ذكريات من حياتي

مؤسسة هنداوي مؤسسة هنداوي

ذكريات مع طه حسين

رغم أنني لم أكن من تلاميذ طه حسين وحَواريِّيه، رغم أن عدد مرات لقائي معه لم تَزدْ على أصابع اليد الواحدة، إلا أنني أحسست منذ شهور برغبة عارمة في أن أكتب عنه في هذه الذكرى الأخيرة. فطه حسين واحد من القلائل من جيل كبار كتَّاب ومفكري عصر المحدثين، الذين اختلفت معهم فكريًّا وإن كنت أحببتهم، وظل هذا الحب والإعزاز كامنًا في القلب والضلوع على طوال السنين.

ولقد نشأت وترعرعت في ظل عائلة بسيطة ذات ميول وَفْدية، وتفتَّحت براعم ذهني في الثلاثينيات على اسم طه حسين كأسطورة شبه مقدسة، لا لأنه صاحب دعوة «التعليم كالماء والهواء» فحسب، ولا لأنه صاحب «الأيام» التي هزت وجدان صباي فحسب، ولا لأنه كان كاتبًا وفْديًّا كبيرًا فحسب، وإنما لأنه، فوق كل شيء، مثقفٌ مصري صادق الوعد لا يفصل بين تفكيره ومواقفه العملية، مستعد للتضحية من أجل عقيدته الديمقراطية ودفاعه عن الشعب.

فقد كان طه حسين العدو اللدود لدكتاتور مصر في الثلاثينيات إسماعيل صدقي؛ فصله من منصبه كعميد لكلية الآداب، فلم يتراجع العميد عن موقفه.

كان طه حسين مفكرًا مناضلًا عندما تراجع آخرون من المثقفين وآثروا السلامة!

ولعل من الأسباب التي دعتني إلى الكتابة عنه هذا العام أنني قرأت منذ شهور کتاب زوجته السيدة سوزان طه حسين عنه بعنوان «معك»، ولقد هزني الكتاب بشدة، هزني عاطفيًّا لجمال المشاعر الإنسانية التي عبرت فيه السيدة الفاضلة — وبأسلوب شاعري أنيق — عن عواطفها تجاه زوجها المفكر الكبير، لكن الكتاب أفزعني في نفس الوقت!

فمن يقرأه قد يخرج بانطباع أن طه حسين كان مفكرًا فرنسيًّا وليس مصريًّا من صميم ريف مصر وطينة فقرائها، ولست أستطيع أن ألومها كثيرًا في ذلك؛ لأنها تكتب عما رأته من طه حسين في داخل منزلهما ورحلاتهما الصيفية في ربوع أوروبا، ولقاءاته مع المفكرين الغربيين، كما أنها، بطبيعة كونها فرنسية الأصل، كانت معزولة عن كثير مما يجري خارج المنزل من طه حسين وله.

إن الذين كتبوا عن طه حسين في السنين الأخيرة لم يبرزوا جانبًا أساسيًّا في شخصيته، أعني ولاءه لشعب مصر، وعندما أذكر هنا شعب مصر فإنما أعني جماهير فقرائها الذين يمثلون الغالبية الساحقة لهذا الشعب. ولقد برز هذا الولاء على النطاق الوطني في كتبه، وعلى الأخص كتاب «المعذبون في الأرض»، كما برز في سياسته التعليمية عندما كان مستشارًا لوزارة التربية والتعليم أولًا، ثم عندما كان وزيرًا للتعليم بعد ذلك. ومن أجل هذا الولاء خاض طه حسين معارك كثيرة — فكرية وشخصية — وتحمَّل كثيرًا، وكان القصر آنذاك في طليعة الناقمين عليه بسبب مواقفه الديمقراطية في التعليم، وبسبب كتاب «المعذبون في الأرض»، حتى إن فاروق تردد كثيرًا في تعيينه وزيرًا للتعليم عندما عادت وزارة الوفد في يناير سنة ١٩٥٠م إلى الحكم، إثر انتخابات عامة عبرت فيها الجماهير عن إرادتها الحازمة بشكل ساحق.

وكل هذا معروف بطبيعة الحال وموثق تاريخيًّا، لكن ما لا يعرفه الكثيرون أن طه حسين كان على المستوى الشخصي راعيًا ومشجعًا لكثير من شباب مصر المغمورين، دافعًا لهم لمزيد من التعليم، سعيدًا بهم سعادةَ الأب بأبنائه، حتى عندما كانوا يختلفون معه.

ولقد شاءت الظروف أن أكون واحدًا من هؤلاء، لم أقصد هذا قصدًا ولم يقصده، ولم يكن يخطُر في بالي، وأنا شاب صغير مغمور، أنني سألتقي يومًا من الأيام وجهًا لوجه مع هذا «الجبار»، كما كانوا يسمونه في محيطنا! ثم كان أول لقاء لنا منذ واحد وثلاثين عامًا، وبالتحديد في يناير سنة ١٩٥٠م.

كان طه حسين وزيرًا جديدًا للتعليم، وكنت معيدًا بكلية العلوم بجامعة الإسكندرية، جرى توقيفي لعدة شهور، مع غيري من المعيدين بجامعتَي القاهرة والإسكندرية، إبان وزارتَي النقراشي وإبراهيم عبد الهادي، وخلال عام سنة ١٩٤٩م، كانت معتقلات مصر في الهايكستب وأبو قير والطور ممتلئة بألوف الشباب من طليعة الوفد والإخوان المسلمين والتقدُّميين، وعندما جاءت وزارة الوفد أول عام ١٩٥٠م أطلقت سراح الجميع.

وعدت إلى جامعة الإسكندرية لاستلام عملي، لكني فوجئت وغيري بتلكؤ الجامعة في قبول عودتنا لعملنا، وبدأت الشائعات تقول إن مدير الجامعة — وكان معروفًا آنذاك بصلته بالقصر — يريد أن ينقلنا إلى التعليم العام، وإن عميد الكلية متواطئ معه في هذا الأمر، وران اليأس على قلبي، واستبد بي الظلام، ماذا أفعل؟

ركبت أول قطار إلى القاهرة قاصدًا مكتب وزير التعليم، وطلبت مقابلته لشرح الأمر له، وكانت الوزارة تعج بمئات القادمين للتهنئة وقضاء الحاجات، ولم أكن أطمع في هذه الظروف — وأنا بلا واسطة — في أكثر من تحديد موعد لي بعد أسبوع على أقل تقدير، لكن ما بهرني أن طه حسين طلبني للقائه بعد نصف ساعة من وجودي في مكتبه، واستمع إليَّ طويلًا، ولم ينبس ببنت شفة طوال حديثي، ثم أشار إلى سكرتيره أن يأخذني إلى مكتبه، وأن يطلب له مدير جامعة الإسكندرية على الهاتف. ولست أدري بطبيعة الحال ما جرى بينه وبين مدير الجامعة، لكنه طلبني مرة أخرى بعد انتهاء الحديث، ولم يزد على أن قال: «عد إلى الإسكندرية واستلم عملك في الجامعة.» وقد كان.

حاولت أن أشكر طه حسين بكلمات متلعثمة وأنا أنسحب من غرفته. وعندما ذهبت إلى الإسكندرية كانت الشائعات قد سبقتني إليها، عن هذا اللقاء وعن حديث طه حسين مع مدير الجامعة، حتى قال أحد أساتذة الجامعة إنه عرَف أن حديث الوزير لمدير الجامعة كان حادًّا، وأنه قال له: «الحق أحق أن يُتبع يا صادق بك!»

بعد تسعة أشهر من هذا اللقاء، سافرت في بعثة دراسية إلى بريطانيا للحصول على الدكتوراه في الرياضيات، وعدت في سبتمبر سنة ١٩٥٢م بعد حصولي عليها من جامعة لندن، وبعد أن قامت ثورة يوليو في نفس ذلك الصيف. ولم أكد أصل إلى القاهرة حتى سعت كلية العلوم بجامعة القاهرة إلى نقلي إليها من الإسكندرية؛ لحاجتها إلى تخصصي. وتم هذا في نوفمبر عام ١٩٥٢م، وهكذا بدأت حياتي العلمية والصحفية في القاهرة.

في ظل الشهور الأولى لثورة يوليو، كانت الحرية الصحفية واسعة نسبيًّا، وكنت قد بدأت — مع التدريس في جامعة القاهرة — أكتب مقالات في قضايا الأدب والفكر في جريدة «المصري»، التي كانت تخصص صفحتها الأخيرة كل يوم أحد لقضايا الأدب والفن والفكر.

ولم أكن أعلم أن طه حسين كان يقرأ هذه المقالات، وأنه كان يضيق ببعضها، حتى كان لقاؤنا الثاني بمنزله بالزمالك عام ١٩٥٣م.

قبل هذا اللقاء بشهور كنت قد انتقلت من الكتابة في صحيفة «المصري» إلى الكتابة في مجلة «روزاليوسف»، بعد مقال طويل كتبته عن قصص إحسان عبد القدوس، ومع أن هذا المقال لم يكن مزكيًا لأدب إحسان، إلا أن سعة أفقه في العمل الصحفي جعلته يطلب التعرف إليَّ، ثم طلب مني أن أكون أحد كتَّاب روزاليوسف. وهكذا كان.

وعندما انتقل فتحي غانم من «روزاليوسف» إلى «أخبار اليوم»، سألني إحسان أن أكتب أسبوعيًّا باب «أدب»، الذي كان فتحي غانم يتولى تحريره قبل انتقاله. وبدأت أكتب الباب أسبوعيًّا، وكان من بين ما كتبته آنذاك مقال تضمَّن هجومًا على كتاب جديد صدر لتوفيق الحكيم لاتجاهه الفكري السلبي. ولست أذكر الآن اسم الكتاب، ولكن أذكر أنني قلت في هذا المقال: «إن توفيق الحكيم يجلس على قمة المستوى المائل وإنه ينحدر!» وأذكر أن هذا المقال أثار ضجةً لدى الكثيرين من محبي أدب توفيق الحكيم، وأن أحدهم رد على مقالي بمقال في «روزاليوسف»، ولعل كاتبه كان الصديق العزيز بدر الدين أبو غازي، وزير الثقافة الأسبق.

لقد أسهبت في وصف ظروف كتاباتي آنذاك؛ لأن هذا كله وثيق الصلة بلقائي الثاني بطه حسين، وبما دار في هذا اللقاء من نقاش. أما أسباب هذا اللقاء نفسه فكانت أيضًا غريبة وذات دلالة في مواقف طه حسين، رغم أن الموضوع كان في أساسه شخصيًّا وليس عامًّا.

لقد جاءني زميل لي في الجامعة، كان، ولا يزال، من أبرز أساتذة الرياضيات في مصر، في أحد أيام عام ١٩٥٣م، وسألني إن كنت أعرف طه حسين، وقلت له إنني لم أرَ طه حسين غير مرة واحدة في حياتي، وأغلب الظن أنه قد نسيني، وشرحت له ظروف هذا اللقاء. ولما سألته عن سبب السؤال عرفت أنه كان قد تقدم إلى جائزة «أمين لطفي» في الرياضيات، وأن طه حسين عضو في اللجنة التي ستقرر الفائز لها، وأن لديه معلومات مؤكدة أن بعض أعضاء اللجنة من رجال وزارة التعليم يبيِّتون النية على منحها لشخص آخر وثيق الصلة بالسلطة، ذكر لي اسمه، وأنا أعلم عن ثقة بطبيعة تخصصي أن هذا الآخر لا يستحقها.

واستعنت بإحسان عبد القدوس لكي يطلب لي موعدًا مع طه حسين، وتم تحديد الموعد في اليوم التالي الساعة الحادية عشر صباحًا.

كان محمود النحاس — مدير الأوبرا آنذاك — حاضرًا في هذا اللقاء، وشرحت لطه حسين قلق زميلي مما يبيَّت له من بعض رجال التربية والتعليم، وقناعتي الشخصية بامتياز هذا الزميل في البحوث الرياضية، قلت له: «إنني أترك لك الموضوع بأكمله واثقًا من أنك سوف تنصف صاحب الحق.»

أنصت طه حسين لكلِّ ما قلته، وأنا أشعر بالارتباك والهيبة في حضرته، ثم قال: «قل لصديقك هذا إنه لن يُظلَم ما دمت في هذه اللجنة.» وهذا ما تم بعد ذلك؛ فقد مُنحت الجائزة له في نهاية الأمر.

غير أن طه حسين انتهز فرصة هذا اللقاء لمشاغبتي حول ما أكتبه في قضايا الفكر والأدب، وبدأ سائلًا لي: «ما علاقتك بالأدب وأنت أستاذ في العلوم؟» وشرحت له أنني نشأت في عائلةٍ كثيرٌ من رجالها يحبون الأدب، ويتولون تدريس اللغة العربية بالمدارس، ويهوَوْن الشعر بالذات، وأنني لم أشذَّ عن هذا التقليد إلى درجة أنني ترددت فترةً عند التحاقي بالجامعة بين الالتحاق بكلية الآداب أو بقسم الرياضيات بكلية العلوم، وأنني كنت في شبابي المبكر شاعرًا فاشلًا!

ثم تجرأت وسألته رأيه فيما أكتب! قال: «ينبغي أن تزيد من قراءاتك وألا تكون ضيقًا في نظرتك، إنكم تتياسرون وتظنون أني على يمينكم. هل كتب أحدكم شيئًا كالمعذبون في الأرض!»

ولقد خرجت من هذا اللقاء الثاني متيقنًا أنه ما زال يذكر لقاءنا الأول منذ ثلاثة أعوام، وأنه تصرف معي تصرُّفَ الأب الرحيم عندما يزجر واحدًا من أبنائه ويرده إلى ما يعتقد أنه الصواب، وأنه كان سعيدًا لأن يرى أحد أبنائه ناجحًا في السلك الجامعي، مهتمًّا بقضايا الفكر والأدب.

ولم يَدُرْ بخلدي آنذاك أن اللقاء الثالث سوف يتم بعد بشهور قليلة، وبالتحديد في مارس سنة ١٩٥٤م، في نادي القصة وفي حضور نجيب محفوظ ويوسف غراب ووداد سكاكيني وآخرين لا أذكرهم الآن، وأنه سوف يكون لقاءً عاصفًا! لكن لذلك قصة أبدأ الآن في شرحها من بدايتها:

كانت جريدة «الجمهورية» — لسان حال الثورة — قد صدرت عام ١٩٥٣م، وكان طه حسين في أبرز كتَّابها، له مقال أسبوعي يتابعه المثقفون بشغف في قضايا الأدب والفكر. وفي فبراير من ذلك العام كتب طه حسين مقالًا بعنوان «صورة الأدب ومادته»، قدَّم فيه النظرة النقدية للمدرسة التقليدية في الأدب، وتقوم هذه النظرة على أن اللغة هي صورة الأدب، وأن المعاني هي مادته، وإن كان قد أضاف إلى هذين العنصرين عنصرًا ثالثًا سماه «عنصر الجمال»، لم يوضح نظرته إليه.

وتمنى طه حسين في ختام مقاله عن الأدباء الشبان أن يوضحوا رأيهم ونظرتهم النقدية في الأدب. وأحسست عند قراءتي لمقال طه حسين كأنه يوجه لي تحديًا شخصيًّا، وتذكرت ما قاله لي بمنزله بالزمالك في لقائنا الثاني.

واتفقنا — محمود العالم وأنا — على أن نرد على طه حسين ردًّا مهذبًا ومطولًا في جريدة «المصري»، نشرح فيه وجهة نظرنا، وأوجه خلافنا مع نظرته ونظرة جيله من الكتاب. ولخصنا في ختام هذا المقال وجهة نظرنا على النحو التالي:
  • أولًا: إن مضمون الأدب (أو مادته) ليس المعاني، وإنما هو في الجوهر الأحداث التي تجري في العمل الأدبي، وإن هذه الأحداث تعكس مواقف ووقائع اجتماعية الدلالة.
  • ثانيًا: إن صورة العمل الأدبي (أو صياغته) ليست هي الأسلوب، وإن كان الأسلوب عنصرًا من عناصر الصورة. فالصورة عملية تشكيل هذا المضمون وجوانب الإضاءة والظلال فيه، إنها عملية إبراز عناصر هذا المضمون وتنمية مقوماته.
  • ثالثًا: إن تحديد الدلالة الاجتماعية للعمل الأدبي لا يتعارض مع تأكيد قيمة الصورة أو الشكل الأدبي، بل على العكس، قد يساعد على الكشف عن كثير من أسرار هذا الشكل.
  • رابعًا: إن النقد الأدبي — على هذه الأسس — ليس دراسة لعملية الصياغة في صورتها الجامدة فحسب، وإنما هو استيعاب لكافة مقومات العمل الأدبي، ما يتفاعل فيه من أحداث وعلاقات، وبهذا يصبح الكشف عن المضمون الاجتماعي ومتابعة عملية الصياغة مهمة واحدة متكاملة للناقد الأدبي.

وبطبيعة الحال ضربنا أمثلة من الأدب الأوروبي والمصري لتوضيح وجهة نظرنا. وانتظرنا رد فعل طه حسين لمقالنا، وجاء رده على صفحات الجمهورية في مقال بعنوان «يوناني فلا يُقرأ»، قال فيه إنه لم يفهم شيئًا مما نعنيه، وإن ما كتبناه لا يخرج أن يكون كلامًا يونانيًّا كما يقول الأوروبيون! ثم سألنا عن رأينا في أدب الطبيعة وما هي دلالته الاجتماعية يا ترى؟!

حتى هذا الحد كان الحوار مقبولًا، وكنا على استعداد لأن نكتب بشكل أكثر تفصيلًا نوضح فيه ما نعنيه، وإن كان قد ساورنا الشك أن طه حسين كان يفهم ما نعنيه، وأنه أراد أن يدعي غير ذلك!

غير أن الأمور في هذا الحوار تطورت بشكل غير متوقع، بدخول عباس العقاد ساحة النقاش بمقال مطول في «أخبار اليوم» عنوانه: «إلى أدعياء التجديد … اقرءوا ما تنتقدونه»، ومع أننا لم نتعرض في مقالنا بأنه موجَّه ضده شخصيًّا، وهكذا كان رده؛ استفزازيًّا وساخرًا وعنيفًا ومليئًا بالغمز واللمز حول ميولنا السياسية.

وفي حماس الشباب وعنفوانه لم نملك إلا أن نكتب ردًّا أشد عنفًا واستفزازًا، كان عنوانه «عبقرية العقاد». ومع أن المقال كان في معظمه مناقشة في قضايا الأدب إلا أنه امتلأ بالغمز واللمز عن قصائد العقاد في مدح الملك فاروق ومقالاته في جريدة «الأساس» ضد الشيخ حسن البنا، ودور الإنجليز في كتابه «هتلر في الميزان».

وفي هذا الجو المحموم، وبعد صدور مقال «عبقرية العقاد» بيومين، ذهبت إلى نادي القصة، ولم أكن أدري أنني في طريقي إلى لقاء عاصف مع طه حسين!

أحسست منذ أول وهلة وأنا أسلم عليه بأنه غاضب، ولم أكد أجلس على أحد مقاعد الغرفة حتى بادرني قائلًا «أنا زعلان منك … كيف تسمح لقلمك أنت وصديقك أن يشتد في الهجوم على الأستاذ العقاد إلى هذا الحد؟!»

قالت السيدة وداد سكاكيني، وكانت من حضور هذه الجلسة: «البادي أظلم يا باشا!» وقال نجيب محفوظ جملة أو جملتين في محاولة لتهدئة غضب طه حسين.

وبهت برهةً ثم بدأت أشرح وجهة نظري في الموضوع كله، لكنه لم يقتنع، ولم يكن في الحقيقة منصتًا لما أقول، وأشار إلى بعض الحاضرين أن اصمت؛ لأنه لا مجال للمناقشة في مثل هذا الجو.

وخرجت من نادي القصة حزينًا مهمومًا؛ لأنني لم أكن أحب أن أراه غاضبًا إلى هذا الحد، ثم خطر لي بعد ذلك أن أکثر ما ضايقه هو غمزنا للعقاد في قصيدته التي مدح بها فاروق، فقد كان لطه حسين خطاب معروف في افتتاح جامعة الإسكندرية — وفي حضور فاروق — امتلأ بمدح الملك ومدح أسرته. ولعل هذا التفسير قد أراحني نفسيًّا إلى حد كبير، ولم أيئَس في أن تصفو نفسه بعد هدوء العاصفة.

وأحسب أني لقيت طه حسين بعد ذلك بسنوات مرة أو مرتين في مناسبات خاطفة لم نتبادل فيها كلاما كثيرًا، لكن ما أدهشني بعد ذلك أن أعلم أنه كان يتابع ما أكتب متابعةَ الأب لأحد أبنائه، وكان يسأل عني كلما جمعته لجنة الترجمة، في المجلس الأعلى للفنون والآداب أو جلسات المجمع اللغوي، بواحد من أشقائي.

ومضت سنوات طويلة لازم فيها طه حسين بيته بسبب مرضه، وخطر لي أكثر من مرة أن أذهب لزيارته، لكني تراجعت بعد ذلك لأنني لم أكن متيقنًا أن العلاقة بيننا تسمح لي بهذه الزيارة.

ثم جاء النذير بالنبأ التعيس … نبأ وفاته في أكتوبر عام ١٩٧٣م، وأحسست بغم ثقيل، وتملَّكتني كآبة دامت أيامًا، وعندما مشيت في جنازته، التي خرجت من جامعة القاهرة، لم أكن أحس أن مصر فقدت رجلًا من كبارات رجالها ومفكريها فحسب، وإنما كنت أحس أنني فقدت إنسانًا عزيزًا على نفسي قريبًا من قلبي. على الرغم من أنني لم أقابله غير مرات معدودة لا تزيد على أصابع اليد الواحدة، وعلى الرغم من خلافنا في الفكر.

الطريق المسدود

منذ أيام كتب الأستاذ توفيق الحكيم يصف روايات الأستاذ إحسان عبد القدوس قائلًا: إنها القصة ذات المفتاح. وهو يعني بذلك أن الرواية كثيرًا ما تنطوي على مبدأ معين، فكرة معينة … وحينما تدرك من أحداث الرواية هذه الفكرة تكون قد فتحت الباب إلى فهم القصة فهمًا صحيحًا.

وإحسان مغرم بالقصص ذات المفتاح، ولكنه فوق ذلك مغرم بوضع مفتاح كل قصة من قصصه على صورة شعار معين، فمثلًا في رواية «الطريق المسدود» يقدم لنا إحسان منذ البداية، وقبل أن نعرف أحداث الرواية، الشعار التالي:

«إن الخطيئة لا تولد معنا، ولكن المجتمع يدفعنا إليها.» وهذا هو (في تقديره) مفتاح قصته.

فلنتخذ إذن من مناقشة هذه المسألة نقطة بدء:
  • أولًا: يعتبر تقديم «مفتاح القصة» في البداية خطأً فنيًّا واضحًا، فالمفروض أن الروائي يقودنا، نحن قرَّاءه، في طريق أوَّلُه مجهول، ووسطه غموض، وآخره وضوح عند القارئ اللبيب.