كانط والحداثة الدينية

مؤسسة هنداوي مؤسسة هنداوي

المقدمة

كانط في راهنيته

تمهيد: الراهن يُقال على معانٍ عدة

ماذا لو انطلقنا في عصر صارت فيه اللغة هي اللعبة المُفضلة للفلسفة من استشارة للغة التي نرومها فضاء ضيافة فلسفية لفيلسوف التنوير والحداثة إيمانويل كانط (١٧٢٤–١٨٠٤م) والذي ارتضاه كثير من العرب المُعاصرين قِبلة تفكير نحو إمكانية بناء فكرٍ فلسفي عربي مُعاصر؟ فكانط الذي نبحث عنه هنا بوصفه أداة ميتافيزيقية تُساعدنا على مواجهة «فضاءاتنا المثقوبة»، بحسب عبارة دولوز (Deleuze)، وعلى ترميم ذاكراتنا الفلسفية، هو كانط القادر على أن يكون راهنًا ورهانًا وأمرًا نراهن به على إمكانية أن ننخرط في مواطنة كونية في العالم، تخفيفًا من وطأة الانتماء ومن ثقل الذاكرة التاريخية لدَينا. لكن في عصر لم يفرغ فيه فلاسفة أوروبا بعدُ من إحصاء الموتات المتلاحِقة للذات وللإله (كانط – هيجل (Hegel) – نيتشه (Nietzsche))، للفن وللتاريخ (هيجل)، للإتيقا وللإستطيقا وللميتافيزيقا (هيدجر (Heidegger))، بل للإنسان نفسه (فوكو (Foucault))، يوشك المفهوم الفلسفي أن يكون دون هَول الكارثة. وإن كانط نفسه لا يملك أحيانًا أمام ما يرهن تاريخ البشر سوى تشخيص سوداوي لا يتوفر فيه العقل الفلسفي على أي مفهوم ولا على أي عقل حازم. إذ إنه عند كانط، ليس بوسع الفيلسوف أن ينهض بالتاريخ على جهة المسئولية الفلسفية، إلا في شكل فكرة ناظمة، ومن وجهة نظر كسموسياسية (١٧٨٤م)، أو على جهة تخمينات (١٧٨٦م)، لا يمكن فيها للفيلسوف أن يطمح إلى مقام يُماثل المقام الذي حازه كبلر في علم الفلك أو نيوتن (Newton) في علم الفيزياء١ إنما حسبه فقط أن يُنتج «رواية»٢ أو في أحسن الأحوال أن يبقى في مستوى الأفكار الناظمة والاستكشافية.
لكن وبالرغم من أن تاريخ البشر ليس، وفق عبارات كانط نفسه «سوى نسيج من الجنون، من التفاهة الطفولية بل أحيانًا حتى من الخبث والتعطش إلى التدمير الرهيب.»٣ وعلى الرغم من أن الإنسان هو نفسه إنما «قُدَّ من خشب هو على درجة من الاعوجاج بحيث يستحيل علينا معه أن نصقل منه أي شيءٍ مستقيم.»٤ فإن بوسع العقل أن يشقَّ طريقه على هَدي ما يُسميه كانط بالفكرة الناظمة التي هي لدَيه، في مقام أعلى من المفهوم نفسه.

ما الذي في فلسفة كانط كفيل بتوجيهنا ضمن الراهن الذي يُحدد نمط إقامتنا في العالم الحالي؟ ماذا وضع العرب في عبارة «الراهن»؟ كيف سمَّوه وبما وَسَموه، حتى يصير اللفظ حقيقًا بأن يكون فكرةً ناظمة أو فضاء استقبال كريم لفلسفةٍ لم ينفك العقل الفلسفي منذ قرنَين من الزمن عن استعادتها أو العودة إليها أو استئنافها؟

يبدو أن اللفظ العربي المُلقى هنا وهناك على قارعة المعاجم، في المأثور والمنثور، قد فكَّر سلفًا بديلًا عن الفلسفة ومفاهيمها. ذلك أننا حينما نمتحن هذا اللفظ باحِثين فيه عمَّا يسمح بالتفلسُف ضمن عبارة الراهن، فإن لسان العرب، يُمدُّنا بالمعاني التي نُحصيها فيما يلي:

الراهن من رهَن رهنًا ورهونًا بمعنى ما وضع عند الإنسان بما ينوب مناب ما أُخذ منه، والراهن هو المالك، والمرتهِن هو آخِذ الرهن، والرهن مال أو ما يقوم مقام المال، ويشمل الحيوان والجماد والعروض والعقار والمذروع والمعدود والمَكيل والموزون. والراهن أيضًا هو الدائم، أي الثابت وهو الشيء المُلزِم و«راهنة في البيت» والقصد هو الأنثى، بمعنى دائمة، ثابتة، رهينة. وهذا راهن لك، أي معدٌّ و«يدي لك رهن» أي «كفيلة». وأنا لك رهن أي كفيل. وأرهن لهم الطعام بمعنى أدامَه لهم وجاء في القرآن «كل نفس بما كسبت رهينة، وكل امرئ بما كسب رهين» أي مُحتبس بعمله. و«أرهن له الشر» أي أدامه وأثبته له حتى كفَّ عنه. والرهان والمراهنة بمعنى المخاطرة. فنقول: أرهنوا بينهم خطرًا. وأُرهن الميت قبرًا أي ضمَّه إياه. ورهنان تعني موضعًا. ويُقال الراهن في لغة العرب أخيرًا على المهزول المُعيي من الناس والإبل وجميع الدواب، والراهن هو الأعجف من ركوب أو حدث أو مرض.٥

إن ما نكتسِبه من هذه الاستشارة اللغوية للفظ الراهن في لغة العرب هو أنه راهن ينتمي إلى المجال العملي بعامة، سواء تعلق الأمر بالمال والسلع وهو المعنى الأول والمباشر له، أو المجال الأخلاقي عمومًا الخير، الشر، المسئولية أو بمجال البدن (الصحة والمرض). فالمال الرهن، والأنثى الراهنة، والنفس الرهينة، والطعام المرتهن، وخطر الرهان، والمرض الراهن والشر المرهن: تلك هي أهم العناصر التي تؤثث الراهن في لسان العرب، والتي تجمع بينها وتفرق المعاني التالية: الدَين (المال)، والدوام (المرأة) والكفالة (الطعام) والمسئولية (النفس) والشر والخطر (العلاقة مع الآخر) والهزال والإعياء (البدن).

كيف العبور بالراهن العربي من مجال اللفظ إلى مجال المفهوم، ومن مجال الرهن بوصفه دَينًا إلى مجال المراهنة في معنى المخاطرة؟ أو كيف العبور بأنفسنا من الراهن المهزول الذي أصابه لدَينا ضرب من الإعياء الميتافيزيقي من فرط حمولة الذاكرة التاريخية لدَينا، وضيق الفضاء الكفيل باحتفاء إتيقي بالإنسان في ديارنا، إلى راهن مالك لأدوات راهنيته وكفيل بها معًا؟ يبدو أن المرور من الصيغة اللغوية لاسم المفعول مرهون إلى صيغة الفعل والفاعل راهن وراهن، لا يتطلب مجرد لعب ألفاظ لم تنضج بعد. إنه أكثر من عراك لغوي وأكبر كثافة من مجرد نقيضه جدلية بين عقول، في حين لا يزال ينبهر شقٌّ منها بصفاء الكوجيتو وانتصاراته، يحسم الشق الآخر حسمًا أصوليًّا في الحداثة الغربية التي تبدو فاشلة سلفًا في إقامة علاقة صحية مع الآخر الذي هو نحن. وقد يصير اللعب اللغوي لدَينا بين المرهون والراهن، بين المفعول والفاعل علامة على ضربٍ من خفة الوجود وهشاشة الإنسان التي لم تعُد عقولنا المثقوبة بقادرة على احتمال خاناته السوداء.

فنحن لم نأتِ بعدُ إلى انتصار الكوجيتو في ديارنا، وإنسان كانط ما زال يتردَّد في زيارة أوطاننا. أما الذات لدَينا فما زال يفصلها الكثير من أجل مواطنة محلية في مدننا، وأما عن الوطن فيكاد يكون جمهورًا بلا مفهوم وبلا فضاء عمومي. ومن أجل ألا تكون اللوحة سوداء تمامًا بل رمادية فحسب — لأن الرمادي هو لون الشعراء والفلاسفة ومن أجل ألا تتحوَّل الفلسفة لدينا إلى قصيدة رثائية — حقيق بنا أن نمضي بالفكر قليلًا على درب هذه القامة الفلسفية الجليلة التي قد تكون لنا رهنًا بمعنى كفيلة باحتضاننا ومساعدتنا على التفكير بما يرهن لنا من ضروب الشرور أو ما يرهن أجسادنا داخل فضاءات المدن الحالية المُخددة تخديدًا لا يترك أي مجال لخطوط إفلات حسب عبارات دولوز. وحتى لا يكون الراهن الذي نحن فيه «أعجفَ» تمامًا فلنراهن على المخاطرة بعقولنا في دروب سار فيها كانط مترددًا مجاملًا أحيانًا، مخاطرًا مراهنًا أحيانًا أخرى.

هذه الدروب هي نفسها التي لا تزال ترهن وجودنا الحالي وبأشكال أكثر حدة وكثافة وخطرًا. يتعلق الأمر بأربعة مجالات هي الفن والدين والإتيقا والسياسة.

الفن في حضارة انتصار الإيروس (Eros)، بوصفه أضحى اليوم ظاهرة مُهيمنة على وجودنا. والدين في عودته القوية بما أنتجه من ظواهر اتسعت أسماؤها وفاضت عن أشيائها (تعصب، إرهاب، أصوليات … إلخ). والإتيقا التي أضحت أفق مساءلة ملحة لمفكري العصر الحالي في اتجاه التفكير بمستقبل ممكن للبشرية. وأخيرًا السياسة التي تكاد تنحصر — في عصر الإمبراطورية — في تدبير فظيع لحروب دائمة، باسم قيم السلم والديمقراطية التي تكاد لا تتعدى حدود البرلمانات.

لكن لماذا كانط؟ اتِّقاءً لشر الترف الميتافيزيقي الثاوي في هذا السؤال الذي تخلَّى عنه العقل الفلسفي منذ زمن، لنتوجه في التفكير وجهةً تدلنا على صورةٍ لكانط أكثر قابلية للاستعمال في مواجهة مشاكل الإنسان المعاصر، ولنسأل حينئذ: ماذا يُمكننا أن نستعمِل من فلسفة كانط اليوم في فهم المسائل الراهنة للحداثة؟ وهو سؤال بوصفه «عن ماذا؟» وعن الإمكان وعن الاستعمال وعن الحداثة إنما يهتدي بِهَدي الأسئلة الناظمة لمُجمل فلسفة كانط نفسها.

أما عن السؤال «ماذا؟» فهو السؤال الذي به صاغ كانط المشروع النقدي برمَّته، وذلك ضمن أسئلته النقدية الشهيرة الثلاثة التي وردَت في القسم الثاني من الفصل الثاني من الجزء الثاني من «نقد العقل المَحض» يقول كانط: كل غرض لعقلي (اعتباريًّا كان أم عمليًّا) يتوحد في الأسئلة الثلاثة التالية:

  • (١)

    ماذا يُمكنني أن أعرف؟

  • (٢)

    ماذا يجب عليَّ أن أعمل؟

  • (٣)
    ماذا يمكن لي أن أعمَل؟٦
أما عن الإمكان فهو المفهوم الذي به ينسج نقد العقل المحض شروط تكوُّن الذات الحديثة بوصفها تستقي بِنيتها وشروطها، من نظرية المعرفة مثلما ارتسمت ملامحها في العلم الحديث من خلال علم الفلك لكوبرنيك (Copernicus) وفيزياء نيوتن. ومفهوم الإمكان عند كانط يُقال على ثلاثة معانٍ أساسية: فالإمكان هو في بادئ الأمر إحدى مقولات الجهة مثلما رسمته لوحة المقولات من تحليلية الذهن من نقد العقل المحض.٧ فهو إذن، وفق الجهاز المفاهيمي لكانط، مفهوم قبلي من مفاهيم الذهن البشري بمعنى أنه أحد شروط الإمكان الأساسية للمعرفة بعامة. ويميز كانط في المقدمة الأولى من نقد ملكة الحكم ما بين الإمكان العملي والإمكان الفيزيائي فما هو ممكن من وجهة نظر عملية هو ما يتمثله الإنسان وما يأتيه من أفعال بوصفه إرادة وحرية، على عكس الإمكان أو الضرورة الفيزيائية التي تجد علَّتها في الغريزة أو في أفعال آلية مِثلما هو الأمر لدى الحيوان.٨ وتهدف فلسفة كانط إلى تعليم الإنسان الحديث كيف الارتقاء بنفسه من مجرد الإمكان الفيزيائي المحصور في استجابات غريزية إلى الإمكان العملي الذي له بوصفه عقلًا وإرادة وحرية.

وأما عن عبارة الاستعمال فهي، وبكل الثقل الأداتي الذي تحمله في عصر التقنية، لَعَلَى شأنٍ اصطلاحي عظيم في فلسفة كانط. وقد يكون فيلسوف النقد هو من تحول بالعقل الفلسفي من التساؤل عن ماهية الأشياء وعِللها إلى معالجة الاستعمالات المختلفة للعقل وللعالم وللدين وللإنسان وللإله نفسه.

لقد اشتغل كانط طيلة كتابه النقدي الأول على تمييز دقيق بين استعمالات مختلفة للعقل: نظرية وعملية مُحايثة ومُتعالية، دوغمائية وخصامية وريبية٩ … وهو في تشريحه للعقل في خارطته الداخلية التي له ما فتئ كانط يلح على مكسب أساسي لفلسفته هو تناهي العقل البشري وعدم قُدرته على تجاوز تُخوم الزمان والمكان البشريين والمقولات القَبْلِيَّة التي للذهن البشري في تلقي الحدوسات وتحويلها عبر عمل الذهن ورسومات المخيلة إلى معارف دقيقة بالطبيعة بوصفها جُملة من الظواهر في تجربة مُمكنة.

وفي الجدلية المتعالية من نقد العقل المحض اشتغل كانط على الثالثة من أفكار العقل، أي فكرة الإله بوصفه فكرة ناظمة يمكن للعقل البشري، وذلك من أجل أن يستعملها خارج حدود الذهن والتوجه وجهةً حسنة في المجال العملي. فكانط يُعلمنا كيف نكفُّ عن النظر إلى الإله بوصفه علةً كسمولوجية وضامنًا أنطولوجيًّا للعالم من أجل اعتباره مُسلَّمةً من مُسلَّمات العقل العملي وحاجة عملية، تحث البشر على بلوغ الخير الأسمى واكتمال الإرادة الطيبة التي لهم. وفي مذهب الحق من ميتافيزيقا الأخلاق، يعلن كانط عن معنى استعمال الأشياء على جهة حق التملك. ويُميز كانط في مقالة «ما هو التنوير» (١٧٨٤م)، ما بين الاستعمال العام والاستعمال الخاص للعقل.

أما عن الدين فيُرشدنا كتاب: الدين في حدود مجرد العقل (١٧٩٣م) إلى كيف استعمال الدين استعمالًا مدنيًّا في حدود مجرد العقل. وفي الأنثروبولوجيا من وجهة نظر براجماتية (١٧٩٨م) اشتغل كانط على كيفية استعمال الإنسان للعالم١٠ وحتى على كيف يمكن استعمال الإنسان للإنسان نفسه.١١

ماذا نستعمل من كانط من أجل أن يكون راهنًا لنا في عصر يُصرِّف «الاستعمال» في وجوهه الكانطية الثلاثة:

  • استعمال شعوب برمتها نزولًا عند رغبات الطغاة المُعاصرين من أجل تأثيث المدن بأجسادٍ انتحارية ومقابر جماعية يختلط فيها القاتل بالمقتول في احتفاء إستطيقي بفظاعة الموت المعاصر.

  • أو استعمال العالم استعمالًا تقنيًّا مُشِطًّا يُهدد إمكانية الحياة نفسها على الأرض.

  • استعمال الإله نفسه استعمالات أصولية مختلقة تُهدد إمكانية القِيَم المدينية والاجتماع البشري نفسه.

سوف نشتغل في هذه المقدمة على «كانط راهنًا» والذي ارتضيناه عنوانًا وأفقًا لهذه البحوث، تحت ضربٍ من نفوذ اللغة وفق عبارة لدريدا (Derrida١٢ على معان عربية أربعة للراهنية؛ هي الدوام والشر والخطر والمرض.

يتعلق الأمر أولًا بالراهنية الزمانية في معنى استمرار ودوام اللحظة الحديثة التي فكر فيها كانط واقترح لها تشخيصًا منهجيًّا نموذجيًّا للإنسان بوصفه ذاتًا متناهية، وللإله بوصفه حاجة عملية أخلاقية، وللعالم بوصفه أفقًا كسموسياسيًّا أرضيًّا، وللعقل باعتباره مصدرًا وحيدًا ونهائيًّا لكل قِيم البشر.

ونشتغل ثانيًا على الراهنية الإشكالية لظاهرةٍ استبق كانط حمولتها الراهنة المحرجة، هي ظاهرة الدين، بوصفه يجد تاريخه في مفهوم الشر الجذري الأصيل في البشر من جهة طبيعتهم التي لهم. وهذا الراهن بوصفه شرًّا هو ما يرهن وجودنا الحالي من خلال ظاهرة العودة القوية للديني في أشكاله المختلفة. ونحن نجد في كتاب كانط الدين في حدود مجرد العقل (١٧٩٣م)، ما من شأنه أن يساعد المُعاصرين على فك الرهن الذي هُمْ به مُرتهنون بوصفه دَيْنًا وبوصفه دِينًا معًا.

ونمرُّ في لحظةٍ ثالثة إلى تصريف معنى الراهن في أحد معانيه العربية بوصفه خطرًا ومخاطرةً، ونرى كيف راهن كانط على دور الفيلسوف ومسئوليته أمام الفضاء العمومي وتدبير المدينة وسياستها، وذلك من دون أن يسقط في أيٍّ من أوهام الفلاسفة التقليدية: الدور البطولي للفيلسوف، الحلم بالمدينة الفاضلة، إمكانية تغيير العالم …

أما في اللحظة الرابعة والأخيرة فنمتحن اللفظ العربي للراهن أمام المستقبل نفسه، حيث يكون الراهن ضربًا من اللاراهنية نفسها، وهو الراهن الذي آل إليه العقل والإنسان والإله والعالم والمدينة المعاصرة: إنها أُصيبت جميعها بضرب من المرض أو من الهزال الأنطولوجي. فالعقل مُصاب بالكسوف والإنسان قد مات، والإله قد أفل عن البشر والعالم مُهدد إيكولوجيًّا بالضرر والانقراض، أما عن المدينة فحدِّث وبكل الحرج الذي تحمِله فضاءاتنا المُخددة بآلة الحرب الفظيعة … ماذا استبق كانط من الراهن الذي نحن فيه اليوم؟ هل كانط هو الفيلسوف الذي بشَّر بالتقدُّم والتنوير والحداثة أم هو من استبق العاصفة واستشرف منطق الهاوية والفضاءات المثقوبة؟

هي إذن أربعة مَعانٍ من راهنية كانط نُواجِه فيها أربعة أسئلة:

كيف نتدبَّر علاقتنا ﺑ «الحداثة التي لم نخرج منها بعد؟»١٣ كيف نُعيد ترتيب مسألة الديني في حضارة لها من التجربة النظرية والتاريخية للدين قرونًا طوالًا؟ ماذا عن تدبير المدينة، وهل ما زال مُمكنًا الحلم بالمدينة الفاضلة وبالفيلسوف الملك؟ ماذا عن المُستقبل أو هو مجرد سؤال مُخيب للآمال؟
ومن أجل معالجة هذه الأسئلة فإننا نستعين على استضافة لكانط في ثقافتنا بتأويلاتٍ معاصرة فلسفية كونية نُوزعها على المعاني الأربعة لراهنية كانط كما يلي: سوف نتَّخذ، بادئ ذي بدء، من ترتيب هابرماس (Habermas) لمنزلة إشكالية كانط داخل الخطاب الفلسفي للحداثة ﺑ «وصفه أول من عبَّر عن العالَم الحديث ضمن صرحٍ عقلي»، ثم من تأويل فوكو لمقالة «ما هو التنوير؟» بوصفها ضربًا من «أنطولوجيا الحاضر». نموذجين مُختلفَين لامتحانٍ معاصر لفيلسوف التنوير.

ونختبر ثانيًا المقاربة الكانطية للدين، معتمِدين على تفكيكية دريدا لكتاب الدين في حدود مجرد العقل باحِثين لدَيه عمَّا يصلح لمعالجة هذه الآلة الميتافيزيقية الغامضة التي ترهن عقول المُعاصرين وأوطانهم معًا.

ونتوقَّف ثالثًا عند تأويل حنا آرندت (Hannah Arendt) لفلسفة كانط السياسية باحِثين لدَيها عمَّا به يرتب الفيلسوف الحالي علاقته الخطرة بالسياسة، من دون أن يسقط في يوتوبيات الحالِمين، ولا في استقالة العدميِّين، ولا في تمرُّد الفوضويِّين.

ونختم أخيرًا بكانط في عيادة دولوز مُلتمِسين لدَيه ضربًا من الراهنية التأويلية التي يبدو فيها كانط هو من استبق بنفسه — وبخاصة في كتابه النقدي الأخير، أي نقد ملكة الحكم (١٧٩٠م) — كلَّ مشاكل الحداثة المتعلقة بالزمن أو بالذات أو بالآخر أو بالإنسان الحديث بعامة.

(١) الراهنية الزمانية لكانط في تأويل هابرماس وفوكو

يتعلق الأمر هنا بالفحص عن مدى راهنية فلسفة كانط من حيث أن الراهن استمرار ودوام وقوام وإلزام. والمقصود ها هنا هو استمرار الحقبة الحديثة التي اشتغل عليها تفكير كانط مُقترحًا لها منهجًا يعتمد التشخيص النقدي لقدرات العقل في أُفق نظرية المعرفة وبراديغم الذاتية، ويقوم على أطروحة كونية العقل في أفق البعد الكسموسياسي، ومن أجل فلسفة في الإنسان بوصفه غاية في حدِّ ذاتها، وفي اتجاه «عصر يسير نحو التنوير».١٤ إن راهنية كانط هنا هي راهنية زمانية، إذ هو وفق عبارة هابرماس «يُعبر عن العالَم الحديث ضمن صرح عقلي.» أو هو، بعبارة فوكو «صاحب أنطولوجيا تاريخية لذواتنا.» ومن أجل أن نتأوَّل على جهة الحق، راهنية كانط بالنسبة إلى الحداثة التي لم ينفك العقل الحالي عنها استئنافًا وتأويلًا أو هدمًا وتفكيكًا، بوسعنا أن نُميز ما بين موقفَين من علاقة كانط بالحداثة: الأول لا يظهر فيه كانط حاسمًا في الخطاب الفلسفي للحداثة إلا بشكلٍ مُحتشم ومُتردِّد (هابرماس)، أما في الثاني فيظهر كانط صاحب «أنطولوجيا الحاضر» حيث ارتقى بالحداثة إلى «موقف وسلوك إيطيقي».
أما عن الموقف الأول فنعثُر عليه في كتاب هابرماس حول الخطاب الفلسفي حول الحداثة (١٩٨٥م)،١٥ وهو الكتاب الذي يرسم فيه صاحب نظرية الفعل التواصُلي تاريخًا نقديًّا لفكرة الحداثة من هيجل إلى فوكو مرورًا بنيتشه وهوركهايمر (Horkheimer) وأدرنو (Adorno) وهيدجر وباتاي. غير أن ما يستدعي الانتباه هو أن هذه النظرية في الحداثة، والقائمة على إشكالية النقد الجذري للعقل اشترك فيها عمالقة الحداثة من هيجل إلى هيدجر، لا تتضمَّن تحت ريشة هابرماس أي فصلٍ خاصٍّ بكانط. وكأننا بهابرماس يعتبر، بضربٍ من المفارقة العجيبة، أن فلسفة نقد العقل غير جديرة بموضع فلسفيٍّ كفيلٍ بها ضمن الخطاب الفلسفي حول الحداثة. لِمَ لَمْ يَخُص هابرماس، الذي يشتغل على استكمال لمشروع التنوير، فيلسوفَ التنوير بمنزلةٍ ما داخل نظريته في الحداثة؟

والسؤال الذي يستعجلنا ها هنا بشكلٍ عفوي، عاطفي وغاضب: هل آخر الغرب غريب إذن عن الحداثة؟ والفظيع حينئذٍ أنه لا يمكن أن نستضيف كانط في ثقافتنا إلا على جهة ضربٍ من الاستعمار الثقافي. ولنُجِب هنا بعاطفةٍ عفوية مؤقتة، أنه قد يكون من الأجدر بنا أن نجتنَّب هذا الدوار الميتافيزيقي العقيم للمعركة بين الشرق والغرب.

فالشرق صار غربيًّا إلى حد كبير والغرب هو الآخر لم يعُد غربيًّا تمامًا. وفي عالم لم تعُد فيه البوصلة بقادرة على التمييز بين الجهات الأربع، حريٌّ بنا أن نتعلَّم، وفق عبارات دولوز، «فن توزيع الخرائط» والإقامة في المدينة على شكل «البدو-الرُّحَّل»،١٦ حيث يكون هاجس الإنسان علاقة ما مع الأرض١٧ بدلًا من الانتماء والتراث والتقليد والتاريخ والهوية والمِلل والنحل التي لم تنتج غير الشوفينيات المُستبدة وصدام الأصوليات على اختلاف ألوانها وفِرقها … ذاك هو معنى المواطنة الكونية التي نتعلَّمها من كانط راهنًا.
لا بد أن نسجل هنا تردُّد هابرماس الفلسفي أمام منزلة كانط من الحداثة: فمن جهةٍ يبدو مبدأ العمومية (Principe de publicité) الكانطي هو الصياغة الفلسفية الأولى والحاسمة لفكرة الفضاء العمومي الذي صمم هابرماس أركيولوجيته الخاصة في أطروحته لسنة (١٩٦٢م). ولكن من جهةٍ أخرى يكاد هابرماس يُضَحِّي بكانط بوصفه مُعلمًا للفكر (un Maître penseur) في نصوص الأخلاق والتواصل (١٩٨٣م)، وفي حين لا يُخصص الخطاب الفلسفي حول الحداثة أي موضعٍ لكانط مُعتبرًا أن الحداثة قد بدأت مع هيجل، فإنه يقترح ضمن كتاب إتيقا النقاش (١٩٩١م) أن يصوغ مفهومه الإتيقا انطلاقًا من مناظرةٍ حاسمة مع إتيقا كانط. أما ما يُهمُّ هابرماس بشكلٍ مخصوص من فلسفة كانط فمشروع السِّلم الدائم (١٧٩٦م) الذي خصص له هابرماس كتابًا (١٩٩٦م) تحيينًا له وتأهيلًا بوصفه كانط قد اكتشف «بُعدًا ثالثًا في نظرية الحق هو البعد الكسموسياسي».١٨

لكن لئن كان هابرماس مُترددًا أمام الاعتراف بمنزلة فريدة لكانط داخل الخطاب الفلسفي للحداثة، فإن فوكو يرفع مساءلة كانط حول «ما هو التنوير؟» (١٧٨٤م) إلى مستوًى راقٍ من الجدة والطرافة والسبق الفلسفي لا يمكن أن تكون لأي نصٍّ فلسفي آخر في الحداثة.

فكانط في رأي فوكو، هو أول من واجه سؤال «ما هي الفلسفة الحديثة؟» بضرْبٍ من التفكير فيما يُسميه فوكو «بالراهنية المَحضة».١٩

ما هي عناصر «الراهنية المَحضة» التي أنتجتها مقالة «ما هو التنوير؟» لكانط؟

يرى فوكو بادئ ذي بدء في هذا النص الكانطي المُتواضع والمُقتضب لُبَّ الفلسفة الحديثة نفسها. وهي تعني عنده تلك الفلسفة التي «تحاول بنوع من التهوُّر أن تجيب عن سؤال ما هو التنوير؟»٢٠ وهو سؤال لم يكن بوسع أي فيلسوف حديث من هيجل إلى هابرماس مرورًا بنيتشه وهيدجر وفوكو نفسه أن يُفلت منه. ها هنا يبدو «التنوير» الذي فكَّر كانط في ماهيته، حدثًا قادرًا على الفلسفة أن تتحمَّله وأن تنهض به معًا. إن الأمر يتعلق بعلاقة تواشُج حميم وخطير في آنٍ معًا ما بين الحداثة والتنوير: تواشُج احتفل به روَّاد التنوير، وتربَّصت به عقول ما بعد الحداثة بالنقد (هوركهايمر وأدرنو وماركوز (Marcuse)) أو بالحفر الأركيولوجي (فوكو) أو بالتفكيك (دريدا) أو بالعدمية (نيتشه) وبالسخرية الكلبية (سلوتردايك) (Sloterdijk).

إن مقالة «ما هو التنوير؟» لكانط والتي لم تكن سوى إجابة مُقتضبة عن سؤالٍ طرحته صحيفة برلينية، تُمثل في قراءة فوكو أنطولوجيا تاريخية للحاضر طريفة وغير مسبوقة.

ونقِف هنا على إحصاءٍ يُقدمه فوكو لمعانٍ فلسفية مختلفة لمفهوم الحاضر: أولًا «بوصفه حاضرًا ينتمي إلى عصرٍ خاص مُتميز عن العصور الأخرى. أو مُنفصل عنها من خلال حدث مأساوي.»٢١
ثانيًا: «بوصفه حاضرًا يُنبئ بعلامات تُخبر بحدث مقبل.»٢٢
ثالثًا: «بوصفه نقطة تحوُّل في اتجاه عالَم جديد.»٢٣

أما تحليلية كانط للحاضر أو اليوم الفلسفي أو للحداثة، فهي تنبني على مساءلة فلسفية مخصوصة.

ففوكو يعتبر أن «الصيغة التي يطرح بها كانط سؤال التنوير صيغة مختلفة، فلا يتعلق الأمر بعصرٍ للعالَم ننتمي إليه، ولا بحدَث نتبيَّن علاماته، ولا بفجر اكتمال مُستقبلي. (إن) السؤال يتعلق بالراهنية المَحضة. فهو لا يسعى لفهم الحاضر انطلاقًا من كليةٍ أو اكتمالٍ ذاتي، إنه يبحث عن اختلاف.»٢٤ ما هو الاختلاف الذي يُقدمه الحاضر اليوم بالنسبة إلى الأمس؟

إن الراهنية المحضة التي يتساءل عنها كانط تعني إذن البحث عن الاختلاف الكامن في الحدث الذي جعل الحاضر حاضرًا؛ أي عصرًا مُكتفيًا بنفسه. لكن ما الذي حدث حتى يكون اليوم مُمكنًا بوصفه حدثًا وحديثًا وعصرًا قائمًا بنفسه أي مختلفًا عن الأمس؟

ما الذي جعل العصور الحديثة عصرًا بمعنى زمانًا جديدًا «يُحدد ما نحن عليه وما نفكر فيه وما نفعله اليوم»؟٢٥ فبالنسبة إلى فوكو «نحن لا نزال بعدُ على عتبة الحداثة.»٢٦ ويُشخِّص فوكو هذا الاختلاف الذي جعل من الأزمنة الحديثة عصرًا برمَّته، يُسميها كانط حينًا بعصر النقد وحينًا آخر بعصر التنوير، في أربع سِمات:
أولًا: أن كانط يُعرِّف عصر التنوير على نحوٍ سالب بوصفه «مخرجًا» من وَضْعِ القصور الذي يُصيب المرء حينما لا يتجرأ على استعمال عقله في مجالات ثلاثة: «عندما يقوم فينا كتاب مقام العقل، وعندما يحتلُّ مُرشد روحي فينا مقام الوعي، وعندما يُقرر طبيب مكاننا نظامَ تغذيتنا الخاص.»٢٧
ثانيًا: يسجل فوكو ضربًا من الغموض في تصوُّر كانط لكيفية الخروج من حالة القصور، أي عن السؤال: من المسئول فينا عن التنوير؟ الفرد الذي ينبغي عليه، بوصفه شخصًا، أن يتجرأ على استعمال عقله أم البشر قاطبة؟ ويظهر أن التنوير بالنسبة إلى كانط حدث مزدوج: فهو «سيرورة يَنخرط فيها البشر بشكلٍ جماعي» وهو أيضًا «فعل شجاع يجب إنجازه على نحوٍ شخصي».٢٨

وهنا يُواجه فوكو سِمة أو صعوبة ثالثة في النص الكانطي تتعلق بغموض لفظ «الإنسانية» التي يُريد منها كانط أن تسير نحو التنوير. بأية إنسانية حينها يتعلق الأمر لدى كانط؟ هل «الإنسان الأوروبي» فحسب هو الذي دخل عصر الحداثة بفضل التقدُّم العلمي والفني والسياسي؟ أم النوع الإنساني برمَّته بوصفه نوعًا أرضيًّا يستعمل العالَم على نحوٍ كسموسياسي، يتقاسم فيه البشر قاطبةً العيشَ معًا؟ وهنا يبدو لنا أن كانط لا يقصد لا الإنسان الألماني ولا الإنسان الأوروبي إنما يتكلَّم عن الإنسان عامةً في عالمٍ يتسع لمواطنة كونية يشترك فيها الجميع، وهو معنى فكرة التاريخ الكوني من وجهة نظر كسموسياسية (١٧٨٤م) ومعنى إستطيقا الحس المُشترك في الفقرة ٤٠ من نقد ملكة الحكم (١٧٩٠م)، واستعمال العالم في اتجاه المواطنة في العالَم في الأنثروبولوجيا من وجهة نظر براجماتية (١٧٩٨م).

أما عن السمة الرابعة من سمات التنوير الكانطي فيُشخِّصُها فوكو في مفهوم استعمال العقل الذي يَعتبره كانط شعارًا للتنوير. ذلك أن التمييز الكانطي بين استعمالٍ خاص للعقل واستعمالٍ عامٍّ له إنما يعني عند فوكو أن «التنوير مشكلة سياسية».٢٩
لقد كان رهان كانط في مقالته عن التنوير مُعالجة السؤال التالي: «ما السبيل إلى استعمالٍ عمومي وعلني للعقل؟» أما إجابته عن هذا السؤال فهي إجابة «تكاد تجهر بحمولتها» إذ تفترض ضربًا من تعاقُد الاستبداد العقلاني مع العقل الحر: فالاستعمال العمومي والحُر للعقل المُستقل سيكون أفضل ضمانةٍ للطاعة.٣٠
لقد كان على كانط أن يضمن في الوقت ذاته استقلالية حكم العقل وحُريته وطاعة أولي الأمر. إنه يتدرب على ضربٍ من فن الكتابة الحرة تحت جهاز الرقابة الحاكمة. لذلك كان شرط إمكان التنوير عنده: «فكروا كيفما شئتم وفيما شئتم، لكن أطيعوا.»٣١ وبصرف النظر عن مجاملة كانط للملك فريديريك (Frederick II)، فإنه يُعلمنا كيف يكون الفيلسوف حاميًا وراعيًا لحرية التفكير بوصفها «الجوهرة الوحيدة المُتبقِّية لنا ضمن هذا الحشد من ضغوطات الحياة المدنية وهي الوحيدة التي لا يزال بوسعها أن تُساعدنا على إيجاد دواءٍ لكل شرور هذا الوضع.»٣٢
إن ما نتعلَّمه من هذه المقاربة الراهنة التي يقترحها فوكو لكانط هو نمط طريف من العلاقة بالحداثة لا بوصفها «مرحلة تاريخية» نُحدق فيها على جهة التسكع أو المتعة الإستطيقية أو على جهة الهدم والتفكيك والعدمية إنما على جهة «موقف وسلوك إيتيقي».٣٣ إن الحداثة بوصفها موقفًا إيتيقيًّا تعني، في تأويل فوكو لنص كانط، «أن نرفض ما سأُسميه عن قصدٍ بابتزاز عصر التنوير.»٣٤ كيف تُعلِّمُنا مقالة كانط عن التنوير ألا نتَّخذ من الحاضر موقفًا ابتزازيًّا؟
لقد حدَّد لنا كانط من خلال إجابته عن ماهية التنوير «طريقةً خاصة في التفلسف»، لكن ذلك لا يعني أن علينا أن نكون في «خندق التنوير» أو «ضده».٣٥ ليس علينا إذن أن نكون مع الأنوار أو ضدها.
ذاك موقف تبسيطي تسلُّطي ينبغي التخلُّص منه. إن كانط يقترح علينا نمطًا من العلاقة مع الراهن يقوم على «نقد دائم لذواتنا» من أجل تشكيلِها «ذواتٍ حرةً ومستقلة». ذاك هو معنى العلاقة مع الحداثة، علاقة لسنا مُلزمين فيها بالاختيار بين أن نكون في الداخل مع الحداثة، أو في الخارج مع المُضادِّين للحداثة. فكانط في تأويل فوكو يُعلمنا ها هنا كيف «نحتل موقعًا على الحدود» وكيف ينبغي علينا «إنقاذ جوهر العقلانية الذي نعثُر عليه في التنوير»، وكيف نصرف هذه «الأنطولوجيا النقدية لذواتنا بوصفها امتحانًا تاريخيًّا وعمليًّا» نُشكل به أنفسنا بوصفنا كائنات حرة.٣٦
وكم نحن في حاجةٍ اليوم ضمن هذا الامتحان الذي تعيشه عقولنا في علاقتنا بالحداثة إلى هذه الكثافة الكانطية من الرُّشد والتعقل والحرية. قد يكون ذلك على سبيل ضربٍ من الحلم أو، حسب فوكو، «اليوتوبيات. ذلك أنه إذا كانت لا تملك مكانًا حقيقيًّا، فإنها تزدهر مع ذلك في مكانٍ خارق وصقيل، وتفتح مدنًا ذات جادَّات فسيحة، وحدائق حافلة بالزرع، وبلدانًا سهلة حتى لو كان دخولها وهميًّا.»٣٧

(٢) الراهن بوصفه شرًّا جذريًّا: دريدا أمام كتاب «الدين في حدود مجرد العقل»

الدين في حدود مجرد العقل، ذاك هو العنوان الذي ارتضاه كانط من أجل الولوج إلى مجال يمقُت الفلاسفة وينغلِق دونهم. كيف التفكير بالدين، كيف إغراؤه بالفلسفة وكيف مُصالحته مع العقل من دون إثارة سخط العوام والساسة معًا؟

إنَّ كانط يسير بنا ها هنا، مِثلما سار غيره من الفلاسفة وهم كُثر على شفا حفرةٍ من الهاوية. كيف للعقل أن يتدبر الهاوية؟ إننا نقلب الراهن ها هنا في وجهٍ خطير من وجوهه التي ترهَن الجميع في انتماءٍ ميتافيزيقي واحد: إن الأمر يتعلق بظاهرة عودة الديني في مختلف أشكاله. كيف نُسائل هذه الظاهرة؟ بأي وجهٍ وبأية آلة قولية؟ وبأي نوع من العقل: عقل نقدي يكشف الأوهام ويفضحها أم عقل تأويلي يُبشر بالمعاني ويحتضنها، أو عقل تفكيكي يبحث عن مواطن العطالة والصمت والفراغ، أم عقل كلبي يسخر من كل المعاني والقِيَم والعقول والمفاهيم؟ وما أكثر أسماء العقل لدَينا اليوم.

وقد لا يتَّسِع أي من هذه العقول إلى تسمية ما يحدث اليوم باسم الدين وباسم الإسلام تحديدًا.

حسبنا أن نلتمِس داخل مساءلة دريدا٣٨ لمُعالجة كانط للدين بعضًا من العَون من أجل الإجابة عن سؤال طرحه دريدا: ماذا يعني أن نُفكر في الدين اليوم في حدود مجرد العقل؟ أي ماذا عن هذه الحركة الكانطية اليوم؟ أو ماذا يمكن أن يُشبه اليوم كتابٌ مثل كتاب كانط، عنوانه «الدين في حدود مجرد العقل»؟

ها هنا تُؤخَذ راهنية كتاب كانط في معنى «تاريخاني» يقترح دريدا أن يأخُذه بعين الاعتبار، من أجل تنزيله أو تأهيله داخل الراهن الحالي، بوصفه، على حدِّ اعتبار دريدا، راهنًا يقوم على ضربٍ من التحالف السرِّي والخطير ما بين عودة الديني والعقلانية العِلمية الحديثة. كيف نأخُذ إذن على عاتِقنا مهمة التفكير في الديني الراهن، بكلِّ الثقل الميتافيزيقي لهذا المفهوم؟ وأي تفكير إذا كان كل تفكيرٍ قِوامه التجريد، فأي تجريدٍ مُمكن للديني؟ ومِمَّ بوسعنا تجريد العنصر الديني الحالي: من الدين نفسه بوصفه نصوصًا وقصصًا وتاريخًا ومُقدسًا وانتماء، وكلها لا تُصرف إلا في صيغة الجمع والاختلاف، أم من السياسة العالقة به، أم من الذاكرة، أم من الأمم؟

إن كتاب كانط الدين في حدود مجرد العقل يقترح علينا ضربًا من المُعالجة الناجعة التي يمكن أن تُوجهنا اليوم في مواجهة ظاهرة العودة إلى الديني. والتي بوسعنا، بهديٍ من قراءة دريدا، أن نُحصي ضمنها المكاسب الفكرية التالية:

  • أولًا: إن التفكير بالدين في حدود مجرد العقل يعني بعبارات دريدا «أننا سوف لن نفهم شيئًا من الدين ما دُمنا لا نزال نُعارض بحُمق ما بين العقل والدين، ما بين النقد أو العلم والدين، ما بين الحداثة التقنية والدين.»٣٩ وهنا يكشف لنا دريدا عن ضربٍ من التحالف السري الخطير ما بين الحداثة القائمة على العقلانية وعودة الديني في أشكاله المختلفة. إنه تحالف عجيب ذاك الذي استبَقَه كانط ما بين العقل الحديث والدين.
  • ثانيًا: ولا عجب حينئذٍ أن يقرن كانط في كتابه الدين في حدود مجرد العقل ما بين أصل الدين وأصل الشر الجذري. فالتأريخ للديني عند كانط إنما هو أولًا وبالأساس تأريخ للشر الجذري في وجوهه المُختلفة. ولطالما أجهد كانط نفسه في هذا الكتاب من أجل تعيين أصلٍ عقلي للشر الجذري، وذلك ضد الأصل الأسطوري الذي تُحدِّث به الكتب السماوية. ولقد ضحَّى كانط في هذا الكتاب، مرة واحدة، بالتاريخ والأسطورة والقصص والذاكرة الشعبية؛ من أجل إرساء سلطة مجرد العقل أو العقل المجرد، العقل بلا ذاكرة وبلا انتماء؛ ذلك أن الدين الذي يتحدَّث عنه كانط هو دين العقل بصرف النظر عن كل مضمونٍ تاريخي أو جيوسياسي.
    ويسأل دريدا: «ماذا عن العقل والشر الجذري اليوم؟ أليست عودة الديني في علاقة تحالُف خطير مع العودة الحديثة لبعض أوجُه الشر الجذري الأكثر فظاعة؟»٤٠
  • ثالثًا: تأهيلًا وتحيينًا لكتاب كانط في الدين، بوصفه إحدى أهم المُساءلات الفلسفية الخطيرة للدين داخل التاريخ الحديث للفلسفة، يُقيم دريدا تفكيكيته لهذا الكتاب على الأطروحة الخطيرة التالية «ليس هناك تنافُر بين الأصوليات وأشكال التطرف (…) والعقلانية.» وإن عقلانية أولئك الذين نُسمِّيهم أصوليين يُمكنها أيضًا أن تكون مغالية في النقد، بل بوسعنا ألَّا نتراجع أمام ما يمكن على الأقل أن نُقرِّبَه من تجذير تفكيكي للحركة النقدية.٤١
إن كانط إذن هو أول من استبق، وبحركة بسيطة وغير مسبوقة، هذا التواطؤ الخطير ما بين العقل الحديث وعودة الديني في أشكاله الأكثر خطورة وعدمية. لذلك بالضبط نفهم نحن من هذا الكتاب كيف أنَّ كانط كان يدعو إلى دينٍ عقلي كوني وإلى استعمال مدَني للدين ضدَّ الدين التاريخي المشحون بالانتماء والذاكرة والمُعلَّق على حدود الأمة وعقائدها وأوهامها. وهو ما يُسمِّيه كانط بالدين الأخلاقي أو العقيدة التفكرية٤٢ التي تتناقض مع العقيدة الدوغمائية وتسعى إلى تدبُّر شأن البشر في أفق استكشافي كسموسياسي.

ولئن اعتبر دريدا، وفي إشارة غامضة مشحونة بما هو ديني أكثر من كونها تصدر عن فيلسوف، أن كتاب الدين في حدود مجرد العقل إنما هو كتاب يكشف عن ثقوبه الأكثر إثارة للهلع متى تعلق الأمر بضربٍ من المسيحية الأصلية الثاوية فيه، فنحن نعتبر أن مسيحية كانط لا تُزعجنا، طالما أنه لا ينتمي إلى الدين المسيحي على شاكلة العقل اليومي القائم على القصص والأساطير أو الدوغمائي المُتطرف القائم على الأوهام. إن مسيحية كانط إنما هي مسيحية مدنية لمواطَنة مُمكنة في العالم وخارج حدود المِلل والنِّحَل والأديان التاريخية. فالمسيح نفسه أو موسى أو أيوب ما هم إلا رموز أخلاقية محضة لإمكانية اكتمال أخلاقي للبشر بالحُرية التي هي أصلية فيهم وفي اتجاه الإنسان الذي يمكن أن يكون غايةً في حدِّ ذاته.

(٣) الراهن بوصفه خطرًا أو كانط والسياسة في قراءة حنا آرندت

تنطلق حنا آرندت في مُحاضراتها الأخيرة والتي خصَّصتها للفلسفة السياسية لدى كانط في المُفارقة التالية: «إن كانط لم يكتب أبدًا فلسفة سياسية.» لكن يُمكن اعتبار كتاب نقد ملكة الحكم بمثابة كتاب كانط في الفلسفة السياسية.٤٣ كيف تُعالج حنا آرندت هذه المفارقة؟
إنها تَعتبر بادئ ذي بدء أنَّ نصوص كانط حول التاريخ لم تكن ذات بالٍ ولم يكن هو بنفسه قد أولاها العناية اللازمة، حيث يصفها بكونها «ضربًا من التسلية، أو هي مجرد رحلة ترفيهية أو حتى لعبة طائشة لشبَّان حالِمين.»٤٤
أما عن مذهب الحق من ميتافيزيقا الأخلاق لكانط والذي يتضمَّن نظرية كانط في الحق وفي الدولة وفي العلاقة بين الدول، فقد يكون شوبنهاور (Schopenhauer) بحسب حنا آرندت، على شيءٍ من الحق، حينما قال عنها: «كل شيءٍ يحدث وكأنما هذا الكتاب لم يكن لهذا الرجل العظيم إنما هو صادر عن فكرٍ أحمق لرجلٍ من العوام.»٤٥

هل يعني ذلك أن كانط لا يهتمُّ بتاريخ البشر ولا بسياسة المدينة لديهم؟ ماذا حينئذٍ عن مسئولية الفيلسوف تجاه قضايا الإنسان وحقوقه وحُرياته؟

تَعتبر حنا آرندت أن كانط لم يكن ليتَّخذ موقفًا من السياسي إلا على كبر، وأنه لم يعِ بأهمية السياسة في علاقتها بوضع الإنسان في العالم إلا بشكلٍ مُتأخر نسبيًّا، وحينما لم يعد له «القوة الكافية» والوقت اللازم لفحص هذا الأمر فحصًا جيدًا. لكن على الرغم من ذلك يمكن اعتبار كتاب نقد ملكة الحكم بمثابة كتاب كانط في الفلسفة السياسية.٤٦

إننا حينما نتفحَّص هذه القراءة السياسية التي قدمتها حنا آرندت لنقد ملكة الحكم لكانط، نقف فيها على ثلاثة أفكار قادرة على توجيهنا ضمن الراهن الحالي هي: فن العيش معًا على جهة التواصل الكوني، خلق فضاء عمومي قائم على مبدأ العمومية بوصفه شرطًا لكل علاقةٍ مع الآخر وتأسيس الفيلسوف لنمَط طريف غير مسبوق من العلاقة مع السياسة، ذلك أن الفيلسوف عند كانط لا يحكم إنما هو يفكر ويُحصِّن حُرية التفكير حيثما حل.

أما عن فن العيش معًا فهو عند كانط نمط طريف من صحبة الآخرين نتعلَّم فيه كيف نأخذ الآخر بعين الاعتبار من وجهة نظرٍ إستطيقية. إن عبارة إستطيقي لا تعني ما تعنيه داخل الكتاب النقدي الأول لكانط، أي الحدوس المَحضة التي تجعل معرفة الذهن بالظواهر معرفةً ممكنة (الزمان والمكان). إن الإستطيقا المقصودة مع نقد ملكة الحكم هي ضرب من الاختراع لفضاءٍ عمومي قائم على عمل المخيلة وعلى حُكم الذوق والذي يتَّسع للنوع البشري قاطبةً حيث يكون الإنسان إنسانًا فحسب. فكانط يُميز في مفهوم الإنسان بين ثلاثة معانٍ:٤٧
  • (١)

    النوع الإنساني أو الإنسانية بوصفها جزءًا من الطبيعة، وهو ما مثَّل مبحثًا لفلسفة التاريخ.

  • (٢)

    الإنسان بوصفه كائنًا عاقلًا خاضعًا لقوانين العقل العملي، وبوصفه كائنًا مُستقلًا أو غاية في حدِّ ذاته ينتمي إلى مجال الكائنات العاقلة بعامة (نقد العقل العملي).

  • (٣)

    والبشر بوصفهم مخلوقات أرضية تعيش في شكلٍ اجتماعي تملك حسًّا مشتركًا أو حسَّ الجماعة.

إن كتاب نقد ملكة الحكم يشتغل على الإنسان بوصفه بشرًا حيث يسود منطق الكثرة والاختلاف والتفرد والعرضية. لذلك لا يمكن لهذا المجال إلا أن يكون مجالًا «بدون مفهوم» هو مجال الجميل والجليل بوصفه يخصُّ البشر فحسب وهو ما نعثر عليه في تمييزٍ طريف لكانط بين اللذيذ والجميل والخير.

يقول في الفقرة الخامسة من تحليلية الجميل من نقد ملكة الحكم: «إننا نُسمِّي لذيذًا لشخصٍ، ما هو مصدر لذةٍ بالنسبة إليه، ونُسمي جميلًا ما يلذُّ له فحسب، ونُسمِّي خيرًا ما يُفضله (…) إن اللذيذ يخصُّ الحيوانات التي لا عقل لها. أما الجمال فيخصُّ البشر فحسب، وأما الخير فله أهمية لكل كائن عاقل بعامة.»٤٨ فالبشر، مثلما يتمثَّل ذلك كانط في نقد ملكة الحكم، لا يحتاج الواحد منهم إلى الآخر لأنه يُشبهه في نفس الرغبات الغريزية، إنما ها هنا حاجة الإنسان إلى الآخر هي حاجة قائمة على التماثل في ملكة حكم كونية اسمُها الحس المشترك.
إن الحسَّ المشترك هو الذي يُعلِّمنا كيف نأخذ الآخر بعين الاعتبار في كل مرةٍ نفكر فيها ونحكم فيها على شيءٍ ما.٤٩ ذاك هو معنى ما تُسميه «حنا آرندت» «البُعد السياسي للتواصل»٥٠ الذي يخلق فضاءً عموميًّا مفتوحًا لكل وجهات النظر قائمًا على ما يُسميه كانط «مبدأ العمومية بوصفه المبدأ الذي يتحكم بكل العملية السياسية»٥١ ويجد هذا المبدأ صياغته الفلسفية الحاسمة في مشروع السلم الدائم (١٧٩٦م): «كل الأفعال المُتعلقة بحق الغير، والتي لا تكون قاعدتها قابلةً لأن تكون قاعدة عمومية هي أفعال غير عادلة.»٥٢
أما عن علاقة الفيلسوف بالسياسي لدى كانط فيبدو أنه بقي في نظر حنا آرندت مجرد «متفرج يكتفي بتأمُّل الفعل السياسي»٥٣ وأن «المواطن في العالم الكانطي هو في الحقيقة مُتفرج على العالم.» لكنَّنا نرى أن هذا الفيلسوف المُتفرج إنما قد يكون استبق شكلًا من الأشكال الجوهرية لتوديع صورة الفيلسوف البطل الذي طالما فكَّر بحلم تغيير العالم وإنشاء المدينة الفاضلة ومشروع الفيلسوف الملك. نحن نعتقد أنه مع كانط تبدأ علاقة طريفة غير مَسبوقة للفيلسوف مع السياسة. يقول كانط في مشروع السلم الدائم: «أن يصير الملوك فلاسفة أو أن يصير الفلاسفة ملوكًا، أمر لا ينبغي علينا البتة انتظار وقوعه، ولا ينبغي علينا أيضًا أن نتمنَّاه، ذلك أن متعة الملك تُفسد ضرورة حكم العقل وتُشَوِّه حُريته.»٥٤

(٤) الراهن بوصفه مرضًا أو كانط في عيادة دولوز

نصل أخيرًا إلى تقليب معنى راهنية كانط في دلالة عجيبة من الدلالات العربية لمفهوم الراهن. إنه الراهن وقد صار «أعجفَ»، هزيلًا مدحورًا مذمومًا يصفه الفكر الحالي تارة بالكارثة وطورًا بيوم القيامة.٥٥ ولا يهم حينها بِمَ تُسمِّي كل ملةٍ هذا الذي يتقاسمه الجميع ما دام الخندق واحدًا والهاوية هي نفسها. أين الإفلات إن كانت فضاءاتنا المثقوبة بالحرب والظلم والموت لا تسمح برسم خطوطٍ للنجاة؟ وأي خارطة تتَّسع لأوجه الفظاعة في زمن الإمبراطورية؟ ونحن لا نملك بلغة دولوز «غير هندسة شِبه أُميَّة»٥٦ لا تُميز بين المسطرة والبركار؟ أو هي أطلنطا المُستحيلة٥٧ بحسب عبارة ميشيل فوكو؟
ها هنا يلتفُّ صوبنا وجه آخر لكانط أتقن رسمه فيلسوف الريزوم والفضاءات الصقيلة، إنه مغاير لكانط الذي بشَّر به أقطاب التبشير بالحداثة (هابرماس) ولا هو بكانط الذي يتحول لديه التقدُّم إلى كارثة (بنيامين Benjamin)، بل هو كانط الذي استبق بنفسه وفي ثنايا نصوصه التي لم تُقرأ لأنها لم تُكتب إلا بالنسبة إلى قارئ يقرأ النص «من بعيد» و«بذاكرة طويلة الأمد»،٥٨ إنه كانط الذي استبق أزمة الحداثة وأمراضها الثاوية في موضعٍ قصي من جسدها الذي هو «جسد بلا أعضاء».٥٩
يتعلق الأمر ها هنا بزيارة لأحد النصوص التي كتبها دولوز حول فلسفة كانط في كتاب له يكاد يكون عنوانه عنوانًا كانطيًّا هو كتاب النقد والعيادة.٦٠
وفي هذه العيادة الفلسفية التي يظهر فيها كانط أحد الحرفاء الكبار، يختار دولوز أن يُعالج هذه الفلسفة بتلخيصها في أربع صيغٍ شعرية. فلِمَ التلخيص ولم الشعراء؟ التلخيص هو بمثابة التشخيص الجامع لأهم علامات المرض وهو تلخيص يُمكن تنزيلُه ضِمن ما سيُسمِّيه دولوز بضربٍ من الأدب الصغير (Littérature mineure)، حيث تصير النصوص الكبرى لديه قابلةً لأن تصير نصًّا صغيرًا: بوسع الشعراء أن يصوغوا أفكاره في أربع صياغات شعرية نعتبرها بمثابة التشخيصات الأربعة لأمراض الحداثة المسكوت عنها في فلسفة كانط.
أما الصياغة الأولى فتأتي على لسان هاملت (Hamlet) شكسبير (Shakespeare)، هذا الأمير الدنماركي الملتحف بالسواد والذي لا يظهر على المسرح إلا بشكلٍ متأخر، ألا وهي «لقد خرج الزمان عن طوره.»٦١ والمقصود ها هنا هو المعنى الجديد الذي أسَّسه كانط للزمان في الإستطيقا المُتعالية من نقد العقل المحض بوصفه حدسًا محضًا تملكه الذات باعتباره شرط إمكان لمعرفة الظواهر. فالذات توضع ها هنا في الزمان بوصفه شرط إمكانها، والزمان يستقر هو بدوره داخل الذات بوصفها مقامَهُ الوحيد. لكن الوضع ليس جميلًا إلى الحد الذي نربح فيه مكسب تناهي الإنسان واستقلاله عن الآلهة ومجيئه إلى العالم في شكل ذاتٍ حرة ومستقلة وواعية بزمنيتها الخاصة.
ففي نص كانط هذا حول الزمان الإستطيقي تكمن تراجيديا هاملت، بوصفه البطل التراجيدي الأكثر قدرة على إدراك معنى الانقلاب الكانطي الرائع للزمن: إن الإنسان عند كانط يغادر إلى الأبد زمن الكسموس من أجل الدخول في زمن المدينة.٦٢ إنه الزمن وقد «خرج عن طوره» بمعنى أنه لم يعُد مرتبطًا بالحركة إنما أصبح هو شرط إمكان التغيُّر والحركة معًا. إن الزمن حدس محض، أو شرط ذاتي محض للحدس البشري. مع كانط تكتشف الذات الحديثة لائكية الزمن.٦٣
إنها تخرج من الكهف القديم المفتوح على الأبدية من أجل أن تسقط في زمن بشري تمامًا، لا تحكمه الآلهة إنما تحكمه حيلة الطبيعة أو منطق التاريخ. لكن أي منطق ذاك الذي يحكمه تاريخ البشر أي تاريخ الشر الجذري؟ إنه منطق الذات الحديثة التي تعي نفسها دومًا بوصفها آخِرا. وهنا تأتي صياغة رامبو (Rimbaud) أو من يُلقَّب «بالشاعر الملعون»،٦٤ لتشخيص لحظة خروج الذات عن طورها وأُفول العقل عنها: «أنا هو آخر (Je est un autre)»،٦٥ يقول رامبو، الذي يُشير دولوز عبره، كما من وراء حجاب، إلى الفراغ الفظيع للذات الحديثة، بوصفها ذاتًا بدأت بعدُ مع كانط تعيش غربتها عن نفسها، من خلال ما يُسميه كانط في تحليله المفاهيم من نقد العقل المحض، بمفارقته الحس الباطن. وكانط يكشف بنفسه عن هذا الضرب من «انفصام الذات الحديثة» قائلًا: «إنها مفارقة تكمن في أن الحس الباطن يُقدمنا نحن أنفسنا إلى الوعي مثلما نظهر له فحسب وليس كما نحن أنفسنا في ذواتنا».٦٦ فالذات هي من جهة «أنا» مقامها الزمن الإستطيقي، لكنها من جهة أخرى هي «ذات» تعي وجودها كشيءٍ في ذاته. والمُقلق في الذات الكانطية المُنفصلة عن ماهيتها منذ البداية، هو هذا الانكسار الذي تعيشه بوصفها ظاهرة إستطيقية زمانية من جهة، وبوصفها غيرية وجودية تاريخية من جهة ثانية.
أما الرجَّة الثالثة التي تعيشها الذات الحديثة فيكشف عنها دولوز في مجال العقل العملي حيث تبدو العلاقة بين الذات والقانون الذي تخضع له فظيعة. وهنا يقترح دولوز أن يعبر عن إنسان كانط من خلال صيحة ألَم أطلقها كافكا (Kafka) الذي يعتبره دولوز «ريزوم الأدب الصغير»: «أي عذاب أن يكون المرء محكومًا بقوانين لا يعرفها. ذلك أن خاصية القوانين تتطلَّب إذن السرية في خصوص مضمونها».٦٧

إن فجيعة الفكر ها هنا في عيادة دولوز هي هذه العلاقة التراجيدية التي تعيشها الذات الحديثة في نقد العقل العملي لكانط مع القانون الأخلاقي الذي تخضع له، من دون معرفة فعلية بمضمونه الدقيق. فما يُهم كانط هو الشكل الصوري للقانون والخضوع غير المشروط للحاكم من دون حقٍّ لا في التمرد عليه ولا في الثورة. أليس شعار التنوير عند كانط هو «فكِّروا فيما شئتم لكن أطيعوا»؟ يتعلق الأمر إذن بما يُسمِّيه كانط بالطابع المُتعالي للقانون وبسيادة القانون على الخير والواجب على السعادة. والأمر المُقلق في كل ذلك هو هذا التحوُّل الذي رسمه كانط للإنسان الحديث من النموذج اليوناني للسعادة إلى التصوُّر المسيحي-اليهودي للخطيئة. أيُّ قانون حينَها وأيُّ واجب إذا ما كانت حروفه تُكتب بالدم في قلوبنا وعلى أجسادنا؟ وأيُّ قانون حقيق باحترامنا ونحن لا نعرف له مضمونًا، وهو مع ذلك قانونٌ مُلزِم بل هو ساحق لإرادتنا؟ إن الأمر يُنبئ بضربٍ من الموت البطيء للذات الحديثة تحت ثِقل القانون الذي ينبغي عليها دومًا أن تكون تحت طائلته.

أما عما يثير الهلع في القلوب التي ما زالت تنتظِر من الحداثة أملًا ما فمجاز آخر أطلقه الشاعر رامبو ثانيةً يقول فيه: «أن يصل المرء إلى المجهول عن طريق اختلالٍ في كل الحواس، اختلال لكل الحواس طويل، عظيم ومحسوب.»٦٨ يتعلق الأمر بلحظةٍ حاسمة من لحظات تُوقِّع فيها الذات الحديثة، تلك التي سهر العقل المحض طويلًا على تزويقها بالنقد وبالحرية وباستقلالية الإرادة وبالتقدُّم الأخلاقي، موتَها الخاص. إن الأمر يتعلق بنقد ملكة الحكم، آخِر كتب كانط النقدية الذي وعد فيه بضمان التناسُق ما بين ملكات البشر ومعالجة الهوة الحقيقية التي تفصل ما هو نظري عما هو عملي. لكن هل عالَج كانط الهوة أم حفرها عميقًا؟ هل حقق التناسُق بين ملكات الذات أم أحدث فيها اختلالًا رهيبًا؟

إن النقد ها هنا يُطلِق كل أنواع الحدود التي رسمها للعقل البشري، ويكفُر بكلِّ ما من شأنه أن يُحصِّن تناهي الإنسان ويمنعه من مواجهة مختلَّة للمُطلَق والمجهول وما هو فوق طاقة البشر. فملكة الحكم الإستطيقي، إذ تجد في الذوق ما به تعبير عن الذات في تواصُلها الكوني مع الآخرين، إنما تبدو ذاتًا هزيلة بلا منفعة وبلا مفهوم وبلا غاية. إنها تصير إلى مجرد حسٍّ إستطيقي مُصاب بضربٍ من الهشاشة الأنطولوجية.

لكن أي غُنم غنمته الذات الحديثة من هذه الكونية الإستطيقية الموغلة في الرومانسية التي يبدو فيها العقل البشري، مهزوزًا هلوعًا، غير قادر على تجميع شتات ملكة الشعور باللذة أو بالألَم أي ملكة الإنسان نفسه؟

ها هنا يتم توديع العقل الفلسفي الذي ألقى بنفسه «في عاصفة داخل الهاوية»٦٩ من أجل ألَّا يبقى منه غير لعب المخيلة ومجازات الشاعر. لكن لم يصلح الشعر في زمان لا تتسع فيه إستطيقا القبح والفظاعة (أدرنو وسلوتردايك)٧٠ لأي ذوقٍ جمالي كانطي؟
تونس في ربيع ٢٠٠٦م
١  E. Kant, Idée d’une histoire universelle au point de vue cosmopolitique, in Œuvres philosophiques II, Paris, Gallimard, 1985, p. 189.
٢  Ibid., p. 203.
٣  Ibid., p. 188.
٤  Ibid., p 195.
٥  انظر: ابن منظور، لسان العرب المحيط، المجلد الثاني، بيروت، دار الجيل ١٩٨٨، ص ص١٢٤٣–١٢٤٤.
٦  E. Kant, Critique de la raison pure, in Œuvres philosophiques I, Paris, Gallimard, 1980, p. 1365.
٧  E. Kant, Critique de la raison pure, in Œuvres philosophiques I, op. cit., p. 835.
٨  E. kant, Critique de la faculté de Juger, Œuvres philosophiques II, op. cit., p. 924.
٩  E. Kant, La critique de la raison pure, Œuvres philosophiques, I, op. cit., p. 1358.
١٠  E. Kant, Anthropologie du point de vue pragmatique, in Œuvres philosophiques III, Paris, Gallimard, 1986, p. 939.
١١  Ibid., p. 1134.
١٢  J. Derrida, Du droit à la philosophie, Paris, Galilée, 1990, p. 9.
١٣  م. فوكو، الكلمات والأشياء، الترجمة العربية، مركز الإنماء القومي، بيروت ١٩٨٩–١٩٩٠، ص٢٦.
١٤  E. Kant, Qu’est ce que les lumières?, in: Œuvres philosophiques II, op. cit., p. 215.
١٥  J. Habermas, Le Discours philosophique de la modernité, Paris, Gallimard, 1988.
١٦  G. Deleuze, F. Guattari, Capitalisme et schizophrénie 2, Mille plateaux, Paris, Minuit, 1980, p. 625.
١٧  جيل دولوز، فيليكس غتاري، ما هي الفلسفة؟ الترجمة العربية، مركز الإنماء القومي، بيروت، ١٩٩٧، ص٩٩.
١٨  Habermas, La paix perpétuelle, le bicentenaire d’une idée kantienne, trad. Fr., Paris, Ed cerf, 1996, p. 7.
١٩  ميشال فوكو، «بين كانط وبودلير الحداثة كموقف» ضمن: مقدمات، المجلة المغاربية للكتاب، عدد ٣١ خريف ٢٠٠٤، ص١٧.
٢٠  نفس المصدر، ص١٦.
٢١  المصدر نفسه.
٢٢  المصدر نفسه.
٢٣  ميشال فوكو، «بين كانط وبودلير الحداثة كموقف»، سبق ذكره، ص١٦.
٢٤  المصدر نفسه، ص٧.
٢٥  المصدر نفسه، ص١٦.
٢٦  فوكو: الكلمات والأشياء، مصدر سبق ذكره، ص٢٦.
٢٧  فوكو «بين كانط وبودلير الحداثة والموقف»، سبق ذكره، ص١٧.
٢٨  المصدر نفسه، ص١٧.
٢٩  فوكو «بين كانط وبودلير الحداثة كموقف»، سبق ذكره، ص٩.
٣٠  المصدر نفسه.
٣١  E. Kant, Qu’est-ce que les lumières?, in: Œuvres philosophiques II, op. cit., p. 217.
٣٢  E. Kant, Qu’est-ce que s’orienter dans la pensée?, in Œuvres philosophiques II, op. cit., p. 543.
٣٣  فوكو «بين كانط وبودلير الحداثة كموقف»، سبق ذكره، ص١٩.
٣٤  المصدر نفسه.
٣٥  المصدر نفسه، ص٢٢.
٣٦  فوكو، «بين كانط وبودلير الحداثة كموقف»، سبق ذكره، ص٢٣.
٣٧  فوكو، الكلمات والأشياء، مصدر سابق ص٢٢.
٣٨  J. Derrida, La religion, Paris, Seuil, 1996.
٣٩  J. Derrida, La religion, op. cit., p. 40.
٤٠  J. Derrida, La religion, op. cit., p. 55.
٤١  Ibid., p. 60.
٤٢  E. Kant, La Religion dans les limites de la simple raison, in Œuvres philosophiques III, op. cit., note, p. 70.
٤٣  Hannah, Arendt, Juger, sur la philosophie politique de Kant, Paris, Seuil, 1991, p. 45.
٤٤  Ibid., p. 22.
٤٥  Ibidem.
٤٦  Hannah, Arendt, Juger: sur la philosophie politique de Kant, op. cit., p. 55.
٤٧  Ibid., p. 25.
٤٨  E. Kant, Critique de la faculté de juger, in Œuvres philosophiques II, op. cit., pp. 965-966.
٤٩  E. Kant, Critique de la faculté de juger, in Œuvres philosophiques II, op. cit., p. 40.
٥٠  H. Arendt, op. cit., p. 68.
٥١  Ibid., p. 78.
٥٢  E. Kant, Projet de paix perpétuelle, in Œuvres philosophiques III, op. cit., p. 377.
٥٣  H. Arendt, op. cit., p. 73.
٥٤  E. Kant, Projet de paix perpétuelle, in Œuvres philosophiques III, op. cit., p. 364.
٥٥  حول تبيئة عربية لمفهوم «الكارثة» اليهودي، انظر: صالح مصباح، «الزمان والتاريخ والكارثة …»، ضمن: الفكر العربي المعاصر ١٢٤-١٢٥ (خريف ٢٠٠٢-شتاء ٢٠٠٣)، ص٤١، ٥١. وحول استشكال فلسفي لمفهوم «القيامة» بوصفه أفقًا أنطولوجيا استكشافيًّا ﻟ «المُسلم الأخير»، انظر: د. فتحي المسكيني، «حديث القيامة بين الجليل والهائل»، ضمن الفكر العربي المعاصر، العدد ١٢٤-١٢٥ (خريف ٢٠٠٢-شتاء ٢٠٠٣)، ص٢٤-٢٥.
٥٦  G. Deleuze, F. Guattari, Capitalisme et schizophrénie 2, Mille plateaux, op. cit., p. 605.
٥٧  م. فوكو، الكلمات والأشياء، سبق ذكره، ص٢٠.
٥٨  G. Deleuze, F. Guattari, Capitalisme et schizophrénie 2, Mille plateaux, op. cit., p. 615.
٥٩  Ibid., p. 185 sq.
٦٠  Deleuze, Critique et clinique, Paris, Minuit, 1993.
٦١  Deleuze, Critique et clinique, op. cit., p. 40.
٦٢  Ibid., p. 41.
٦٣  Ibid., p. 43.
٦٤  Deleuze, Critique et clinique, op. cit., p. 42.
٦٥  Ibidem.
٦٦  Kant, Critique de la raison pure, Œuvres philosophiques, I, op. cit., pp. 867-868.
٦٧  Deleuze, Critique et clinique, op. cit., p. 45.
٦٨  Deleuze, Critique et clinique, op. cit., p. 47.
٦٩  Deleuze, Critique et clinique, op. cit., p. 49.
٧٠  P. Sloterdijk, L’heure du crime et le temps de l’œuvre d’art, Paris, Calmann-Lévy, 2000, p. 12.