ذكريات من حياتي

مؤسسة هنداوي مؤسسة هنداوي

ثروت عكاشة وأنا

أسعدني تمامًا ما فعلته الدكتورة سعاد الصباح — التي أحمل لها كل تقدير منذ لقائنا في ندوة للأمم المتحدة منذ سنوات طويلة — من تكريم للدكتور ثروت عكاشة وزير الثقافة الأسبق. ففضل هذا الرجل على الثقافة في مصر طوال سنوات وزارته لا يمكن إنكاره إلا لجاحد. وأنا شخصيًّا أحببت هذا الرجل طوال حياتي وطوال الأيام التي عرفته فيها، وقد عملت تحت رئاسته عامًا كاملًا (من نوفمبر سنة ١٩٦٧م حتى نوفمبر سنة ١٩٦٨م)، كنت فيها معارًا من الجامعة كرئيس مجلس إدارة شركة الكاتب العربي للطباعة والنشر، فكان كريمًا غاية الكرم في تعامله معي، حتى عندما كنا نختلف في الرأي، وكان من عادته أن يعقد اجتماعًا أسبوعيًّا في مكتبه، يحضره كل رؤساء المؤسسات والشركات التي تتبع وزارة الثقافة، من جهابذة المثقفين المصريين: نجيب محفوظ، عبد الرازق حسن، محمود أمين العالم، سهير القلماوي، سعد وهبة، سعد كامل، علي الراعي … إلخ.

ولقد عرفت ثروة عكاشة قبل الثورة، إذ كنا من شباب حي العباسية، ومع أنها كانت معرفة عابرة، إلا أنها تجددت بعد الثورة، عندما كان هو الملحق العسكري لمصر في باريس، وكان سكرتيره الخاص آنذاك أحمد طرباي — أحد شباب الطليعة الوفدية — الذي توثقت علاقتي به عندما كنا سويًّا في معتقل الطور عام ١٩٤٩م.

وعند عودتي من بريطانيا إلى القاهرة، في صيف ١٩٥٤م، مررت بباريس وقابلني أحمد طرباي ودبر لي لقاء ثروت عكاشة في مكتبه، الذي سألني عن الأحوال في مصر، فتحدثت معه بصراحة. والغريب أنني عندما قابلته، في باريس في أواخر سبتمبر سنة ١٩٥٤م، لم أكن على علم أن قرارًا من مجلس قيادة الثورة بفصل ٤٢ أستاذًا من الجامعة كان قد صدر، وأنني واحد من المفصولين. ولم أعلم بهذا القرار إلا عند وصولي إلى الإسكندرية.

ولقد انقطعت صلتي بثروت عكاشة حتى وقعت كارثة يونيو سنة ١٩٦٧م، فقام بدعوة عدد من المثقفين إلى اجتماع في مكتبه، وكنت واحدًا منهم، وأتذكر من الحاضرين يوسف إدريس وعبد الرحمن الشرقاوي ومحمود العالم وعلي الراعي، وآخرين، وكنا جميعًا في غاية الثورة على حجم الهزيمة وعلى الخديعة التي مررنا بها جميعًا عن أحوال الجيش المصري. وكان ثروت عكاشة صبورًا مع صراحتنا التي تحدثنا بها، وقد خرجنا من هذا الاجتماع باتفاق على عقد اجتماعات أخرى، لكن هذا لم يحدث.

حتى جاء شهر نوفمبر عام ١٩٦٧م، وكنت أحاضر كالعادة يوم الخميس في كلية العلوم بجامعة عين شمس، عندما فُتح الباب وإذا بأحد سُعاة الكلية يقول لي إن مكتب وزير الثقافة على التليفون، واستأت من دخوله هكذا، وقلت له أن يبلغهم بأنني سوف أتصل بهم عندما تنتهي محاضرتي.

وبالفعل أبلغني د. ثروت عكاشة عندما اتصلت به ضرورة حضوري فورًا إلى مكتبه لأمر مهم، وعندما قابلته أبلغني بأنه قابل الرئيس عبد الناصر في اليوم السابق وعرض عليه ترشيحات وزارة الثقافة، وأن عبد الناصر اقترح اسمي رئيسًا لمجلس إدارة الكاتب العربي للطباعة والنشر، بدلًا من الأستاذ محمود العالم، الذي عُين رئيسًا لمؤسسة المسرح.

وحاولت أن أعتذر قائلًا إنني أفضِّل عملي بالجامعة على أي عمل آخر، فقال لي: «إنك لا تستطيع أن تعتذر، فهذا توجيه من الرئيس.» قلت «إذن: ليكن هذا التعيين بمثابة إعارة من الجامعة لمدة عام أجرب فيها عملي الجديد، وبعدها يكون لكل حادث حديث.» ووافق على ذلك، وقد تبين بعد ذلك أنه كان قد حصل على موافقة وزير التعليم العالي دون أن تعلم الكلية أو الجامعة شيئًا عن هذه الإعارة.

وقد حاولت إنقاذ هذه الشركة من ظروفها المالية السيئة، وأعدنا تنظيم العمل في مطابعها، واستعنت بعلاقتي القديمة بوزير الخزانة — الدكتور نزيه ضيف — للحصول على قرض للشركة يساعدها على دوام نشاطها في النشر، وتعاقدت مع وزارة التربية والتعليم في ليبيا لطبع كتب مدرسية بحوالي ربع مليون جنيه إسترليني، فضلًا عن نشاط الشركة في نشر الكتب والموسوعات. وبعد انتهاء العام تمسكت بإنهاء إعارتي وعودتي إلى الجامعة مرةً أخرى.

•••

إن السبب الذي دعاني إلى كتابة هذا المقال، الذي أعبر فيه عن سعادتي بتكريم ثروت عكاشة؛ هو أنني أحسست منذ صدور كتابه «مذکرات ثروت عكاشة» وما كتبته من مقالين آنذاك عن هذه المذكرات في صحيفة «الأهالي»، بأنه — أي ثروت عكاشة — غاضب مما كتبته، وقد اتصل آنذاك بالأستاذ خالد محيي الدين في ثورة عارمة، وهدَّد برفع دعوى ضد جريدة الأهالي وضدي، وحاول خالد محيي الدين، كما حاول الأستاذ حسين الشافعي، إقناعه بأن ما كتبته لا يحوي أي طعن فيه، لكنه كان تحت فكرة متسلطة عليه؛ قوامها أن ما دفعني إلى كتابة ما كتبت هو الصديق محمود العالم — وثيق الصلة بشعراوي جمعة، وزير الداخلية الأسبق — الذي يحاول الإساءة إلى اسم ثروت عكاشة.

ونظرًا لأهمية الموضوع، ولأن الموضوع قد أحاطه الظن من أوله إلى آخره، ولأننا — ثروت عكاشة وأنا — نقترب من أيام عمرنا الأخيرة، رأيت أن أكتب للتاريخ هذه الكلمة؛ أشرح كيف وقع سوء الظن هذا الذي لم يكن لمحمود العالم أيُّ دخل فيه.

عندما نشر ثروت عكاشة مذكراته، كان من الطبيعي أن يتطلع إلى تعليق من جريدة الأهالي عليها، واتصل بخالد محيي الدين — وهو صديق عمره في سلاح الفرسان — يسأل عن ذلك الذي اتصل بدوره بالأهالي، فقال له رئيس التحرير إنه اتفق معي على الكتابة عن هذه المذكرات. ثم قابلني خالد محيي الدين في عزاء أحد الأصدقاء، وقال لي إن ثروت عكاشة يسأله عن هذا الموضوع، فاستمهلته حتى أنتهي من محاضراتي في الجامعة، ثم أكتب التعليق.

وبالفعل كتبت مقالين عن هذه المذكرات أشَدْت فيهما بجهوده في ميدان الثقافة، لكن لفت نظري فيها أمران: أولهما اختلاط بعض التواريخ على الدكتور عكاشة، وهذا أمر طبيعي يحدث لنا جميعًا، فحاولت تصحيح بعض هذه التواريخ. أما الأمر الثاني الذي لفت انتباهي — وكنت خالي الذهن تمامًا عنه — فهو الإشارة في هذه المذكرات إلى محاولة جر اسم الدكتور عكاشة إلى قضية صلاح نصر والمخابرات، وتحقيقاتها التي جرت بعد كارثة يونيو سنة ١٩٦٧م. وقد ورد في هذه المذكرات أن السادات — بعد أن أصبح رئيسًا للجمهورية — طلب من شعراوي جمعة — وكان لا يزال وزيرًا للداخلية — طلبًا يخص الدكتور عكاشة، اعتذر عنه وزير الداخلية.

كان من الطبيعي أن يلفت نظري هذا الكلام في المذكرات التي لم يكن بها أي تفصيل في هذا الموضوع. لكن الذي أثار انتباهي أكثر أنني قرأت حديثًا لشعراوي جمعة في مجلة روزاليوسف — في الوقت نفسه الذي كنت أكتب فيه مقالاتي — ينفي فيه بعض ما جاء في مذكرات ثروت عكاشة.

وبالطبع أدهشني هذا ونوَّهت به في جملة عابرة في مقالي الأول، وكنت حتى تلك اللحظة خالي الذهن تمامًا من حقيقة التوتر الذي كان قائمًا بين ثروت عكاشة وشعراوي جمعة، ومن قضايا تحقيقات المخابرات بعد عام ١٩٦٧م، ويهمني أن أوضح أنني لم ألتقِ بشعراوي جمعة وهو وزير للداخلية أبدًا، وأنني كنت ألتقي به أحيانًا لقاءً عابرًا في شوارع مصر الجديدة، فيعلق على مقالاتي في صحيفة الأهالي مستحسنًا، وذلك في مرحلة الثمانينيات.

لم أدخل التنظيم الطليعي

بمعنًى آخر، لم تتوافر لي علاقة بشعراوي جمعة ولا بأي قطب ناصري عندما كانوا في السلطة، كما أنني لم أدخل في التنظيم الطليعي. ولذلك فإن ما تصوره الدكتور عكاشة من أن إشارتي المقتضبة إلى بعضِ ما لفت نظري في هذه المذكرات هو من تحريض محمود أمين العالم، بإيعاز من شعراوي جمعة رئيسه في التنظيم الطليعي؛ هو محض خيال يعلم الله أن محمود العالم بريء منه تمامًا، وأنني لم أكن على علم بخلفيات هذه الأمور عندما أعددت مقالي للنشر في «الأهالي». لكن الأمور تطورت بعد ذلك، فقد اتصل بي شعراوي جمعة تليفونيًّا بعد ظهور مقالاتي في الأهالي، ورجاني أن أمرَّ عليه في منزله بشارع نزيه خليفة أمام حديقة الميرلاند في مصر الجديدة.

وقد مررت عليه الساعة الثانية ظهرًا — وكنا في شهر رمضان فيما أذكر — وشرح لي شعراوي جمعة وجهة نظره فيما قيل من توتر بينه وبين د. ثروت عكاشة.

وخرجت من منزله وقد اكتشفت مدى جهلي بأشياء عديدة تتعلق بالسلطة في مصر أيام المرحلة الناصرية وما بعدها. ولقد كتبت ما كتبت في مقالات الأهالي دون أن أعلم أي شيء عن هذه القضايا، وإنما نوهت بما لاحظته من تباينات بين كلام وزيرين سابقين كانا يعملان في نظام سياسي واحد، كما نوهت بما بدا لي غامضًا في المذكرات.

وقد انتهى هذا الموضوع كله عندما قام الأستاذان حسين الشافعي وخالد محيي الدين بإقناع الدكتور عكاشة بأن المقالين اللذين نشرتهما الأهالي ليس بهما ما يسيء إليه، وأنني من باب أولى لم أقصد الإساءة إليه من قريب أو بعيد، ولعله اقتنع بحسن نيتي عندما كتبت ما كتبت، وإن كنت أشك في ذلك.

ويهمني اليوم — بمناسبة الاحتفال بتكريم د. عكاشة — أن أقول إنني حملت له طوال حياتي كل التقدير في هذا العمل الفذ الذي قام به كوزير للثقافة، وإنني أرجو له موفور الصحة والمزيد من النشاط الفكري الكبير الذي يخلِّد اسمه ضمن كبار مثقفي مصر والعالم العربي، كما يهمني أن أشكر الدكتورة سعاد الصباح على هذه اللفتة الكريمة التي كان من المفروض أن تبدأ في مصر.