ذكريات من حياتي

مؤسسة هنداوي مؤسسة هنداوي

ذكريات لندن

عشت في لندن فترتَين متقاربتَين من حياتي؛ الفترة الأولى هي التي كنت أُعِد فيها رسالة الدكتوراه، وهي من سبتمبر ١٩٥٠م حتى سبتمبر ١٩٥٢م، وبعدها عدت إلى القاهرة حيث عُيِّنت مدرسًا بكلية العلوم، جامعة القاهرة، قسم الرياضة البحتة.

وجاءت لي فرصة تعييني مدرسًا بإحدى كليات جامعة لندن، في الفترة من مارس ١٩٥٥م حتى نوفمبر ١٩٥٦م، وهكذا عشت الفترة الثانية في لندن حتى جاء تأميم قناة السويس في يونيو سنة ١٩٥٦م، فآثرت الاستقالة من عملي في لندن؛ حتى أتفرغ للعمل الجماهيري الذي كان مطلوبًا في بريطانيا للدفاع عن وجهة نظر مصر في تأميم القناة.

ولقد فكرت في الفترة الأولى — فترة دراسة الدكتوراه — كيف يمكن خدمة شعب مصر ونحن في الخارج، وانتهيت مع زملاء آخرين إلى فكرتَين أساسيتَين: الأولى أن نعرِّف الشعب البريطاني بحقيقةِ ما يجري في مصر قدر الإمكان، ومن وجهة النظر الشعبية، أي من وجهة نظر العمال والفلاحين والطبقة الوسطى، وخصوصًا شرائحها المتدنية.

والفكرة الثانية هي أن نكون على اتصال بالأحداث المهمة التي تجري في مصر، وأن نبدي رأينا فيها قدر الإمكان؛ حتى يشعر المسئولون في مصر أن طلاب البعثات المصريين يفكرون في مصر ويطالبون أن يؤخذ رأيُهم في الحسبان.

تشكيل لجنة وطنية

وقد وصلت إلى قناعة أن الخطوة الأولى لتحقيق هاتين الفكرتين تتمثل في تشكيل لجنة وطنية، تكون بمثابة المحرك الأول لكل هذا العمل، وهكذا تشكلت اللجنة الوطنية من الدكتور فايق فريد والدكتورة حكمت أبو زيد (التي أصبحت وزيرة الشئون الاجتماعية خلال حكم عبد الناصر) والدكتور محمد عبد الحليم وكاتب هذه السطور.

وكان العمل الأول لنا هو إصدار نشرة غير دورية توزَّع على النقابات البريطانية اسمها «السلام والاستقلال»، وكان لهذا الاسم قصة أود أن أشرحها، لقد سبقنا في هذا العمل الصديق عبد المعبود الجبيلي الذي كان يدرس لدكتوراه الدولة في معمل کوري بباريس، وقد أرسل لي نسخة من نشرته التي كانت تُكتب بالفرنسية طبعًا، وتوزَّع على النقابات الفرنسية، وتحتوي على المهم من أخبار مصر التي يهمنا إطْلاع الرأي العام الأوروبي عليها.

وأرسل لي عبد المعبود نسخة من نشرته، وابتدأنا في أول الأمر بترجمتها إلى الإنجليزية وتوزيعها على النقابات البريطانية بالبريد، ثم أخذنا بعد ذلك في تغيير مادة نشرتنا عن نشرة باريس، وإن احتفظنا بالاسم نفسه «السلام والاستقلال».

كما قمت، عند وقوع أحداث مهمة في مصر، بكتابة مقال تفسيري في صحيفة الحزب الشيوعي الإنجليزي اﻟ «ديلي وركر» باسم مستعار هو «ص. الأيوبي» (Ayoubi)، ولكن لم يكن للجنة الوطنية علاقة بهذا العمل.

أما خدمة الفكرة الثانية التي تمثلت في أن نكون على صلة بأحداث مصر، وأن يكون رأيُنا قدر الإمكان معروفًا وذا تأثير على هذه الأحداث؛ فقد تمثل ذلك في دعوة اللجنة الوطنية طلابَ البعثات في مدن بريطانيا المختلفة إلى الاجتماع في النادي المصري بلندن، ومناقشة هذه الأحداث ثم إرسال رأينا إلى المسئولين في مصر بعد ذلك.

وقد حققت هذه الفكرة نجاحًا كبيرًا، ونجحنا في تنظيم عدة مؤتمرات في لندن في المناسبات الوطنية المختلفة، في مقدمتها مناسبة قيام الوزارة الوفدية بإلغاء معاهدة ١٩٣٦م، وحوادث الصدام بين قوات البوليس المصري والجيش البريطاني في الإسماعيلية، وبالطبع أعلنَّا تضامنًا مع إلغاء المعاهدة، وأدنَّا العمل البريطاني الصدامي في أحداث الإسماعيلية.

أكبر مؤتمرَين

إلا أن أكبر مؤتمرَين دعونا إليهما وتوافد الطلاب المصريون من كافة المدن لحضورهما، فكانا بمناسبة حريق القاهرة في يناير ١٩٥٢م، ثم بمناسبة وقوع الثورة في يوليو ١٩٥٢م.

في المؤتمر الأول الذي انعقد في ٢٨ يناير ١٩٥٢م (بعد حريق القاهرة) كان الطلاب في حالة غليان، ومع أننا لم نكن نعرف على وجه اليقين من هم الذين قاموا بعملية الحريق، فإن شكوكنا آنذاك كانت حول دور السراي الملكية في هذه العملية البشعة للتخلص من الوزارة الوفدية، لكننا بالطبع لم نكن نملك أدلة حاسمة، المهم أن هذه الشكوك انعكست في المؤتمر حين قام أحد طلاب البعثات، الدكتور عبد الحميد أمين، نجل الكاتب المعروف أحمد أمين، وطالب الملك فاروق أن يتنحى عن العرش، واحتبست الأنفاس بعد سماع كلمة عبد الحميد، ومما زاد من الحرج أن وكيل مكتب البعثات (دكتور عبد العزيز عتيق) كان حاضرًا المؤتمر، وهو بالمناسبة زوج شقيقة الدكتور عبد الحميد أمين.

المهم انتهى المؤتمر بسماع إقالة وزارة مصطفى النحاس، وبقينا شهورًا عدة في حالة غليان، وإن كنا لا نعرف ماذا نفعل.

حتى فوجئنا بوقوع ثورة الجيش في ٢٣ يوليو ١٩٥٢م، وقد أثار هذا الحدث الكبير حيرتنا في مبدأ الأمر؛ إذ كيف يستولي الجيش على السلطة والقوات البريطانية موجودة في القنال، ما لم يكن هناك تنسيق بينها وبين قادة هذا العمل؟

كان هذا الخاطر الأول لنا، لكننا سمعنا أن هناك ضابطًا «أحمر» في قيادة الثورة هو خالد محيي الدين، وهذا يناقض الخاطر الأول.

واتجهت خواطرنا أيضًا إلى دور أمريكي في هذه الحركة، يوم أُذيع أن علي صبري كُلف بالاتصال بالسفارة الأمريكية.

لكننا حزمنا أمرنا في نهاية الأمر بتأييد الثورة عندما أُعلن عن رحيل الملك وتنازله عن العرش، وعن قانون جديد للإصلاح الزراعي، واتخذ مؤتمرنا قرارًا بهذا التأييد، وأرسلت به برقية إلى الإذاعة المصرية حيث أُذيعَ على الفور.

•••

والآن أتحول إلى الفترة الثانية التي عشتها في لندن مدرسًا بإحدى كليات الجامعة.

لقد وصلت إلى لندن لتسلُّم عملي بالجامعة في فبراير (أو مارس) ١٩٥٥م قادمًا من بيروت، وكنت قد غادرت القاهرة في نوفمبر ١٩٥٤م (بعد فصلي من جامعة القاهرة)؛ لتدريس مقرر في الإحصاء باللغة العربية في فرع معهد الإحصاء الدولي ببيروت لمدة ثلاثة شهور.

وقد قبِلت القيام بهذا العمل في انتظار قرار اختياري أو اختيار غيري في وظيفة لندن، ولحسن الحظ قررت الكلية اختياري، وأرسلت لي خطابًا على بيروت بذلك، وكانت فترة بيروت هي الفترة التي كتبت فيها مقالاتي الثلاثة عن الرواية المصرية، واتفقت فيها مع دار نشر بيروتية على نشر كتاب (في الثقافة المصرية)، وهو الكتاب الذي احتوى على مقالاتي ومقالات الصديق محمود أمين العالم في النقد الأدبي، وتكفَّل الصديق اللبناني محمد دكروب بالإشراف على إخراجه كما قام الشهيد حسين مردة بكتابة مقدمة، وقد أثار هذا الكتاب في السنوات الأولى لصدوره ضجة كبيرة في أوساط الشباب.

المهم تفرغت في لندن لعملي العلمي؛ من إعداد المحاضرات والتركيز على البحوث، بحيث لم يكن عندي وقت للعمل السياسي، وكنت أكتفي في ذلك بحضور الاجتماعات السياسية المهمة، وبتوثيق علاقتي بحركة «تحرير المستعمرات»، التي كانت بمثابة مظلة واسعة تحطم جميع أعوان اليسار المعادي للاستعمار، بقيادة نائب عمالي يساري معروف فينر بروکواي، وكان اهتمام هذه الهيئة الأساسي بالمستعمرات البريطانية في أفريقيا آنذاك مثل غانا وأوغندا ونيجيريا … إلخ.

وعند انتهاء عملي بالكلية في أواخر يونيو ١٩٥٢م، قررت الاستجمام أنا والعائلة (زوجتي وابنتي منى) في جزيرة من جزر المانش تدعى جيرنسي فيما أذكر، ذهبنا لقضاء شهر يوليو هناك، وتمتعنا بجمال الطبيعة، وبجو الريف الذي أفتقده دائمًا باعتباري قاهريًّا قحًّا، مثلًا أتذكر أن الخضرة والأبقار كانت تملأ مساحة الفضاء أمام الفندق الذي نزلنا فيه.

تأميم القناة

حتى جاء يوم في يوليو قضيناه بطوله خارج الفندق، وعندما عدنا في المساء ونزلنا لتناول العشاء كالعادة في قاعة الطعام، فوجئنا بالحاضرين وكأن على رءوسهم الطير، لكن صديقًا هنديًّا انحنى عليَّ وقال بصوت خافت: «ألم تسمع؟ لقد أعلن عبد الناصر تأميم قناة السويس.» ولم أصدق في مبدأ الأمر وحسبته يهزل كالعادة، ولكن أكد الخبر وطلب مني أن أسمع B.B.C للتأكد.

وقضيت تلك الليلة دون نوم عمليًّا، أفكر ماذا أعمل في مثل هذا الوقت، هل أستقيل من عملي مثلًا وأتفرغ للدفاع عن تأميم القناة؟

وفي الصباح اتصلت بسكرتيرة «حركة تحرير المستعمرات»، وهي سيدة إنجليزية تمتاز بالنشاط والعمل الجماهيري الواسع، وقالت لي: أين أنت؟ إننا نبحث عنك في كل مكان؛ لأننا في حاجة إلى مثقف مصري يشرح لأعضاء النقابات في الاجتماعات التي نُعدها في المدن المختلفة وجهةَ نظر مصر. قلت: إنني سوف أعود إلى لندن بعد يومين.

وكانت هذه المكالمة الهاتفية حاسمة في اتخاذ قراري بالاستقالة من عملي؛ منعًا لإحراج كليتي من ناحية، ولأخذ كامل حريتي في هذا النشاط الجديد، وأبرقت إلى الصديق محمود العالم بقراري الاستقالة في اليوم نفسه الذي أرسلت فيه خطاب استقالتي لعميد الكلية.

نشاط مكثف دفاعًا عن القناة

وعدت إلى لندن، وبدأت أسافر إلى مدن بريطانيا المختلفة وفق الجدول الذي وضعته «حركة تحرير المستعمرات»، للحديث في اجتماعات النقابات العمالية … في مانشستر وشفيلد، وأدنبره، وليفربول، وبرمنجهام … إلخ، وتصادف حضور اثنين من العاملين في الإذاعة المصرية هما عبد العزيز فهمي ويحيى أبو بكر، فقاما بحضور بعض هذه الاجتماعات وتسجيل ما جرى فيها، خصوصًا الكلمات التي كنت ألقيها دفاعًا عن التأميم، وشرحًا للمظالم التي حاقت بمصر عند بناء القناة.

والغريب في كل هذا النشاط أن السفارة المصرية في لندن لم تحاول أن تتصل بي لمساعدتي، وأنا شخصيًّا لم أكن أعرف أحدًا في السفارة، وكنت أخشى من الاتصال بالسفارة باعتباري مفصولًا من جامعة القاهرة بقرار لمجلس قيادة الثورة، أي إن السفارة سوف تعتبرني — إن اتصلت بأحد فيها — معاديًا للنظام في القاهرة.

وقد تبينت صحة هذه المخاوف عندما فوجئت، وأنا في قمة نشاطي هذا للدفاع عن تأميم القناة، باتصال هاتفي من الملحق العسكري في السفارة المصرية يرجوني أن أمُرَّ عليه في مكتبه.

كان آنذاك قد تحدد الاجتماع الجماهيري الكبير للبريطانيين في ميدان الطرف الأغر أواخر أكتوبر، وكان قد أُعلن عن المتكلمين في هذا الاجتماع، وكنت منهم، فإذا بالملحق العسكري يطلب مني أن أعتذر عن الاشتراك في هذا الاجتماع الكبير! وفيما يبدو خوفًا من أن أهاجم النظام في مصر، ولكني رفضت طلبه وقلت له: إن الاجتماع — الذي سوف يبدأ بمظاهرات من ماربل أرش غدًا تنتهي عند الطرف الأغر، ويضم خمسين ألفًا من البريطانيين — فرصة ذهبية للدفاع عن تأميم القناة، فكيف يمكن أن أعتذر عنه؟!

اجتماع الطرف الأغر

وبالفعل حدث الاجتماع الذي تكلم فيه نواب حزب العمال في ٣١ أكتوبر ١٩٥٦م، كما تكلمت فيه، وكان حزب العمال معارضًا للحرب، والغريب أنني بعد عودتي إلى القاهرة في أوائل ديسمبر ١٩٥٥م، فوجئت بشخص يسلِّم عليَّ بحرارة في مترو مصر الجديدة، وهو في ملابس مدنية، ولم أعرف في مبدأ الأمر من هو، وسألني: ألَا تتذكرني؟ فقلت: آسف، مش واخد بالي.

وإذ به الملحق العسكري الذي كان يطلب مني ألا أتحدث في اجتماع الطرف الأغر، وإذ به يعتذر عن طلبه هذا، ويقول إنها كانت تعليمات من القاهرة، وإنه أدرك خطأها بعد ذلك.

ولقد كان الدكتور مصطفى کمال حلمي — رئيس مجلس الشورى اليوم — من حضور هذا الاجتماع الجماهيري، وقد سعى إليَّ مهنئًا بعد سماع كلمتي، وطبعًا، فإن صداقتنا قديمة لأننا خريجو كلية العلوم.

ومن المفارقات المثيرة للضحك أن إحدى الصحف البريطانية، وأظنها «الديلي تليجراف»، كتبت بعد اجتماع الطرف الأغر مقالًا ادعت فيه أن عبد الناصر أرسل واحدًا من مساعديه الإعلاميين للتحدث في الاجتماع، وربما كان المقصود الأستاذ محمود أنيس الذي كان يعمل في مصلحة الاستعلامات.

ثم أدركت الصحيفة خطأها، واتصل بي أحد محرريها تليفونيًّا، وتأكد أنني مدرس بلندن، فكتب اعتذارًا بعد ذلك عن هذا الخطأ.

وقررت العودة إلى مصر أنا وأسرتي، خصوصًا أن الأجهزة البريطانية بدأت تطاردني وتسأل عني أصحاب المنازل التي أقمت بها، ولكن كيف الذهاب إلى مصر ومطار القاهرة مغلق بسبب الحرب، ولا يوجد طيران مدني بين مصر وبريطانيا؟

لا مفر إذن من الذهاب جوًّا إلى الخرطوم، ومن هناك نتدبر الأمر إلى القاهرة.

وبالفعل وصلنا إلى الخرطوم وبقينا فيها مع عدد من الأصدقاء والأقارب، حتى جاءت أول طائرة مصرية أخذتنا إلى القاهرة في أوائل ديسمبر ١٩٥٦م.