تمهيد
الجوهر الفرد أو الجزء الذي لا يتجزأ
إن البحث في الذرة لم يكن الباعث عليه الرغبة في استخدام القوة الكامنة فيها، أو الاستفادة من الطاقة المدخرة بين ثناياها، وإنما نشأ البحث في الذرة وتركيبها كما نشأ البحث في مختلف فروع العلم عن رغبة في المعرفة، نشأ عن أن العقل البشري يميل إلى دراسة الطبيعة وتفهُّم أسرارها، يميل إلى دارسة الكون والتعرف على خفاياه وما استغلق من أمره؛ ففي الفلسفة الإغريقية القديمة نجد أن طاليس الذي عاش في ميليتوس حوالي سنة ٦٠٠ قبل الميلاد يتكلم عن ضرورة وجود وحدة أساسية أو جوهر أوَّلي تتألف منه المواد، كما نجد لوسيبوس وديبوكريتوس ولوكريتيوس يتكلمون عن ذرات تتركب منها المواد المختلفة ويبحثون في اختلاف هذه الذرات وتشابهها. وفي العصر العربي نجد الفلاسفة والمتكلمين يبحثون في منطقية الجوهر الفرد والجزء الذي لا يتجزأ؛ كل هذه الأبحاث قد نشأت عن رغبة الإنسان في تفهم ما يحيط به من الظواهر الطبيعية، وفي أن يدرك كنه هذه الظواهر إدراكًا صحيحًا.
وقد ظلَّ البحث في الذرات وخواصها فرعًا من فروع الفلسفة الكلامية لا يكاد يتصل بالتجربة العملية بسبب حتى النصف الأول من القرن التاسع عشر؛ ففي ذلك العصر تقدمت دراسة الكيمياء تقدمًا كبيرًا، وازداد البحث والتنقيب، وأجهدت القرائح، فقام العالم الإنجليزي جون دالتون بإحياء رأي الأقدمين في وجود الذرة، ودلَّل على صحة هذا الرأي بنتائج التجربة في التفاعلات الكيميائية، ونشأت فكرة الجزيء الذي هو عبارة عن جملة ذرات مجتمعة معًا، فوضع علم الكيمياء على أساس منطقي مقبول.
العناصر والمركبات – الذرات والجزيئات
وقد زاد هذا العدد حتى وصل في الوقت الحالي إلى ثلاثة وتسعين عنصرًا، وإلى أواخر القرن الماضي كانت هذه الآراء تُعرف بالفرض الذري أو بالنظرية الذرية، على اعتبار أنها نظرية علمية تفرضها علينا الحقائق التي نعرفها عن التفاعلات الكيميائية وتتفق مع هذه الحقائق، ومن سوء الحظ أن كلمة أتوموس الإغريقية التي اشتق منها اسم الذرة في معظم اللغات الحديثة معناها الحَرفي: ما لا يقبل التجزئة؛ لذلك كان من الفِكَر الشائعة في الأذهان أن الذرة لا تقبل التجزئة، بعكس الجزيء الذي يقبل التجزئة إلى ذرات.