غفلة الغزالي وعناده
١
أما غفلته فدليلها ما في كتبه من الأحاديث الضعيفة والموضوعة وهي تقرب من ستمائة حديث.
وأنا لا أشك في نزاهة الغزالي وبعده من الكذب على رسول الله، فمحال على مثله في ورعه وتقواه أن يزور على النبي حديثًا، أو يضع في كتبه أحاديث يعلم أنها من الموضوعات. وحقيقة الأمر أن الرجل كان «يمتاز» بقسط كبير من الغفلة والبساطة، وإلا فكيف صدق أن النبي يقول: «إن الحسنات يذهبن السيئات كما يذهب الماء الوسخ.» وأقل الناس علمًا بالبلاغة يدرك أن رسول الله لا ينطق بمثل هذا الحديث وكيف يصدق ما روى من أن جبريل نزل فقال: «إن الله يقرئك السلام. ويقول: أتحب أن أجعل هذه الجبال من ذهب فتكون معك اينما كنت؟»
وما لي أطيل في نقد ما جاء في الإحياء مما لا إسناد له من الأحاديث وهي مسطورة في طبقات الشافعية، في ثمان وثلاثين صفحة من الجزء الرابع. والضعف فيها ظاهر لا يحتاج إلى دليل.
٢
وأما عناده فدليله إصراره على إبقاء ما جاء في كتبه من الأغلاط ورميه ناقديه بالغباوة، والحسد، والكذب، مع أنه كان يجمل به أن يتأمل نقدهم برفق، ويميز بين الغث منه وبين السمين، ولكنه اندفع كالصخر حطه السيل من شاهق، وأخذ برميهم بالزيغ والفسوق.
وبيان ذلك أنه ما زال يغرب معاصروه في الإنكار عليه حتى ضاق تلامذته ذرعًا بذلك، فكتب إليه أحدهم يرجوه دحض تلك المزاعم فصنف كتابًا سماه: «الإملاء في إشكالات الإحياء». وما نريد الآن تلخيص هذا الكتاب، فهو في أيدي الناس، وإنما نذكر مقدمته لنرى كيف ابتأس بما فعل أولئك المنكرون، فإن في هذا صورة لجانب من جوانبه الأخلاقية، وهو يدلنا على الأقل على مبلغ ثقته بنفسه، وإيمانه بصحة ما جاء في الإحياء، وعدم اكتراثه بآراء الناس.
وبقليل من التأمل نعرف من هذه المقدمة أن الغزالي يصر بعد أن نقده معاصروه على التشبث بأذيال الصوفية. ويمكننا أن نتوقع ما سيجيب به في كل ما أخذ عليه من الوجهة الشرعية، ويجب أن نفهم ذلك منذ الآن، لنخرج كل ما نقلناه في آرائه الأخلاقية من الشذوذ هذا التخريج ولنرجع إسرافه في بعض المواطن إلى هذا الأصل الذي اختاره وارتضاه وهو التصوف وإلا فمن هم النقباء، والنجباء، والبدلاء، والأوتاد، إن لم يكونوا جماعة من المتصوفة الذين يستبيحون ما لا يباح؟!
ومن أظرف ما أجاب به الغزالي فيما أخذ عليه من الأغلاط النحوية، أنه قليل الخبرة بالنحو، ثم ما أجمل نصحه لتلامذته بأن يصلحوا ما يعثرون عليه من أشباه هذه الأغلاط! ويا ليته نصح بمثل هذا في إصلاح ما ضل فيه من الأحكام!
الكذب على الغزالي
ومما يجب التنبه له أن الغزالي لم يسلم من الكذب عليه فقد وضعت المؤلفات باسمه، واتجر به المضللون. ويذكر الزبيدي من هذه الكتب: «السر المكتوم في أسرار النجوم» وينص على أن هذا الكتاب نسب أيضًا إلى الفخر الرازي، وأنه سئل عنه فأنكره. ومما دس على الغزالي كتاب: تحسين الظنون، وكتاب النفخ والتسوية، وكتاب المضنون به على غير أهله. قال السبكي: ذكر ابن الصلاح أنه منسوب إليه، ثم قال: معاذ الله أن يكون له، وبين سبب كونه مختلقًا موضوعًا عليه. قال الزبيدي: والأمر كما قال، فقد اشتمل على التصريح بقدم العالم، ونفي القديم بالجزئيات، وكل واحد من هذه يكفر الغزالي قائلها هو وأهل السنة أجمعون، فكيف يتصور أنه يقولها؟
وقد ذكر الأستاذ الدكتور علي العناني في محاضراته بالجامعة المصرية أنه يبعد أن يكون «المضنون به على غير أهله» هو ما بأيدي الناس، لأن هذا الكتيب الضعيف لا يدل على المعنى الذي قصده الغزالي من «المضنون به على غير أهله» ويرجح الدكتور العناني أن يكون «المضنون به على غير أهله» كتابًا ضخمًا يشمل آراء الغزالي الفلسفية التي يضن بنشرها على الجمهور.
وعندي أن رأي الدكتور العناني صواب لأمرين: الأول أن الغزالي كان ينصح دائمًا بأن لا يلقى للعامة غير الكلام البسيط، فمن المعقول أن تكون له آراء خاصة تخالف ما في كتاب الإحياء، وأمثال كتاب الإحياء الثاني ما ذكره الزبيدي من أن كتاب «المضنون به على غير أهله» يشتمل على التصريح بقدم العالم ونفي علم القديم بالجزئيات، فإن هذه المسائل لا توجد في النسخة التي يتداولها الناس. وقد رجح جورجي زيدان في فهرس تاريخ «الآداب العربية» أن كتاب: «التبر المسبوك» مدسوس على الغزالي، وقد حاولت تحقيق ذلك، فوجدت ما يقرب رأي جورجي زيدان وما يبعده. أما ما يقربه فهو إسقاط اسم من ترجمه من الفارسية. وظهور الكتاب بمظهر الضعف في كثير من الموضوعات، وأما ما يبعده فهو تقارب مادته من مؤلفات الغزالي الأخلاقية، وإحالته على الإحياء في كلامه عن رذيلة الغضب إلا أن يكون من دسه عليه غشى فعلته تلك بهذه القرائن الصناعية، التي توهم القارئ أن لا وضع ولا اختلاق. ومما لا مرية فيه أن مصنفات وضعت باسم الغزالي، فأما عددها فلا يزال مظنة الارتياب.
ولا يفوتنا في ختام هذا الباب أن نذكر القارئ بما لاحظناه فيما سلف من اختلاف آراء الغزالي في كتبه، باختلاف سنه وصحته. فقد وضع مؤلفاته في ظروف مختلفة، كان في بعضها يحكم العقل والشرع، وكان في بعضها يساير الصوفية في أوهامهم ووساوسهم. والرجل في الواقع معذور، فقد كان يؤلف في أوقات لا تصلح مطلقًا للتأليف، لأنه يشترط في المؤلف ما يشترط في القاضي من الصحة وهدوء البال.