كانط والحداثة الدينية

مؤسسة هنداوي مؤسسة هنداوي
الفصل الأول

كانط والحداثة الدينية

«إن دينًا يُعلن الحرب على العقل سوف يُصبح مع مرور الزمن غير قادرٍ على الصمود أمامه.»

كانط، الدين في حدود مجرد العقل، تصدير الطبعة الأولى

(١) مقدمة

(١-١) لماذا الحداثة الدينية؟

لقد تعوَّد الإنسان العربي منذ دهرٍ من الزمن على استقبالٍ إستطيقي للحداثة١ يكتفي فيه استمتاعًا واستئناسًا بمكاسبها التقنية من جهة العلم، وباستهلاكٍ وتشدُّق بشعاراتها السياسية من جهة العمل.
لكن يبدو أن حداثة دينية٢ ثاوية في مشروع الحداثة الغربية لم يقع بعد الانتباه إلى مقوماتها ومخاطرها. إنها المعنى الآخر من الحداثة الذي قد يُساعدنا على معالجة نكتة الإشكال الذي يرهن وجودنا الحالي وذلك بوصفنا حضارة تُقيم في العالم منذ زمنٍ بعيد إقامة دينية. رُبَّ إقامة صارت اليوم إلى ثقوب سوداء يصعب احتمالها وعلاجها معًا.

إن «الحداثة الدينية» مفهوم نستعمله هنا بكل حيطة وتوجُّس فلسفِيَّين، مُسترقين السمع إلى ما به تتقوَّم الحداثة في هذه الأوطان التي تخصُّنا والتي نتدبَّرها بعقولٍ قد تكون مضادة للحداثة ما دُمنا لم نشارك فعلًا في صيانة الحداثة لا على جهة العلم ولا على جهة السياسية.

لكن الطريف في ضرب الحداثة الذي يخصُّنا صار إلى أمرٍ جللٍ يُرهب ويُرعب ويصدم معًا: إن الوجود لدَينا أصبح يُقال ويحدث ويُقاوم ويُحيي ويميت باسم الدين سواء في تقاطعه مع الدولة أو مع الإنسان أو مع الوطن. أشياء رهيبة تحدث اليوم إذن باسم الدين، ولنُسمِّ الأشياء بأسمائها، باسم الإسلام تحديدًا، وتسميات غامضة مُشِطَّة أحيانًا، ظالمة أو مُحقة أحيانًا أخرى يزاحم بعضها البعض: شهيد ومقاومة، إرهاب وإرهابيون،٣ أصولية أم أصوليات وأصوليون، برابرة جُدد، صدام همجيات.٤
نحن لا نقصد هنا البحث عن تحديث للدين في معنى تجديد أو إصلاح أو نهضة٥ ولا عن انخراط في مشاريع نقد الدين٦ إنما نطلب فحسب الكشف عن طريقة العقل الغربي الحديث في صياغته لضربٍ من الحداثة الدينية التي واكبت لدَيه مكاسب الحداثة العلمية والسياسية القائم على العقل مُدبرًا أولًا لشئون الحقيقة ولسياسة المدينة معًا. وهي حداثة يبدو أن أفضل تعبير حديث عنها هو ذاك الذي صاغه جان جاك روسو (Jean-Jacques Rousseau) في آخر فصلٍ من العقد الاجتماعي تحت عنوان طريف هو «الدين المدني» (La religion civile). لكن قصدنا ليس روسو بل كانط.

(١-٢) لماذا كانط والحداثة الدينية؟٧

لماذا العودة إلى كانط في زمن العودة إلى الدين،٨ وأي معنى لهكذا عودة؟ أهي عودة نقدٍ أم عودة تأويل أم عودة تفكيك؟٩ ألا يتوفر العقل الفلسفي الحالي لعصور ما بعد الحديثة، وقد طلَّق بعدُ كل أدوات فلسفة الذات الكانطية، ما به يُسدِّد مهمة التفكير في الدين أو بالأحرى ما به، ويُعالج الثقوب السوداء١٠ التي تزجُّنا فيها الأصوليات المعاصرة باسم الدين أحيانًا وباسم الحداثة أحيانًا أخرى؟

نحن نفترض أن الغرب قد انخرط في ضربٍ من الحداثة الدينية مُواكِبة للحداثة العلمية والسياسية، أي في استعمالٍ مدنيٍّ حديث للدين. نجد في كتاب الدين في حدود مجرد العقل (١٧٩٣م) لكانط عبارته التامَّة، وفيه يقترح معالجة عقلية طريفة للدين قائمة على مكاسب العقل الحديث وصورة المجتمع المدني وبخاصة مبدأ الحرية وأخلاق المواطنة الكونية.

ولذلك نحن هنا نعود إلى كانط بعد قرنَين كاملَين من العودات المُتلاحقة إليه١١ وهي عودات تراوحَت بين البحث فيه عن تحليلية للحقيقة (القراءة الإبستمولجية)١٢ أو عن مشروع الأنطولوجيا الأساسية (القراءة الهيدجرية)١٣ أو عن رومانسية العبقرية،١٤ أو عن إعادة تأهيل للفلسفة العملية والسياسية عمومًا (غادامير (Gadamer)، حنا آرندت، هابرماس)، أو أخيرًا بحثًا عن خطوط إفلات،١٥ أو عن تخوم تفكيك١٦ عن بوادر مجيء الإنسان ومعاني موته مع آخِر الفلاسفة١٧ (دولوز، فوكو، دريدا)؟ ونحن إذ نعود مرة أخرى إلى كانط إنما من أجل أن نبحث في فلسفته عن دربٍ إضافي للاقتراب أكثر من أنفسنا أو ممَّن يقومون مقام أنفسنا طالِبين اللجوء هذه المرة إلى ذات كتاب لم يعرف بعدُ الطريق الملكي إلى الثقافة العربية الإسلامية.١٨ وهي أكثر الثقافات اليوم تضررًا من جهة احتمالها لأنطولوجيا دينية أصبحت محل توجُّسٍ وخيفة من طرف الجميع.
نحن نفترض في هذا المقام الذي نحن فيه أن خير إحياءٍ لذكرى كانط بعد مائتي عامٍ من رحيل جسده، ولنقل خير احتفال فلسفي ليس بنقد كانط للعقل ولا بنظريته في الأخلاق أو بفلسفته في التاريخ أو بجماليات الذوق لديه،١٩ بل بفلسفة الدين لدَيه مثلما صمَّم ملامحها النهائية كتابٌ كتبَه كانط على عجلٍ وعلى كبَرٍ٢٠ وبفن كتابة خاص بعصر الرقابة٢١ وفي مدينة لا تسمح لفلاسفتها بالاشتغال الفلسفي الحُر على عقائد الأمة وثوابتها، هو كتاب الدين في حدود مجرد العقل (١٧٩٣م).
إن غرضنا من هذا القول هو تقديم كتاب كانط الدين في حدود مجرد العقل في لغة ثقافة وإن كان مخيالها يزخر بالدين في حدود العقل وخارجه في آنٍ، وإن كان تراثها ينعم بزخم مؤلَّفات الفلاسفة في الدين،٢٢ فإننا نراها لا تزال بحاجةٍ ملحَّة إلى ضرب من الحداثة الدينية، نعني من الاستعمال العقلي للدين، أو استعمال الدين في حدود مجرد العقل. وهي حداثة إن كان الغرب المسيحي قد أتقن بناءها والسير فيها فإن الشرق الإسلامي ما زال بعد يتعثَّر في تصور ملامحها الدنيا. وإن تسنى لنا التعبير في لغة المجاز الكانطي نقول لئن وجد العرب اليوم، إلى حدٍّ ما، الدرب الآمن إلى الحداثة العلمية والتقنية، ولئن انخرطوا بمعنًى ما كرهًا أو طوعًا في طريق الحداثة السياسية، فإنهم لم يسلكوا بعد الدروب الآمنة السليمة إلى الحداثة الدينية.
ونحن نرى أن كانط قد رسم على طريقته وبفنِّه الفلسفي الخاص الطريق٢٣ إلى الحداثة الدينية في كتاب «الدين في حدود مجرد العقل».

فإن كان فيلسوف كونجسبرج قد انشغل في نقد العقل الخالص (١٧٨١م) بفحص شروط إمكان الحداثة العلمية، وإن كان قد شرع في نقد العقل العملي (١٧٨٨م) لمبادئ حداثة أخلاقية، وإن كان قد خصص نقد ملكة الحكم (١٧٩٠م) لرسم ملامح حداثة إستطيقية، فهو يبدو لنا في كتاب (١٧٩٣م) عاكفًا على تعيين الدرب الآمن نحو حداثة دينية، أي فهم واستعمال الدين «في حدود مجرد العقل».

إن الأمر يتعلق عنده بالخروج بالدين من فضاء الملَّة إلى أفق المواطنة الكونية. كيف ينقلنا كتاب الدين في حدود مجرد العقل من دين مِلل ونِحل، أو دين عبادة إلى دين عقل محض، أي دين حرية؟ ذلك هو معنى الحداثة الدينية التي تنقلنا من دين الاستبداد الروحاني القائم على الأوهام الدينية من جنس الحماسة والخرافة والإشراق والخوارق، إلى دين الجماعة الإتيقية الكونية القائم على العقل الأخلاقي المحض وعلى حُسن تدبير للحرية الأصلية في الإنسان نفسه.

إنه من أجل أن نتبيَّن معالم الحداثة الدينية التي نفترضها ثاوية في كتاب الدين في حدود مجرد العقل لكانط، سوف نقف في لحظة أولى على إحصاء شروط إمكان هذه الحداثة، مثلما تُصرِّح بها أو تُضمرها حرفية نص الكتاب المُحرجة بتوتر دائمٍ ما بين رقابة العقل النقدي ورقابة القائمين على تدبير المدينة، وهو توتُّر مضاعف تُضمره استراتيجية التسمية: «الدين في حدود مجرد العقل»؟ ما دلالة هذا الاسم؟ هل هناك دين خارج حدود العقل؟ ثم نقف عند معماريات الكتاب وهي القائمة أيضًا على توترٍ صارخ ما بين الشر الجذري في أبعاده المُختلفة والخير الأصلي في الإنسان الذي عليه أن ينتهي بحُسن تدبير للحرية في أفق جمهورية الفضيلة أو الجماعة الإتيقية الكونية. وتكتمل معماريات الدين العقلي عند كانط بفضح لاذع للاستبداد الروحاني بوصفه مبدأً لكل دين ْخارج حدود العقل، مَوقِّعًا نظرية فريدة في نقد الوْهم الديني داعيًا إلى دين حرية ضد دين استبداد ووهم.

لكن لن نتوقَّف عند معالِم هذه الحداثة الدينية السعيدة التي يُبشِّر بها كانط والتي، وإنْ تجعل المسيحيين بما لدَيهم فرحين، فقد لا تكون في حجم الحرَج الميتافيزيقي الذي تُعاني منه ديانات أخرى كالإسلام واليهودية. أين يقوم فعلًا اليوم مدار الصراع التاريخي الرَّهيب. ذلك هو المدخل الذي تُوفِّره لنا تفكيكية دريدا كاشفةً في كتاب كانط عن الدين أكثر ثقوبه إثارة للفزع الفكري، أي ما يعتبره دريدا أطروحة الكتاب نفسه، والتي تقول بأن «المسيحية هي الدين الأخلاقي المحض الوحيد من بين جميع الديانات الأخرى (…) بل قد لا تكون الديانات الأخرى دياناتٍ عند كانط. فاليهودية عنده مثلًا ليست دينًا … وإنما هي عبادة أو عقيدة …»٢٤

ودريدا يُبدي استياءً فلسفيًّا مريرًا من هذه الأطروحة الكانطية: إذ يسأل: أين الإسلام واليهودية إذن من مِثل هذا الكتاب؟ وهل «الدين في حدود مجرد العقل» هو الدين في حدود المسيحية المجردة؟ كيف تستقيم عندئذٍ حداثة دينية قائمة على المواطنة الإتيقية الكونية مع مسيحية جذرية تُقصِي بقية المِلل والنِّحل؟

(٢) شروط إمكان الحداثة الدينية

(٢-١) كيف الكلام على الدين في عصر الرقابة؟

حينما كان كانط بصدد رسم شروط إمكان الحداثة الفلسفية في مجال العقل النظري المحض، كان يتوفر على براديغم قرَّر أن يحذو حذوه وهو ما أنجزه كوبرنيك في علم الفلك٢٥ ونيوتن وجاليلي (Galilei) في علم الفيزياء، ولكن أنَّى له أن يسعد بنفس ذلك الحظ في مجال الدِّين الذي لا يمكن له أن يحتضن أي كوبرنيك؟! فمن فَكَّر في الدين في عصره كان إما دوغمائيًّا مُتهافتًا على تبرير وجود الإله كحال ليبنتز (Leibniz) مثلًا،٢٦ أو ريبيًّا يُرجع الدين إلى ضربٍ من التاريخ الطبيعي مثل هيوم (Hume)٢٧ أو مُلحدًا يُنكر كل أشكال الوحي ويفضح تهافت الدين القائم عليها مثل فيخته،٢٨ أما كانط فقد قرَّر أن ينتهج لنفسه مسلكًا مخالفًا: التعامل مع الدين في حدود مجرد العقل.
«الدين في حدود مجرد العقل» عنوان يوقِّع نمطًا طريفًا غير مسبوقٍ من التعامُل مع الدين. لكن لماذا لم يكتب كانط نقدًا للدين مثلما كتب نقدًا للعقل النظري والعملي وملكة الحكم الجمالي والغائي؟ هل يكون مجال الدِّين أخطر على الفيلسوف من مجال العقل والعمل والإبداع؟ وهل تتراجع آلة النقد الحاسمة أمام موضوعة الدين مُخلِّفةً بذلك ثقوبًا سوداء هاوية لا قرار لها داخل المشروع النقدي الكانطي الذي لطالما تغنَّى بأنه «لن يُفلت لدَيه شيء من النقد حتى أكثر التشريعات قداسة.»٢٩ وأن النقد إنما جاء «ليجتثَّ كل أشكال التطرف والدوغمائية والروحانيات المُشِطَّة.»٣٠ هل يكون الدين لدى كانط مثلما يُصرح به بعض من كبار فلاسفتنا هو من «باب المضنون به على غير أهله» أو «الذي من شأنه ألَّا يُصرَّح به للجمهور» أو «ما لا يقال إلا بتخييل» (ابن رشد)؟٣١ كيف يمكن للفيلسوف أن يُسمَّى إذن قوله في الدين؟ ليس أمامه سوى أن يحتمي بالعقل آلته الميتافزيقية ومعقله الخاص الذي يَحميه من السقوط في فخ الرقابة من جهة وفي أوهام العوام من جهة أخرى.
لقد أحدث كتاب الدين في حدود مجرد العقل ضربًا من الانقباض بل والاستياء والغضب لدى القائمين على تدبير العقل والقائمين على تدبير المدينة معًا. وهو ما نقرؤه في تصدير نزاع الكليات (١٧٩٨م) الذي أورد فيه كانط حكايته مع الرقابة، حيث نقرأ نص رسالة تأنيب بعث بها وزير الملك فريديريك الثاني (Woellner) مُطالبًا كانط بتبرير ما ألحقه كتابه الدين في حدود مجرد العقل من تشويهٍ واحتقار لثوابت الدين المسيحي قائلًا: «لقد لاحظ سمُوُّنا منذ زمنٍ، بمرارة وضجر، الطريقة التي وَفْقَها أسرفتُم في فلسفتكم في تشويه واحتقار الثوابت الأساسية والرسمية للكتب المقدسة وللمسيحية (…) وذلك بخاصة في كتابكم «الدين في حدود مجرد العقل» (…) فإننا نُلزمكم بضرورة تبرير فعلكم ذاك، وإن لم تفعلوا فينبغي أن تنتظروا منَّا مالا يُعجبكم.»٣٢
وكان حينئذٍ على كانط أن يُجيب المرسوم الملكي مُبرئًا ذمته وكتابه من كل تهمة زندقة: «… إنني بوصفي مُربِّيًا للشباب، أي ضمن دروسي الأكاديمية لم أتعرَّض قط بأي نقدٍ للكتب المقدسة ولا للمسيحية (…) وإنني لم أُشكك أبدًا في الدين الرسمي للدولة (…) وإن كتابي الدين في حدود مجرد العقل هو بالنسبة إلى العموم كتاب مُستغلق وغير مفهوم (…) وإنما هو مجرد نقاش بين علماء الكلية لا تُعيره العامة أي اهتمام.»٣٣
أما علماء الكلية فقد استاء بعضهم من كتاب كانط عن الدين، وها هو كانط يرد عليهم في تصدير الطبعة الثانية من هذا الكتاب (١٧٩٤م) قائلًا: «يكفي من أجل فهم هذا الكتاب في مضمونه الأساسي، أن يكون للمرء مجرد الأخلاق المشتركة من دون أن يُضطر إلى العودة إلى نقد العقل العملي، وأقل من ذلك أيضًا إلى نقد العقل النظري. إنه كتاب يمكن أن يُدرك كنهه حتى الأطفال أنفسهم.»٣٤

بذلك نُلاحظ أن كانط قد حاول الدفاع عن وجاهة كتابه عن الدين بطريقتَين متباينتَين: من جهة، يقول للحاكم إنه كتاب للعلماء وليس للعامة؛ ومن جهة يقول للعلماء هو كتاب للعامة وليس للنُّخبة. يبدو أن هذا التردُّد ربما يُعبِّر عن حرج الفكر النقدي أمام مجالٍ يُحاول أن يتملك فيه المهارة الكافية للكتابة في عصر الرقابة. لقد كان على كانط أن يُفكر في الدين بمحض العقل واضعًا نصب عينَيه خطرَين اثنين: خطر السقوط في فخ الرقابة السياسية، إذا ما زجَّ بالدين في مجال النقد. وخطر خيانة فلسفته النقدية نفسها إذا ما تراجع النقد لدَيه أمام موضوعة الدين.

إذن لا يشتغل كانط على الدين تحت عنوانٍ يُثير الاستياء والسخط من جنس ذلك الذي اقترحه فيخته في كتابه مُحاولة في نقد كل وحي (١٧٩٢-١٧٩٣م)، وذلك تحت راية الكانطية نفسها وفي كتاب احتُسب على كانط من فرط كانطيته المُشطَّة.٣٥ لقد قصد كانط بعنوان «الدين في حدود مجرد العقل» إلى ضربٍ من التقية الفلسفية، حجاب جهالة كافٍ لوقايته ممَّا كان قد وقع لبروتاغوراس (Protagoras) مع أهل أثينا.
فنحن نراه يذكر في خاتمة «مذهب الفضيلة» من ميتافيزيقا الأخلاق (١٧٩٧م)، في حركة تأويلية رشيقة، بمحنة بروتاغوراس مع الأثينيين٣٦ جرَّاء موقفه من الإله؛ فالفيلسوف ها هنا، وهو يكتب مرةً أخرى بدلًا من بروتاغوراس وأمثاله الكُثر من الفلاسفة، يمتلك من حيلة العقل ما يَقيه من آلة الاضطهاد وكأنما بكانط هنا يُنجز انضباطًا للعقل في حجم الرقابة التي تحدُّ استعماله من كل صوبٍ وحدب.

لقد كان بروتاغوراس يقول: «لا أستطيع أن أُقرَّ إن كان الإله موجودًا أم غير موجود، فالمسألة مُعقدة والعمر قصير.» كانط يقول هو أيضًا في عبارات مُماثلة إن العقل البشري من جهة ماهيته نفسها بوصفه عقلًا مُتناهيًا لا يستطيع أن يحسم أبدًا إن كان هناك الإله أم لا … تلك القضية لا تُهمه أصلًا.»

لكن، لنفعل كأنما (Comme si) الإله موجود … أي لنفرض أنه موجود ولنفعل على هذا الأساس. إن كانط يُجري تحويلًا جذريًّا على استراتيجية القول الفلسفي في الدين إذ يستبدل وقاحة بروتاغوراس العمومية بحيلة العقل النقدي الذي يصنع انضباطًا داخليًّا للعقل (منذ نقد العقل المحض) ضد رقابة عمومية، ويُقرر أن يشتغل على ما ينفع الناس بحسب مصالح العقل البشري. أما ما تبقى فأمور ليست من شأنه أصلًا.

(٢-٢) ما هي الدلالة التي يرتضيها كانط لعبارة «الدين في حدود مجرد العقل»؟

هل هناك دين داخل العقل ودين خارج العقل؟ دين عقلي أو دين مجنون؟

يشتغل كانط على دلالة عنوانه بوصفه يصلح لديه لا لتعيين موضوع كتابِه فحسب، بل بخاصة إلى توقيع منهج نقدي أصيل في السير بمجال الديني على درب ضربٍ من الحداثة الدينية القائمة على العقل آلة ميتافيزيقية خالصة، وعلى الحرية مفتاحًا مَدنيًّا لا بديل عنه، وعلى الإنسان أفقًا لمواطنةٍ كونية استكشافية.

يُصرح كانط في تصدير الطبعة الثانية من الكتاب بضرورة تبيان المقصد من عنوانه «الدين في حدود مجرد العقل» رَفعًا للبس ودرءًا للغموض وللشكوك التي أحاطت بالكتاب. فهو يلجأ إلى استعمال مجازٍ هندسي هو مجاز الدائرة كي يصف الدين بدائرتَين تشتركان في مركز واحد (Concentrique)، إحداهما واسعة، وهي دائرة العقيدة القائمة على الوحي وديانات القصص، والأخرى ضيقة، وتتضمن النواة العقلية المحضة للدين. يتعلق الأمر إذن بالتمييز بين نوعين من الدين. دين العبادة الخاص باللاهوت، ودين العقل الذي هو مجال اشتغال الفيلسوف. فأطروحة «الدين في حدود مجرد العقل» تعني لدى كانط أن العقل يُجرد الدين من كل مضمونٍ تاريخي، ويجعل منه دينًا بلا وحي ولا عبادة ولا طقوس،٣٧ إنه الدين بوصفه فقط «جملة واجبات الإنسان من جهة ما هي أوامر إلهية».٣٨
لكن إذا كان كانط يُصرِّح بأن الدين في حدود العقل ليس سوى ما نصَّت عليه الأخلاق المَحضة، ماذا تبقى حينها من الدين بالمعنى التقني؟ هو سؤال يطرحه أحد المُشتغلين المشهورين على فلسفتي سبينوزا (Spinoza) وكانط هو الباحث يرمياهو يوفال (Yirmiyahu Yovel) الذي يسأل: «لماذا كتب كانط كتابًا في الدين إذا كان الدين الحقيقي هو الأخلاق التي يستمدُّها الإنسان من ماهيته الأصلية التي له بوصفه كائنًا حرًّا؟» ويُجيب يوفال بأن كانط حينما اشتغل على الدين، لم يكن يشتغل بتحليل المفاهيم الأخلاقية، وهي المهنة التي أنجزها نقد العقل العملي، إنما كان هدف كانط هو «تغيير عقلية برمَّتها». يقصد يوفال أنه إذا كان الدين يُضيف شيئًا جديدًا إلى مبادئ الأخلاق، فإن فلسفة الدين إنما تُعِدُّ النفس من أجل أن تكون هيئةَ استقبالٍ كفيلة باحتضان المفاهيم الأخلاقية. فاشتغال كانط على الدين هو ضرب من تهذيب الأخلاق نفسها والارتقاء بها من مستوى علاقة الإنسان بالإنسان إلى مستوى علاقة الإنسان بما هو الإلهي، أي إضفاء طابع الجلال والقداسة على الأخلاق العقلية المَحضة. وفي هذا السياق يقف يوفال عند تعريف كانط الذي يتكرَّر في كتاب الدين وفي نزاع الكليات أي «الدين هو جملة الواجبات بوصفها أوامر إلهية.» ويسأل يوفال «لِمَ يستعمل كانط صفة الإلهية ويجتنب دومًا عبارة الإله؟»، ويجيب: «إن الدين العقلي يعني عند كانط أن نسلك وكأن واجبات العقل هي واجبات مُقدسة وكأنها واجبات إلهية.» إن ما تبقى من الدين التقليدي لدى كانط هو صفة «الإلهية» بدلًا من اسم «الإله»، وهي صفة لا تُحمَل من هنا فصاعدًا إلا على العقل وحدَه.٣٩
هل نقول إن كانط إنما يستعمل الدين هنا استعمالًا تنويريًّا جذريًّا، أو هو يذهب بالتنوير في مجال الدين إلى مداه الأقصى حتى وإن اقتضى به الأمر إلى التضحية بالديانات التاريخية بوصفها خارجةً عن حدود العقل؟ يقول كانط «إن دينًا يُعلن الحرب على العقل سوف يُصبح مع مرور الزمن غير قادر على الصمود أمامه.»٤٠ ولكن متى يخرج دينٌ ما عن حدود العقل؟ متى يُعلن دين ما الحرب على العقل؟
يُحصي كانط أربعة تخومٍ للدين هي بمثابة حدوده القصوى: الحماسة والخرافة والنزعة الإشراقية والقول بالخوارق. وكلها عند كانط أشكال من الوهم الدِّيني التي يُلقي بها كانط خارج حدود النص وخارج حدود العقل، فيُخصص لنا أربعة تذييلات يختم بها في كل مرة كل بابٍ من أبواب الكتاب الأربعة: طوبيقا فلسفية طريفة للفصل بين دينٍ قائم على العقل والحرية، ودين قائم على الوهم والاستبداد الروحاني. وهي الطوبيقا التي استرعت اهتمام دريدا ومثلت بالنسبة إليه مدخلًا هامًّا لتفكيك كتاب الدين.٤١ ولسان حال دريدا يقول: هل كان كانط نفسه وفيًّا لكتاب الدين في حدود العقل؟
ونحن هنا نسأل: ألا تُذكِّرنا هذه المعماريات الكانطية في الدين بمعماريات نقد العقل المحض، والحدود الأربعة للدين بالأوهام الجدلية للعقل المحض؟ إلا أن الفرق بين أوهام العقل النظري وأوهام العقل الديني واضح ودقيق عند كانط. إنه الفرق بين ما يُسمِّيه «الأفكار المتعالية» (Idées transcendantales) التي يدَّعيها العقل في مجال الميتافيزيقا، والأفكار المفارقة (Transcendantes) التي يسقط فيها العقل في مجال الدين في حدود الوهم. وهو تمييز نعثر عليه في الهامش المُطوَّل لخاتمة الباب الأول. إنها أفكار تبتدِعها الحماسة الدينية لتسديد عجز الإنسان وضعفه أمام شرِّه المُتجذر فيه.
العقل ضد الخرافة، والنقد ضد الحماسة، والحرية ضد الاستبداد الروحاني، ذلك شعار الحداثة الدينية التي انخرط فيها كانط بعد سبينوزا. ولكن لئن اشترك كانط مع سبينوزا في مشروع تحرير العوام من الخرافة، فإن ما يُفرِّق بينهما في اعتبار يوفال أمر أساسي: إذا كان سبينوزا يقبل الأناجيل بوصفها موضوع علم وتفسير، آملًا أن يجد فيها براهين ضد المؤمِنين بها من أجل تحريرهم من الخرافة، فإن كانط يستغل احترام العوام للكتب المقدسة من أجل توجيهه وجهة أخلاقية محضة والارتقاء بها إلى مستوى الواجب الأخلاقي، حيث لا حاجة للإنسان إلى أي عونٍ خارج عن قدراته الأصلية فيه وحُريته التي له في تدبير مصيره بنفسه. إضافة إلى أن تأويل الكتب المقدسة أمر خارج عن حدود العقل وعن قُدراته لدى كانط.٤٢

(٣) أطروحة كانط: الدين من «الشر الجذري» إلى «جمهورية الفضيلة»

تقوم معماريات كتاب الدين في حدود مجرد العقل على توترٍ فلسفي ما بين موضوعة الشرِّ الجذري وأفق الجماعة الإتيقية الكونية بوصفها علاجًا فلسفيًّا مأمولًا لشرٍّ مُتجذِّر في الطبع البشري.

ولئن احتفل بول ريكور بهذا التوتر ما بين الشر الجذري ومَملكة الرب مُستبصرًا فيه هرمينوطيقا فلسفية سعيدة لمسيحيات كانطية يحتضنها ريكور٤٣ بكل حماسةٍ فلسفية، فإن دريدا يرى فيما سمَّاه ريكور «مسيحيات كانطية» شروخًا مُفزعة مَدعاة للتفكيك والفضح أكثر من التأويل والحماسة.٤٤

قبل تفكيك هذه المسيحيات الكانطية السعيدة بحسب ريكور أو المُفزعة بحسب دريدا، لنتعرَّف على ملامحها الأساسية في دلالتها المُحايدة، كما يعرضها كتاب الدين في حدود مجرد العقل.

إن القارئ لهذا الكتاب يُمكن له أن يرتسم معالم الحداثة الدينية عند كانط كما يلي: هي حداثة تجد مجالها في الأخلاق المحضة، وآلتها المتعالية الخالصة في مبدأ الحرية وأفقها الهادي في إنسانية كونية افتراضية.

يفتتح كانط كتاب الدين على قولٍ في الشر الجذري بوصفه مُحركًا للدين ودافعًا للتفكير فيه في آن.٤٥ إذ لو كان ما في طبع البشر خيرًا خالصًا لما احتاج الإنسان إلى واجبٍ يُلزمه ولا إلى سيدٍ يحكمه ولا إلى دينٍ يُخضعه. والطريف في المعالجة الكانطية هو أن الشر لدَيه ذو أصل عقلي صرف. فالشر والعقل والدين ظواهر تتحرك في مجالٍ واحد هو مجال الأخلاق، أي مجال الحرية بوصفها ماهية الإنسان نفسه. إنه شرٌّ جذري لأنه ينبُع من حرية الإنسان بوصفها ماهيته الميتافيزيقية المحضة.
وفي مقابل الشر المُتجذر في الطبيعة البشرية يقوم الخير الأصلي بذرة ميتافيزيقية مُحايثة للوجود البشري. والطريف عند كانط هو أن البحث في الخير في كتاب حول الدين لا يجد مرجعه في الكتب المقدسة إنما في حكمة الفلاسفة القدامى. ففي حدود دين العقل المحض الذي يأمل كانط أن يرسُم به حدًّا للمعرفة من أجل أن يترك مكانًا للعقيدة٤٦ — وأية عقيدة تلك التي لا تترك من العقائد سوى العقل! — يعود بنا كانط إلى التصوُّر الرواقي للخير في معنى الفضيلة. «الفضيلة، إنها لعبارة بديعة» يقول كانط، «إذ هي تفي بغرض فلسفةٍ تُعطي لمفهوم الخير دلالة «الشجاعة، والبأس».»٤٧
علينا أن نُشير إلى أهمية هذه المفاهيم في بناء ضربٍ من الحداثة الدينية، فالجرأة، والشجاعة والبأس هي لدى كانط معاني التنوير نفسه. أليس شعار التنوير مثلما صاغته مقالة (١٧٨٤م) هو «تشجع على استعمال عقلك»؟٤٨
وحينما يُصبح الإنسان قادرًا على الخروج بنفسه من حالة القصور الديني بحُسن تدبير الحرية التي له من أجل الهيمنة على الشر الجذري الذي في طبعه، نتحوَّل داخل معماريات الكتاب (الباب الثالث)، من مجال الفرد إلى مجال الجماعة الإتيقية الكونية، حيث يرسم لنا كانط شروط إمكان جمهورية الفضيلة. وهو يميز منذ بداية الباب الثالث من الكتاب بين الحالة الحقوقية المدنية (un état juridique civil) التي تقوم على قوانين الحق العمومي، أي عند كانط قوانين الإكراه (la contrainte) والحالة الإتيقية المدنية القائمة على قوانين الفضيلة المحضة، أي على قوانين الحرية. ويستنكر كانط كل محاربة للحرية في مجال الإتيقا: «بئس المشرع الذي يريد أن يُحقق، عن طريق الإكراه، دستورًا ذا غايات إتيقية.»٤٩

إن الدين الذي يشتغل عليه كانط هنا هو إذَن ضرب من الدين العمومي المدني الذي يهدف إلى نوع من التربية الأخلاقية المدنية للإنسان تنقلنا من «المواطن السلبي» إلى «المواطن النشيط».

وإن فكرة الجماعة الإتيقية الكونية التي يريدها كانط هي فكرة كل إتيقي (Tout éthique)، أو جمهورية بحسب قوانين الفضيلة، ضد كل أنواع المؤسسات الدينية التاريخية التي لا يرى فيها كانط غير بؤَر للاستبداد الروحاني ولتدمير حُرية الإنسان نفسه. وإن ما يُسمِّيه كانط بالكنيسة اللامرئية (Église invisible) ليست سوى فكرة ناظمة أو أفق استكشافي تخييلي يُوجِّه السلوك البشري نحو تدبير مدني حُر للفضاء العمومي. وما عدا ذلك فطقوس باطلة قائمة على العبودية والكسل والخوف، أما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض متى تدبَّرْنا إقامتنا فيها بكل حرية (راجع: الباب الرابع من الكتاب.)
لكن هل القول بجمهورية للفضيلة ينتمي إلى جنس الأقوال الفلسفية بالمدن الفاضلة؟ منذ كتاب نقد العقل المحض يُقِرُّ كانط بأن «جمهورية أفلاطون (Plato) ليست سوى فكرة خيالية في ذهن مفكر حالم».٥٠ وفي كتاب الدين في حدود مجرد العقل يُحارب كانط كل يوطوبيا فلسفية قائمة على الحلم بمُجتمع سلم دائم،٥١ وهو يُحارب أيضًا اليوطوبيا اللاهوتية التي تنتظر نهايةً للآلام البشرية من خلال مهدوية مُنتظرة أو عن طريق فكرة الآخرة. وهو ينقد بعنف فكرة مملكة كونية بوصفها «أفظع الأفكار التي تقضي على الحرية والفضيلة والعلم والذوق.»٥٢ أما في مشروع السلم الدائم، فيقطع كانط صراحة مع مدينة الحاكم-الفيلسوف القائمة على الحلم بالمدينة الفاضلة، ذلك أنه بالنسبة إلى كانط: إما أن نحكم وإما أن نُفكر، لا يمكن الجمع بينهما، إذ يقول «أن يصير الملوك فلاسفة أو الفلاسفة ملوكًا أمر لا ينبغي علينا البتة انتظار وقوعه مثلما لا ينبغي علينا أن نتمنَّاه أصلًا، لأن متعة المُلك تفسد ضرورة حكم العقل وتُشوه حريته.»٥٣

خاتمة: حداثة دينية أم مسيحية فلسفية؟ كانط أمام أسئلة دريدا

في نص محاضرة ألقاها دريدا في ملتقى حول الدين في جزيرة كابري الإيطالية (١٩٩٤م)، نعثر على تفكيكية متكاملة الملامح لكتاب كانط «الدين في حدود مجرد العقل». تفكيكية دريدا تقوم على مبدأ أساسي هو التالي: «ليس هناك أي تنافر بين عودة الديني في أشكاله المختلفة والعقلانية. إن هناك تحالفًا عجيبًا ما بين العقل الحديث والدين (…) وكانط قد أسس لهذا التحالُف في كتابه الدين في حدود مجرد العقل.»٥٤ ويذهب دريدا بنا رأسًا إلى ما يَعتبره أطروحة الكتاب نفسها: «إن الدين المسيحي هو الدين الأخلاقي الوحيد، وإن المسيح هو المثل الأعلى للأخلاق المحضة.»٥٥ أية قضية هذه التي يحرص كتاب كانط في الدين على إثباتها؟ «قضية غريبة — يقول دريدا — لكن ينبغي أخذها بعين الجدية في كل مقدماتها.»٥٦

كيف يمكن لأطروحة كانط أن تصمد أمام أسئلة دريدا المُشككة؟

إن علينا التنبيه إلى أن كانط هو الذي أرشدنا إلى هذا الخيط الخطير الرابط بين العقل والدين، أو بين الحداثة والمسيحية، وكانط هو الذي يُعلمنا أننا لن نفهم شيئًا من الدين ما دُمنا لا نزال نُعارض بحمق ما بين العقل والدين، أي ما بين الحداثة التقنية العلمية والدين نفسه. لذلك بدلًا من تعارُضه مع الدين، يُقرر العقل النقدي أن يَحتضنه، أن يحتمله ويفترضه. لذلك أيضًا للعقل والدين عند كانط منبع واحد … إنهما أمر واحد وهو معنى اعتبار كانط أن تاريخ الدين هو تاريخ للشر الجذري في وجوهه المختلفة. وقد رأينا كيف كان كانط يُجهد نفسه من أجل تعيين أصلٍ عقلي للشر الجذري، ضد الأصل الأسطوري-التاريخي له. فالشر لا ينبع من التاريخ إنما ينبع من العقل، أي من الإنسان، أي من الحرية. وتاريخ الشر وتاريخ الدين أمرٌ واحد، ما داما يبدآن مع العقل بوصفه جذرًا وأصلًا في آنٍ معًا.

يقول دريدا «هل نحن مُهيئون كي نقيس من دون كللٍ ضمنيات ونتائج هذه الأطروحة الكانطية. فهذه الأخيرة تبدو قوية وبسيطة ومُثيرة للدوار؟»٥٧ إذا كانت الأخلاق المحضة والدين المسيحي صنوان لا ينفصلان، ماذا عن الديانات الأخرى إذن؟ يبدو كانط وكأنه يشتغِل لحساب الدين المسيحي، وهو حينها يسقط في دائرة العقيدة الدوغمائية التي تقوم فلسفته النقدية على محاربتها، أو يخرج عن حدود العقل التي طالما حرص على تحصينها من كل وهْم. يبدو كانط في تفكيكية دريدا إذن وكأنه لا يفعل إلا صياغة مسيحيته الأصلية فيه في لغة العقل الفلسفي. فأي حدود للدين حينها وأي حدود للعقل؟ وفيما وراء العقل المسيحي، أليس هناك دين وأخلاق وعقل؟ هل نحن إذن أمام دين عقلي «في حدود مجرد العقل»، أم نحن أمام فلسفة دين في حدود أصولية مسيحية، قد تتحوَّل إلى عقلنة جذرية وتبرير خطير لكل ما يقع اليوم ضد الأصوليات — التي تقترن اليوم في عقل الغرب بالإسلام فقط؟ — تلك مَدعاة إلى بحثٍ آخر.٥٨
١  حول علاقة العرب الحاليين بمسألة الحداثة بوصفها قابلةً لأن تُتأوَّل في ضوء ضربٍ من الدهشة الإستطيقية، انظر: فتحي المسكيني، الهوية والزمان، تأويلات فينومينولوجية لمسألة «النحن»، دار الطليعة بيروت ٢٠٠١، ص ص٥٣–٦١.
٢  إنَّه ضدَّ قراءة دريدا «التفكيكية» لفلسفة الدين الكانطية والتي تنتهي إلى أنَّ الحداثة هي دينية في معنى كونها نوعًا من «التمسيح» (christianisation) القويِّ والنسَقي للعالم، نحن سنُحاول أن ندافع عن قراءة أخرى وإيجابية لكانط تُبيِّن أنَّه وضع أُسُس نوعٍ طريف من «الحداثة الدينية». راجع:
J. Derrida, “Foi et savoir” in Lareligion, Paris, Seuil, 1996, pp. 20-21.
٣  حول مفهوم الشهيد انظر: فتحي المسكيني «حديث القيامة بين الجليل والهائل»، الفكر العربي المعاصر، ١٢٤-١٢٥، ص ص٢٨-٢٩. وحول ظاهرة الإرهاب.
انظر: فتحي المسكيني، «ما هو الإرهاب؟ نحو مساءلة فلسفية»، ضمن: دراسات عربية، العدد ١-٢، السنة ٣٤، نوفمبر/ديسمبر (١٩٩٧) ص ص٢–٢٥.
وقارن أيضًا: جان بودريار، «روح الإرهاب» الفكر العربي المعاصر، ١٢٠-١٢١ السنة ٢٠٠١ ص٢٦–٣٢.
٤  Gilbert Achcar, Le choc des barbaries, terrorismes et désordre mondial, Bruxelles, Éditions Complexe, 2002.
٥  قارن في هذا السياق: عبد المجيد الشرفي، الإسلام والحداثة الدار التونسية للنشر، ١٩٩٠ ص ص١٨٣–٢٢٣.
٦  في إطار تقليد نقد الدين نُشير بخاصة إلى الكتاب المعروف للدكتور صادق جلال العظم، نقد الفكر الديني، دار الطليعة، ١٩٦٨.
٧  لا يفوتنا أن نُشير هنا إلى الأهمية التي يحتلها كانط في الفكر الحديث والمعاصر، لا بوصفه فحسب فيلسوف الحداثة والتنوير لدى الغرب، بل بخاصة بوصفه قد صار منذ قرنٍ من الزمن لدى مُفكرينا إلى براديغم يُهتدى به، إنْ في مشاريع قراءات التراث، أو في أفق بلورة رؤية عربية لمُجتمعاتنا المدنية الحديثة (أعمال الجابري وأركون بخاصة).
٨  حول خطورة ظاهرة العودة إلى الديني والْتباسها انظر بخاصة:
J. Derrida, “Foi et savoir,” in: Lareligion, op. cit., p. 57.
٩  هي ثلاث طرق في التعامُل مع النصوص اخترعها فلاسفة الغرب المُحدثون: نقد الأيديولوجيات الذي يَشتغِل عليه بعد كانط وماركس (Marx) ونيتشه، مُفكِّرو مدرسة فرانكفورت (أدرنو، هوركهايمر، ماركوز هابرماس). والتأويلية أو الهرمنيوطيقا التي اشتغل عليها هيدجر وغادامير وريكور، وأخيرًا التفكيكية التي تجد نموذجها في كتابات دريدا. غير أنَّنا فضَّلنا أن نبقى في حدود مُهمة مؤرخ الفلسفة الباحث عن إمكانية قراءةٍ موجبة لنصِّ كانط حول الدين.
١٠  عبارة محبوبة لدى روَّاد الفكر ما بعد الحديث تتردَّد خاصة لدى دولوز ودريدا.
١١  نشير إلى أن سنة ٢٠٠٤ هي سنة مرور قرنَين كاملَين على وفاة فيلسوف الأنوار كانط (١٧٢٤–١٨٠٤)، ومقالنا هذا هو نوع من إحياءٍ لذِكرى فلسفية عالمية.
١٢  وهي القراءة التي وجدت في أعمال الكانطيين الجدد من قبيل كوهن (Cohen) وكاسيرر Cassirer نمودجًا لها. انظر:
Alain Renault, Kant aujourd’hui, Paris, Aubier, 1997, p. 21 et sq.
١٣  Heidegger, Kant et le problème de la métaphysique, Paris, Gallimard, 1953.
١٤  W. Benjamin, Le concept de critique esthétique dans le romantisme allemand, Paris Champs Flammarion, 1986.
١٥  G. Deleuze, Critique et clinique, Paris, Minuit, 1993, pp. 40–49.
١٦  J. Derrida, la vérité en peinture, Paris, Champs Flammarion, 1978, pp. 19–168.
١٧  M. Foucault, Les mots et les choses, Paris, Gallimard, 1966.
١٨  ما تعرفه الثقافة العربية من فلسفة كانط هو بخاصة التراث النقدي، أي تقليد نقد العقل، لكن يبدو أنها لم تقرأ بعد فلسفة الدين لدَيه، وخاصة كتابه «الدين في حدود مجرد العقل ١٧٩٣» الذي نقترح تقديمه إلى الثقافة العربية الحالية، رُبَّ كتاب قد يُساعدنا على فهم طبيعة الحداثة الغربية القائمة على ضربٍ من التحالُف الإيجابي مع الدين، وعلى إمكانية حداثة دينية في أفق الثقافة التي تنتمي إليها.
١٩  وهي طرق اختبرها العقل الفلسفي لدينا إنْ في جامعاتنا أو في الدراسات والبحوث.
٢٠  كتب كانط هذا الكتاب وهو على مشارف السبعين من عمره، لذلك كان على عجلٍ في إنجازه، وهو ما يُشير إليه بنفسه في تصدير الطبعة الأولى من الكتاب.
٢١  كتاب الدين في حدود مجرد العقل لكانط له حكاية كاملة مع الرقابة، حيث صدر مرسوم ملكي في منع كانط من الاشتغال على الدين إثر صدوره، ونحن نفترض أنه كتاب اخترع فيه كانط فنَّ كتابةٍ خاصًّا بعصر الرقابة، هو الذي يجعله مخالفًا لمشاريع نقد الدين ولمشاريع تأويل الكتُب المقدَّسة على حدٍّ سواء.
٢٢  وهي الكتب المشهورة في ثقافتنا، وبخاصة منها: الغزالي، الاقتصاد في الاعتقاد، إحياء علوم الدين، فضائح الباطنية؛ ولابن رشد، فصل المقال والكشف عن مناهج الأدلة.
٢٣  ونقصد تشخيص كانط لوضع العلوم في السَيْرِ على الدروب الآمنة، وهو ما نقرؤه في تصدير الطبعة الثانية من نقد العقل المحض انظر:
E. Kant, Critique de la raison pure,in Œuvres philosophiques I, Paris, Gallimard, 1980, pp 735, 739.
٢٤  J. Derrida, “Foi et savoir,” in La religion, op. cit., pp 9–86.
٢٥  E. Kant, Critique de la raison pure, in Œuvres philosophiques I, op. cit., pp. 739–741.
٢٦  Leibniz, Essai de théodicée sur la bonté de Dieu, la liberté de l’homme et l’origine du mal, Paris, Flammarion, 1969.
٢٧  D. Hume, Histoire naturelle de la religion, in Œuvres philosophiques III traduction française.
٢٨  Fichte, Essai d’une critique de toute révélation, Paris, Vrin, 1988.
٢٩  E. Kant, Critique de la raison pure, op. cit., 2ème préface.
٣٠  Ibid.
٣١  ابن رشد، فصل المقال.
٣٢  E. Kant, Conflit des facultés in Œuvres philosophiques III, Paris, Gallimard, 1986, p. 807.
٣٣  Ibid., p. 808.
٣٤  E. Kant, La religion dans les limites de la simple raison, in Œuvres philosophiques, III, op. cit., p. 27.
٣٥  Jean-Louis Bruch, La philosophie religieuse de Kant, Paris, Aubier, 1968, p. 37.
٣٦  E. Kant, Métaphysique des mœurs, in Œuvres philosophiques III, op. cit., p. 785.
٣٧  E. Kant, La religion dans les limites de la simple raison, op. cit., p. 25.
٣٨  E. Kant, Conflit des facultés, op. cit., p. 786.
٣٩  Y. Yovel, Kant et la philosophie de l’histoire, Paris, Klincksieck, 1989, p. 168.
٤٠  E. Kant, La religion dans les limites de la simple raison, op. cit., p. 23.
٤١  Derrida, “Foi et savoir,” op. cit., p. 22.
٤٢  Y Yovel, op. cit., p. 176.
٤٣  P. Ricœur, Lectures 3, Aux frontières de la philosophie, Seuil, 1994, pp. 19–39.
انظر مقالنا الذي خصصناه لمناقشة قراءة ريكور لكتاب كانط في الدين تحت عنوان «كانط والتأويلية». الفكر العربي المعاصر، ١٢٠-١٢١ ص ص٤١–٤٧.
٤٤  J. Derrida, op. cit.
٤٥  «في الشر الجذري» هو عنوان الباب الأول من كتاب الدين في حدود مجرد العقل، أمر أحرج تأويلية ريكور وتفكيكية دريدا على حد سواء؛ فإذا كان ريكور يقول بأن الدين علاج للشر الجذري، فإن دريدا يذهب إلى أن تاريخ الشر وتاريخ الدين وتاريخ العقل أمر واحد، فبدلًا من احتفالية تأويلية بالدين، ينبغي أن نفكر بتفكيكية لأكثر ثقوبه إثارةً للفزع الفكري.
٤٦  Kant, Critique de la raison pure, op. cit., p. 748.
٤٧  Kant, La religion dans les limites de la simple raison, op. cit., p. 71.
٤٨  Kant, Réponse à la question: Qu’est-ce que les lumières?, in Œuvres philosophiques II, Paris, Gallimard, 1985, p. 209.
٤٩  Kant, La religion dans les limites de la simple raison, op. cit., p. 116.
٥٠  Kant, Critique de la raison pure, op. cit., p. 1028.
٥١  Kant, La religion, op. cit., p. 48.
٥٢  Ibid., p. 47.
٥٣  Kant, Projet de paix perpétuelle, in Œuvres philosophiques III, op. cit., p. 364.
٥٤  Derrida, op. cit., p. 20.
٥٥  Kant, La religion, op. cit., pp. 69, 77, 171.
٥٦  Derrida, op. cit., p. 18.
٥٧  Derrida, op. cit., p. 19.
٥٨  علينا أن نتساءل: أين الإسلام من هذه الحداثة الدينية التي بشَّر بها كانط والتي أثارت استياء دريدا ضد احتفالية ريكور؟ إن القارئ لكتاب الدين في حدود مجرد العقل يُحصي أربعة مواضع يُعبر فيها فيلسوف التنوير عن موقفه من الإسلام. إنه يُميز بين المُحمديين أو أتباع محمد والديانة الإسلامية، والإسلام نفسه والطقوس الإسلامية. أما عن أتباع محمد فهم يُثيرون إعجاب كانط الفلسفي لأنهم «عرفوا كيف يُضفون على وصفهم لجنتهم، دلالةً روحية خالصة.» (ص١٣٥ من الكتاب). أما عن الديانة الإسلامية فتبدو في نظر كانط مُستجيبة للشروط الأخلاقية التي يقوم عليها الدين الحق. ذلك أن مملكة الرب الحقة لا تقوم عنده على مهدوية منتظرة وإنما على عقدٍ أخلاقي في حدود مجرد العقل. ويبدو أن الإسلام حسب كانط، وإلى جانب المسيحية، دين يستجيب إلى فكرة العقد الأخلاقي، في حين تقوم اليهودية مثلًا على فكرة سياسية (ص١٦٧). وأما عن الإسلام في جوهره فيتميز عند كانط «بالكبرياء والشجاعة». ذلك أن المسلمين بدلًا من الانسياق وراء الخوارق لدعم عقائدهم، إنما نراهم فعلوا ذلك عن طريق الانتصارات وإخضاع شعوبٍ أخرى. فكل ممارساتهم قوامها الشجاعة (ص٢٢١). وأخيرًا فيما يخص الطقوس الإسلامية فهي لا تمثل استثناءً في نقد كانط لأشكال الوهم الديني القائمة على الصنمية والتقديس الأعمى بدلًا من عقيدة أخلاقية مُحضة.