ذكريات من حياتي

مؤسسة هنداوي مؤسسة هنداوي

حوار مع الدكتور عبد العظيم أنيس

ضم الدكتور عبد العظيم أنيس هذا الحوار إلى كتابه؛ فهو يتضمن رأيه في اليسار، ويعتز بهذا الرأي، وأراد أن يكون في خاتمة الكتاب.

هناك لحظات في التاريخ تتميز بخلط الأوراق وافتقاد الرؤية، وتسود فيها العملة الرديئة، التي تطرد العملة الجيدة من التعامل. ومثل هذه اللحظات تحتاج إلى العين الثاقبة التي تفرز الغثَّ من الثمين، وتحدد اتجاه البوصلة، وتقيم حقيقة الأدوار التي تطفو فوق السطح وتتسيد المشهد، ولعل الواقع المصري في لحظته الهشة الراهنة — وبخاصة في الثقافة والسياسة — هو أكبر مثال على هذا الخلط. ولعل هذا أيضًا هو ما دفعنا للحديث مع الدكتور عبد العظيم أنيس؛ فهو من العيون الثاقبة في وطن تحاصره الغشاوة. والدكتور أنيس غني عن التعريف؛ فهو من أكبر مفكري اليسار المصري اتساقًا مع النفس. وذات يوم قال الدكتور جلال أمين إن لفظ مثقف لا ينطبق بحق إلا على قليل، منهم عبد العظيم أنيس، ليس لأنه عالم للرياضيات ولا لأنه كاتب وناقد للأدب والفكر، ولكن لأنه مهموم طوال الوقت بقضايا وطنه وأمته …

وفي هذا الحوار يرفض الدكتور أنيس أن نطلق لفظ «مثقف» على كثيرين يمتلكون معرفة عالية جدًّا، ولكنهم يمشون بجوار الحائط. في الحوار أيضًا قضايا عديدة حول الأزمة الثقافية الراهنة، ومؤتمر المثقفين المزمع عقده، وعلاقة عبد الناصر باليسار المصري، وقصة انسحاب الدكتور أنيس فجأةً من الكتابة في جريدة «الوفد»، وغيرها من القضايا … لكننا آثرنا أن نبدأ بمعرفة رأيه فيما رواه الدكتور رفعت السعيد الأمين العام للتجمع بخصوص د. أنيس في كتابه «مجرد ذكريات»، الذي صدر أخيرًا، وفيه يروي أن «بريماكوف»، المراسل السابق لجريدة «برافدا» السوفييتية، اتصل به هو والأستاذ خالد محيي الدين موفَدًا من القيادة السوفييتية، وطلب منهما أن يرفض حزب التجمع الموافقة على الاتفاق الأردني الفلسطيني عام ١٩٨٤م؛ حيث إن هذا الرفض الذي كان مطلبًا للقيادة السوفييتية هو ما فعلته جميع الأحزاب اليسارية العربية، وكان الاتفاق يقضي بضم جزء من فلسطين المحتلة إلى الأردن في دولة واحدة … وكان د. رفعت السعيد وأ. خالد محيي الدين قد قررا قبول الاتفاق لإبلاغ السوفييت رسالة بأن التجمع لا يتلقى الأوامر منهم، إلا أن الدكتور أنيس — حسب رواية د. رفعت — قاد فريق المعارضة للاتفاق في اللجنة المركزية للتجمع؛ بحجة أن جميع الأحزاب اليسارية العربية قد رفضته …

سألنا الدكتور أنيس: ما حقيقة القصة؟

فقال: أولًا هو حكى قصة غريبة جدًّا حول لقائه هو وخالد محيي الدين مع بريماكوف، هذه القصة لم أسمع بها نهائيًّا، وقال إن الحجة التي استخدمتها في رفض هذا الاتفاق هي أن الأحزاب العربية اليسارية أخذت موقفًا من الاتفاق، فلماذا لا نأخذ نحن نفس الموقف؟ وهذا غير صحيح؛ لأن هذه الحجة لم أستخدمها إلا في آخر الكلام. وأحب أن أوضح في البداية عدة نقاط: أولًا هو يدعي أنني قدت الحملة في اللجنة المركزية، ولعلمك أنا عمري ما دخلت قيادة التجمع أبدًا؛ لأني عندما أنشئ التجمع كنت أعمل في المعهد العربي للتخطيط بالكويت، ورجعت إلى مصر في ٣١ أغسطس ١٩٨١م، أي قبل اعتقالات السادات بثلاثة أيام، وعلى هذا الأساس لم أكن في القيادة. وحين وصلت فاتحني بعض الأصدقاء أن أدخل قيادة التجمع، قلت لهم لا … أنا مستعد للمساعدة فقط، وحين أشارك في القيادة أشارك من هذه المنطقة، حيث وجدت أن الموقف الذي حدث، واعتقال الناس، يستدعي أن أشارك، وشاركت فعلًا بكل قوة في اللجنة السياسية دون أن أكون عضوًا.

هذا معناه أنك لم توقع استمارة عضوية؟

لم يحدث أبدًا أن وقَّعت استمارة عضوية، وكان لي وأنا في الكويت تحفظات على التجمع، لكن الوضع الجديد الخاص باعتقالات الناس جعل من واجبي أن أشارك، وظلت هذه المشاركة إلى أن حدث المؤتمر العام سنة ١٩٨٤م، والذي كانت فيه واقعة الاتفاق الأردني الفلسطيني أو الخيار الأردني الفلسطيني، وفوجئت أن جدول أعمال المؤتمر لا يتضمن إدخال الاتفاق فيه لمناقشته، فطالبت بوضعه في جدول الأعمال. قالوا لا بد أن يكون هناك عدد معين من الأعضاء يطالبون بهذا المطلب، فجمعنا توقيعات ۱۲۰ عضوًا من أعضاء المؤتمر، فاضطروا لمناقشته، وكنت أنا شديد الانتقاد لعرفات والقيادة الفلسطينية في ذلك الوقت، وشرحت الموقف والأسس المبدئية والسياسية التي أدعو فيها لرفض الاتفاق.

وما هذه الأسس؟

كان الاتفاق بين عرفات والحكومة الأردنية يقوم على أساس أنه يمكن أن تنشأ، كحل للقضية الفلسطينية، دولة واحدة تضم جزءًا من فلسطين والأردن، وهذا معناه أن قضية تقرير المصير للشعب الفلسطيني، وإقامة دولة فلسطينية، تكون قد انتهت، ونعود للوضع القديم الذي كانت فيه الضفة الغربية تابعة للأردن، واستمر الكلام في المؤتمر في الصباح، وكلمتي استُقبلت استقبالًا حافلًا، إلى أن رُفعت الجلسة للغداء، وفوجئت بأن جاءني الدكتور إبراهيم سعد الدين وقال لي: إن خالد محيي الدين يقول إذا صوتت الأغلبية لصالح وجهة نظرك، فإنه سيستقيل من رئاسة التجمع، ويقترح أن تُعيَّن بدلًا منه. قلت له أنا غير مستعد إطلاقًا لذلك، وإذا كان هذا أسلوب للضغط لكي نسحب القرار، فنحن لا نستطيع الآن أن نفعل ذلك. وعندما جاء وقت التصويت على القرار، لاحظت حركة غريبة من الأعضاء المتعاطفين مع وجهة نظري، ويبدو أن مسألة تهديد خالد بالاستقالة أخافتهم؛ فبدءوا الاتصال بزملائهم وإعطاءهم تعليمات لكي يصوتوا ضد القرار، أي يصوتوا ضد رفض الاتفاق؛ حتى لا يأخذ القرار أغلبية في المؤتمر. وتم هذا فعلًا، وفوجئت بورقة أخرى وقَّع عليها ٥٠ عضوًا من أعضاء التجمع بترشيح الدكتور عبد العظيم أنيس للمشاركة في القيادة، ووقف خالد محيي الدين وقال نحن نناشد الدكتور عبد العظيم! قلت أنا معتذر ولا أريد أن أدخل في القيادة لأني غير مستعد. وفعلًا تمت الانتخابات دون أن أكون موجودًا فيها.

لماذا لم تدخل في القيادة؟

لأني لم أشعر بأي جدية في هذه القيادة، وكنت أعتبر أن وجهة نظري التي شرحتها بخصوص الاتفاق قضية أساسية، لكن الاتصالات الجانبية التي حدثت خوفًا من التهديد بالاستقالة غيَّرت القرار، ثم إنني لم أقل إن الأحزاب العربية اليسارية كلها رفضت الاتفاق إلا في آخر الكلام، أي بعد شرح وجهة النظر المبدئية والسياسية.

إذا لم يكن السبب لموافقة قيادة التجمع على الاتفاق هو إعطاء درس للسوفييت، كما يقول الدكتور رفعت، فما السبب الحقيقي إذن؟

السبب الحقيقي هو ما قيل في المؤتمر فعلًا. قالوا: إحنا مع القيادة الفلسطينية، وما توافق عليه نوافق عليه. وأنا كان مع رأيي أن هذه ليست قضية خاصة بأندونيسيا، فالصراع العربي الإسرائيلي يخص العرب جميعًا وليس القيادة الفلسطينية فقط، ويهمنا جميعًا، ونحن في مصر دخلنا في حروب مع إسرائيل وقدمنا شهداء؛ وبالتالي فمستقبلنا مرتبط بهذا الصراع، وعلى هذا الأساس فلا نستطيع أن نسلم رقبتنا للقيادة الفلسطينية؛ إذا وافقت على شيء لا بد أن نوافق!

هل كانت هناك مواقف مماثلة اتخذتها القيادة؟

مثلا اتفاق أوسلو لم يعارضوه، بينما عارضته كل أحزاب المعارضة المصرية والعربية، وعارضه الشعب الفلسطيني نفسه، بينما لم يأخذوا موقفًا واضحًا في هذا الموضوع. أكثر من ذلك، كلما كتبت مقالًا في «الأهالي» عن القضية الفلسطينية أيام حسين عبد الرازق، وكان متعاطفًا معي، كان عرفات يحتج على المقال عند خالد محيي الدين، وكان حساسًا أكثر من اللازم. لكنهم في موضوع كوبنهاجن لم يستطيعوا أن يأخذوا موقفًا مؤيدًا، وجدوا أن المسألة ستكون فجة، وتركوا لطفي الخولي يتصرف براحته، وكان ينتظر تأييد القيادة، لكنها لم تؤيده؛ فاستقال، لكنهم في نفس الوقت لم يكن موقفهم من مسألة كوبنهاجن بالقوة الواجبة. وفي كل الأحوال، فقد كنت أشعر أن قيادة التجمع منذ المؤتمر الذي ذكرناه إلى الآن أنها هي ومنظمة التحرير جبهة واحدة، لا يختلفان في أي شيء … وجاء وقت أنه من الأفضل ألا أكون موجودًا في التجمع، فقاطعت اجتماعاته، لكنني لم أكتب استقالةً لأنني لم أكن عضوًا فيه أصلًا.

هذا معناه أنك لم تلتقِ مع بريماكوف ولم يتصل بك؟

عمري ما شوفت بريماكوف ولا أعرفه خالص، حتى عندما كان مراسلًا لجريدة برافدا في مصر لم ألتقِ به، وإذا كانوا يقولون إنهم اتخذوا هذا الموقف لكي يكون رسالة للسوفييت؛ مضمونها أنهم لا يسمعون كلامهم؛ فالموضوع لا يمكن حسابه بهذه الطريقة، فإذا كان هناك خطأ في الموقف الروسي كان يجب كشف هذا الخطأ، وهل إذا اتخذوا موقفًا ضد الاتفاق سيكون هذا معناه أنهم مع السوفييت؟ الناصريون مثلًا كانوا ضد الاتفاق، فهل هذا معناه أنه مع السوفييت؟ أنا رأيي أن المواقف السياسية لا ينبغي أن تؤخذ على هذا الأساس؛ فالمواقف الصحيحة تؤخذ على أسس مبدئية محترمة، بصرف النظر عن أنها مع السوفييت أم لا … ببساطة: الاتفاق الأردني الفلسطيني كان معناه في وقتها إلغاء حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني وإقامة دولته المستقلة؛ فرفضته.

لاحظ الناس أنك بدأت تكتب مقالًا أسبوعيًّا في «الوفد»، وبعد مدة قليلة امتنعت فجأةً عن الكتابة، فلماذا؟

أنا لم أسعَ للكتابة في الوفد، وإنما هم الذين سعوا لأكتب عندهم. وكان ذلك في إطار تغيير شكل الصحيفة بعد الانتخابات الأخيرة، فقد استقروا لاستكتاب عدد من الكتاب من خارج الوفد يمثلون اليمين واليسار والوسط. وفوجئت باتصال رئيس التحرير بي وقال لي وقَع عليك الاختيار كممثل لليسار، ونريدك أن تكتب مقالًا أسبوعيًّا كل يوم سبت، فطلبت منه مهلة للتفكير ثم وافقت، وكتبت المقال الأول عن ذكرياتي مع التيار اليساري في الوفد والطليعة الوفدية. فأنا نشأت في عائلة وفدية، وكان أخي إبراهيم شاعرًا، وكان يخطب أمام سعد زغلول، المهم كانوا سعداء بهذا المقال باعتباره مقالًا عن ذكريات جميلة، وأرسلت المقال الثاني فنشروه في موعده، وفي المقال الثالث فوجئت أنهم لم ينشروه، وظهر مكانه مقال عن مسلسل «أوان الورد» لصافيناز كاظم، اتصلت برئيس التحرير في المكتب وفي البيت وعلى المحمول، فتهرَّب مني لمدة ٤ أيام.

ما موضوع المقال، ولماذا لم يُنشر؟

كان عن حقيقة أوضاعنا الاقتصادية، وأنا دائمًا في مقالاتي أقسمها إلى موضوع رئيسي وموضوع جانبي؛ الموضوع الرئيسي كان عن حقيقة أوضاعنا الاقتصادية، والجزء الجانبي كان عن عودة المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية. وكنت بالطبع ضد عودة المفاوضات؛ لأن عودتها لا تخدم سوى كلينتون، الذي يريد قبل خروجه من البيت الأبيض أن يفعل شيئًا يُكتب له في التاريخ بعد فضيحة مونيكا، ويريد أن يحصل على جائزة نوبل، ومفهوم أيضًا موقف باراك الذي يدخل انتخابات جديدة، ويريد أن يظهر بمظهر رجل سلام، وقلت إن هناك إجماعًا من جميع القوى الوطنية والإسلامية، بما في ذلك منظمة فتح، ضد عودة المفاوضات، وداعين لإضراب عام لترك هذه المفاوضات. وقلت إن ما لم أفهمه هو موقف عرفات والحكام العرب الذين يساندونه، وأظن أن هذا هو السبب في عدم نشر المقال.

لكن المقال نُشر بعد ذلك، فلماذا تظن هذا الظن؟

المقال نُشر بعد موعده بأسبوع، وبعد أن اتصل بهم عدد من الناس وسألوهم لماذا لم يظهر مقالي، ونشْر المقال بعد أسبوع من موعده أفقده قيمته؛ لأن الأحداث سارت في مسار آخر، وأصبح مثل الكلام البايت، وأنا أخمن أن السبب في عدم نشره هو الجزء الخاص بالمفاوضات؛ لأنهم ينشرون كلامًا كثيرًا عن المشاكل الاقتصادية، لكن يبدو أن الكلام في القضية الفلسطينية يتعاملون معه بحساسية؛ فهناك تصريح لنعمان جمعة قال فيه نحن لا نزايد على الرئيس مبارك في موضوع فلسطين. بعد ذلك اتصل بي رئيس التحرير وبرَّر عدم اتصاله السابق بكثرة مشاغله في الجريدة، وقال إن عدد الكتَّاب كبير، لهذا سوف يجعلون الناس تكتب كل أسبوعين، فاعتذرت.

ننتقل من السياسة إلى الثقافة، وهناك طبعًا الأزمة التي وقعت في وزارة الثقافة؛ بسبب الروايات التي تتضمن مشاهد جنسية، وعزل علي أبو شادي من رئاسة هيئة قصور الثقافة، واعتراض المثقفين … ما رأيك؟

نحن أصدرنا بيانًا عندما وقع عزل علي أبو شادي وكشيك وأبو العلا، واعتبرنا أن هذا بمثابة عمل هجومي ضد تيار متقدم داخل وزارة الثقافة؛ من أجل القضاء عليه نهائيًّا، وأن الوزير بهذا العمل يحاول أن يلبس عمامة شيخ الأزهر. وكان عدد كبير من المثقفين قد اتصلوا بي وقالوا: إن لديهم بيانًا يتضمن هذه الأمور، وطلبوا توقيعي قلت أوقِّع، ونحن رفضنا التعامل مع وزارة الثقافة؛ خصوصًا في موضوع المشاركة في أنشطة معرض الكتاب.

ما رأيك فيما قيل عن الروايات؟

أنا لم أقرأها، ولكن قيل: إنها تتضمن تلميحات جنسية، ومع ذلك فالأدب له قواعد وأصول تختلف عن الكتابة الأخرى، فإذا كانت هناك مثل هذه التلميحات، فينبغي أن يُنظر للموضوع بمنظور الإبداع الفني وليس بمنظور الإثارة الجنسية، ثانيًا هناك قصص وروايات كثيرة فيها مثل هذه الأشياء، مثل قصص إحسان عبد القدوس وغيره، لدرجة أن أحد الناشرين لقصص إحسان قام بتغييرات فيها وحذف المشاهد الجنسية، فرفع ابنه قضية ضد الناشر؛ لأنه ليس من حقه أن يغيِّر فيها. وقصص نجيب محفوظ الأولى فيها تلميحات جنسية. والحقيقة أن هناك تقييمات مختلفة للروايات التي أثارت الأزمة، على سبيل المثال كتب إدوار الخراط مقالًا عن رواية «قبل وبعد» في «أخبار الأدب» طلَّعها السما، وإدوار الخراط ليس أديبًا بسيطًا. في العدد الأخير من «العربي» كتب فتحي عامر أن الروايات تافهة، لكنه قال إنه غير موافق على المصادرة، يعني هناك تقييمات مختلفة، لذلك فأنا رأيي أن عملية المصادرة عملية خطرة جدًّا، مهما كان فيها من تلميحات جنسية؛ لأن الرواية لا يُطبع منها أكثر من ٣ آلاف نسخة، ولا يقرؤها أكثر من ٣٠٠ أو ٥٠٠ من ٦٥ مليونًا، وإذا كان هناك خطأ فلا شك من ضرورة إصلاحه؛ بأن تكون هناك لجان قراءة محايدة وممثلة لكل الاتجاهات الفنية، ثم لماذا كان الوزير ساكتًا كل هذا الوقت على موضوع لجان القراءة، ويأتي بعد ذلك ليقول: إنه كان معتمدًا على علي أبو شادي لكي يكون رقيبًا على الإبداع؟! رأيي أن الحل ليس في إقصاء هذه القيادات التي تمثل اتجاهًا متقدمًا في الوزارة.

هل تعتقد أن السبب الرئيسي لتصفية هذه القيادات هو موضوع الروايات فقط؟

من الواضح أن الوزير وقع في حالة فزع عندما تقدم بعض رموز الإخوان في مجلس الشعب بطلب الإحاطة، وكان قد سبق أن هوجم في موضوعات كثيرة جعلته يشعر أن على رأسه ۱۰۰ بطحة؛ منها موضوع الآثار، وموضوع احتفاله بالألفية وإنفاقه الملايين عليها. ومعروف أنه كلف بها ميشيل جار، وأنا مؤيد لنقد الوزير في هذا الموضوع.

ما رأيك في أن تقيم وزارة الثقافة مؤتمرًا للمثقفين دُعي إليه الأستاذ محمود أمين العالم كما يقول الوزير؟ بالمناسبة ما رأيك أيضًا في مشاركة الأستاذ العالم في أنشطة الوزارة؟

الأستاذ العالم له وجهة نظر وحدها تمامًا في هذه المشاركة، حتى لو لم نكن نتفق معه حول موضوع تعاونه مع وزارة الثقافة، أظن أنه يعبر عن هذا الموضوع بقوله: إنه يتعامل مع الدولة المصرية، وأنا لا أرى فرقًا بين الدولة المصرية ونظام الحكم، وأنا طبعًا أحترم رأيه، لكن لي موقف مختلف في هذا الموضوع، فهو يرأس لجنة الفلسفة في المجلس الأعلى للثقافة، وأنا لم أقبل نهائيًّا أن أدخل لجنة الثقافة العلمية في المجلس واعتذرت.

وماذا عن مؤتمر المثقفين؟

مؤتمر المثقفين خطر من الأساس أن تتبناه وزارة الثقافة، أنا لا أعترض على مؤتمر للمثقفين، ولكن اعتراضي على تبنِّي وزارة الثقافة له، ووزارة الثقافة هيئة حكومية، وعلى هذا الأساس فالمؤتمر معرَّض لأن يكون ركيزة لدعم النظام؛ لأن المثقف ما هو؟ المثقف ليس المتخصص في علم من العلوم مثل الكيمياء أو التاريخ، المثقف هو الإنسان المهموم بشئون البلد ولديه الثقافة العامة، وليست كل الناس التي لديها معرفة أو تخصُّص مهمومةً بشئون البلد، وهناك كثيرون لديهم معارف واسعة، ولكنهم يسيرون بجوار الحائط؛ لهذا فهؤلاء غير مثقفين، والمثقف لا بد أن يكون مستقلًّا عن الدولة ونظام الحكم؛ لكي يكون مثقفًا بالمعنى الحقيقي.

إذن ما تصورك لمؤتمر المثقفين البديل؟

مؤتمر المثقفين يجب أن تنظمه هيئة شعبية مستقلة عن وزارة الثقافة وممثلة لكل الاتجاهات الفكرية والثقافية المختلفة، يعني لا بد أن يكون فيه الناصريون واليساريون والليبراليون والاتجاهات الدينية المستنيرة والقوى الوطنية، على أن يكون مؤتمرًا للمثقفين المصريين والعرب، وتوجد فيه كل القوى الوطنية التي ترى أهمية التصدي لإسرائيل، أما فكرة أن يحتضن وزير الثقافة هذا المؤتمر، فسوف يتحول إلى تأييد للنظام، وهذا غير المطلوب طبعًا. إذن لا بد من وجود لجنة شعبية مستقلة للقيام بهذا المؤتمر، ثم يأتي بعد ذلك مؤتمر للثقافة العربية يشارك فيه المثقفون العرب؛ لأن الثقافة بمعناها العميق مفروض أن تكون أساسًا لكل العمل الوطني، وأنا رأيي أن النقطة الأساسية في مؤتمر مستقل للمثقفين؛ هي التأكيد على هويتنا القومية كعرب ومناضلين ضد الإمبريالية وضد إسرائيل والصهيونية، وسوف يكون لهذا المؤتمر مهمة أساسية؛ وهي تشجيع قوًى أخرى حينما يرون تحرك المثقفين فيتحركون؛ لأن من أكبر المشكلات التي نعيش فيها هي إصرار النظام على أن يحكم بالأحكام العرفية منذ عام ١٩٨١م حتى الآن، وليس صحيحًا أن قانون الطوارئ لا يطبَّق إلا على تجار المخدرات، والدليل ما حدث لطلاب الأزهر، وإصرار النظام على الحكم بالأحكام العرفية يأتي من شعوره أنه لا يستطيع أن يحكم إلا بالبطش؛ ولهذا فهناك قوًى كثيرة مترددة، وعندما يتحرك المثقفون من خلال مؤتمرهم سوف يتحركون.

لكن هناك أزمة في المثقفين أنفسهم؟

الأزمة سببها افتقاد الحرية، فالمثقفون غير قادرين على التجمع في ظل الأوضاع الحالية، ولعل فكرة الدعوة لمؤتمر المثقفين المستقل أن تكون بداية للخروج من هذا المأزق، هناك مشكلة أخرى؛ وهي أنه ليس كل المثقفين مستعدين للدخول في مخاطر العمل الوطني.

ما قصة رئاستك لدار الكاتب العربي التي أصبح اسمها الآن الهيئة المصرية للكتاب؟

أنا كنت رئيسًا لدار الكاتب من نوفمبر ١٩٦٧م ولمدة عام، وبدأ هذا الموضوع عندما تلقيت مكالمة من وزير الثقافة ثروت عكاشة، وكنت ألقي محاضرة على طلابي في الجامعة، ودخل عليَّ فراش أثناء المحاضرة وقال لي وزير الثقافة على التليفون، قلت له سأكلمه بعد انتهاء المحاضرة، وكلمته، فقال لي أريدك أن تأتي إلى الوزارة اليوم الساعة الثانية؛ للحديث في موضوع مهم، وعندما تأتي ستعرفه. وذهبت في الموعد فقال أنا كنت عند الرئيس عبد الناصر، وكنا نتكلم في تعيينات في وزارة الثقافة، وكان يرأس الدار في هذا الوقت محمود أمين العالم، وكان علي الراعي يرأس مؤسسة المسرح، فحدث خلاف بينه وبين الوزير، وخرج علي الراعي من مؤسسة المسرح، ونقلوا العالم من دار الكاتب العربي إليها، ويبدو أنهم سألوا محمود أمين العالم: من الذي يتولى بعدك؟ فاقترح اسمي. الوزير قال لي: إنه كان يتكلم مع عبد الناصر حول التعيينات فقال لهم خذوا فلانًا، وأنا تقديري أن اسمي عُرض على الرئيس فلم يعترض … قلت للوزير أنا غير متحمس لترك عملي في الجامعة، فقال هذه هي توجيهات الرئيس. قلت له إذا كان الموضوع كذلك فلأذهب إلى رئاسة الدار معارًا من الجامعة، فوافق. كانت هناك مشاكل مالية كبيرة، فذهبت إلى نزيه ضيف وزير الخزانة وحصلت منه على قرض بحوالي ٦٥٠ ألف جنيه لحلها.

هل كان هناك تدخُّل من النظام أو من عبد الناصر لنشر كتب بعينها أو رفض كتب أخرى؟

لا … لا … هذا لم يحدث إطلاقًا.

هل مُنع كتاب من النشر؟

أنا لم أسمع أن كتابًا مُنِع من النشر، لكن ما سمعناه أيامها أن رواية نجيب محفوظ «أولاد حارتنا» كانت تُنشر في الأهرام، فتدخَّل الغزالي لمنعها؛ لأن فيها إشارات للأنبياء ولله، وقال عبد الناصر تستمر في نشرها مسلسلةً في الأهرام، لكن لا داعي لإصدارها في كتاب الآن.

هل كان مسموحًا بإصدار كتب تنتقد النظام؟

الفترة التي جاءت بعد ١٩٦٧م كانت من أكثر الفترات في حرية الكتاب؛ بدليل أن رواية ثروت أباظة «شيء من الخوف»، وكانت تنتقد النظام بشدة، نُشرت، وبدليل روايات أو مسرحيات عبد الرحمن الشرقاوي، وكانت كلها تلقيحًا على النظام، كانت تُنشر، وكان الشرقاوي معاديًا للنظام بسبب موضوع أخيه عبد المنعم.

إذن ما الذي بقي من فكر عبد الناصر؟

بقيت أشياء كثيرة جدًّا سيظل بسببها عبد الناصر محلًّا للهجوم من القوى الرجعية في العالم العربي، والتي لا تهتم بقضية الصراع العربي الإسرائيلي، فعبد الناصر هو العدو الرئيسي لهذه القوى في هذا الموضوع، بقي عبد الناصر الذي أمَّم القناة، وتصدى للعدوان الثلاثي، وعمل مؤتمر باندونج، وآمن بالوحدة العربية. ومن ضمن الأشياء التي لا بد أن تُذكر لعبد الناصر اهتمامه بشكل واضح برعاية الطبقات الشعبية. ولا شك في أن الشعب المصري تحسنت أحواله الاجتماعية في عهد عبد الناصر عما كان قبله، وأن أحوال الشعب المصري ساءت كثيرًا بعد وفاة عبد الناصر. ويُذكر لعبد الناصر أنه كان زعيمًا وطنيًّا بمعنى الكلمة. ويُذكر له الإصلاح الزراعي وتمصير البنوك والشركات والتأميمات التي تمت، وأن مصر لم ترفع رأسها في يوم من الأيام مثلما رفعتها في عهد عبد الناصر. كل هذا حقيقي، وكل هذا — من ناحية ثانية — لا يمكن أن ينسينا أن العودة الوحيدة للنظام هي قضية الديمقراطية، وقضية الديمقراطية تمت معالجتها بشكل سلطوي، لم تكن هناك ضرورة ماسة لها، ولم تكن هناك ضرورة ماسة للسجون والمعتقلات، وإعدام خميس والبقري، كما أن عبد الناصر أخطأ في حساباته في موضوع الوحدة مع سوريا عندما اعتمد على عبد الحكيم عامر في سوريا، وهذا أدى إلى مشاكل كثيرة؛ بدليل أن قادة الانقلاب على الوحدة كانوا من الضباط السوريين في مكتب المشير.

بالنسبة لإعدام خميس والبقري: عبد الناصر كان رافضًا هذا الموضوع، ولكن بالنسبة للوحدة ألَا ترى أن الأحزاب الشيوعية أخطأت في تقديرها للوحدة في ذلك الوقت؟

أنا رأيي أن الأحزاب الشيوعية أخطأت أيضًا في مسألة الوحدة عندما تصورت أن تفاهم عبد الناصر المؤقت مع الأمريكان، أيامَ الأزمة بينه وبين خورشوف، هو تفاهم أبدي، وهذا أثَّر على تقديرات الشيوعيين؛ لأن الأحداث أثبتت أن تفاهم عبد الناصر مع الأمريكان كان مؤقتًا، واختلف معهم بعد ذلك.

قلت إن القوى الرجعية ستظل دائمًا في صراع ضد عبد الناصر؟

هذا صحيح؛ بدليل أنني وصلتني أمسِ رسالةٌ من السعودية مجهولة التوقيع ومكتوبة على الآلة الكاتبة، كلها هجوم وسباب في عبد الناصر، وللتضليل وضعوها في ظرف بمبي، كأنها جواب غرامي، رغم أنهم لم يخطئوا العنوان، يقول صاحب الرسالة: يا أخي أنا مجنون منك، أنت لم تُضطهد في حياتك كما اضطُهدت في عصر عبد الناصر، ومع ذلك لا يوجد من يدافع هذا الدفاعَ المجيد عنه مثلك. قلت لنفسي هذا صحيح، والسبب أنني لا أحكم على المرحلة الناصرية بدلالةِ ما حدث لي وحدي، ولكن بدلالةِ ما حدث للشعب كله، ورأيي أنه إذا كان الإنسان سياسيًّا مسئولًا لا بد أن يكون هذا هو موقفه، لا أن يقول فقط إنه كان يسير حافيًا في معتقلات عبد الناصر وأن … وأن … وإن كان كل هذا صحيحًا، ولا بد أن يُعرف.

ننتقل إلى موضوع التعليم، خصوصًا وأنك أستاذ جامعي، ولك رأي فيما يحدث في التعليم الآن.

الفكرة الأساسية التي لا بد أن تقال الآن؛ هي أن مصر غير مستعدة للإنفاق على التعليم بالطريقة التي تجعل مستواه جيدًا … هم يقولون إن ميزانية التعليم زادت من ٤ مليارات إلى ۱۱ مليار جنيه، وينسون السنة التي كان ينفق فيها على التعليم ٤ مليارات، وخلال هذه الفترة كم مرةً زاد فيها عدد السكان! وكم مرةً انخفضت فيها قيمة العملة بسبب التضخم! المعيار الحقيقي أن نرى ما يُنفَق على الطالب بالأسعار الثابتة … الوزير قال ما ينفق على الطالب ٧٥ جنيهًا في العام، بينما يصل الإنفاق على الطالب ۲۷۰۰ جنيه في الخارج وفي إسرائيل. المشكلة إذن هي مشكلة تمويل. وعندما حضر عاطف عبيد اللجنة التحضيرية لمؤتمر التعليم الثانوي، قال هذا بشكل واضح، وقال نحن بحاجة إلى بناء ١٢٧ ألف مدرسة خلال السنوات العشر المقبلة. وما بناه حسين كامل بهاء الدين لا يزيد على ألف مدرسة. والتفكير القائم عندهم لحل مشكلة التمويل هو عمل مدارس متميزة بمصروفات زائدة؛ لجمع أموال من أولياء الأمور لبناء مدارس جديدة. وفي المؤتمر وقف أستاذ من جامعة حلوان، وقال هذه الطريقة ستؤدي إلى شرخ في المجتمع المصري. أنا رديت وقلت الشرخ حدث فعلًا … لذلك أنا رأيي أنه رغم الجهود التي بذلها بهاء الدين، لم يكن من الممكن أن ينجح في حل مشاكل التعليم.

لماذا؟

لأنه بسبب ظروف الانفتاح، وُجدت المدارس الخاصة التي لم تكن موجودة في مصر من قبلُ مثل ما هي موجودة الآن، ووُجدت المدارس الأجنبية والدروس الخصوصية التي انتشرت بكثرة، وهذه الأمور كلها أدت إلى فشل مشروعات حسين کامل بهاء الدين، بينما نجح الانفتاح.