ذكريات من حياتي

مؤسسة هنداوي مؤسسة هنداوي

العودة

بعد أيام من وصول خطابها الأخير، وبالتحديد في ٣ أبريل سنة ١٩٦٤م، تم ترحيلي مع آخرين من زملائي إلى السجن الحربي بالقاهرة … نُقلنا بالسيارات إلى سجن أسيوط، حيث بقينا في فنائه عدة ساعات، وفي مساء نفس اليوم أُقلِلْنا بالقطار إلى محطة الجيزة، حيث وصلناها الساعة السابعة من صباح يوم ٤ أبريل. ومن محطة الجيزة نقلتنا سيارات وزارة الداخلية إلى السجن الحربي.

خلال ساعات الليل التي قضيناها في قطار أسيوط-الجيزة، حاولت أن أنام وفشلت؛ من طول الإرهاق وشدة الانفعال … ها أنا ذا أعود مرةً أخرى إلى زوجتي وأولادي وأهلي وشعب مصر، ها أنا ذا أعود من جديد إلى أرض الوطن!

لكأنما كنت منفيًّا خارج البلاد، رغم أني أعلم علم اليقين أن أرض الواحات الخارجة هي جزء لا يتجزأ من أرض الوطن … لعل هذا يثبت مرةً بعد مرة أن الوطن ليس هو الرمال والشجر والأرصفة والمباني، وإنما هو الناس … الفلاحون والعمال والطلاب والمثقفون والجنود وكل من يضع لَبِنةً في حاضر مصر ومستقبلها!

ها أنا ذا أعود من جديد فأشرب من ماء النيل بعد أن حُرمت منه سنوات، وأمتع عيني بخضرة الوادي وحقوله السندسية، أمتع أذني بأصوات أولاد البلد وضحكاتهم.

أحسست في القطار بمشاعر شديدة الشبه بمشاعري يوم عودتي من البعثة عام ١٩٥٢م، لحظة اقتراب السفينة من شاطئ بورسعيد، لم أكن أعرف واحدًا من المنتظرين على الشاطئ، ولكني كنت تواقًا إلى احتضانهم جميعًا كأنما هم جميعًا أهلي وإخوتي، وعندما نزلت إلى الشاطئ وقابلني أول حمَّال، ابتسمت في وجهه ابتسامة عريضة وشددت على يده مرحِّبًا؛ كأنما يعرف بعضنا بعض منذ زمان طويل. وأغلب الظن أنه نظر إليَّ في دهشة؛ لا يفهم لهذه التحية الحارة سببًا!

حاولت إذن أن أنام فلم أفلح، فشغلت نفسي بنظم قصيدة بالعامية تعبر عن مشاعر هذه اللحظة. ودخلنا السجن الحربي حوالي الساعة التاسعة صباحًا. ألقيت نظرة على فناء السجن … سجن ككل سجون الدنيا، يبدو عاديًّا في مظهره، مع أننا كنا نسمع طوال السنوات الخمس عن التعذيب الذي يجري في داخله ما يقشعر له البدن. ورأيت كلبين في فناء السجن يتسكَّعان في تكاسل؛ من قلة العمل فيما يبدو!

كانت ابتسامات ضباط المباحث العامة في انتظارنا، وشيء غير قليل من الأدب واللياقة في المعاملة … قالوا لنا إننا سوف نكون في بيوتنا بعد ثلاث ساعات، عندما ينتهون من ملء استمارات البيانات اللازمة وتصوير كل واحد منا!

وسألت ضابطًا لا أعرف اسمه — وإن بدا أنه يعرف اسمي — إن كان في استطاعتي أن أتحدث مع إخوتي تليفونيًّا لأخبرهم أنني بالقاهرة وأنني سأكون معهم بعد ساعات، فرحَّب بطلبي على الفور. وكانت الصعوبة الأولى أن أتذكر أرقام تليفونات منازل إخوتي بعد هذه الغيبة الطويلة، ولكني تذكرت رقم تليفون شقيقتي فاطمة في العباسية، وأدَرْت القرص فلم أجد ردًّا، وضحك الضابط قائلًا إن أرقام تليفونات العباسية قد تغيرت خلال هذه السنوات. حاولت أن أتصل بشقيقتي فتحية في الدقي، وجاد صوت زوجها واضحًا يسأل: من المتكلم؟ وعندما أجبت صرخ الشيخ الكهل — كأنما مسَّته صاعقة — مناديًا على شقيقتي. وجرت إلى التليفون وهي تصرخ وتضحك وتزغرد وتبكي في آنٍ واحدٍ، لا تريد أن تصدق. كان من الضروري أن أضبط عواطفي وأن أطلب منها بسرعة أن تتصل بعايدة، وأن تعرف العائلة أنني سأذهب إلى منزل شقيقتي فاطمة في العباسية، وأن عليهم أن ينتظروني هناك. ولم أعطها فرصة أكثر من ذلك، ووضعت السماعة خوفًا على نفسي من الانفعال!

ولا أعرف ما حدث بالضبط بين إخوتي بعد هذه المكالمة، ولكني علمت بعد ذلك أن وفدًا من العائلة ظل ينتظرني أمام الباب الأمامي للسجن الحربي من العاشرة صباحًا حتى الخامسة بعد ظهر ذلك اليوم!

أما أنا فقد فُتح لي — ولثلاثة من زملائي — الباب الخلفي للسجن الحربي في الساعة الرابعة بعد الظهر تمامًا، وقيل لنا انصرفوا!

وخرجت إلى دنيا الحرية … على جسدي سترة قديمة كانت مُلقاة في مخازن سجن الواحات سنوات، وفي يدي كيس ممزق من القماش به حاجيات الحلاقة ومعجون وفرشاة أسنان وغيار داخلي وكتاب عن موسيقى الشعر وآخر في المنطق وبعض أبحاثي القديمة في الرياضيات، وفي جيبي ورقة بخمسة جنيهات، هي كل ما أملكه في هذه الدنيا.

ومن السجن الحربي دلفت في دقيقة إلى طريق صلاح سالم … شارع واسع لا أعرف عنه شيئًا؛ لأنه أُنشئ خلال غيابنا. أين أنا بالضبط في القاهرة؟ لم أكن أدري … حاولت أن أوقف تاكسي فلم أفلح … وعندما جاء أول أتوبيس ركبت وليس في ذهني أية فكرة إلى أين يذهب! سألت الكمساري: إلى أين يذهب هذا الأوتوبيس؟ فنظر إليَّ شذرًا — وكأنني من أهل الكهف — وقال: أين تريد أن تذهب؟ قلت العباسية، فأجاب: نحن في العباسية! … أعطيته الورقة ذات الجنيهات الخمسة، فنظر إليَّ في امتعاض وقال: مافيش فكة، قلت: ليس في جيبي مليم آخر، وبدا عليه الضيق، وفي عينيه تساؤل كأنما يقول لنفسه: من أين هؤلاء الناس؟ آهٍ لو يعرف!

وتركني يائسًا … ووجدت بعد ثلاث محطات أنني عند باب كلية الهندسة جامعة عين شمس، نعم، هذا مكان أعرفه ويعرفني؛ لأنني قمت بالتدريس فيه منذ سنوات. وقفزت من الأوتوبيس في عجلة، وركبت أول تاكسي صادفته، وأعطيت السائق العنوان، وبدا على السائق الدهشة … فالمسافة صغيرة لا تستحق ركوب تاکسي، ولكني أصررت.

وعندما ارتقيت درجات العمارة — متجاهلًا المصعد — في سرعة، وضغطت على جرس الشقة، لم يكن فيها غير شقيقتي وابنة عمي وأمها. أما الباقون فقد كانوا هناك … عند الباب الأمامي للسجن الحربي ينتظرون! كانت شقيقتي تنتظر عودة صبي المكوجي بالفساتين التي أرسلتها للكي في هذه المناسبة، وذهبت ابنة عمي تفتح الباب في تثاقل للمكوجي الصغير، فوجدتني أمامها، وإذا بها تقع على الأرض مغشيًّا عليها!

ثمة لحظات شديدة القسوة من شدة الانفعال في حياة كل إنسان، وتلك كانت إحدى هذه اللحظات في حياتي. لست أذكر ماذا فعلت بالضبط ولا ماذا فعلوا وقالوا لي، ولكني ما زلت أذكر أنني ظللت لدقائق أسمع أصواتًا غامضة متضاربة متناقضة كأنني في حلم رهيب، لا أفسر منها شيئًا!

وعندما هدأ كل شيء عرفت أن عايدة ثابت بالإسكندرية في زيارة لخالها، وأن أولادي أيضًا خارج القاهرة.

لكنها عادت في المساء، وكان لقاء … وأي لقاء!