البلدان التي عرفها الغزالي
نريد أن نذكر في هذا الفصل بعض البلدان التي عرفها الغزالي، لصلة ذلك بحياته، ونستثني بغداد، لأنها أشهر من أن تحتاج إلى تعريف، وقد خصها الأستاذ الكبير الدكتور طه حسين بكلمة ممتعة في كتابه ذكرى أبي العلاء، فليرجع إليه من أراد.
طوس
وقد خرج من طوس عدد كبير من أئمة العلم أشهرهم أبو حامد الغزالي، وخرج منها الوزير «نظام الملك». قال ياقوت: وأهل خراسان يسمون أهل طوس البقر، ولا أدري لم ذلك؟
وقال رجل يهجو نظام الملك:
وقال دعبل الخزاعي من قصيدة يمدح بها علي بن أبي طالب رضي الله عنه ويذكر قبري علي بن موسى والرشيد بطوس:
وطوس هذه هي موطن الغزالي ومولده، وبها قبره، إلا إن صح ما رواه بعضهم من أنه ولد بقرية تسمى غزالة بالقرب من طوس. وأنا لا أستبعد ذلك، ما دام ياقوت يحدثنا أنه كان لطوس أكثر من ألف قرية. وإذن يكون الغزالي بفتح الزاي لا بتشديدها، على أن في طبقات السبكي ص٩ ج٤ رجلًا آخر يلقب بالغزالي، ولا ضرورة لأن يكون هذا اسمًا لعائلة قديمة كما ظن الدكتور زويمر، بل يمكن أن يكون كلاهما نسب لتلك القرية الصغيرة: غزالة.
نيسابور
وقد خرج من نيسابور عدد كبير من أئمة العلم أشهرهم الحافظ الإمام أبو علي الحسين علي النيسابوري، الذي رحل في طلب العلم والحديث. وعقد له مجلس الإملاء بنيسابور سنة ٣٣٧ وهو ابن ستين سنة وقد توفي سنة ٣٤٩.
وقد أكثر الشعراء من ذم نيسابور. فمن ذلك قول أبي الحسن الإستراباذي:
وقال المرادي يذم أهلها:
وقال معن بن زائدة الشيباني يشكو ليله بنيسابور:
وفي نيسابور تلقى الغزالي عن إمام الحرمين الفقه والمنطق والأصول حتى برع أنداده، وزملاءه. وتولى في أخريات أيامه التدريس بالمدرسة النظامية في نيسابور مدة يسيرة، رجع بعدها إلى طوس، حيث اتخذ إلى جانب داره مدرسة للفقهاء وخانقاه للصوفية.
جرجان
مدينة مشهورة بين طبرستان وخراسان، فبعض يعدها من هذه وبعض يعدها من تلك، قيل إن أول من أحدث بناءها يزيد بن المهلب بن أبي صفرة. وقد خرج منها عدد من الأدباء والعلماء والمحدثين. ولها تاريخ ألفه حمزة بن يزيد السهمي. قال الأصطخري: أما جرجان فإنها أكبر مدينة بنواحيها، وهي أقل ندى ومطرًا من طبرستان، وأهلها أحسن وقارًا وأكثر مروءة ويسارًا من كبرائهم، وهي قطعتان إحداهما المدينة والأخرى بكراباذ. وبينهما نهر كبير. ولجرجان مياه كثيرة، وضياع عريضة، وليس بالمشرق بعد أن تجاوز العراق مدينة أجمع ولا أظهر حسنًا من جرجان. قال ياقوت: وبها الزيتون والنخيل والجوز والرمان وقصب السكر والأترج وبها إبريسم جيد لا يستحيل صبغه، وبها أحجار كبيرة لها خواص عجيبة، وبها ثعابين تهول الناظر، ولكن لا ضرر لها.
وقد فتحت في سنة ١٨هـ على يد سويد بن مقر، وخرج منها عدد عظيم من العلماء، كانت تشد إليهم الرحال.
وكان بها صنف جيد من الخمر، وفيها يقول ابن خريم:
ويذكر ياقوت أن أهل الكوفة كانوا يقولون: من لم يرو هذه الأبيات فهو ناقص المروءة … وذكر أن مسلم بن الوليد صريع الغواني مرض مرض الموت بجرجان، وأنه رأى نخلة لم يكن في جرجان غيرها فقال:
وإلى جرجان رحل الغزالي ليتلقى العلم عن أبي نصر الإسماعيلي وعلق عنه التعليقة التي حدثتك عما فعل بها العيارون وهو راجع إلى طوس.
دمشق
لو أنك رجعت إلى ياقوت، وقرأت في معجمه أخبار هذه المدينة لرأيت كيف يضل العرب في بيداء الخيال، ولعرفت أن لهم حظًّا من أساطير الأولين. وهذا الضلال في ذكر من بنى مدينة دمشق يصور لنا منزلتها المقدسة، التي احتلت قبلًا رءوس المسلمين: فهم تارة يذكرون أن بانيها هو دماشق بن فاني بن مالك بن أرفخشد بن سام بن نوح عليه السلام، وتارة أخرى يقولون إنها بنيت على رأس ثلاثة آلاف ومئة وخمس وأربعين سنة من جملة الدهر الذي يقولون إنه سبعة آلاف سنة، وحينًا يزعمون أن إبراهيم عليه السلام ولد بعد بنائها بخمس سنين وحينًا آخر يتوهمون أن العازر غلام إبراهيم عليه السلام هو الذي بنى دمشق.
وأغرب من ذلك كله قول ياقوت: وقال أهل الثقة من أهل السير أن آدم عليه السلام كان ينزل في موضع يعرف الآن ببيت أنات، وحواء في بيت لهيا، وهابيل في مقري وكان صاحب غنم، وقابيل في قنينة وكان صاحب زرع، وهذه المواضع حول دمشق.
ووجه الغرابة فيه إخلاده إلى من يسميهم «أهل الثقة» وأين وصل أهل الثقة إلى أخبار آدم ونوح، يا أيها المؤرخ الخطير؟!
وأحب أن أنبه القارئ إلى قيمة الإغراق والغلو في وصف البلاد فإنه نعم الباعث على الرحلة والسياحة، وإن دل على سذاجة الواصفين، وأربعة أخماس الناس يشتاقون إلى رؤية دمشق حين يقرءون أنها كانت مأوى الأنبياء ومصلاهم، وإنه كان بها مسجد إبراهيم وقبر موسى عليهما السلام، وإنه لم توصف الجنة بشيء إلا وفيها مثله!
وقد أكثر الشعراء من وصف دمشق، فمن ذلك قول أبي المطاع بن حمدان:
وقال الصنوبري:
وقال البحتري:
وقد أغرب الأقدمون في وصف دمشق، ومسجد دمشق، والذي ذكرته في ذلك كاف لما أنا بصدده من صلة الغزالي بهذه المدينة، فقد دخلها في سنة ٤٨٩ وأقام بها أيامًا قليلة، ثم عاد إليها بعد ذلك. واعتكف بالمنارة الغربية من الجامع، قال السبكي: واتفق أن جلس يومًا في صحن الجامع الأموي وجماعة من المفتين يتمشون في الصحن وإذا بقروي أتاهم مستفتيًا، ولم يردوا عليه جوابًا. والغزالي يتأمل. فلما رأى الغزالي أنه ليس عند أحد جوابه، ويعز عليه عدم إرشاده. دعاه وأجابه. فأخذ القروي يهزأ به ويقول: المفتون ما أجابوني. وهذا فقير عامي كيف يجيبني؟ والمفتون ينظرونه فلما فرغ من كلامه معه، دعوا القروي وسألوه: ما الذي حدثك به هذا العامي؟ وكان الغزالي إذ ذاك في زي فقير مجهول، فشرح لهم الحال فجاءوا إليه وتعرفوا به، وسألوه أن يعقد لهم مجلسًا، فوعدهم، ثم سافر من ليلته.
وهناك أحاديث كثيرة عن صلته بدمشق يضيق عن ذكرها المقام. وحسب القارئ هذا المقدار.
بيت المقدس
من المواطن التي قدسها العرب والمسلمون، وتركوا أمرها للخيال يصورها كيف شاء، فهم يزعمون أن الله تعالى قال لسليمان بن داود عليهما السلام حين فرغ من بناء بيت المقدس: سلني أعطك، قال يا رب: أسألك أن تغفر لي ذنبي. قال: لك ذلك. قال: يا رب، وأسألك أن تغفر لمن جاء هذا البيت يريد الصلاة فيه، وأن تخرجه من ذنوبه كيوم ولد. قال: لك ذلك. قال: وأسألك من جاء فقيرًا أن تغنيه. قال: لك ذلك. قال: وأسألك من جاء سقيمًا أن تشفيه. قال: ولك ذلك! ويروون عن أبي ذر أنه قال: قلت لرسول الله ﷺ: أي مسجد وضع على وجه الأرض أولًا؟ قال: المسجد الحرام. قلت: ثم أي؟ قال: البيت المقدس، وبينهما أربعون سنة. وينقلون عن كعب أنه قال: معقل المؤمنين أيام الدجال البيت المقدس يحاصرهم فيه حتى يأكلوا أوتار قسيهم من الجوع، فبينما هم كذلك إذ يسمعون صوتًا من الصخرة، فيقولون: هذا صوت رجل شبعان، فينظرون، فإذا عيسى بن مريم عليه السلام. فإذا رآه الدجال هرب منه، فيتلقاه بباب لد فيقتله، ويكاد الرواة يتفقون على أنها «عرصة القيامة» ومنها النشر، وإليها الحشر. ويزعمون أن سليمان كان اتخذ في بيت المقدس أشياء عجيبة: منها القبة التي فيها السلسلة المعلقة ينالها صاحب الحق، ولا ينالها المبطل، حتى اضمحلت بحيلة غير معروفة! وكان من عجائب بنائه أنه بنى بيتًا وأحكمه وصقله، فإذا دخله الفاجر والورع تبين الفاجر من الورع، لأن الورع كان يظهر خياله في الحائط أبيض، والفاجر يظهر خياله أسود! وكان أيضًا مما اتخذ من الأعاجيب أن ينصب في زاوية من زواياه عصا أبنوس فكان من مسها من أولاد الأنبياء لم تضره، ومن مسها من غيرهم أحرقت يده! قال ياقوت: «وقد وصفها القدماء بصفات إن استقصيتها أمللت القارئ.» فيا ليت شعري ماذا عسى أن تكون تلك الصفات؟
إنه لا شك في أن كل ما وصف به بيت المقدس ليس إلا صورة لمبلغ المتقدمين من فهم حقائق الأشياء، فليست زيارته بمخرجة أحدًا من ذنوبه، ولا براحمة فقيرًا من فقره، ولا بمنقذة سقيمًا من سقمه، كما يزعمون أن الله قال في ذلك، وليس هناك سند يثق به التاريخ عن بناء المسجد الحرام وبناء بيت المقدس بعده بأربعين سنة، كما يتوهمون أن النبي قال ذلك! ولن يأكل المؤمنون أوتار قسيهم من الجوع حين يحاصرهم الدجال في بيت المقدس، ولن يعود عيسى إلى هذا العالم كما يتوهم كثير من الناس، وهب ذلك، فمن يدرينا أن المؤمنين لن يملكوا يومئذ غير القسي والنبال؟ ولا تنس السلسلة التي علقها في القبة سيدنا سليمان، والتي كان ينالها صاحب الحق، ولا ينالها المبطل، فتلك بلا ريب وليدة الخيال! وما عسى أن يكون ذلك البيت الذي كان إذا دخله فاجر ظهر خياله أسود، وإذا دخله الورع ظهر خياله أبيض؟
اذكر هذه الصورة العجيبة لبيت المقدس، ثم اذكر قول ابن عباس: البيت المقدس بنته الأنبياء وسكنته الأنبياء، ما فيه موضع شبر إلا وقد صلى فيه نبي، أو قام فيه ملك. ثم اذكر ما يزعمون من أن أول شيء حسر عنه الطوفان بيت المقدس، وإن فيه ينفخ في الصور يوم القيامة، وعلى صخرته ينادي المنادي يوم القيامة!
اذكر هذا كله، ثم دعنا نخبرك بأن الغزالي يتمدح في كتابه «المنقذ من الضلال» بأنه كان يرحل إلى بيت المقدس فيدخل الصخرة كل يوم ويغلق بابها على نفسه ويتعبد فيها طول النهار! وإنه انكشف في أثناء هذه الخلوات أمور لا يمكن إحصاؤها واستقصاؤها كما قال.
هذه المواطن التي قدسها الخيال، ووضعت في فضلها الأحاديث، أثرت تأثيرًا بينًا في حياة الغزالي العقلية، وطبعت نظره إلى العالم بطابع خاص. ولولا خوف الإطالة لوصفنا ما رآه في سياحاته من المشاهد والبقاع، ولكن الرغبة في الإيجاز أرضتنا عن الاكتفاء بأشهر ما عرف من البلاد.