ذكريات من حياتي

مؤسسة هنداوي مؤسسة هنداوي

لقاء مع جيفارا

مرت عشرون عامًا على هذا اللقاء بالثائر الكوبي جيفارا، عندما التقينا بالقاهرة في منزل الصديق إحسان عبد القدوس.

كان جيفارا عائدًا من الجزائر بعد حضوره مؤتمر القارات الثلاث، وطيَّرت وكالات الأنباء أجزاءً من خطابه في المؤتمر، وفيه ينتقد شروط معونة الدول الاشتراكية للدول النامية؛ مما بدا غريبًا علينا، وكانت وجهة نظره فيما يبدو أن الدول الاشتراكية يجب أن تكون أكثر كرمًا وسخاءً في معونتها إذا أريدَ لهذه الدول النامية أن تبني الاشتراكية على أرضها، وكان جيفارا يتكلم كوزير للصناعة في كوبا، عاصر مشكلات البناء الاشتراکي واکتوى بلهيبها.

وعندما دق جرس التليفون في منزلي، وأخبرني إحسان عبد القدوس بدعوتي للعشاء في منزله، وحضوره الحفل الكبير الذي أقامه على شرف الثائر الكوبي جيفارا؛ شعرت بسعادة كبيرة؛ فقد حانت إذن فرصة اللقاء مع هذا الثائر الكبير والنقاش معه.

ولقد دُعي إلى هذا العشاء كثيرون من كبار صحفيي مصر ومثقفيها وفنانيها، أذكر من بينهم «خالد محيي الدين» وزوجته، وأحمد بهاء الدين وزوجته، وأحمد حمروش وزوجته، وموسى صبري وزوجته، ونجمة الشاشة المصرية فاتن حمامة؛ وآخرين كثيرين لا أذكرهم الآن، وإن كنت أتذكر وجود فؤاد الركابي وزير الشئون البلدية العراقي في هذا الحفل الكبير.

وما زلت أذكر حتى الآن أن كثيرًا من السيدات اللاتي حضرن هذا الحفل تجمَّعن حول فاتن حمامة يناقِشْنها في فيلمها الجديد آنذاك «الحرام»، لقصة الكاتب الكبير يوسف إدريس، وفيما أذكر كان لكثير منهن ملاحظات نقدية على الفيلم، وعلى بعض مشاهده، وبعض تقنيات إخراجه، ومع أني لا أتذكر اليوم تفاصيل هذه المناقشات إلا أنني لا زلت أذكر الدفاع الحار لفاتن حمامة عن الفيلم، وسخونة الحوار بينها وبين عدد من سيدات الحفل. وأتذكر أيضًا أنني كنت أحس بحسرة لعدم حضور زوجتي الصحفية عايدة ثابت هذه المناسبة؛ فقد كانت مريضة بمستشفى دار الشفاء تحت ملاحظة الأطباء؛ بسبب متاعب الحمل لابنتنا حنان التي وُلدت بعد هذه المناسبة بخمسة شهور.

بعد العشاء انتقل معظم الرجال إلى غرفة مكتب إحسان، وأبديت لجيفارا رغبتي في إجراء حوار معه حول عدد من القضايا السياسية والاقتصادية، ورحب على الفور بذلك، وهكذا تحلَّق حول هذا النقاش عدد محدود من الأصدقاء المهتمين بهذه القضايا، ينصتون وبعضهم يترجم أو يتدخل في النقاش، مستفسرًا عن جزئية هنا أو هناك.

كان جيفارا يتحدث بالفرنسية التي يجيدها، وكنت أتحدث بالإنجليزية التي أجيدها، وكان السفير الكوبي الذي يجيد اللغتين، وأحيانًا الصديق أحمد بهاء الدين، يتولى الترجمة من الفرنسية إلى الإنجليزية أو العكس.

ولقد استمر النقاش حتى الثانية صباحًا، وفُتحت موضوعات كثيرة وإن لم تقفل كلها برأي نهائي أو باتفاق في وجهات النظر. وكانت القضية الأساسية التي تشغلني آنذاك هي: كيف تستطيع دولة صغيرة ذات موارد محدودة، مثل كوبا، أن تبني الاشتراكية؟ وما هي المصاعب التي تواجهها في البناء الاشتراكي؟ وكيف تواجه كوبا مشاكل الإنتاج والاستهلاك؟ ثم قضية معونات الدول الاشتراكية التي كانت محل نقده في خطابه في مؤتمر القارات الثلاث بالجزائر. وكنت في هذه الأسئلة التي أطرحها أمام جيفارا أتحدث وعيني على مصر، وتساؤلات عديدة تدور في خاطري حول ما يجري في مصر من مشاكل مشابهة؛ في ظل مناخ عام يتحدث عن بناء الاشتراكية بمصر، في مواجهة مصاعب ضخمة خارجية وداخلية، وفي ظل شكوك كثيرة تراودني، وتراود الكثيرين من أمثالي، حول إمكانية تحقيق هذا الهدف العظيم في ظل الظروف السياسية الداخلية وعلاقات القوى الاجتماعية القائمة.

أما القضية الثانية التي كانت تشغلني فهي: موضوع المواجهة بين الإمبريالية الأمريكية وكوبا، التي لا تبعد عن شواطئ أمريكا بأكثر من تسعين ميلًا. صحيح أن المواجهة بين خروشوف وكيندي حول قضية الصواريخ عام ١٩٦٢م؛ انتهت إلى التزام الولايات المتحدة باحترام استقلال كوبا، ولكن إلى متى سوف تحترم أمريكا استقلال كوبا؛ وهي معزولة وسط بلدان أمريكا اللاتينية التي يَدين معظمها بالولاء للولايات المتحدة؟

ولقد استفاض جيفارا في ردوده على كل هذه الأسئلة … وقال فيما يتعلق بقضية التطبيق الاشتراكي لدولة صغيرة مثل كوبا إنها مشكلة حقًّا، وإن مشكلة التطبيق الاشتراكي في دولة مترامية الأطراف، مثل الاتحاد السوفييتي، هي مشكلة خاصة، وتختلف تمامًا عن قضية التطبيق الاشتراكي في دولة نامية صغيرة، مثل كوبا. وقال إنهم في حماسهم للحل الاشتراكي، اندفعوا إلى بناء المصانع وتغيير نمط الزراعة الكوبية، دون تفكير وتخطيط صحيح طويل المدى، وإنهم وضعوا خطتهم الأولى على أساس أن تكون لمشروعات الإنتاج ٧٠٪ ولمشروعات الخدمات ٣٠٪ من الاستثمارات، وبعد ثلاث سنوات اكتشفوا أنهم نفذوا ٧٠٪ من مشروعات الخدمات و٣٠٪ من مشروعات الإنتاج، وقال جيفارا إن تلك مشكلة كبيرة لشعوب الدول النامية التي في أمسِّ الحاجة إلى الخدمات بعد حرمان طويل.

وقال جيفارا إنهم كانوا يحاكون تجربة تشيكوسلوفاكيا في بناء الاشتراكية. وعندما سئل: لماذا تشيكوسلوفاكيا بالذات؟ قال إنه ليس هناك سبب محدد سوى أن هذا البلد أرسل لنا تفصيلات عن تجربته، وكنا في لهفة على العمل الجاد، فبدأنا نعمل دون تخطيط سليم، ثم أخذنا بعد سنوات نصحح أخطاءنا. وقال جيفارا إن العالم الرأسمالي قد تغير كثيرًا عما كان عليه الوضع أيام ماركس، وإن ماركس على أي حال لم يضع حلولًا لقضايا التطبيق الاشتراكي، فإذا كان العالم قد تغير كثيرًا عن أيام ماركس، فلا بد من إعادة النظر في مقولات ماركسية عديدة؛ وخاصة فيما يتعلق بقضية التطبيق الاشتراكي للدول النامية والصغيرة. وقال إن الدول الاشتراكية الأوروبية التي بنت الاشتراكية بعد الحرب العالمية الثانية؛ قد حذَتْ حَذو النموذج السوفييتي، ولم يكن لدى أحد الشجاعة الكافية ليناقش ويعارض على أساس عدم الملاءمة.

وكان مِن رأي جيفارا أنه لا بد من إعادة النظر في مفهوم الربح في النظام الاشتراكي، وفكرة الحافز، وعديد من المفاهيم الأخرى. وقال إنه لا يزعم أن لديه حلولًا للمشاكل والأسئلة التي يثيرها، وإن كان يريد أن يقول إنه لا بد من دراسة عميقة تواجه مشاكل التطبيق الاشتراكي في الدول المتخلفة. ولقد عاب جيفارا على الدول الاشتراكية المتطورة علاقاتها التجارية مع الدول النامية، والتي تقوم على أساس الأسعار الدولية في السوق الرأسمالية، في شراء المواد الخام.

أما فيما يتعلق بمستقبل العلاقات بين كوبا وأمريكا، على ضوء عزلة كوبا في محيطها بأمريكا اللاتينية، فقد بدا جيفارا غير متحمس لمناقشة هذه القضية بمثل حماسه في الإجابة على أسئلتنا عن التطبيق الاشتراكي. وقال كلامًا عامًّا مقتضبًا؛ الأمر الذي أثار دهشتي آنذاك.

ولكن عندما أذيعت أنباء مصرع جيفارا في بوليفيا في معارك حرب العصابات هناك عام ١٩٦٧م، وعندما وصلتني نسخة من كتاب «ثورة في الثورة» لريجي دوبريه، أخذت أتساءل بيني وبين نفسي إن كان جيفارا عند لقائنا في منزل إحسان عبد القدوس كان قد وصل إلى قناعات بترك كوبا والذهاب إلى بوليفيا لقيادة حرب العصابات هناك، وأن هذا هو طريق تأمين التجربة الاشتراكية في كوبا، وما إذا كان هذا الاقتضاب في الإجابة على أسئلتي شيئًا مقصودًا، بل وما إذا كانت الظروف الخاصة جدًّا التي أحاطت بنجاح ثورة كوبا قد جنَتْ على فكر هذا الثائر الرومانسي الكبير، وأغرته بمحاكاة هذه التجربة في الثورة في ظروف بلدان لاتينية أخرى تختلف عن ظروف كوبا الخاصة.

وأخيرًا ملحوظة خاصة:

فقد يتساءل بعض القرَّاء كيف استطاعت ذاكرتي أن تستوعب كل تفاصيل هذا اللقاء بعد عشرين عامًا من وقوعه، ولهؤلاء القراء أجيب على هذا السؤال المشروع بأن ذاكرتي لا تزال قويةً نسبيًّا فيما يتعلق بالأحداث الهامة التي عشتها، فضلًا عن أنني استعنت بمقال ممتاز للأستاذ موسى صبري — نعم الأستاذ موسى صبري — كان قد كتبه في عدد ۱۷ مارس ١٩٦٥م من مجلة آخر ساعة عن هذا اللقاء، الذي كان أحد حضوره.