تمهيد
يذكر مؤرخو الفلسفة أن سقراط هو أول من بدأ بالتفكير في الإنسان وما يتعلق به، وأنه أول من قال: اعرف نفسك بنفسك. ولعلهم يريدون أنه أول من بحث في الإنسان بحثًا منظمًا من حيث واجبه نحو نفسه، ونحو شركائه في الاجتماع، على أن يكون ذلك علمًا ذا قواعد وأصول.
أما البحث في أن بعض الأعمال شر، وبعضها خير، وشيء منها نافع، وشيء منها ضار، فهو قديم سبق سقراط بأجيال.
فالأمة العربية التي ورث الغزالي وورث أساتذته آدابها القديمة، كانت تقول الشعر والنثر في تهذيب الأخلاق، فمن الواضح أن قول بعض الأعراب في وصية ابنه «المنية ولا الدنية» فيه ضرب من التهذيب الفردي، وقول أحدهم في حض الجيش على صدق اللقاء «الطعن في النحور أكرم من الطعن في الظهور» فيه نوع من تقديم المحاربين، لأن الأخلاق لا تعرف موطنًا بعينه، وإنما تتبع الرجل في كل حال.
وكذلك قول أكثم بن صيفي: «العقل راقد، والهوى يقظان، والشهوات مطلقة، والحزم معقول. والمستبد برأيه موقوف على مداحض الزلل. أصبح عند رأس الأمر أحب إلي من أن أصبح عند ذنبه. لم يهلك من مالك ما وعظك. نفاذ الرأي في الحرب أجدى من الطعن والضرب. التقدم قبل التندم. ويل لعالم أمر من جاهله. يتشابه الأمر إذا أقبل، فإذا أدبر عرفه الكيس والأحمق.» في هذه الكلمات كثير من الآداب الاجتماعية، وهي جزء من علم الأخلاق.
ونجد شعراء الجاهلية والإسلام ضربوا بسهم في معرفة الطبائع البشرية، فنرى في شعرهم شيئًا عن أثر الوراثة، وأثر الرفقة، وأثر الجوار، إلى غير ذلك من المعاني التي بسطها الفلاسفة حين تكملوا في الأخلاق. فقول ذي الأصبع العدواني:
يماثل بعض المذاهب الأخلاقية.
وقول مسكين الدارمي:
يماثل ما يضعه الفلاسفة في الآداب الفردية.
ويمكننا أن نعد المدح والهجاء من علم الأخلاق، لأن المدح في الغالب تصوير للفضائل، والذم تمثيل للرذائل، ووصف الفضائل والرذائل مما يعنى به علم الأخلاق.
فقول قعنب بن ضمرة:
هذا هجاء، ولكن فيه تصويرًا لبعض الصفات الذميمة التي يعنى بحربها علم الأخلاق.
وقول حسان بن ثابت:
هذا فخر، ولكن فيه تصوير لفضيلة من كرائم الفضائل الإنسانية.
ولا تنس الحكم التي فاضت بها النفوس العربية، فأي كلام أكرم وأمتع من قول وابصة الأسدي:
والقرآن؟
في القرآن تحليل دقيق لنزعات النفوس، وخلجات القلوب، وفيه حل لأكثر المشاكل الأخلاقية التي شقي في حلها الحكماء؛ ففيه أدب الرجل مع ربه، ومع نفسه، ومع زوجه، ومع آبائه، ومع أبنائه، ومع إخوانه، ومع أصدقائه، ومع أعدائه، ويندر أن تجد مشكلة خلقية لم يعن بحلها القرآن. وفي الحديث توضيح وتتميم لما في الكتاب العزيز، ويكفي أن تنظر فيما يخص الأدب من كتب السنة لتعرف صدق ما نقول.
وبعدما جاء في خطب العرب وشعرها، وما جاء في القرآن والحديث، وضعت كتب خاصة للسير والسلوك، من أقدمها كليلة ودمنة، الذي ترجمه ابن المقفع عن الفارسية، وقفاه بكتابيه الأدب الكبير والأدب الصغير، ووضعت أبواب مطولة في كتب الفقه عن آداب الزواج، ومعاملة الرقيق، ومعاملة المحاربين، وما إلى ذلك مما يهتم به الناس في الحرب والسلم، ويبنى عليه الاجتماع.
لم كانت المقامات والخطب المنبرية، التي أودعها الأدباء والمصلحون آراءهم في تهذيب النفوس، وتلطيف الطبائع.
كل ما قدمته كان ينبوعًا صافيًا ينهل منه الغزالي ويعمل وهو يضع مؤلفاته في الأخلاق، وقد تبينت أحكامه، فرأيته لا يضع حكمًا إلا وقد اقتبسه من حكمة، أو مثل، أو بيت من الشعر، أو آية، أو حديث، أو أثر، إلى غير ذلك مما قرأه بنفسه أو سمعه من أساتذته، ولقد حاولت أن أرجح كل حكم لأصله، ولكني رأيت في ذلك منافاة للإيجاز، وهو شرط هذا الكتاب.
على أن الغزالي مع ترسمه لما سبقه من الآثار الأدبية لم يخل من حرية الفكر، والميل إلى التجديد، فقد خرج على الأشعري في بعض آرائه، وخالف الشافعية في بعض ما يقولون به، ولكنه على كل حال يساير المتقدمين، ولا يخالفهم — حين يخالفهم — إلا برفق واحتياط، كما يفعل الحذر الهيوب.