كانط والحداثة الدينية

مؤسسة هنداوي مؤسسة هنداوي

توطئة

كانط والتنوير أو في حدود الثورة

جيل كامل من العقول والنخب الصغيرة ترعرعت في أحضان التنوير مِثلما صاغته مقالة صغيرة للفيلسوف الألماني إيمانويل كانط (Immanuel Kant)، ولم يكن هذا الفيلسوف نفسه على علمٍ بالحجم الحقيقي لمقالةٍ كتبَها من أجل مجرَّد سؤالٍ طرحه مجرد قسٍّ من قساوسة الكنيسة. وفي الحقيقة مثَّلت هذه المقالة أفقًا عامًّا لأجيالٍ من العقل العربي، رئةً أخرى لاستنشاق رائحة الحرية في ظلِّ أنظمةٍ استبدادية تستعبِد الأجسام والعقول وقد ولدتها أُمَّهَاتُهَا أحرارًا. قبل يوم ١٤ يناير (كانون الثاني)، مثَّل التنوير للفلسفة في الوطن العربي الكبير بديلًا مُمكنًا عن الثورة، إمكانية للتحرُّر بعقولنا ونصوصِنا ومدارسنا من جهلوت الاستبداد وطاغوته وسحقِه اليومي للمساحات الحرة، وبالرغم من أن التنوير قد غيَّر من مواقعه ومن عناوينه مراتٍ عديدة صرنا نتحدَّث فيها عن تنوير معتدل وتنوير جذري وتنوير ناقص وتنوير جديد، وحتى عن مُضادة التنوير، فإن العقل الفلسفي العربي ما انفكَّ في عوْدٍ على بدء، استئنافًا أو اختصامًا أو مغايرة، للأفق الوسيع لتنوير رسالته الأولى «تجرَّءوا على استعمال عقولكم».

ما الفرق بين التنوير والثورة؟ وإلى أي مدًى بوسعنا أن نستعمل عقولنا في مُدننا الحالية المُؤقَّتة؟ وماذا نستعمل من أنفسنا ونحن في حالة ثورة لا نعرف مصيرها؟ عقولنا أم غضبنا؟ وهل يصلح العقل كي تُولد الثورات وتُزهر وتترعرع؟ أم أن العقل بارد وعاقل ورصين ومتعقل وهادئ وسعيد، في حين تحتاج الثورات إلى العُنف والغضب والصراخ وتكسير الأنظمة والأنساق على رءوس أصحابها؟ يبدو أن الثورات لا تُولَد إلا من الجراح والآلام، وقد صارت جماعية، في حين أن العقل يبدو وحيدًا متوحدًا فرحًا بالصحراء التي تنمو على يدَيه وتترعرع.

في هذا النص سوف نُميِّز بين التنوير والثورة من خلال فلسفة كانط. هو امتحان وهو مُحاسبة تُريد أن تكون ثورية لفيلسوف قضيتُ في الاشتغال على نصوصه سنين من زهرات عمري. ما علاقة الفلسفة بالثورة؟ وبأي معنًى نتكلم عن فلسفة ثورية وعن فلسفة محافِظة؟ أليست الفلسفة في ماهيتها وروحها ثورة على كل عاداتنا ومُعتقداتنا بل أدياننا وآلهتنا … كانوا حكَّامًا طغاة أو أوهامًا ولاهوتًا يُعطِّل القوى الحيوية للبشر ومَحبتهم للحياة؟ نعم هناك فلاسفة يُصنَّفون ثوريين وغاضبين، وهناك آخرون مُحافظون وهادئون ومُستقيلون من السياسات المباشِرة للدول. إلى أي صنف ينتمي كانط؟ ليس كانط فيلسوفًا ثوريًّا لكنه ليس تنويريًّا بالمعنى الألماني الدقيق للتنوير، وليس كانط أيضًا فيلسوفًا رجعيًّا أو محافظًا أو جبانًا أو خائنًا لإرادة شعبه؟ هذه هي المفارقة التي يُعالجها هذا المقال، لذلك نقترح أن نمتحِن الأطروحة التالية: لقد كان كانط مُعجبًا بالثورة الفرنسية لكنه كان يعتبر أن التمرُّد على صاحب السيادة حقٌّ غير شرعي أصلًا، وفضَّل التنوير على الثورة، لم يكن كانط ضد الثورة لكنه اعترض على الجانب العنيف في الثورة، أي الاغتيالات والإعدامات كما في الثورة الفرنسية، لأن في ذلك مسًّا بجوهر التنظيم المدني القائم على وحدة الإرادة العامة للشعب التي يُجسِّدها الحاكم.

هناك أربعة أسئلة نُحاول معالجتها:

  • (١)

    ما الفرق بين التنوير والثورة؟

  • (٢)

    لماذا اعتبر كانط الثورة أمرًا غير شرعي؟

  • (٣)

    لماذ تحمَّس كانط للثورة الفرنسية؟

  • (٤)

    ما حدود التصور الكانطي للثورة؟

(١) ما الفرق بين التنوير والثورة؟

في مقالة «ما هو التنوير؟» (١٧٨٤م)، كتب كانط ما يلي: «عن طريق الثورة يمكن أن نُسقِط استبدادًا فرديًّا، أو أن نضع حدًّا لاضطهادٍ يقوم على التعطُّش للثروة والنفوذ، ولكننا لن نبلغ بها إصلاحًا حقيقيًّا لنمط التفكير، على العكس من ذلك ستنتعِش بسببها أحكام مُسبقة جديدة على غرار الأحكام القديمة لتَشُدَّ إلى حبالها السوادَ الأعظم المُفتقر إلى الفكر». إن نصًّا كهذا على استقراره المزعوم أودعه كانط لغمًا فلسفيًّا علينا تفجيره. فحينما يُفضِّل الفيلسوف الإصلاح عن الثورة فهو يُبرر ذلك بحجَّتَين، تبدوان حكيمتَين فيما أبعد من الخصومة بين الثوريِّين والمُحافظين، لكنهما خطيرتان على كل الثورات في الوقت نفسه. كيف ذلك؟ إن الإصلاح الحقيقي للعقول أفضل من ثورة تُسقط حكمًا استبداديًّا، فذلك يُنبِّهُنَا إلى نمَطٍ مغاير لمشاركة الفيلسوف في الشأن العام، ذلك أن الأخطر على البشر هو الوصاية على عقولهم وليس الاستبداد بثرواتهم. ثورة على العقول لا ثورة على البطون: ذاك هو موقف كانط.

أما عن الحجة الثانية فتقوم على أن الثورة قد تُنشِّط أحكامًا مُسبقة جديدة تشدُّ إليها الدهماء التي تفتقر إلى الفكر. كل ثورة تجلب معها أحكامًا مُسبقة وقد تُنشِّط أوهامًا قديمة وقع تجميدها من طرَف الاستبداد. مع الثورات العربية طفت على السطح أحكام مُسبقة وأوهام قديمة. عودة إلى المكبوت الأيديولوجي بأطيافه المختلفة تظهر هنا وهناك، من تونس وليبيا ومصر واليمن وسوريا …

إن كانط يُفضِّل إذن الإصلاح على الثورة. وهنا علينا أن نُنبِّه إلى التصوُّر الذي يقصده الفيلسوف من مفهوم الإصلاح، لا يتعلق الأمر بإدخال إصلاحات، أي تغييرات على القوانين أو التنظيم المدني، من أجل ترميم بناءٍ مُهدد بالانخرام، الإصلاح المقصود هو تغيير حقيقي بمعنًى جذري لآلة العقل البشري نفسه، هو إصلاح حقيقي لنمط التفكير، وليس مجرد تغيير وترميم لنظام الدولة. وهنا نلتقي بمفهوم التنوير بوصفه البرنامج الأمثل لإصلاح العقول بدلًا من إسقاط المُستبدِّين الذي قد ينتهي بمُستبدِّين جُدد.

علينا أن نقف هنا عند مفهوم التنوير. ولنُذكِّر بدايةً أن النقاش حول التنوير قد بدأ منذ ١٧٨٠م، وأن كانط لم ينخرِط فيه إلا بشكلٍ متأخر، وفي الحقيقة انطلق هذا النقاش حول التنوير في ألمانيا من خصومةٍ حادة حول كيفية استعمال التنوير، وكان هناك استنكار للشطط والإفراط في التنوير، وجاءت مقالة كانط «ماهو التنوير؟» بمثابة الإجابة عن سؤالٍ طرحه القس البرليني تسولنر (Zollner) حول مشكلة الزواج المدني. وقد كان القسُّ يدافع عن الزواج الديني، مستنكرًا بذلك الاستعمال المُشِطَّ لمفهوم التنوير، طارحًا سؤاله الاستنكاري «ماهو التنوير إذن؟» وقد سبق كانط إلى الإجابة عن هذا السؤال مندلسون (Mendelssohn) في شهر أيلول (سبتمبر) ١٧٨٤م، ومندلسون هو تنويري حقيقي، حيث التنوير الألماني يعني تحديدًا ضرورة احترام الإنسان لا بوصفه كائنًا عاقلًا فحسب، بل بما هو كائن حي له تاريخ وعادات دينية ينبغي مُعاملتها باحترام. يقول مندلسون مُعرِّفًا التنوير:

«إن التنوير صديق الفضيلة، ينبغي عليه أن يفعل وفق التيقُّظ والتبصُّر، وأن يتحمَّل بالأحرى الأحكام المُسبقة بدلًا من أن يرفض القسط من الحقيقة الذي يرتبط بها على نحوٍ عميق (…) إن التسامح إزاء الأحكام المُسبقة أفضل من شطط التنوير الذي يؤدي إلى إضعاف الشعور الأخلاقي وعدم التديُّن والفوضى.»

ضدَّ هذا المعنى للتنوير يكتب كانط في كانون الأول (ديسمبر) ١٧٨٤م مقترِحًا تصورًا فلسفيًّا جذريًّا هو الذي سيبقى في ذاكرة العقل البشري منتصرًا على تصوُّر مندلسون. فإن من أهم أطروحات التنوير الكانطي هي التالية:

  • أولًا: التنوير هو خروج المرء من حالة القصور إلى حالة الرشد، وهو قصور ناتج عن عدم استعمال المرء لعقله والقبول بالعيش تحت الوصاية، لذلك شعار التنوير هو «تجرَّأ على استعمال عقلك».
  • ثانيًا: من الصعب على المرء أن يتحرَّر بمُفرده، أما أن يستنير جمهور برمته فهو أمر أقرب إلى الإمكان، شريطة أن ينعم هذا الجمهور بالحرية.
  • ثالثًا: لا يبلغ الجمهور مرحلة التنوير إلا على مهَل، لا يمكن أن نستنير على نحوٍ فجائي وعنيف وفي كرَّة واحدة.
  • رابعًا: إن التنوير الذي يُريده كانط يتعلق تحديدًا بالتجرؤ على استعمال الإنسان عقلَه بشكلٍ حرٍّ وبعيد عن كل وصاية ورقابة في المسائل المتعلقة بالدين بخاصة. وإنه بالتالي كلُّ من يُعطِّل التنوير، في معنى تعطيل عمل العقل البشري أو مَن يعترِض على الاستعمال العمومي للعقل، سواء كان الحاكم أو رجل الدين أو أي شخصٍ آخر، فإن ذلك يُعتبر مسًّا بالحقوق المقدسة للإنسانية ودوسًا عليها.

وبوسعنا، بكلمةٍ واحدة، أن نعتبر مقالة «ما هو التنوير؟» لكانط بمثابة البيان السياسي الثوري لكانط في بلاد لم تقُم بثورتها لا على الطريقة الإنكليزية (١٦٤٩م)، ولا على الطريقة الأمريكية (١٧٧٥م)، ولا على الطريقة الفرنسية (١٧٨٩م). لكن التنوير الذي رسم كانط معالمه ليس ثورة في معنى الحدث التاريخي العنيف والجذري الذي يكنس في كرَّة واحدة تنظيمًا سياسيًّا من أجل استبداله بآخر. التنوير ليس ثورةً لكنه فعل ذاتي أخلاقي باطني للتفكير بأنفسنا. أنطولوجيا جذرية لعصرٍ برمته يطمح إلى الحرية ويراهن على العقول وعلى التقدم الأخلاقي وعلى الارتقاء بالإنسانية إلى مواطنةٍ كونية وسِلم دائم. إن الفرق هنا بين التنوير والثورة هو أن التنوير لا يقتضي غير الحرية الفكرية وهي حرية غير عنيفة، وتملك مفعولًا ثوريًّا ما دامت تهدف إلى إصلاح جذري لنمط التفكير.

(٢) لماذ اعتبر كانط الثورة أمرًا غير شرعي؟

نحن هنا إزاء مكانٍ خطير ينبغي أن نُحسِن الدخول إليه والخروج منه بسلام. أن تعترض الفلسفة على حق شعب ما في الثورة على حاكم مُستبد، أمر يُهدد الفلسفة والفلاسفة في الصميم، وهنا نقف عند أخطر نصٍّ كتبه كانط عن الثورة. يقول في إحدى صفحات كتاب ميتافيزيقيا الأخلاق، ضمن قسم «نظرية القانون»، ما يلي:

«إن تغييرًا للدستور ينبغي ألًّا يكون إلا من طرف الحاكم نفسه، وذلك يتم عبر الإصلاح، ولا يتم ذلك من طرف الشعب باللجوء إلى الثورة، وهو إصلاح يقتصِر على السلطة التنفيذية فحسب دون أن يمتدَّ إلى السلطة التشريعية.» وإنه بالتالي «ليس ثمة أية مقاومة شرعية للشعب ضد المشروع الأسمى للدولة.»

كيف نفهم هذا الأمر؟ ستة مُعطيات تُساعدنا على تبرير موقف كانط، هي التالية:

  • أولًا: إن هذا النصَّ كتبه صاحبه سنة ١٧٩٥م، أي بعد الاغتيالات والإعدامات التي استهدفت الحكَّام ورجال الدين، والتي تلت الثورة الفرنسية. وهي أحداث استنكرها الفلاسفة تقريبًا، منهم بوركا الإنكليزي وفيخته (Fichte) وشيلر (Schiller)، بما هي مسٌّ بحرمة أرواح البشر ومقدساتهم وبقداسة التنظيم المدني وبجوهر الأخلاق.
  • ثانيًا: إن كانط فضَّل الدفاع عن نظرية في القانون كونية ومُلزِمة وكفيلة بإنقاذ الدستور الشرعي الضامِن لكل الحريات بدلًا من الدفاع عن الثورة الفرسنية كحدثٍ خاصٍّ ما زالت نتائجه آنذاك غامضة وفوضوية.
  • ثالثًا: إن ضمن تنظيم مدني قائم على القانون لا يجوز للشعب أن يعترِض على قرار صاحب السيادة، لأنه في تلك الحالة مَن سيحسم الأمر؟ مَن صاحب الحق؟ وبأي حقٍّ والحال أن القانون لم يعُد هو الشرعية العليا لكل حق؟ هكذا يخلُص كانط إلى أن كل تمردٍ على القانون الذي يُمثله الحاكم إنما هو هدم لدولة القانون نفسها.
  • رابعًا: ينبغي أن نُشدِّد هنا على التصور الثوري الذي يُقدِّمه كانط لدولة القانون: إنها دولة لا يكون فيها الحاكم سوى مجرد مُمثل للإرادة المدنية للشعب، وهو شخص عام مُهمته أن يمارس السلطة التي منحَها له شعبه وفق القانون الذي يبقى دومًا فوق الجميع. وهذا الحاكم لا يملك أي شيءٍ؛ لا الذوات ولا الأرض ولا ثروات البلاد، فهو، بحسب كانط، السيد الأسمى للعدالة التوزيعية، حيث يضمن توزيع الخيرات على أصحابها دون أن يكون له أي حقٍّ في ملكيَّتها أو الاستيلاء عليها.
  • خامسًا: وبالتالي فإن المواطن في دولة القانون لا حقَّ له في التمرد لأنه يُسلِّم ضمنيًّا بأن الحاكم لا يقترف في حقِّه أي نوع من الظلم، وإذا ما وقع ذلك، فإنه من حق المواطن بحسب كانط، أن يُدلي برأيه وبحكمه وينقده علنًا وبشكلٍ عمومي، لأن دولة القانون هي نفسها دولة التنوير حيث ينعم الجمهور بالحرية.
  • سادسًا: لقد كان كانط يعوِّل على المثقف القادر على الاستعمال العمومي لعقله بما هو نوع من المقاومة السلمية أو من التمرد الهادئ الذي يتكفل بمراقبة دائمة للحاكم، حتى لا يحيد عن مبادئ دولة الحق والقانون، وذلك لأن الدولة في جوهرها تنظيم مدني يقوم على الإرادة العامة والقانون الكوني الذي لا يمكن الاحتجاج عليه.

(٣) لماذ تحمَّس كانط للثورة الفرنسية؟

في نصٍّ من نصوصه الأخيره تحت عنوان «نزاع الكليات» (١٧٩٧م)، يكتب كانط عن الثورة الفرنسية ما يلي: «إن هذا الحدث لا يتمثَّل في وقائع جميلة أو وخيمة قام بها البشر، بحيث صار فيها ما كان عظيمًا أمرًا مُبتذلًا بين الناس، وحيث انقرضت كما بسِحر أجهزة سياسية جدِّ لامعة وجدِّ قديمة وانبثقت في مكانها أخرى كما من عُمق الأرض، لا، لا شيء من كل هذا. يتعلق الأمر فحسب بطريقة تفكير المُتفرجين التي تتجلَّى بشكلٍ عمومي بمناسبة هذا اللعب للتحوُّلات العظيمة (…) والتي تُظهر موقفًا كونيًّا خاصية للنوع البشري، خاصية أخلاقية لا تمنحنا فقط الأمل في التقدُّم بل هي هذا التقدم بعينه.» هذا النص يُعبِّر فيه كانط صراحةً عن حماسته وفتنتِه القصوى بحدَث الثورة الفرنسية. إنها تُجسِّد، في تأويلاته، أملًا يحمله كل البشر، أمل كوني هو الأمل في التقدُّم الأخلاقي نحو عالَم يكون فيه الإنسان غايةً في حدِّ ذاته والحرية هي مفتاح كل الحقل العملي للبشر. إن الثورة الفرنسية التي قام بها «شعب ثري جدًّا من الناحية الروحية» تبعث في ذهن المُتفرجين الذين ينتمي إليهم كانط حماسة قصوى للثورة، تعود إلى الأمل في التقدم، أمل جسَّدته الثورة الفرنسية.

كيف نفهم حماسة كانط للثورة؟ نُحِيلُ هنا على ليوتار (Lyotard) المفكر الفرنسي ما بعد الحديث الذي اشتغل على هذا الأمر رأسًا. وهي أطروحة نكتفي بتجميع عناصرها للقارئ العربي في النقاط التالية:
  • أولًا: إن كل ما يحصل في الحقل السياسي التاريخي لا يحدث فحسب من جهة الركح، بل يحدث أيضًا من جهة المتفرجين الغامِضين البعيدين الذين لا أحد ينتظرهم ولا أحد ينظر إليهم، هؤلاء فقط هم من بِوُسعهم التمييز، داخل ضجيج الثورة، بين ما هو عادل وما هو غير عادل.
  • ثانيًا: إن مفهوم الحماسة في السياسة هو المفهوم المناظر لمفهوم الاحترام في الأخلاق ولمفهوم الرائع في الجماليات. وإن الحماسة قريبة من الشعور بروعة حدثٍ ما، أي بعظمته، هو شعور بفرحةٍ قصوى إزاء حدث عظيم، عاطفة حادة تدفع بالمخيلة إلى تخومها، بل هو حدث غير قابل للتخييل أصلًا، وذلك من فرط هوله وروعِه وعظمته. وهنا ينبغي التمييز بين الحماسة والتعصب: الحماسة بحسب كانط تهَب النفس دافعًا حيويًّا من أجل تجاوز حدود التخييل البشري. في حين أن التعصُّب فيه يتوهَّم المرء أنه يرى شيئًا ما، فيما وراء حدود المخيلة، في حين أنه لا يرى غير أوهامه: الحماسة انفعال سياسي في حين أن التعصُّب انفعال ديني.
  • ثالثًا: إن الثورة الفرنسية في عيون كانط، تحقيق لحلم التقدُّم التنويري في ذاته. ها هنا لا فاصل بين التنوير والثورة ولا بين الأخلاقي والسياسي. لكن إلى أي حدٍّ بوسع ثورة ما أن تكون أخلاقية؟ أو مُتخلفة؟ يبدو أن كانط ها هنا يرفع الأخلاق الكونية والحسَّ المشترك الجمالي والبُعد الكسموسياسي للمواطنة في العالم إلى مستوى الثورة السياسية الفرنسية. الشعب الفرنسي يثور في فرنسا، وفي ألمانيا يُشرِّع الفيلسوف للتنوير، وتلتقي الشعوب والعقول في أملٍ واحد هو التقدُّم الأخلاقي بالإنسانية نحو تنظيمٍ مدني يكفل الحرية والكونية واحترام الإنسان كغايةٍ في حدِّ ذاته.

(٤) حدود التصوُّر الكانطي للثورة وللدولة

أهم عيوب التصوُّر الكانطي للشأن السياسي هو تعويله على فكرة الفضاء العمومي الذي يقوم بمهمة رقابة الدولة عبر النقد العلَني أو ما يُسميه كانط بالاستعمال العمومي للعقل. لقد عوَّل كانط كثيرًا على دور الفيلسوف في نشر ثقافة الحق والاحترام والمُواطَنة، مُعتقدًا في قوة الفيلسوف على الإقناع وفي شفافية الفضاء العمومي. ولم يكن كل ذلك ليتنبَّأ بالتغيرات الجوهرية الطارئة على الفضاء العمومي الذي تحوَّل إلى فضاءٍ تُهيمن عليه وسائل الإعلام الإلكترونية والوقائع الافتراضية. إضافة إلى كل ذلك لم يكن كانط ليُقدِّر مدى خطورة الكلمة التي تحولت من وسيلةٍ للتنوير إلى دمغجة صمَّاء وأدلجة مخادعة.

خاتمة

كانط والثورات العربية: ماذا لو دعونا نصوص كانط للتفكير معنا في الثورات العربية؟ ماذا تُشبه هذه الثورات؟ هل بوسعنا قراءتها وفق نموذج قراءة كانط للثورة الفرنسية؟ هل سيتحمَّس كانط لثوراتنا، وهل سوف يَعتبرها تجسيدًا لحلمٍ كوني هو حلم التقدُّم الأخلاقي بالإنسانية؟ هذا السؤال بوسعه أن يَجرُّنا نحو جهتَين من التفكير لا نملك بعدُ الإجابة عن: أيهما سوف يرسو بنا على برِّ الأمان:

  • أولًا: إن الثورات العربية شبيهة في أسبابها ودوافعها العامة بالثورات الغربية الحديثة، فذاك أمرٌ مفروغٌ منه ما دامت جميعها قامت على رفضٍ قطعي وإرادة تحرُّر جذرية من دول الاستبداد وقمع الحريات وسحق لإرادة الشعوب. لذلك لن يكون موقف فيلسوف التنوير إلا الإعجاب والتحمُّس للثورات العربية وتعضيدها ومُباركتها بوصفها علامة على إمكانية أن تتحرَّر الجماهير من أجل تدبير مصيرها بنفسها. أن يثور شعبٌ ما عند كانط معناه أنه قرَّر دفعةً واحدة وبإرادة واحدة وفي كرَّة واحدة أن ينعم بالحرية، وذلك يعني أيضًا أن هذا الشعب قد قرَّر في سورة واحدة أن يُفكر بنفسه وبكل ما أوتي من الاستعداد الطبيعي والأخلاقي والحيوي. أن شعبًا ما قد ثار ضد المستبد معناه أنه قد نجح في الخروج على نحو جماعي من حالة الوصاية والقصور إلى حالة الرشد والحرية. أن شعبًا ما قد هبَّ وانتفض من السديم ومن العدم معناه أنه نجح أخيرًا في أن يتجرَّأ لا على استعمال عقله فحسب، بل على استعمال جسمه وانفعالاته ورغباته وكل قواه الحيوية من أجل السير نحو الحرية والعيش الكريم.
  • ثانيًا: لكن هل الثورات العربية تجسيد للأمل التنويري الذي بشَّر به العقل الحديث، أي التقدُّم الأخلاقي؟ أم أن ما عاشته الإنسانية منذ قرنَين من الزمن من تجاوز لأحلام التنوير، وقد صارت في عقول نقَّاد الحداثة إلى كابوسٍ بل إلى كارثة وبربرية وعدمية، يجعل علاقة ثوراتنا بالأحلام الحديثة أمرًا إشكاليًّا؟ ماذا تريد الثورات العربية تحديدًا: هل تريد الديموقراطية على الطريقة الغربية الحديثة؟ أم هي تريد استعادة للهوية العربية أو للهوية الإسلامية؟ هل تريد ثوراتنا التقدم بالمعنى التنويري؟ أم هي رغبة في العودة إلى الماضي الذي ظلَّ مكبوتًا لمدة سنين طويلة من طرف دول الاستبداد العربي؟ هل ملَلْنا التنوير وصِرنا بحاجة إلى تجاوز مبادئه التحديثية التي صنعت ملامح الإنسان الغربي؟ هل أن الثورات العربية التي نعيشها هذه الأيام واعية بخطَّة المستقبل الذي تريده الشعوب؟ أم أن هذه الشعوب نفسها لم تنضج بعد من أجل مستقبل مغاير؟ وأي مستقبل نريد؟ مستقبل سوف يأتي من أفق مغاير تمامًا وجديد تمامًا ومفاجئ تمامًا؟ أم نحن بصدد السقوط في مستقبلٍ مضى بعد؟

حذار. الكثير من التضحيات والنضالات ما زالت أمامنا من أجل توجيه ثوراتنا على الدروب الآمنة لمُستقبل يأتي من جهةٍ لم نمرَّ بها بعد. حذار ما مات شهداؤنا إلا من أجل أن نَعبُر إلى الضفة الأخرى. هل عبرنا؟ كل من يُعطِّل هذا العبور يقتل الشهيد ثانية. حذار من التورُّط بين دماء الشهداء وإرادة الشعوب.

تونس في ربيع ٢٠١٤