايتين الأخريين يمكنها أن تلعب دور المقدمة وليس الخاتمة لهما. هذا بالإضافة إلى أنني ألَّفتها في حقبة كانت الرؤى التاريخية فيها أكثر اهتزازًا من سنة ٥١ أو ٥٧، وبها اجتهاد أكبر في التساؤلات الفلسفية التي تؤدي في الوقت نفسه إلى الانهماك في الغنائية بشكل أكبر.

استمد المحارب غير الموجود أجيلولفو ملامحه النفسية من نمط إنساني منتشر في كل البيئات الموجودة في مجتمعنا؛ ظهر لي عملي مع هذه الشخصية على الفور غاية في السهولة. فمن تركيبة أجيلولفو (العدم المسلح بالإرادة والوعي) استخلصت، ولكن بخطوات مضادة للمنطق (أي أنني انطلقت من الفكرة الأصل إلى الصورة، وليس بالعكس كما أفعل عادة)، تركيبة الوجود المحروم من الوعي، أو الأفضل أن نقول المحروم من التماثل العام مع العالم الموضوعي، ورسمت شخصية حامل الدرع جوردولو. لم تنجح هذه الشخصية في أن يكون لها الاستقلالية النفسية للشخصية الأولى، وهذا أمر مفهوم، نظرًا لأن الأنماط الأصلية لأجيلولفو يمكن أن نقابلها في كل مكان، بينما النماذج الأصلية لشخصية جوردولو لا يمكن مقابلتها سوى في كتب علماء السلالات البشرية.

هاتان الشخصيتان، إحداهما محرومة من خصوصية الجسد والأخرى من خصوصية الوعي، لا يمكنهما تطوير أي قصة؛ فهما بكل بساطة ليسا سوى إعلان للموضوع، والذي يجب أن يتم من خلال شخصيات أخرى يتصارع فيها الوجود الذاتي مع عدم الوجود بداخل الشخص نفسه. والشاب هو الذي لا يعلم بعدُ إذا كان موجودًا أو غير موجود؛ إذن البطل الحقيقي لهذه القصة يجب أن يكون شابًّا. يبحث رامبالدو، وهو فارس على نمط فرسان الروائي الفرنسي ستندال، عن أدلة وجوده، مثلما يفعل الشباب. إن تأكيد هذا الوجود يكمن في الفعل؛ وسيكون رامبالدو هو رمز العمل والخبرة والتاريخ. ولكنني احتجت لشاب آخر، توريزموندو وجعلت منه رمزًا للمطلق، لذلك فإن تحقيق وجوده يجب أن ينبع من شيء آخر بعيد عن ذاته، مما كان قبله، من الكل الذي انفصل عنه.

وبما أن المرأة هي الكائن الوحيد المؤكد بالنسبة لأي شاب، فقد وضعت امرأتين؛ الأولى برادامنتي، والتي ترى الحب مواجهة وحربًا، وهي المرأة التي يحبها رامبالدو؛ والثانية سوفرونيا التي أشرت إليها إشارة عابرة والحب عندها هو السلام، والحنين لثبات ما قبل المولد (وهي حبيبة توريزموندو). إن برادامنتي والتي ترى الحب حربًا تبحث عن شخص مختلف عنها، إذن فهي تبحث عن اللاوجود، لذلك فهي تحب أجيلولفو. ولكن بقي لي أن أرمز للوجود كتجربة صوفية للذوبان في الكل — مثل فاجنر، وبوذية الساموراي — وبالتالي ظهرت شخصيات فرسان الجرال رمزًا لهذا الوجود الصوفي، وأن أرمز من ناحية أخرى للوجود — كتجربة تاريخية — لوعي شعب بقي حتى ذلك الوقت على هامش التاريخ (وهو المفهوم الذي عبَّر عنه كارلو ليفي أكثر من مرة) ووضعت في مقابل فرسان الجرال شعب كورفالديا، ذلك الشعب البائس والمقهور قهرًا جعله لا يعرف — مجرد المعرفة — بأنه موجود في العالم، ولكنه سيتعلم هذا عن طريق النضال.

والآن أصبحت لدى كل العناصر التي بحثت عنها؛ كان يكفي أن يحركها ذلك القدر من القلق الوجودي الذي تحمله بداخلها، ولكن في هذه المرة ما كنت لأترك نفسي تغوص في الأحداث كما في «البارون ساكن الأشجار»، أي أن الأمر لن ينتهي بي بأن أصدق ما أقصه. فالقص هنا كان يجب أن يهدف لما يطلق عليه «المتعة». صيغة «المتعة» تلك عادة ما أفهمها على أن القارئ هو من يجب أن يشعر بالمتعة وهذا لا يعني متعة للكاتب الذي يجب أن يقص كل شيء وهو منفصل عما يقصه، فتتوالى تشكيلاته التي يصوغها على البارد مع تلك التي يصوغها على الساخن، تتوالى بين التحكم في الذات والتلقائية، وهذه في واقع الأمر أكثر طرق الكتابة إرهاقًا وضغطًا عصبيًّا.

وعندئذ فكرت في أن أعزل جهدي في الكتابة صانعًا منه شخصية؛ فابتدعت شخصية الراهبة الكاتبة، وكأنها هي التي تقص الرواية، وقد ساعد هذا على منحي دفعات أكثر استرخاءً وتلقائية وساعد في استكمال كل شيء.

وكما رأيتم في القصص الثلاث كنت بحاجة لشخصية تقول «أنا»، ربما لتصلح من البرودة الموضوعية المتعلقة برواية القصص الخرافية عن طريق ذلك العنصر المقرب والذاتي الذي لا تستطيع الرواية الحديثة الاستغناء عنه. ولذلك اخترت في كل مرة شخصية هامشية ليس لها وظيفة في حبكة الرواية. ففي الفسكونت المشطور كان «أنا» الراوي صبيًّا، على نمط كارلينو دي فراتا، لأنه في تلك الحالات ما من وسيلة أدق سوى رؤية كل شيء من خلال عينَي طفل. وفي «البارون ساكن الأشجار» كانت لدي مشكلة تصحيح اندفاعي القوي وتماثلي مع البطل، فاستعنت بطريقة العرض المشهورة لزيرينوس تسايتبلوم في دكتور فاوست؛ أي أنني منذ بداية الأحداث وضعت في المقدمة شخصية على النقيض من كوزيمو، أخ متزن، رصين. وفي «فارس بلا وجود» استخدمت «راويًا» من خارج الرواية تمامًا فابتدعت شخصية راهبة لمجرد أن تكون لدى لعبة تضاد إضافية.

إن وجود «أنا» الراوي-المعلِّق كانت تجعل جزءًا من انتباهي ينتقل من الحدث إلى عملية الكتابة ذاتها، إلى العلاقة بين تركيبة الحياة وبين الورقة التي أعرض عليها تلك التركيبة على شكل علامات هجائية. وفي وقت ما، كانت هذه العلاقة هي الوحيدة التي تثير اهتمامي، وأصبحت قصتي هي فقط قصة ريشة الإوزة التي تمسكها الراهبة وتجري بها على الورقة البيضاء.

وقد أدركت أثناء الكتابة، أن كل شخصيات الرواية تتشابه؛ إذ يحركها جميعًا نفس القلق والاضطراب، وهكذا كان حال الراهبة وريشة الإوزة، وقلمي وأنا أيضًا. جميعنا كنا الشخصية نفسها، الشيء نفسه، القلق نفسه، والبحث الساخط نفسه. وكما يحدث للروائي — وأعتقد أن هذا يحدث لأي شخص يفعل أي شيء — فإن كل شيء يفكر فيه يتحول إلى ما يفعله، أي إلى روايته، وترجمت هذه الفكرة بأن غيرت اتجاه الرواية تغيرًا جديدًا. أي أنني جعلت من الراهبة الراوية ومن المحاربة برادامنتي شخصية واحدة، كان هذا هو التحول المفاجئ الذي خطر بذهني في اللحظة الأخيرة، وأعتقد أنه لا يعني أكثر مما ذكرته لكم الآن. ولكن إذا أردتم الاعتقاد أن هذا يعني أن الذكاء الجواني والحيوية الانبساطية يجب أن يجتمعا في شخص واحد فلكم الحرية في اعتقاد ما تريدون.

ولكم الحرية أيضًا في تأويل تلك القصص الثلاث كما تريدون، ولا يجب أن تتقيدوا مطلقًا بما ذكرته عن أصول كتابتها. لقد أردت أن أجعل منها ثلاثية خبرات حول كيفية تحقيق الذات كبشر؛ ففي «فارس بلا وجود» نجد الفوز بالكينونة، وفي «الفسكونت المشطور» التطلع للكمال بعيدًا عن التمزقات التي يفرضها علينا المجتمع، وفي «البارون ساكن الأشجار» الاتجاه إلى كمال غير فردي يمكن الوصول إليه من خلال الإيمان بتقرير المصير الذاتي للفرد؛ وهي ثلاث درجات لتفهُّم الحرية. وفي الوقت نفسه أردت أن تكون ثلاث قصص نهايتها مفتوحة — كما يقولون — وأن تكون قائمة بذاتها كقصص — حسب منطقية توالي صدورها — ولكنها تبدأ وجودها الحقيقي من خلال لعبة التساؤلات التي تثيرها في نفس القارئ والإجابة عليها. أريد أن يُنظر إليها وكأنها شجرة لعائلة أسلاف الإنسان المعاصر، والتي يكشف كل وجه فيها عن بعض ملامح الشخصيات المحيطة بنا، عن بعض ملامحكم، وعن بعض ملامحي أنا شخصيًّا.

إيتالو كالفينو
يونيو ١٩٦٠م