ذكريات من حياتي

مؤسسة هنداوي مؤسسة هنداوي

ذكريات الإسكندرية

عشت في الإسكندرية ست سنوات (١٩٤٤–١٩٥٠م) معيدًا بكلية العلوم بجامعة الإسكندرية، وذكرياتي السياسية عن تلك الحقبة إنما تعود إلى أكثر من خمسين عامًا. ومع أنني اشتهرت في شبابي بقوة الذاكرة، إلا أن وضعي الحالي — وقد بلغت السابعة والسبعين — لا يسمح لي بالثقة الكاملة في هذه الذاكرة. وقد حاولت أن أستعيد مع بعض الأصدقاء، ممن زاملوني في تلك الحقبة بالإسكندرية، بعضًا من هذه الذكريات وأحداثها … ولذلك فإنني أرجو ألا أكون قد أخطأت في بعض التفاصيل.

ولقد أشرت في مقال سابق (هلال، ديسمبر ٢٠٠٠م) إلى مجموعة المعيدين في كلية العلوم الذين شكَّلوا حلقة دراسية ماركسية لمناقشة الأوضاع في مصر، خصوصًا الاحتلال البريطاني ومشكلة الفقر، وكانت هناك بالقاهرة حلقات أوسع بكلية العلوم كانت لنا نموذجًا يُحتذى.

وبالطبع سعينا إلى تدعيم صلاتنا بقوى المعارضة الأخرى في أوساط الشباب، وخصوصًا شباب الطليعة الوفدية، وإلى حدٍّ ما شباب مصر الفتاة من الطلاب، كما سعينا إلى تجنيد أعداد من طلاب الجامعة إلى وجهات نظرنا وإلى حلقتنا، ونجحنا في ذلك نجاحًا كبيرًا، فأصبحت لدينا أعداد غير قليلة في كليات العلوم والحقوق والطب والآداب في زمن قصير. وهكذا تشكَّل تنظيم مارکسي داخل جامعة الإسكندرية. ومع أن اهتمامنا انصرف في مبدأ الأمر إلى تثقيف الأعضاء بالفكر اليساري، مع تجنب العمل السياسي قبل أن تتكون مجموعة فكرية يوثق بها ويعتمد على مبادراتها، فإن أحداث البلاد السياسية المتسارعة قد اضطرتنا إلى دخول حلبة العمل السياسي، مستعينين في ذلك بصلاتنا القوية بالطليعة الوفدية التي كانت تتقارب في آرائها السياسية مع آرائنا.

ولقد وقعت أحداث ٢١ فبراير سنة ١٩٤٦م بالقاهرة، وقادت هذه الأحداث اللجنة الوطنية للطلبة والعمال التي كان الماركسيون القاهريون عمادها. وكان إسماعيل صدقي هو رئيس الوزراء آنذاك. ولقد أطلق جنود الاحتلال البريطاني من ثكنات قصر النيل (مكان فندق هيلتون النيل ومبنى الجامعة العربية اليوم) النار على المتظاهرين، فسقط عدد من الشهداء والجرحى، وأدى هذا إلى غليان وطني عارم.

ومع أن الإسكندرية لم تشترك في أحداث ٢١ فبراير، فإن أحداث ٥ مارس بالإسكندرية كانت تجاوبًا مع ما حدث بالقاهرة، وإن كانت أكثر عنفًا من جانب المتظاهرين الذين أحرقوا مراكز حراسة القوات البريطانية في محطة الرمل وفي أماكن أخرى، ومات في هذه الأحداث عدد من الجنود البريطانيين.

لقد كانت هذه السنوات هي سنوات مفاوضات إسماعيل صدقي مع وزير خارجية بريطانية إيرنست بيفن، التي انتهت في آخر الأمر بما عُرف باتفاق صدقي-بيفن، وكانت كل القوى الوطنية في مصر معارِضة لمشروع هذا الاتفاق، وكان حزب الوفد بما له من نفوذ واسع في مقدمة المعارضين.

معارضة اتفاق صدقي-بيفن

وأتذكر أنه في شهر أبريل من عام ١٩٤٦م قامت مظاهرة من كليتَي العلوم والحقوق بجامعة الإسكندرية (وكانت هاتان الكليتان تشغلان مباني مدرسة العباسية الثانوية التي تقع على ربوة عالية في حي محرم بك) للتعبير عن معارضة مشروع اتفاق صدقي-بيفن، وكانت قوات الشرطة تقف أسفل الربوة لاعتراض المظاهرة وتفريقها بالقوة إن لزم الأمر.

ثم وقع حادث مفاجئ ذهلنا له جميعًا؛ ذلك أن طالبًا من فوق الربوة أطلق النار على أحد ضباط الشرطة فأرداه قتيلًا. وحتى اليوم لا نعلم من هو هذا الطالب الذي قام بهذا العمل الاستفزازي الدنيء، وإن كانت شكوكنا آنذاك اتجهت إلى شباب مصر الفتاة من الطلاب.

وبالطبع كان رد فعل الشرطة عنيفًا؛ إذ حوصِرت مباني الكليتين بالكامل، وأُطلق الرصاص على مباني الكلية بشكل عشوائي، وأُلقي القبض على أعضاء هيئة التدريس الذين حاولوا الخروج إلى الطريق العام. وظل هذا الحصار مضروبًا حول الجامعة من الصباح إلى منتصف الليل، عندما حضر وزير التعليم (محمد العشماوي باشا) من القاهرة بالطائرة، وأمر برفع الحصار عن الجامعة التي احتلتها قوات الجيش في الصباح.

وقمنا، ونحن محاصرون، بكتابة مذكرة احتجاج على هذا الحصار، ونجحنا في الحصول على توقيع عدد كبير من أعضاء هيئة التدريس على المذكرة، وكان في مقدمة الموقِّعين عميد كلية العلوم الدكتور حسين فوزي وعميد كلية الحقوق الدكتور عبد المعطي خيال، وإن كان بعض أساتذة كلية العلوم قد رفضوا التوقيع.

وكانت المشكلة بعد جمع التوقيعات هي كيفية إرسال المذكرة إلى صحيفة المعارضة الرئيسية (الوفد المصري)، وتفتَّق ذهني عن حل، وهو أن أتصل تليفونيًّا بصديق لي بالإسكندرية، وأن أُمليَ عليه نص المذكرة التي كانت قصيرةً على أي حال، ولما ذهب هذا الصديق إلى مكتب التلغراف لإرسال البرقية رفض موظف البريد إرسالها وعليها توقيع عام مثل أعضاء هيئة التدريس بالجامعة، وصمم على وجود اسم لشخص يمكن مساءلته. ولم يجد هذا الصديق مفرًّا من إعطاء اسمي. وهكذا ظهرت برقية الاحتجاج في اليوم التالي في صحيفة الوفد المصري وعليها التوقيع التالي: أعضاء هيئة التدريس «عنهم عبد العظيم أنيس».

وبالطبع هاج صدقي باشا من هذه البرقية، وطلب من العشماوي باشا التحقيق في الموضوع. وظن الوزير أن الموقِّع على هذه البرقية أستاذ بالجامعة وليس معيدًا صغيرًا، واستدعاني إلى مكتب مدير الجامعة للتحقيق معي، وحضرت في صحبة الدكتور حسين فوزي عميد الكلية، وكان من حسن حظي أنه كان في جيبي نص مذكرة الاحتجاج وعليها التوقيعات، بما في ذلك توقيع عميدَي العلوم والحقوق، وعندما قدمتها للوزير وأكدت له أن هذا كان موقفًا جماعيًا، أُسقِط في يده ولم يستطع معاقبتي.

لكن اسمي ظل محفورًا لدى السلطات، في انتظار مناسبة أخرى للانتقام، وجاءت هذه المناسبة في يوليو عام ١٩٤٦م في حملة صدقي المشهورة التي اعتقل فيها العشرات من المثقفين المصريين، بما في ذلك محمد مندور وزكي عبد القادر. وكنت بطبيعة الحال في طليعة المطلوب اعتقالهم بالإسكندرية.

الحظ في صالحي

لكن الحظ لعب دوره مرة أخرى في مساعدتي، فقد كنت كثير التردد على منزل نائب سعدي بمحرم بك بالإسكندرية؛ لصلة تربطني بأولاده. وظن البوليس أنني أقيم هناك، وهكذا ذهبوا لتفتيش منزله وهم لا يعلمون أنه نائب بالبرلمان. فلما سألهم إن كان لديهم أمر من رئيس البرلمان بذلك أُسقِط في أيديهم، ثم اتصلوا بحكمدار الإسكندرية يسألونه الرأي قبل تفتيش المنزل، فأمرهم بتفتيش المنزل مهما كان الأمر.

وبالطبع لم يجدوني ولم يجدوا أي شيء يُهمهم، ولم يسكت النائب؛ إذ تقدم باستجواب في البرلمان، وكانت العلاقات قد بدأت تسوء بين رئيس الوزراء وحزب السعديين، فاشتعلت جلسة البرلمان هجومًا على الحكومة وعلى رئيسها. وألقى صدقي باشا بيانًا في البرلمان قال فيه إن التفتيش تم بحثًا عن معيد شيوعي، وإن الضابط الذي قام بذلك نُقل إلى أسوان عقابًا له على هذا الخطأ. وصدرت الصحف بمانشيت عريض في الصفحة الأولى بوقائع الجلسة، واسمي بطبيعة الحال موجود في ذلك المانشيت.

وقد قرأت كل ذلك وأنا أقيم عند صديق قاهري يملك فيلا بالإسكندرية، ولم أسلِّم نفسي للشرطة حتى انتهت القضية بالإفراج عن الجميع، فعدت إلى الجامعة. وسألني وكيل النيابة أسئلة شكلية ثم أفرج عني في الحال؛ خصوصًا عندما علم بإضراب طلاب كلية العلوم احتجاجًا على اعتقالي. وطلب وكيل النيابة مني الذهاب إلى الكلية فورًا حتى يراني الجميع وينتهي الموضوع، وهو ما تم بالفعل.

•••

الحدث الثاني المهم الذي جرى بالإسكندرية، وأدى إلى اشتعال مدٍّ ثوري به؛ هو موضوع إضراب الشرطة يومَي ٥ و٦ أبريل من عام ١٩٤٨م. وبالطبع فهذا الإضراب شمل القاهرة والإسكندرية وبعض المدن الأخرى. وكان الأساس في هذا الإضراب هو المطالبة بزيادة الرواتب. وبالطبع كان لهذا الحدث طعم خاص؛ لأنه لم يسبق له وقوع، ولم تكن لقوى التمرد في مصر يد فيه، ولكنه أخذ طعمًا خاصًّا بالإسكندرية؛ إذ تحول إلى هبة شعبية شملت كل طوائف الشعب، وخصوصًا العمال والطلاب الذين ساندوا المظاهرات التي قامت بها قوات الشرطة بالإسكندرية، وانضموا إليها، وامتلأت بهم ساحات الميادين العامة، وخصوصًا ساحة المنشية، وكان جنود الشرطة يمضون في مظاهراتهم رافعين بنادقهم إلى السماء، وعلى أعلى كل سونکي منها رغيف عيش.

وشعر الشعب أنه بلا حكومة تتحكم في أعماله، حتى إن بعض الظرفاء من أبناء الشعب كانوا يصيحون في الشعراء وهم يضحكون: «مافيش حكومة، اللي عايز يشلح النهارده يقدر.»

وقد كان لهذا الهيجان الشعبي بالإسكندرية أسبابه الخاصة، وأتذكر، على وجه الخصوص، مسألتين ساهمتا في هذا الالتهاب الشعبي؛ أولاهما مطالب العمال بعدما توقفت بعض المصانع عن العمل أو استغنت عن بعض العمال أو خفضت أجورهم، وبمعنًى آخر كان هناك اختمار ثوري عمالي، خصوصًا في أوساط عمال مصانع كرموز كالغزل الأهلية، ولقد كان الطلبة ومعيدو الجامعة اليساريون متحمسين للدفاع عن مطالب العمال، وتعبئة الرأي العام السكندري في صفهم، وساعد على ذلك أن زملاءنا في القاهرة كانوا قد بدءوا في إصدار صحيفة أسبوعية تسمى «الجماهير»، وكنا، نحن المعيدين، نقوم بتوزيع هذه المجلة علنًا في أحياء العمال بالإسكندرية وعلى محطات ترام الرمل، وكان هذا محل اندهاش أساتذة الجامعة؛ الذين كانوا يشاهدوننا وهم في الترام ونحن على الأرصفة ننادي على جريدة الجماهير كأي بائع صحف.

أما المسألة الثانية ذات الصلة فهي ما عُرف بالإسكندرية بمسألة سعد فريد.

كان سعد فريد طالبًا بكلية العلوم قام بتوزيع منشور مساند للعمال في حي كرموز، وقد قبضت عليه الشرطة قبل أحداث ٥ و٦ أبريل ومعه العديد من نسخ المنشور، ويبدو أن الحكومة قد رأت فرصة في هذا الموضوع لتأديب طلاب الإسكندرية المشاغبين، فأجرت لسعد فريد محاكمة سريعة وحكمت عليه المحكمة بستة أشهر سجنًا، وقد أثار الحكم على سعد فريد ثائرة طلاب الجامعة؛ فقد كان هذا أول حكم بالسجن يصدر على طالب بالجامعة لعمل سياسي.

وبدأت إضرابات الطلاب، لكنها لم تحقق نتيجة في مسألة سعد فريد. ثم جاء إضراب البوليس وامتلأت ساحات الإسكندرية — وخصوصًا المنشية — بالجماهير الثائرة، وأثار الطلاب المشتركون في المظاهرات مسألة سعد فريد من جديد، وقررت مجموعة منهم الاتجاه إلى سجن الحدرة لإخراج سعد فريد منه، لكن سلطات سجن الحدرة أوهمتهم أن سعد فريد أُفرج عنه فعلًا.

في هذا الجو الجماهيري الثائر ينبغي أن أذكر واقعتين هامتين:

الأولى أننا قررنا توزيع منشور باسم الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني يساند المطالب الشعبية، سواء مطالب الشرطة أو العمال أو الطلبة، وقد صدَّرنا هذا المنشور بشعار جديد «تسقط الملكية وتحيا الجمهورية»، وكان هذا أول منشور يوزع في مصر تحت هذا الشعار الثوري، وقد أشارت إليه صحيفة الأهرام في اليوم التالي، وإن لم تذكر الشعار نفسه واكتفت بالقول إن منشورًا ثوريًّا وزِّع بالإسكندرية.

وللتاريخ، كان الشاعر كمال عبد الحليم هو الذي كتب الصياغة الأولى للمنشور وإن كنت قد عدَّلت فيه، وقمت بطبع المنشور في مطبعة عادية في محرم بك، قبِلت طبعه لأنه لا توجد حكومة! وأشرفت على توصيله لمن قاموا بالتوزيع في أحياء الإسكندرية المختلفة.

أما الواقعة الثانية فتتعلق برد حكومة النقراشي على ما يجري بالإسكندرية، فقد أنزلت قوات الجيش، وملأت دباباته الميادين العامة، وبدأت قواته في إطلاق الرصاص على المتظاهرين، فسقط عدد من القتلى، وجرى هذا خصوصًا في ميدان المنشية، وكنت من مشاهدي أحداثه.

إعلان الأحكام العرفية

وفي ظني أن أحداث الإسكندرية الثورية كانت من العوامل التي جعلت حكومة النقراشي تنتهز فرصة إرسال قوات مصرية إلى فلسطين لكي تعلن الأحكام العرفية في ١٥ مايو عام ١٩٤٨م، وتعتقل كل القوى النشيطة سياسيًّا من اليسار وشباب الوفد، ثم جرى بعد ذلك اعتقال شباب الإخوان المسلمين عندما توقفت الحرب في فلسطين وأعلنت الهدنة.

ومع أنني أفلتُّ بالمصادفة من الاعتقال في ١٥ مايو، فإنني اعتُقلت في شهر يونيو، وكنت ذاهبًا لحضور اجتماع في منزل د. شريف حتاتة بالسيوفي، لكنه كان قد تم اعتقاله قبل ذلك بيوم، هو والشاعر كمال عبد الحليم، ورتبت الشرطة كمينًا داخل المنزل للقبض على كل من يزور المنزل، وهكذا وقعت في كمين ونُقلت إلى معتقل أبو قير، وبقيت فيه لمدة ستة أشهر، ثم نُقلت مع آخرين من اليساريين وشباب الوفد إلى معتقل هايكستب في طريق الإسماعيلية، وبعد عدة أشهر نُقلت مع آخرين إلى معتقل الطور على البحر الأحمر، فعملنا إضرابًا عن الطعام، استمر فيما أذكر لمدة أسبوعين، مطالبين بتحسين ظروف معيشتنا. وقد أدى هذا الإضراب إلى مرضي بعد أن كان قد انتهى بوعد من المسئولين المحليين بتحسين ظروف مع حياتنا.

وكانت وزارة حسين سري قد عادت للإعداد للانتخابات، وكان فؤاد سراج الدين «باشا» وزيرًا للزراعة في تلك الحكومة، وتحدث أخي الكبير إبراهيم معه عن طريق بعض أصدقائه من الوفديين حول ظروفي الصحية، وأدى هذا إلى نقلي إلى معسكر هايكستب، حيث حضرت لجنة طبية لفحصي، ثم أصدرت قرارها بنقلي إلى مستشفى الدمرداش للعلاج من التهاب كبدي وبائي، وبقيت في المستشفى قريبًا من منزل أهلي، حتى جرت الانتخابات في آخر عام ١٩٤٩م، وحصل الوفد على أغلبية مقاعد البرلمان، وتشكلت حكومة الوفد التي أفرجت عن جميع المعتقلين في يناير عام ١٩٥٠م.

•••

بقيت نقطة واحد ينبغي توضيحها؛ فقد ورد في أحد كتب الدكتور رفعت السعيد في وصفه لأحداث الإسكندرية أنني وقفت في ميدان المنشية بين المتظاهرين، وألقيت قصيدة هذا مطلعها:

عساكر الجيش والبوليس خطبكمو
خطب البلاد فعادوا من يعاديها

وبالطبع وسط أزيز رصاص دبابات الجيش لم يكن هناك مجال لإلقاء قصائد ولا يحزنون. والحقيقة أن هذه القصيدة أُلقيت في احتفال بمعتقل الطور بعد مرور سنة على إضراب البوليس، وقد حضر جنود وضباط الشرطة بعدُ في المعتقل هذا الاحتفال، وصفقوا كثيرًا للخطب والقصائد التي أُلقيت فيه.