شعر القبائل
من البديهي أن لا ننتظر ظهور الشعر العربي في مصر بمجرد دخول العرب فيها، فاللغة العربية لم تكن لغة المصريين قبل الفتح، وقد رأينا كيف كان الصراع عنيفًا بين اللغة القبطية وبين اللغة العربية إلى أن انتصرت اللغة العربية وأصبحت لغة الشعب في القرن الرابع للهجرة. والذين أسلموا من المصريين وعرفوا اللغة العربية كان من الصعب عليهم أن يُعبِّروا بهذه اللغة عن مشاعرهم وأهوائهم في قالب شعري عربي، بينما استطاعوا أن يُعبِّروا عن آرائهم العلمية بسهولة؛ فالتعبير عن العلوم أسهل من التعبير عن الشعور؛ ولذلك رأينا الحركة العلمية قوية جارفة بخلاف ما كانت عليه حياة الشعر في أول الأمر من ضعف شديد. وهناك سبب آخر لضعف الشعر هو أن المسلمين في مصر اتجهوا للدراسات الدينية الإسلامية، وكَلِفوا بها كلفًا شديدًا جدًّا صرفهم عن الشعر وفنونه وروايته فضعفت بذلك حياة الشعر في مصر.
وربما كان للقبائل العربية التي دخلت مصر بعض الأثر في ضعف الشعر؛ فقد رأينا أن أكثر هذه القبائل كانت يمنية والشعر — كما قيل — في مصر أقوى منه في اليمن؛ لذلك كله كان لا بد أن يمضي وقت طويل حتى يزدهر الشعر المصري وتتبلور خصائصه الفنية ويحتل المكانة اللائقة به بين شعر الأقطار العربية. هذا مع أن المقطوعات التي وصلتنا لا تكفي لأن نحكم حكمًا صادقًا على قيمة الشعر المصري في عهده الأول؛ إذ لم تُعدم القبائل العربية التي استقرت في مصر من إنشاد الشعر، وكان شعرهم الذي وصلنا شعرًا تقريريًّا لا غناء فيه من الناحية الفنية فهو شعر ليس فيه جزالة الشعر الجاهلي وقوته، وليس فيه الشعور المتدفق الذي نلمس فيه عواطف النفس البشرية واتجاهاتها، إنما هو شعر يتحدث عن بعض المآثر القبلية في مصر على شكل سرد للأحداث. فمثلًا نرى الشاعر أبا قبان بن نعيم التجيبي يمدح عبد الرحمن بن قيسية الذي تنازل عن داره لتكون مسجد الفسطاط فيقول:
وقول أبي المصعب البلوي في نفس الموضوع:
فالشاعران هنا يقرران حادثة تنازل ابن قيسية عن داره لتكون مسجدًا للمسلمين ولا شيء سوى ذلك. ومثل هذا قصيدة أبي مصعب البلوي في هجاء رؤساء قبائل مصر، ويقال إن هذه القصيدة أول قصيدة رويت في مصر ففيها يقول:
يريد في هذه المقطوعة هجاء يزيد بن شرجيل وقيس بن كليب الحاجب، وعائذ بن ثعلبة البلوي، وعمرو بن قحزم، وكريب بن أبرهة، وزياد بن حناطة التجيبي صاحب القصر المعروف باسمه، وكلهم من أشراف قبائل اليمن بمصر. ومن هذا الشعر التقريري ما قاله الشاعر عابد بن هشام الأزدي في مدح الوالي مسلمة بن مخلد الذي هدم ما كان بناه عمرو بن العاص من مسجد الفسطاط، وأشاد بناء آخر اتخذ له منارًا سنة ٥٣ﻫ، فقال الشاعر:
فلعلك تلاحظ معي ضعف هذه المقطوعات وعدم انبعاث العواطف والأحاسيس التي تجعل للشعر قيمة كبرى، ثم ما نراه في هذه الألفاظ المهلهلة التي ليس لها الجرس الموسيقي الذي نَطرب له في إنشاد الشعر.
ومثل ذلك هذه الأشعار التي قيلت في الحروب التي كانت في مصر بسبب النزاع على خلافة المسلمين، ففي ثورة ابن الزبير انضمت مصر إليه ضد الأمويين فأرسل إليها ابن جحدم واليًا، وكان من الخوارج، وجاء معه عدد كبير منهم، فلما بويع مروان بن الحكم سنة ٦٤ﻫ أراد أن ينتزع مصر من الزبيريين فسيَّر جيوشًا بقيادة ابنه عبد العزيز وسار هو نفسه مع جيوش أخرى، فحفر ابن جحدم خندقًا حول الفسطاط في شهر واحد فقال الشاعر ابن أبي زمزمة:
ونزلت جيوش مروان عين شمس، فخرج إليهم ابن جحدم بجيوش مصر ولكنه اضطر إلى العودة إلى الخندق، وكان المصريون يقاتلون نُوبًا؛ ولذلك سميت أيام هذه الحرب بأيام الخندق أو أيام التراويح. وفي هذه الحروب العصيبة قال عبد الرحمن بن الحكم يصف بلاء المصريين وكثرة جيوشهم وكان الشاعر مروانيًّا:
ولما انتصر مروان بن الحكم في هذه الحروب وبايع الناس له، رفضت قبيلة المعافر أن تبايعه، فأمعن فيهم القتل، وكان ممن قُتِلَ الأكدر بن حمام سيد قبيلة لخم وشيخها، فلما علمت القبائل بذلك لم يبقَ أحد حتى لبس سلاحه، واجتمع على باب قصر مروان أكثر من ثلاثين ألفًا، وكاد المصريون يفتكون به لو لم يُجِره كريب بن أبرهة. وفي رثاء الأكدر يقول الشاعر زيادة بن قائد اللخمي:
ففي القرن الذي ظهر فيه فحول الشعر العربي بالعراق والحجاز والشام أمثال جرير والفرزدق وعمر بن أبي ربيعة وكثير وجميل والأخطل وغيرهم، لا نكاد نجد شاعرًا في مصر يقف في صف واحد مع أحد هؤلاء الشعراء أو في الصف الثاني لهم. وكل المقطوعات المصرية التي وصلتنا عن القرن الأول للهجرة هي مقطوعات في هجاء الوالي مثل هذه الأشعار التي قيلت في هجاء الوالي عبد الله بن عبد الملك بن مروان الذي ولي مصر سنة ٨٦ﻫ، ففي عصره حدثت أزمة اقتصادية في البلاد وارتفعت الأسعار فاضطرب الناس وتشاءموا، وخرج إلى أخيه الوليد بن عبد الملك سنة ٨٨ﻫ فهجاه ابن أبي زمزمة بقوله:
فأهدر الوالي دمه، فهرب الشاعر واختبأ في منزل القاضي عمران بن عبد الرحمن، وكان هذا القاضي قد هجا الوالي أيضًا وفخر عليه بقوله:
فعزله الوالي وعيَّن بدله عبد الواحد بن عبد الرحمن بن معاوية بن حديج، وكان حدث السن غير أنه كان فقيهًا عالِمًا، فقال عمران بن عبد الرحمن يهجو الوالي والقاضي الجديد:
فهجاء الولاة والقضاة كثير في هذا القرن بجانب ما نراه من فخر الشاعر بقبيلته، من ذلك ما قيل أن الخليفة هشام بن عبد الملك الأموي أراد أن يُوحِّد المكاييل في مملكته، فأرسل إلى مصر المُد ليكون مكيالًا بدلًا مما عرفه المصريون من عهد بعيد قبل الإسلام من ويبة وإردب، فلما جاءت مُدي الخليفة إلى مصر قَبِلَ بعض الناس أن يتعاملوا بها وأباها رجال قبيلة المعافر، وكسر المُدي واحد منهم وهو يقول: «إن لنا ويبة وإردبًا قد عرفناهما ولسنا نحتاج إلى هذا.» فعُرِفَ الرجل بكاسر المُدي وعُدَ ذلك من مناقبه، وقال الشاعر يمدحه:
هكذا لا نجد في مصر طوال العصر الأموي شعرًا له قيمته إلا أمثال هذه المقطوعات التي تسجل الحوادث التي كانت جارية في البلاد، إلا إذا استثنينا هذه القصائد التي أنشدها الشعراء الذي وفدوا على بلاط الوالي عبد العزيز بن مروان، فهؤلاء لم يكونوا مصريين، بل أقاموا في مصر مدة طالت أو قصرت، ثم عادوا إلى بلادهم وسنتحدث عنهم مع غيرهم من الشعراء الوافدين.
- أولًا: شعر في الثورة ضد الحاكمين: كانت القبائل العربية تثور ضد الولاة والأمراء؛ لجور أحكامهم وسوء سياستهم في البلاد،
ولم
يتورعوا أن يحاربوهم حربًا لا هوادة فيها، فكان الولاة يستعينون بجند الخليفة العباسي
لإخماد
هذه الثورات. من ذلك ما كان في ولاية موسى بن مصعب الخثعمي الذي ولي مصر في أواخر سنة
سبع وستين
ومائة من الهجرة؛ فقد تشدد هذا الوالي في جمع الخِراج وزاد على كل فدان ضِعف ما كان عليه
أولًا،
وجعل خراجًا على أهل الأسواق وعلى الدواب، وأخذ الرشوة في الأحكام، فأظهر الجند كراهية
له ولم
يستطع عماله أن يدخلوا إقليم الحوف (مديرية الشرقية حاليًّا)، وتحالف القيسية واليمنية
على
قتاله واتفق معهم جُند الفسطاط على الثورة، فلما خرج الوالي مع جُنده لقتال الثائرين
انهزم جُند
الفسطاط عنه وقُتِلَ الوالي سنة ١٦٨ﻫ. وكان هذا الحادث له أثر في الشعر؛ إذ أنشد الشعراء
مترنمين بانتصار أهل الحوف، من ذلك ما قاله سعيد بن عفير الأنصاري:
أَلَمْ تَرهم ألوت بموسى سيوفهموكانت سيوفًا لا تدين لمُترففما برحت فيه تعود وتبتديإلى أن تَروى من حمام مذرففأصبح من مِصْرٍ وما كان قد حوىبمِصْر من الدنيا سليبًا بنفنفولكن أهل الحوف لله فيهمذخائر إن لا يُنفد الدهر تُعرف
وفي ولاية الحسين بن جميل امتنع أهل الحوف أيضًا من أداء الخراج سنة ١٩١ﻫ، وثار أبو الندى مولى قبيلة بلي في نحو ألف رجل وأخذوا يقطعون الطريق ويُغيرون على بعض قرى الشام، وكان يساعده في ذلك رجل من جذام يقال له المنذر بن عابس وآخر يُدعى سلام النوي، فكثر فسادهم وأوقعوا الرعب في نفوس المصريين جميعًا، فبعث هارون الرشيد بقائده يحيى بن معاذ للقضاء على جماعة أبي الندى وإخضاع أهل الحوف، ونجح القائد ابن معاذ في ذلك كله وقَدِمَ الفسطاط سنة ١٩٢ﻫ ومعه زعماء الثورة، فمدحه الشعراء مسجلين هذا الانتصار فمن ذلك قول أبي عثمان السكري:
قد جبينا قيسًا ولم تَكُ تُجبىوقتلنا أبا الندى وابن عابسوتركنا لخمًا وحيَي جُذامٍلا تطيق رفع كفٍ تُلامسآمن الله بالمبارك يحيىحوف مصر إلى دمشق فبالسوأباد الخُلَاع من كل أرضٍبعد ما حاد عنهم كل فارسومن قول هذا الشاعر أيضًا يحذر قبائل قيس، وينصح لهم أن لا يمتنعوا مرة أخرى عن دفع الخراج:
يا قيس عيلان إني ناصحٌ لكمأدوا الخراج وخافوا القتل والحرباإني أُحذركم يحيى وصولتهفما رأيت له تقيًا إذا غضباويطول بي الحديث عن هذه الثورات الكثيرة التي كانت تقوم بها قبائل عرب مصر ضد الولاة والحكام، ولكن أرى أن أُلِم بثورة شغلت ولاة مصر والخلافة العباسية مدة طويلة وهي الثورة التي عُرفت «بثورة الجروي»، كان عبد العزيز بن الوزير الجروي صاحب الشرطة بمصر في ولاية المطَّلب الخزاعي سنة ١٩٨ﻫ وعُزِلَ بعد قليل، ثم أُرسل على رأس جيش لمحاربة أهل الحوف وأُعيد إلى الشرطة سنة تسع وتسعين ومائة في ولاية العباس بن موسى، ولكن الجند ثاروا على هذا الوالي وأجمعوا على تولية المطَّلب مرة أخرى، فاضطر الجروي إلى الهروب إلى تنيس، وتم أمر الولاية للمطَّلب وأطاعه وجوه أهل الحوف، فأرسل إلى الجروي بعقده على تنيس وأمره بالحضور إلى الفسطاط، فامتنع الجروي عن الامتثال لهذا الأمر، فبعث المطَّلب بوالٍ آخر على تنيس ولكنه لم يستطع دخولها، وخرج الجروي لمحاربة الجيش الذي أرسله المطَّلب بقيادة السري بن الحكم، فهُزِمَ جيش الوالي وأُسِرَ القائد السري، وأخذ الوالي في إرسال الجيش تلو الآخر فكان يُهزم المرة بعد الأخرى، وأخرج الجروي القائد السري بن الحكم من سجنه بعد أن تعاهدا على خلع الوالي المطَّلب الخزاعي وأن يتولى السري بن الحكم، وأخيرًا أرسل المطَّلب جيشًا بقيادة هبيرة بن هاشم لمحاربة الجروي والسري، والتقى الجيشان ولكن الفرس تحير بالقائد هبيرة فسقط في حفرة وأدركه الجند فقتلوه، فحزن المصريون لموته ورثاه الشاعر سعيد بن عفير بقوله:
لعمري لقد لاقى هُبيرة حتفهبأفضل ما تُلقى الحُتوف السوارعبأنفٍ حميٍّ لم تُخالطه ذِلةٌوعرضٍ نقيٍّ لم تَشِنه المطامععشية يَستكفيه مُطَّلِب الذيبه ضاق ذرعًا والمنايا كوارعفما انفك يحميه ويجعل نفسهله جنةً حتى احتوته المصارعفلاقى المنايا فوق أجرد سابحٍوفي الكف مأثورٌ من الهند قاطعفبينا يخوض الهول من غمراتهوأعداؤه من حوله قد تجاشعواتَقطَّر في أهويةٍ عن جوادهفصادفه حينٌ من الموت واقعفأمام انتصارات الجروي اضطر الوالي المطَّلب إلى أن يسأل عدوه الأمان والخروج سالمًا بنفسه من مصر إلى مكة، وفي ذلك أشار الشاعر دعبل الخزاعي وكان في زيارة مصر في تلك الأيام:
فكيف رأيت سيوف الجريشووقعة مولى بني ضبةأحجَتك أسيافهم كارهًاوما لك في الحج من رغبةوولي السري بن الحكم بإجماع جُند مصر سنة ٢٠٠ﻫ وهو يُظهر مسالمة الجروي، ولكن حدث أن ثار عمر بن هلال المعافري بالإسكندرية ودعا للجروي، وكان بالإسكندرية إذ ذاك جماعة من عرب الأندلس بلغ عددهم خمسة عشر ألفًا خلا النساء والأطفال طردهم الحكم بن هشام من قرطبة، ومكث الأندلسيون في سفنهم إلى أن أُتيحت لهم فرصة هذه الثورة التي قام بها عمر بن هلال، فهجموا مع قبائل لخم على قصر ابن هلال، فخشي أن يقتحموا قصره وينتهكوا حرماته، فاغتسل وتكفن وأمر أهله أن يُدلوه إلى الأندلسيين فقتلوه، فقال الشاعر سعيد بن عفير يرثي ابن هلال ويذكر ما كان عليه من علم وفضل:
لا يَبعدن ابن هلالٍ فقد ذهبتمنه المنون بعلمٍ طيب النسملا يَرأم الضيم من حُب الحياة، ولايَقبل دون فِعال الخير بالقِسمولا يزال له من مجده طرفٌيَسند ما حاز عن آبائه القَدَمما انفك يحمي ذمار إسكندرية فيهدءٍ حميدٍ وعِزٍّ غير مُهتضمحتى إذا جاءه من كان يأمنهوصرح الموت جهرًا غير مكتتمخاض الأسنة والهندي مُحتسبًاحتى تجرَّع كأس الموت من أَمَمواضطرب سكان الإسكندرية بعد مقتل ابن هلال، فطلب السري من الجروي أن يسير إليها سنة ٢٠١ﻫ وكاد ينتزعها من الأندلسيين وحلفائهم اللخميين، لولا أن السري بعث إلى تنيس بوالٍ لينتزعها من الجروي، فلما سمع الجروي ذلك ترك الإسكندرية ورجع إلى تنيس وقد فسدت علاقته بالسري، وفي ذلك قال الشاعر سعيد بن عفير يخاطب الجروي:
ألا من مُبلِّغ الجروي عنيمُغلغلةً يُعاتب أو يَلومأقمت تُنازِل الأبطال حتىتميَّز ذو الحفيظة والسئوموصُلت بهم فما وهنت قُواهموطير الموت دائرةٌ تحومولو هجمت جُموعك حين حلواعليهم باد جَمعُهم المقيموكيف رأيت دائرة التوانيأتتك بصحو نحسٍ لا يُقيمأتاك وقد أَمِنت ونمت كيدًالصلٍ لا ينام ولا يُنيمثم جاء سليمان بن غالب واليًا على مصر في ربيع الأول سنة إحدى ومائتين من قِبل طاهر بن الحسين، فحاربه السري بن الحكم، ولكن السري هُزِمَ وقُبِضَ عليه هو وابنه ميمون وأُرسلا إلى سجن أخميم، واستقام الأمر لسليمان بن غالب فقال المعلى الطائي الشاعر المصري يمدحه:
إذا شن في أرضٍ سليمان غارةًأثار بها نقعًا كثير المصائبحماها ولولا ما تَقلَّد أصبحتحبيسًا على حُكم القنا والمقانبولكن القبائل ثارت ضد سليمان بن غالب فاضطر إلى أن يلحق بالجروي، ثم ولي السري مرة أخرى فانتقم من كل أعدائه الذين ناصروا سليمان أو الجروي، حتى قامت فتنة إبراهيم بن المهدي ببغداد بسبب بيعة المأمون لعلي الرضا، واتصل إبراهيم بجند مصر وطلب إليهم خلع المأمون والوثوب بالسري، فلبَّى دعوته جَمْع من المصريين منهم الحارث بن زرعة بالفسطاط، والجروي بالوجه البحري، وسلامة الطحاوي بالصعيد فحاربوا السري، واستطاع الجروي أن يمتلك الإسكندرية وأخرج الطحاوي وعمال السري من الصعيد، وسار الجروي مع النيل حتى التقى بجيش السري بالقرب من شطنوف، فهُزِمَ السري سنة ٢٠٣ وقُتِلَ ابنه، فقال الشاعر أبو نجاد الحارثي في ذكر هذه الحروب:
جَمِّعْ رعاعك يا سري فإنهاحربٌ تحس سعيرها قحطانقتلوا أبا حسن وجرُّوا شلوهكالكلب جر بشلوه الصبيانولت تجيب وأسلمته جيادهاعيلان يوم تواكلت عيلانفاستخرجوه مُلبيًا فأتى بهيَجري ويَهرج حوله السودانأَبْشِر فإن أفول نجمك بعدهعرض السماء ونجمك الدبرانلا تَبْكِ فالعُقبى لإخوته غدًاأو بعده فكما تَدين تُدانوقال الشاعر المعلى الطائي في رثاء ميمون بن السري:
لو رد غرب منيةٍ بشجاعةٍأحدٌ لدافع رُكنها ميمونلو كان تجريد السيوف يردهالحماه منها مُنصلٌ وثمينما زلت أطمع في رجوعك سالمًاويروعني شفقًا عليك ظنونفليفجعن غدًا بقتلك طاهرٌوليفجعن بقتلك المأمونوأشرف الجروي على الفسطاط وأراد أن يحرقها فخرج إليه الفقهاء وسألوه الكف عن ذلك، فانصرف عنها إلى الإسكندرية عندما بلغه أن أهلها أخرجوا عامله عليها ودعوا للسري، وثار القبط في سخا وساعدهم بنو مدلج فخرج إليهم الجروي وهزمهم، فمدحه المعلى الطائي بقوله يخاطب المأمون:
فقُل لأمير المؤمنين نصيحةًوما حضر شيئًا كآخر غائبلقد حاطنا عبد العزيز بسيفهولولاه كنا بين قِتلٍ وناهبوفشلت حركة إبراهيم بن المهدي واستقر الأمر للمأمون العباسي، فولي السري على مصر للمرة الثالثة، فنشط السري لحرب أتباع إبراهيم بن المهدي، فاستطاع أن يهزم جيش الطحاوي بالصعيد وأن يقبض عليه وعلى ابنه إبراهيم وأن يقتلهما بالفسطاط، فقال الشاعر المعلى الطائي يستنكر ما فعله الطحاوي من الثورة والانقسام:
أراد الطحاوي التي لا شوى لهافأوقد نارًا كان بالنار صالياودب لأقطار البلاد بفتنةٍفجاشت بسُقمٍ لا يُجيب المداوياوراسله من كان يحفى بفاقةٍوأصبح ذا ميلٍ إليه مُمالياجنت ما استحق القتل يا صاح كفهوكل امرئٍ يُجزى بما كان جانياوقُتِلَ الجروي في آخر صفر سنة ٢٠٥ﻫ كما مات السري بعده بقليل، وانتقل النزاع بينهما إلى ولديهما علي بن عبد العزيز الجروي وأبي نصر بن السري، والتقى جيشاهما في معركة بالقرب من شطنوف انتصر فيها ابن الجروي، ولكنه لم يتبع جيش ابن السري المنهزم، فقال سعيد بن عفير يلومه على ذلك:
ألا من مُبلِّغٌ عني عليًّارسالة من يلوم على الركوكعلام حبست جَمْعك مستكفًّابشط ينوف في ضنك ضنيكوقد سنحت لك الغفران ممنرماك بجيشه الوهن الركيكوتوفي أبو نصر بن السري في شعبان سنة ٢٠٦ﻫ فتولى أخوه عبيد الله بن السري مكانه، ولكن الخليفة المأمون أرسل خالد بن يزيد الشيباني لتخليص مصر من ابن السري، فانضم ابن الجروي إلى خالد، وانتصر عبيد الله عليهما في موقعة بالقرب من دمنهور سنة ٢٠٧ﻫ، ويظهر أنه جرت مفاوضات بين عبيد الله وخالد واحتج كل منهما بأن الخليفة المأمون ولَّاه على مصر، فقال الشاعر سعيد بن عفير ينصح للمتحاربين أن يرجعا إلى استشارة الخليفة في الأمر:
يا أيها المتحاربان وإنمادعواهما المأمون في الصدقاتهل ترجعان إلى التقية والتُّقىوتُتاركان تعاور الغاراتحتى يجيء من الخليفة أمرهفيميز بين الحق والشبهاتوحدث أثناء هذه المفاوضات أن ارتفع النيل فسار خالد إلى الحوف، فأراد ابن الجروي أن يُخرجه منها فمكر به حتى أنزله «نهيا»، وتركه هناك محصورًا بين مياه النيل في جهد شديد، فقال المعلى الطائي يُحبذ ما فعله ابن الجروي:
سَلا خالد لما انجلى عنه شكهوأسلمه في عُدوة البحر خاذلهفزالت أمانيه غداة سما لنابعارض جيشٍ يَمطر الموت وابلهفلما انكشف النيل سار ابن السري إلى خالد وحاربه فأسره، فقال المعلى يذم الذين خذلوا خالدًا وأسلموه لعدوه:
ألا لا أرى خيلًا أضر له الوغىوأجبن في الهيجاء من خيل خالدوقُوَّاده أشرار كل قبيلةٍتمالوا على إسلامه في الشدائدفإن يقتلوه يقتلوا منه سيدًاشجاعًا جوادًا ماجدًا وابن ماجدوإن كفوا عن قتله فهي مِنَّةٌلآل سريٍّ في مناط القلائدواستمع ابن السري إلى نصيحة المعلى الطائي الشاعر فأطلق سراح خالد وسيَّره إلى مكة.
ولما طالت هذه الثورات رأى الخليفة المأمون العباسي أن يهدئ أمرها بأن قسَّم مصر بين ابن الجروي وابن السري بأن يتولى كل منهما ما في يده من أعمال، فأقبل ابن الجروي على جمع الخراج من إقليم الحوف، فقاومه أهله وكتبوا إلى ابن السري يستعدونه على ابن الجروي، فأسرع إليهم ابن السري بجيشه وتقابل الجيشان في بلقين، واستمر القتال طويلًا حتى اضطر ابن الجروي إلى أن يفر إلى دمياط، وفي ذلك قال المعلى الطائي:
ألا هل أتى أهل العراقين وقعةٌلنا بحِمى بُلقين شيَّبت الولداوما كان منا قتلهم عن جهالةٍخطأ ولكنا قتلناهم عمداولما تبينت المنية في القنانكصت تنادي حين ضل الندا سعدافوليت عن رَبْع المحلة هاربًاعلى أبلهٍ ما يركب الجور والقصدافكيف رأيت الله أنزل نصرهعلينا وولاك المذلة والطرداسنُهدي إلى المأمون منا نصائحًانضمها طي الصحائف والبُردابفعل عليَّ والذي كان مُجمِعًاعليه بإظهار الخلاف الذي أبداوسار ابن السري أثر ابن الجروي ففر هذا من دمياط إلى الفرما ثم هرب إلى العريش وغزة، فقال سعيد بن عفير:
ألا يا عليُّ بن عبد العزيزإلى أين صِرت تريد الفرارافلست بأول من كادهعدو، فَكَرَّ عليه اعتكاراوأجر مصيرك أن يسحبواإليك فتوحًا عظامًا كبارافتُدرك ثأرك من أهلهوتلبس بعد الكُبو القسارافاستمع الجروي إلى دعوة الشاعر، فأغار على الفرما واسترجع تنيس ودمياط بعد أن هرب منها أصحاب عبيد الله، وواصل زحفه حتى بلغ شطنوف فتقابل مع جيش عبيد الله بن السري، وكانت الدائرة على ابن الجروي الذي هرب مرة أخرى إلى العريش، فقال الشاعر المعلى الطائي:
أَلَمْ تَرَ خيله صبحت عليًّاتُدف على مناسجها النساعافولَّى عن عساكره وخلَّىالأسل المدائن والرباعاولكن فات فوق أقب نهدٍكرجع الطرف لا يخشى اضطلاعافحسبُك أن قومك من جُذامٍوسعدٍ لا ترى لهم اجتماعادعتهم طاعةٌ لك فاستجابواومن عجبٍ لمثلك أن يُطاعاوعاد ابن الجروي سنة ٢١٠ﻫ إلى امتلاك تنيس ودمياط وهزم جيش ابن السري، ولكن المأمون العباسي ولى عبد الله بن طاهر مصر، فجاء إليها سنة ٢١١ﻫ وانضم إليه ابن الجروي، وأبى عبيد الله بن السري أن يُسلِّم له البلاد، فاضطر ابن طاهر إلى محاربته وهُزِمَ ابن السري وتفرقت جيوشه، وفي هذه الموقعة يقول الشاعر أبو تمام وكان يُقيم في مصر في تلك السنوات:
لعمري لقد كانت بمِصر وقيعةٌأقامت على قصد الهوى كل مائلعلى الخندق الأقصى وما كان حولهوما قد يليه من فضاءٍ وساحلرأى ابن السَّري النصر أول يومهوأودى بليثٍ من أبي السرو باسللوين جُموع ابن السَّري وخيلهشماطيط تترى كالنعام الحوافلفلما رأوا ألا محيص وأنهكفاح الردى في كل حقٍّ وباطلتوخوا أمان الأريحي ابن طاهرٍفمن فارسٍ يأتيه طوعًا وراجلوقال الشاعر أحمد الحمراوي يهجو ابن السري:
أترجو مهاةٌ دفع ضرغام غابةٍلشتان ما بين المها والهزابروإن أحق الناس أن يَشهد الوغىويَقصف أصلاب الملوك الجبابرلمن لم يكن في الروع في زي غادةٍولم يحتجب صُبحًا لمشط الضفائروانتهت ثورة الجروي التي استمرت زهاء اثنتي عشرة سنة لعبت فيها قبائل العرب في مصر دورًا خطيرًا، وسجلها الشعر المصري الذي هو صورة لما رأيناه من الشعر الذي كان في العصر السابق؛ أي إنه شعر تقريري قبل كل شيء. ولكن يظهر في بعض الأبيات نفحات فنية لا تخفى على الناقد المتذوق لفن الشعر؛ فمثلًا مقطوعة أحمد الحمراوي السابقة أصيلة كل الأصالة من الناحية الفنية، فالصورة التي رسمها الشاعر في هجائه لابن السري صورة دقيقة تدل على ضعفه أمام ابن طاهر كضعف المهاة أمام الأسد، وأن ابن السري كان مترفًا مثل ترف النساء ويُمشط ضفائر شعره كل صباح كما تفعل النساء، فليس لمثله أن يشترك في الحروب. هذه الصورة قطعة فنية تدل على أن شعر القبائل قد تطور من شعر تقريري خالص يسجل الأحداث فقط إلى شعر تقريري به نفحة فنية.
وتستمر ثورات قبائل العرب ضد الحكام طوال هذا العصر، وكانت أشد القبائل ثورة هي قيسية الحوف ويمانيته، فكثيرًا ما تحالفا ضد الولاة وكثيرًا ما حاربهم الولاة؛ فمن ذلك أن المأمون ولى أخاه المعتصم مصر، فاستخلف عليها عمير بن الوليد وهو من عرب اليمن في خراسان فاستعد لحرب أهل الحوف، وتحالف ضده القيسية بزعامة قيس بن عبد الله بن حليس الهلالي، واليمانية بزعامة عبد السلام بن أبي الماضي، فاشترك الطرفان في القتال وقُتِلَ عمير بن الوليد، فقال أبو تمام في رثائه:
ألا رُزئت خُراسانٌ فتاهاغداة ثوى عُمير بن الوليدفيا يوم الثلاثا كم كئيبٍرماه الحزن فيك وكم عميدفكم سخَنت فينا من عيونٍوكم أغبرت فينا من خُدودفما زُجرت طيورك عن سنيحٍولا طلعت نجومك بالسعودوقال سعيد بن عفير:
ساقت عُمير إلى مصر منيتهبإمرةٍ لم يكن فيها بمسعودِحتى أتته المنايا وهو مُلتحفٌثوبين من حبرات البأس والجودِفاذهب حميدًا فلا تبعد وكل فتًىيومًا وإن كرُمت أفعاله يُوديثم اضطر المعتصم إلى أن يأتي بنفسه إلى مصر وحارب أهل الحوف وهزمهم، وقبض على زعيم القيسية وزعيم اليمانية وصلبهما على جسر الجيزة سنة ٢١٤ﻫ، فقال معلى الطائي يسخر بابن حليس المصلوب:
إن الحُليسي غدا سابقًافي حلبة الجسرين قد قصباعلى طمرٍ ما له أرجُلٌمن صنعة النَّجار قد شُذباوليس يدري عند إلجامهمَنْ أثغر الطرف ومَنْ لببامُسمَّر الخلق أمون الشوىيأنف أن يأكل أو يشرباولو سرى ليلته كلهاما جاوز الجسر ولا قربالو كان من بعض نخيل القُرىكان أبو القاسم قد أرطباكسا أبو إسحق أوداجهأبيض لا يَعتب من أغضباوقد سقى عبد السلام الردىفكيف بالله إذا جرَّبافأظن أن هذه الصورة التهكمية الساخرة التي رسمها الشاعر للزعيمين المصلوبين تدل دلالة واضحة على تطور الشعر المصري، وانتقاله من حالة تقريرية مسجلة للحوادث إلى ناحية فيها جمال الصورة ودقة الخيال واختيار اللفظ.
- ثانيًا: شعر العصبية القبلية: استمرت عصبية القبائل التي عُرفت عنهم في الجاهلية بالرغم من أنها خفت بعض الشيء في عهد
الرسول ﷺ وعهد الخلفاء الراشدين، ولكنها عادت إلى الظهور مرة أخرى في عصر الأمويين
والعباسيين، وكان بعض خلفاء هاتين الدولتين يؤجج نيران هذه العصبية أحيانًا لتثبيت ملكهم.
أما
في مصر فلم تظهر العصبية بين القبائل في هذه الصورة اللافتة التي كانت عليها في البلاد
الإسلامية الأخرى، ولا سيما في الخلاف الذي كان بين القبائل المضرية والقبائل اليمنية؛
فكثيرًا
ما كان هذان الفرعان من العرب يتحالفان في الثورات التي قاموا بها ضد الحاكمين على نحو
ما رأينا
من قبل. وربما كان مصدر هذا الإخاء بين العرب في مصر أن أكثر العرب الذين استقروا بها
كانوا من
اليمنية، وأن في مصر من الخيرات ما كان يكفي لجميع الوافدين عليها، فلم يحتاجوا إلى التنازع
من
أجل الرزق. ثم إن القبائل تفرقت في مصر واختصت تقريبًا كل قبيلة بمنطقة خاصة عاشت فيها
آمنة،
غير أن بعض القبائل كانت تنازع بعضها بعضًا في سكنى منطقة واحدة أو مناطق متجاورة وهنا
يحدث
النزاع والثورات بين القبائل العربية لا فرق فيها بين مضرها ويمنها. ولم يصلنا شعر مصري
في هذه
المنازعات التي كانت بين القبائل إلا ذلك الشعر الذي قيل في القضية المعروفة بقضية جناح
والزعفران؛ ذلك أن عشيرة مراد كان لهم فرس يفخرون بها تسمى «الزعفران»، وكان لقبيلة يحصب
فرس
تسمى الجناح، فأُخرج الفرسان يوم الرهان وجعل كل فريق لصاحبه الفرس المسبوق، وخرجت الطائفتان
ومعهم عامة أهل مصر، فكان السابق فرس مراد في أول الأمر حتى كادت تدخل الغاية، فخرج كمين
من
يحصب وضرب وجه الزعفران فتحيرت الفرس وسبقتها الجناح إلى دخول غاية السباق، ساء مرادًا
ذلك
واستلوا سيوفهم واقتتل الطائفتان قتالًا عنيفًا حتى اضطر الأمير ليث بن فضل إلى أن يخرج
إليهم
ويُحجِّز بينهم، وأحال القضية إلى القاضي عبد الرحمن العمري الذي ولي القضاء سنة ١٨٥ﻫ،
وكان هذا
القاضي سيئ السيرة يحب المال ويأخذ الرشوة، فأتت يحصب إليه بأموال كثيرة فحكم لهم بالفرس
ودفع
إليهم الزعفران، ولكن استمر النزاع بين القبيلتين حتى ولي القاضي البكري قضاء مصر سنة
١٩٤ﻫ،
فنظر في القضية مرة أخرى فحكم بردِّ الزعفران إلى قبيلة مراد. هذا الحادث الذي وقع بمصر
في
أواخر القرن الثاني للهجرة يُذكِّرنا بصورة أخرى لها في الجاهلية وهي قصة «داحس والغبراء»،
وكما
كَثُرَ الشعر الجاهلي في تصوير قصتهم كذلك أنشد العرب بمصر شعرًا في قضيتهم، وقد انتهز
المصريون
هذه الفرصة لإظهار كراهيتهم وبغضهم للقاضي العمري، فاتخذوا قضية جناح والزعفران وسيلة
لهجاء هذا
القاضي البغيض، فمن ذلك ما قاله الشاعر يحيى الخولاني:
إن كان مُهر أخي زوفٍ أفات بهريب الزمان عليه جور زنديقفكم يدٍ لبني زوفٍ وإخوتهمفي آل فهرٍ تُغص الشيخ بالريقإن حاكمٌ عُمريٌّ جار في فرسفسوف يُرجعه عدل ابن صديق
ومن الطبيعي أن نجد شعراء دافعوا عن حكم القاضي، العمري فمنهم الشاعر عبد الله بن بحيرة التجيبي، فقد قال يرد على الشاعر يحيى الخولاني ويهدد قبيلة مراد بالصلب والقتل:
طلبت فلم تألُ حُسن الطلبورُمت عظيمًا ولمَّا تُصِبوعوَّلت موتًا على رميهمبقوس الضلال ونَبْل الكذبفإن كان في فرسٍ عَتبُكُمفعندي لكم فرسٌ من قصبوإلا فمُهر كريم النجارقليل العظام كثير العصبفرد عليه الشاعر يحيى الخولاني يدافع عن «مراد» ويهجو القاضي العمري:
ألا أيها الشاعر المنتدبيُحامي عن العُمري العطبورامي مُرادٍ وخولانهابنَبْلٍ من الجهل غير الصيبفما أنقص العُمري بامرئٍمن الناس إلا كريم الحسبملا الأرض جورًا بأحكامهوأظهر فيها جميع الرَّيبومن العصبية القبلية فخر الحضارمة إذا تقلد أحدهم منصبًا رفيعًا في البلاد، فمن ذلك قول أحدهم لما ولي لهيعة بن عيسى الحضرمي القضاء سنة ١٩٩:
لقد ولي القضاء بكل أرضٍمن الغُر الحضارمة الكرامرجالٌ ليس مثلهم رجالمن الصَّيد الجحاجحة الضخاموقال الشاعر يزيد بن مقسم الصدفي:
يا حضرموت هنيئًا ما خُصصتِ بهمن الحكومة بين العجم والعربفي الجاهلية والإسلام يعرفهأهل الرواية والتفتيش والطلبوهناك لون آخر من العصبية القبلية سجلها الشعر المصري في أواخر القرن الثاني للهجرة، وكان سبب هذه العصبية أن العرب سمعوا بأنفسهم وكونوا في مصر طبقة أرستقراطية — إن صح هذا التعبير — كانوا ينظرون إلى الموالي وإلى أهل الذمة نظرة السيد إلى المَسُود، ولم يقبلوا أن يتساوى بهم المسلمون من غير العرب؛ لهذا كثُرت المنازعات بين العرب وغيرهم. ونلمح من الشعر المصري الذي وصلنا حالة الاضطراب الذي كان عليه المجتمع إذ ذاك، ولعل قضية أهل الحرس أصدق مثال على ذلك كله، فقد اضطر بعض الموالي المسلمين إلى أن يتخذوا لأنفسهم نسبًا عربيًّا حتى يتساوى بالعرب، ولكن القبائل العربية ثارت ورفضت أن ينتسب إلى العرب من لم يكن من أصل عربي، فأهل الحرس جماعة من غير العرب ولكنهم أسلموا، فتحرَّش العرب بهم وآذوهم، فجمع أهل الحرس من بينهم أموالًا دفعوها إلى القاضي العمري ليثبت لهم نسبًا عربيًّا، وخرج بعضهم إلى الخليفة العباسي هارون الرشيد ببغداد يدَّعون له أنهم من العرب، وأتوا بجمع من أعراب سينا ورشوهم بالمال فشهدوا أن أهل الحرس من العرب وأن نسبتهم إلى بطن حوتكة من قبيلة قضاعة، فقَبِلَ القاضي العمري شهادتهم إلا شهادة حوي بن حوي بن معاذ العذري، وسجل القاضي لهم نسبًا في الحواتك، فثار عرب مصر وزاد سخطهم على القاضي العمري، وسجل الشعراء هذه الثورة وذلك السخط فمن ذلك ما قاله الشاعر يحيى الخولاني:
وجاءوا بأجلاف من الحوف فادعوابأنهم منهم، سفاهًا وأجلبواألا لعن الرحمن من كان راضيًابزعمهم ما دامت الشمس تَغربُوقال الشاعر يحيى في هجاء حوي بن حوي الذي شهد لأهل الحرس ورفض القاضي شهادته:
يا ليت أم حوي لم تلد ذكَرًاأو ليت أن حويًّا كان ذا خرسكسا قضاعة عارًا في شهادتهلله در حوي شاهد الحرسشهادة رجعت، لو أنها قُبلتلألحق الزور منها العير بالفرسوقال الشاعر معلى بن المعلى الطائي في هجاء القاضي العمري بمناسبة حكمه في قضية أهل الحرس:
كم كم تُطوِّل في قِرانكوالجور يضحك من صلاتكتقضي نهارك بالهوىوتَبيت بين مُغنياتكفاشرب على صرف الزمان بما ارتشيت من الحواتكإن كنت قد ألحقتهمعربًا فزوِّجهم بَناتكولتكشفن بما أتيــت صدور قومٍ عن مَسَاتِكوكأنني بمنيَّةٍ تســعى إليك بكف فاتِكلا تعجلن أبا الندىحتى تَصير إلى وفاتِكإن المقامع تُطلقــن من الجحيم إلى مماتكبل لو ملكت لسان أكــثم ما وصلت إلى صفاتكنلاحظ أن الشاعر هنا كنَّى القاضي بأبي الندى وهي كنية قاطع الطريق الذي ظهر سنة ١٩١ﻫ، ثم نرى هذه السخرية اللاذعة بدعوته القاضي أن يُزوِّج أهل الحرس من بناته، فإن الحكم الوضعي الذي سار عليه العرب حتى أصبح من الأحكام الفقهية أن المولى لا يتزوج عربية، ثم كيف هجا القاضي بالفسق والمجون وشرب الخمر وأخذ الرشوة، فماذا يكون بعد ذلك؟! حتى إن الشاعر ختم مقطوعته بأنه لو ملك لسان أكثم بن صيفي أشهر خُطباء العرب في الجاهلية لا يستطيع أن يصف سيئات هذا القاضي. والشاعر هنا قد ملك زمام الفن؛ فقد تحدثت مشاعره بل مشاعر العرب في عصره نحو قضية أهل الحرس، ونحو القاضي العمري في صور مختلفة دقيقة كل الدقة. وعُزِلَ القاضي العمري وولي بدله القاضي البكري سنة ١٩٤ﻫ، فخرج جماعة من عرب مصر إلى الخليفة الأمين العباسي يسألونه أن يطلب من البكري أن يُعيد الحكم في قضية أهل الحرس، وأن يأمر بأن لا يُمنح أحد من غير العرب اللحاق بالعرب؛ فأعاد البكري النظر في القضية وجمع عددًا من العلماء وأهل العدالة من مصر للشهادة في نسب أهل الحرس، فأجمعوا أنهم من أصل غير عربي، فحكم البكري بذلك ومزَّق السجل الذي يُلحقهم بالعرب، ففرح العرب بذلك وقال المعلى الطائي الشاعر:
يا بني البظراء موتوا كمدًاواسخنوا عينًا بتخريق السجللو أراد الله أن يجعلكممن بني العباس طُرًّا لفعلوقال طاهر القيسي:
ولقد قمعت بني الخبائث عندماراموا العُلا وتحوتكوا وتَعرَّبواوتركتهم مثلًا لكل مُلصقٍنسبًا إذا التقت المحافل يُضربُوقال يحيى الخولاني:
اشكروا الله على إحسانهفله الحمد كثيرًا والرُّغبرجع القِبط إلى أصلهمبعد خزيٍ طوَّقوه وتعبودنانير رشوها قاضيًاجائرًا قد كان فينا يغتصبأخذ الأموال منهم خُدعةًوتولى عنهم ثم هربأَبلِغ البكري عني أنهعادلٌ في الحكم فرَّاج الكُربقد أمات الجور فينا والرِّشاوأشاع العدل فينا فَرَتَّبْإنه قد كان يقضي بالهوىويبيع الحكم جورًا ويَهبوإذا يخلو حساها مُزةًمثل عين الديك من ماء العنبما كفته رشوةٌ ظاهرةٌوقضايا جوره فيها عجبأن أتى أعظم ما يأتي بهأحدٌ أن صيَّر القِبط عربفهذه القضية وما قيل فيها من شعر تدل على مدى العصبية القبلية عند عرب مصر، ومدى احتفاظ العرب بشخصيتهم؛ بحيث أنفوا أن يلتحق بهم أحد من الشعوب الأخرى حتى لو كانوا من المسلمين. والعرب في ذلك يخالفون الإسلام الذي ينص على أنه لا فرق بين مسلم ومسلم إلا في التقوى وأن المسلمين جميعًا سواء أمام الله، ولكن هكذا كانت الأمور تسير في مصر بل في جميع العالم الإسلامي. بل نرى في مصر قصة عجيبة؛ ذلك أن الموالي أصبحوا حمَلة العلوم فكان منهم القضاة والعدول والكُتاب، فتشبهوا بالعرب واتخذوا الألقاب والكُنى، فقال الشاعر المصري أنيس بن دارم يتهكم بهم ويُذكِّرهم بأصلهم القبطي:
قَبَحَ الله زمانًارَاسَ فيه ابن تليدبعد مِقراضٍ وخيطٍوأُبيرات حديدوأبو الزنباع خنَّاق غرامل العبيدبعد سيف خشبيوسهام من حديدوأبو الروس المريسيابن دبَّاغ الجلودواللقيط ابن بُكيرنطفة الفدم الطريدوابن سهمٍ حارس الجيزة حُلوان البريدعُصبةٌ من طينة النيــل مناسي الجدودلبسوا بعد التبابيــن نفيسات البُرودلازموا المسجد ضُلَّالًا من الأمر الرشيدلحوانيتٍ بنوهابِفِنا كل عمودوتسمُّوا وتكنُّوابعد جُورج وشُنودوألاحوا بجباهٍمن نطاح الحُصر سُودتحت أميالٍ طوالٍكبراطيل اليهودنصبوها كالمقاعيــد على روس القرودوتراهم للوصاياوعدالات الشهودفي مراءٍ وجدالٍوقيامٍ وقعودوخشوعٍ وابتهالوركوعٍ وسجودوعلى القسمة أضرىمن تماسيح الصعيدوأشاروا للهدايابأبي عبد الحميدفلعلك تلاحظ في هذه القصيدة هذه الصور التهكمية الساخرة التي رسمها الشاعر لهؤلاء العلماء الأمجاد أمثال سعيد بن تليد ويحيى بن بكير وغيرهما، وكيف تشبَّه هؤلاء العلماء بالعرب، فكان ذلك سبب هجاء الشاعر لهم وسخريته بهم. ثم انظر إلى فن الشاعر في هذه القصيدة وكيف رقت ألفاظها وقصُر بحرها، ودقت معانيها وصورها وكأن الشاعر يتحدث فيها حديثًا عاديًّا لا تكلف فيه.
ظهور الشعر المصري
هذا كله إن دل على شيء، فإنما يدل على أن الشعر المصري تطور من حالة الشعر التقريري الذي رأيناه عند قبائل العرب في العصر الأموي إلى شعر رقيق تظهر فيه بعض السمات المصرية؛ فالسخرية اللاذعة التي تُعرف بها مصر منذ أقدم عصورها واضحة تمام الوضوح في بعض القصائد التي رويناها، والميل إلى سهولة العبارة واختيار البحور القصيرة التفاعيل، كل هذه من تأثير البيئة المصرية التي تميل إلى البساطة في كل شيء، ومن ناحية أخرى نستدل من هذه المقطوعات على أن القبائل العربية بالرغم من احتفاظها ببعض عاداتها فإنها خضعت للبيئة المصرية وتأثرت بها وظهر هذا الأثر فيما أنشدوه من شعر. ومعنى هذا كله أننا نرى منذ النصف الثاني من القرن الثاني للهجرة شعرًا مصريًّا تظهر فيه بعض نواحي الشخصية المصرية، ولم يَعُد شعراء مصر يُنشدون في الحوادث التي وقعت بمصر أو يفخرون برجال قبائلهم أو هجاء أعدائهم، إنما تنوعت أغراض الشعر وتعددت مقاصده وأسهم شعراء مصر في كل الأغراض التي عرفها الشعر العربي، وظهرت العاطفة الجياشة في الشعر المصري فأضفت على الأشعار المصرية قوة ترتاح النفوس إليها، حتى إن الشاعر الفحل أبا تمام اضطر إلى أن يروي للشاعر المعلى الطائي في مختارات شعره المعروفة بالحماسة قوله في وصف عاطفته نحو أولاده، وهي الأبيات التي يتمثل بها كل أب، والتي تُتخذ مثلًا لاضطرار الآباء إلى الجبن بسبب عطفهم وشفقتهم على أبنائهم:
فلا أكاد أعرف في الشعر العربي كله مثل هذه العاطفة المتدفقة التي انبعثت من هذه المقطوعة مع دقة الصور التي رسمها الشاعر؛ فهو يُصوِّر ضعف بُنياته حينًا بريش القطا الناعم الصغير الذي تحت إبطي الطير، ثم يُصوِّر الأولاد مرة أخرى بأنهم أكباد الآباء تمشي على الأرض وهي صورة جديدة كل الجِّدة، ثم هذه الصورة التي تجعل الآباء يضطربون كل الاضطراب ولا يغمض لهم جفن إذا هبَّت الريح على الأبناء، وهي صور تُعبِّر تعبيرًا دقيقًا جدًّا عن عاطفة الآباء نحو أبنائهم.
ولهذا الشاعر «المعلى الطائي» قصيدة عاطفية أخرى يرثي فيها جاريته «وصف»، ويقال إن هذه الجارية كانت أديبة شاعرة وكان المعلى يحبها؛ لأدبها وثقافتها، ولكنه اضطر إلى أن يبيعها لسبب أزمة مالية انتابته، فلما دخل عليها قالت له: بعتني يا معلى؟ قال: نعم، قالت: والله لو ملكت منك مثل ما تملك مني ما بعتك بالدنيا وما فيها، فخجل المعلى واضطر إلى أن يرد الدنانير وأن يستقيل صاحبه الذي اشتراها وأن يعتذر إلى صاحبته، ثم جاءت الفاجعة بأن توفيت هذه الجارية بعد ثمانية أيام، فرثاها المعلى بقصيدة فيها الحزن الدفين والحسرة الشديدة والعاطفة القوية، فهو يقول يخاطب الموت الذي اختطف هذه الجارية ولم يرحم شبابها وجمالها:
فعاطفة الحزن الشديدة واضحة كل الوضوح في هذا الرثاء، ولكنه حزن هادئ — إن صح هذا التعبير — ليس فيه النحيب والعويل على نحو ما تعوَّدنا من شعراء العرب، بل حزن دفين تتقطع له النفس؛ فالشاعر يلوم الموت؛ لأنه اقتنص جاريته التي هي بمثابة شق نفسه، وهو لا يستطيع أن يهنأ بالعيش بالنصف فقط، ويلوم الموت؛ لأنه لم يرحم شبابها، ثم أخذ الشاعر في وصف عظامها اللينة وشعرها وعينها ومشيتها وكأنها ابنة الظبية الصغيرة، ويعاتب الموت؛ لأنه ترك الحبيبة في قبر تلعب الريح بترابه وتمتد يد البلى إلى جسدها، ثم يناشد قبرها أن يحفظ عليها جمالها وظُرفها، كل ذلك دلالة على الحزن العميق والألم الذي ليس بعده ألم لفراق جاريته عبَّر عنها الشاعر في سهولة وفي مقدرة فنية تثير الحزن حقًّا.
ولنفس الشاعر مقطوعة أخرى في المدح والاعتذار وطلب العفو أنشدها للأمير عبد الله بن طاهر عندما ولي مصر، وكان غاضبًا على المعلى؛ بسبب موقفه في ثورة الجروي، وكان ابن طاهر يمنح الشعراء الذين مدحوه فطمع المعلى في نواله فقصده وهو يخطب الناس على المنبر فاعتذر إليه ومدحه بهذه القصيدة:
فعفا الوالي عنه وأحسن عطاءه؛ لما تبين له من مقدرة الشاعر في حُسن السبك وقوة العبارة وجودة المعاني. ولهذا الشاعر بيتان في الدعوة إلى الصبوح في الربيع بين أزهار الرياض:
من هذا كله نتبين أن الشعر المصري بدأ في الظهور في أواخر القرن الثاني للهجرة، وأن المصريين بدءوا يُعبِّرون عن عواطفهم ومشاعرهم بالشعر، رأينا ذلك عند الشاعر المعلى الطائي. ونراه عند الشاعر الملقب بالجمل الأكبر الذي أخذ علوم الدين عن الشافعي ولكنه كان يتكسب بشعره، وقد رحل إلى دمشق لمدح أحمد بن المدبر، فسمع أن هذا الأمير يُجزل العطاء لمن يجيد مدحه، أما الذين يمدحونه بشعر ضعيف فهو يوجه بهم مع أحد خواصه إلى المسجد فلا يفارقونه حتى يُصلُّوا مائة ركعة، فدخل عليه الجمل وأنشده مقطوعة يظهر فيها ظُرف المصريين وفكاهاتهم:
فأعطاه الأمير وأجزل عطاءه. وقد انقطع الجمل لمدح القاضي ابن أبي الليث الذي تولى قضاء مصر سنة ٢٢٣ﻫ وكان حنفي المذهب، وفي أيامه امتُحن المصريون بفتنة خلق القرآن واشتد القاضي في الامتحان فزج بأكثر الفقهاء في السجن ومنعهم من الجلوس بالمسجد بل من الاقتراب منه، وهرب بعض الناس واختفى بعضهم، وسجل الجمل كل ذلك في مديحه لابن أبي الليث وطعنه على هؤلاء العلماء الذين لم يقروا بخلق القرآن، ولكن الطريف في شعر الجمل في هذه الحوادث هو وصفه لعمائم العلماء العالية فقد كانوا يرتدون القلانس الطويلة، وكيف أن القاضي عندما اجتمع العلماء في مجلسه أمر غلامه بضرب رءوس الشيوخ حتى أُلقيت قلانسهم على الأرض ولعب بها الأولاد والرعاع، فالشاعر يقول في إحدى قصائده:
فهذه الأبيات لها دلالتها الاجتماعية والتاريخية عن مصر في النصف الأول من القرن الثالث للهجرة؛ لأنها تُعطينا صورة عن زي رجال الدين والقضاة في هذه السنوات وما حدث لهم في محنة خلق القرآن، تحدَّث عنها شاعر متصل بهذه الحوادث قريب منها كل القرب. كما نلاحظ أن هذا الشاعر كان يميل إلى المحسنات البديعية بعض الميل، ويظهر ذلك في مقطوعته التي أنشدها في الزهد والقناعة، فهو يقول:
فهناك جناس في البيت الثاني في رجل ورِجل وفي ثرى وثريا وفي هامة وهمته وفي البيت الأخير في ماء الحياة وماء المحيا، وهناك مقابلة بين الظمأ والري في البيت الأول، ومع ذلك لم يكن الشاعر موفقًا كل التوفيق فيما أراده من التلاعب البديعي.
استمر تيار الشعر يقوى في مصر حتى كان النصف الثاني من القرن الثالث — أي في عصر الطولونيين والإخشيديين — فنرى عددًا كبيرًا من الشعراء المصريين. ويزعم أحد المؤرخين أنه رأى كتابًا قدر اثنتي عشرة كراسة مضمونة فهرست شعراء الميدان الذي لأحمد بن طولون، فإذا كانت أسماء الشعراء في اثنتي عشرة كراسة فكم يكون شعرهم؟! فبالرغم مما في هذا القول من مبالغة، فلا نغالي إذا قلنا إن عددًا كبيرًا من الشعراء تجمعوا في بلاط الطولونيين الذين كانوا أهل بذخ وكرم، وأرادوا أن يجعلوا من مدينتهم التي بنوها «القطائع» مركزًا أدبيًّا شبيهًا ببغداد؛ فكثُر حولهم الشعراء المتكسبون الذين سجلوا في أشعارهم مآثر الطولونيين وما شيدوه من مباني، وشدوا أزرهم في الخلاف الذي كان بين أحمد بن طولون وولي عهد العباسيين الموفق؛ فالشاعر قعدان بن عمرو مدح ابن طولون بأنه يدافع عن المعتمد العباسي خليفة المسلمين أمام أخيه الموفق، ودفاع ابن طولون على هذا النحو دفاع عن الدين، وحث الشاعر المسلمين على أن يتبعوا ابن طولون في حروبه فهو يقول:
وقال الشاعر نفسه «قعدان بن عمرو» في قصيدة أخرى يستنهض المصريين لنُصرة خليفة المسلمين، ويدعوهم لاتباع ابن طولون في سياسته في الدفاع عن الخليفة:
ويقول الشاعر منصف بن خليفة الهذلي يمدح ابن طولون ويُشيد بفضائله ودفاعه عن الخليفة:
فالشعر المصري إذن قام بدوره في تسجيل الحوادث التي كانت في عصر ابن طولون، كما قام بالدعوة للذود عن الخلافة ضد تلاعب المتلاعبين. ووُجِدَ في الوقت نفسه الشعراء الذين كانوا ينقمون على أحمد بن طولون ويسبونه أقبح سب؛ فالشاعر المصري محمد بن داود وقف بالمرصاد لابن طولون، فلم يأتِ ابن طولون عملًا من الأعمال دون أن يهجوه هذا الشاعر ويُقبِّح أفعاله. فمثلًا بنى ابن طولون المارستان وهو عمل إنساني جليل ولكن هجاه الشاعر بقوله:
فالشاعر هنا يدعو إلى الثورة ضد ابن طولون، وأن ابن طولون نقمة من الله جزاء أفعالهم، وجعل الشاعر مآثر ابن طولون في إنشاء المارستان وسيلة للتهكم والهجاء المقذع، كذلك قول هذا الشاعر أمام الخلاف بين الموفق ولي عهد الخلافة العباسية. وبنى ابن طولون حصن الجزيرة وأنشأ المراكب الحربية في جزيرة الروضة، فاتخذ الشاعر ذلك كله وسيلة لهجاء ابن طولون في قوله:
بل لما مات أحمد بن طولون لم يتورع هذا الشاعر في هجائه والتهكم به في قوله:
هكذا لم ينسَ الشاعر حقده الدفين على أحمد بن طولون، ولم يحترم جلال الموت ورهبته، فهجا ابن طولون هذا الهجاء المقذع الذي لا نكاد نجد له مثيلًا في الأدب العربي القديم، ولكن هذا الشاعر المصري كان شاذًّا في هجاء الميت، فهو يقول في قصيدة أخرى:
فهذا الهجاء يدل على مدى سخط هذا الشاعر على ابن طولون حيًّا وميتًا، ويدل أيضًا على أن الشاعر المصري أخذ يُعبِّر عن عواطفه وشعوره في مثل هذه الصور المختلفة بين الرضى والسخط وبين المدح والذم. وقد لعب الشعر دوره في الثورة التي قام بها العباس بن أحمد بن طولون ضد أبيه؛ فقد كان للشاعر ابن جدار، كاتب ابن طولون، أثر كبير في دفع العباس إلى العصيان، فيقال إن العباس لما هم بالانخلاع عن طاعة أبيه كان مترددًا مرتبك الرأي، ولكن أنشده ابن جدار قصيدة يحرضه على العصيان منها:
في ثورة العباس هذه وهروبه إلى برقة وحروبه مع ابن الأغلب أنشد العباس:
كما سجل الشعر ثورة ابن الخليج الذي هزم جيوش العباسيين واستولى على الفسطاط سنة ٢٩٢ﻫ، وأراد أن يُعيد دولة الطولونيين، فمن ذلك قول أحمد بن محمد الحبيشي يخاطب ابن الخليج:
بل نجد تطورًا في فنون الشعر وأغراضه إذ ظهرت أغراض لم تُعرف من قبل؛ فقد وُجِدَ في مصر فن جديد لم يُسبق إليه، وهو فن رثاء الدول، فعندما انتزع العباسيون مصر من الطولونيين أمر القائد العباسي سنة ٢٩٣ﻫ بهدم الميدان الذي أنشأه أحمد بن طولون، فقام جماعة من شعراء مصر يبكون الدولة الطولونية ويتحدثون عن أيامها السعيدة والمباني التي أنشأتها وكيف أصبحت مباني الطولونيين أثرًا بعد عين، كل ذلك تحدَّث عنه المصريون في صور متتابعة وفي نغمة حزينة مؤثرة، فالشاعر المصري محمد بن طشويه يقول:
وقال أحمد بن إسحق الجفر:
وقال إسماعيل بن أبي هاشم:
وقال الشاعر سعيد القاص:
فشعراء مصر قاموا يندبون الدولة الطولونية ويذكرون مآثرها ومنشآتها على هذا النحو الذي رأينا بعض أمثلته، وهذا فن جديد كل الجِدَّة في تاريخ الأدب العربي، حقيقةً زار الشاعر البحتري «إيوان كسرى» فتذكر دولة الأكاسرة الفارسية قبل الإسلام، ونشط خياله إلى صور استمدها من التاريخ القديم فأنشد «قصيدته السينية» المعروفة التي ربما استفاد منها الشاعر المصري سعيد القاص في مقطوعته السابقة، ولكن شعراء مصر لم يستمدوا صورهم وعواطفهم من التاريخ، بل شاهدوا الأحداث وسجلوها وعبَّروا عن مشاعرهم نحوها.
ومهما يكن شيء فنستطيع مما تقدم أن نقول إن الشعر المصري ظهر ظهورًا واضحًا في القرن الثالث للهجرة، وأنه عبَّر تعبيرًا صادقًا عن الحوادث المصرية وعن مشاعر وأهواء الشعراء في هذا القرن، وأن الشعراء تناولوا أغراض الشعر المختلفة وكانوا إيذانًا لازدهار الشعر المصري وظهوره في صورة قوية لافتة بعد ذلك، على أننا يجب أن نسجل هنا أن الشعراء الوافدين على مصر لمدح الولاة كانوا من عوامل إيقاظ شاعرية شعراء مصر فجدير بنا أن نتحدث عن هؤلاء الشعراء.