مقدمة
غير أن ذلك إيجاز يحتاج إلى قليل من الشرح والتفصيل:
- الفكرة الأولى: هي أن للتصوُّف قيمة خاصة، وأنه من ثَم جدير بالدراسة، وهو يستشهد برسل (١٨٧٢–١٩٧٠م) الفيلسوف التحليلي العقلاني وعالِم الرياضة المعروف، الذي لا علاقة له بالتصوف، ومع ذلك يعترف بأنَّ «وحدة التصوف مع رجل العلم تُشكِّل أعلى مكانة مرموقة يُمكن إنجازها في عالم الفكر». ويُشير إلى نماذج لهذا الاتحاد بين التصوف والعلم عند عظماء الفلاسفة: هيراقليطس، وبارمنيدس، وأفلاطون، واسبينوزا … إلخ، ومن هنا كانت صلة وثيقة بين التصوف والفلسفات الكبرى التي أثَّرت في مجرى تاريخ الفكر البشري، لكن ماذا عن المعتقدات — لو كانت هناك مثل هذه المعتقدات — التي ينبغي علينا أن نستمدها كأناس معتدلين من التصوف؟ والجواب أنها كثيرة، منها أن التصوف هو جوهر الدين، وأنَّنا جميعًا متصوِّفة بدرجة كبيرة أو صغيرة.
- والفكرة الثانية: التي يُمهِّد بها المؤلف لبحثه هي: هل يجوز لغير المتصوِّف أن يكتب شيئًا ذا قيمة عن التصوف أم إنَّ مثله في هذه الحالة سيكون مثل الحمار يحمل أسفارًا؟ ويُجيب المؤلف بالإيجاب، ويضرب المثل بالفيلسوف الأمريكي المُعاصر وليم جيمس (١٨٤٢–١٩١٠م) الذي حال تكوينه الشخصي بينه وبين الاستمتاع بالتجربة الصوفية، ومع ذلك فلا يُمكن لعاقل أن يُنكر أن إسهاماته في فهم هذا الموضوع كانت ذات قيمة بدرجة كبيرة جدًّا، سواءً في كتابه «صنوف من التجربة الدينية» أو «مبادئ علم النفس»، مما يوحي بأنَّ التعاطف مع التصوف — حتى من جانب الفيلسوف غير الصوفي — قد يعطيه قَدرًا من البصيرة للنفاذ في حالة الذهن الصوفي ومناقشتها. وفضلًا عن ذلك فإن المتصوِّفة أنفسهم يتفلسفون، وهم بذلك يهبطون إلى أرض العقل التحليلي، أعني أرض الفيلسوف غير الصوفي، ولا يُمكن لهم — عندئذٍ — أن يتوقعوا الإفلات من النقد والتحليل العقلي، فلا يُمكن لهم غزو أرض الفيلسوف، ثم ينكرون عليه في الوقت ذاته حقه في مناقشة أقوالهم الفلسفية!
- والفكرة الثالثة: هي أن المبدأ الطبيعي الذي يُنادي بسيادة القوانين في الطبيعة لا يتعارض مع التجارب الصوفية؛ فالصلوات، والتضرعات، والابتهالات … إلخ، التي يقوم بها المتصوف، لا تستهدف تغيير مسار الأحداث الطبيعية، وإنَّما هي تستهدف أساسًا الاتصال بالله، أو الاتحاد بما يعتبره الموجود الأعلى، وليست التماسًا لمعروف أو رعاية، اللهم إلَّا بمقدار ما ينظر المتصوف إلى الاتحاد نفسه، بالطبع، على أنه أقصى معروف يُمكن للموجود البشري أن يسعى إليه. وهكذا ينتهي المؤلف إلى أن المبدأ الطبيعي — أو سيطرة القوانين العلمية على ظواهر الطبيعة — لا يتعارض مع الإيمان «بحقيقة مطلقة» — أو الإيمان بالله — تلك الحقيقة التي تقع خارج — أو تجاوِز — عالم الزمان والمكان، الذي هو عالم القوانين العلمية.
- والفكرة الرابعة: هي ما يُقال أحيانًا من أن التجربة الصوفية يُمكن أن تَحدث نتيجة للمخدرات والعقاقير من أمثال «حمض المسكل» (وهو نوع من الصَّبَّار تستقطر أوراقه لإحداث الأثر المطلوب)، والواقع أن عظماء الصوفية — الذين وصلوا إلى حالات صوفية نتيجة لممارسات روحية شاقة وطويلة — ينظرون شزرًا إلى مثل هذا الزعم. وإن كان المؤلف يرى أنَّنا لم نصل بعد إلى معرفة كافية بالآثار التي تُحدثها العقاقير؛ لأن التجارب المعملية لهذه العقاقير ما زالت في طور النمو والتقدم، ولهذا فإنَّ علينا أنْ ننتظر ما تُسفر عنه من نتائج.
- والفكرة الخامسة: هي التفرقة بين التجربة الصوفية ذاتها والتأويلات التصورية التي تُقال عنها، وهي تشبه التفرقة التي يُمكن أن نقوم بها بين التجربة الحسِّية التي هي أساس العلم وتأويلها. ويذهب المؤلف إلى أنه يستحيل أن تكون هناك «تجربة» — حسِّية أو صوفية — «خالصة» معزولة عن تأويلها. ومع ذلك فالإحساس — في حالة التجربة الحسِّية — شيء، وتأويله شيء آخر، وقُل مِثل ذلك في التجربة الصوفية التي يُمكن أن تكون لها تأويلات شتى، وأهمية هذه التفرقة أن المؤلف يبني عليها فكرة أساسية هي أن التجربة الصوفية واحدة عند جميع المتصوِّفة؛ إذ تتفق التجارب الصوفية التي رواها المسيحيون، والمسلمون، واليهود، والهندوس، والبوذيون، وأيضًا المتصوِّفة الذين لم يتبعوا أيَّة عقيدة دينية مُحدَّدة، لكنَّها تختلف في تأويل كل متصوِّف لتجاربه تأويلًا عقليًّا مستمدًّا من خصائص ثقافية؛ فالتأويل هو إضافة عقلية إلى التجربة بغرض فهمها، وقد يكون من عمل المتصوف وغير المتصوف، فالقول مثلًا بأنَّ التجربة الصوفية ذاتية فقط، أو أنها موضوعية، فذلك تأويل عقلي يُضاف إلى التجربة نفسها، والمؤلف يستخدم كلمة «التصوف» لتعني التجربة الصوفية وتأويلاتها في آنٍ معًا.
- والفكرة السادسة: والأخيرة التي يُقدِّمها المؤلف كافتراض سابق للبحث هي أنَّ
البرهان أو الشواهد التي يُقدِّمها عن التصوف في
ثقافة معينة ينبغي أن تكون شاملة، وذلك يعني أنه لا
يدرس التصوف في ثقافة معينة، كالتصوف المسيحي
مثلا، وإنما هو يدرس التصوف في جميع الثقافات
المتحضرة، ولهذا فقد كان عليه أن يضرب الأمثلة، ويسُوق
الشواهد على فكرته من التصوف المسيحي، والإسلامي،
واليهودي، والهندوسي، والبوذي، والطاوي، بل وبوذية زن
Zen (أي بوذية
التأمُّل التي ظهرت في الصين، ثم انتقلت إلى اليابان)
فضلًا عن التجارب الصوفية التي سجَّلها أولئك
المتصوِّفة الذين لم يكونوا تابعين لأيَّة ديانة
معينة. وقد أُطلِق عليهم اسم «المتصوِّف اللامنتمي»!
وقُل مِثل ذلك في المتصوِّفة المعاصرين، وهذا ما يقصده
المؤلف «بشمول البرهان» أو كلية الشواهد، التي لا بد
أن تتنوَّع مصادرها — لكي تكون دراسة أكاديمية جادة —
ويسوق ثلاثة أنواع من المصادر، هي:
- أولًا: ألوان التصوف التي ترتبط تاريخيًّا بديانات العالم العُظمى.
- ثانيًا: المتصوِّف اللامنتمي؛ مثل أفلوطين.
- ثالثًا: المتصوِّفة المعاصرين؛ سواءٌ أكانوا مشهورين أو مغمورين، وسواءٌ أكانوا من اللامنتمين أو المرتبطين بديانة معينة.
ويضيف المؤلف أن هناك بعض الظواهر الأخرى التي ترتبط أحيانًا ارتباطًا وثيقًا بالحياة الصوفية، لكنَّها لا تُشكِّل أي جزء ضروري منها أو مصاحب لها، مثل: ضروب النشوة، والغبطة، والانفعال العنيف. فهذه كلها حالات طارئة تُصاحب الوعي الصوفي، لكنَّها بالقطع لا هي عامة ولا هي ضرورية، وإنَّما هي تحدُث بين المتصوِّفة الأشد انفعالًا، والأكثر اضطرابًا في الأعصاب، لكنَّها لا تقع بين المتصوِّفة الأكثر هدوءًا ورصانة وثقافة، ومن ثَم فلا يُمكن النظر إليها على أنها تنتمي إلى المحور الكلي العام للتجارب الصوفية، وقُل الشيء نفسه عن خصائص ثالثة مستبعدة؛ مثل: التشبيهات الجنسية المجازية التي تزخر بها الكتابات الصوفية عندما يُريد المتصوِّف «تزيين» اتحاده مع الله، ثم يُضيف إلى ذلك أن الإفراط في الانفعال أو المغالاة فيه عند بعض المتصوِّفة ليس جزءًا من المحور الكلي العام للتصوُّف، وإنَّما هو تعبير عن النوع الانفعالي من المتصوفين الذين يتحدثون، مثلًا، عن الحب الذي يشعرون به، والذي طغى عليهم أثناء تجربة اتحادهم بالله، ويصفونه بأنه «متوهج»، «عنيف»، «نشوان»، «مشبوب»، على نحو ما جاء في قول القديسة تريزا «إنَّني في أعماقي سكرانة بالحب!»
على أن إدانة المؤلف للإفراط في الانفعال وإهماله له على أنه جزء غير ضروري من الوعي الصوفي لا يعني، بالطبع، أنه يُنكِر أن هناك باستمرار عنصرًا من الانفعال — من نوعٍ ما وبدرجة ما — في ذلك الوعي، وأنَّ ذلك العنصر ضروري وعام، والواقع أن ذلك يصدُق على كل «تجربة بشرية»؛ فهي لا تكون أبدًا مُحايدة تمامًا من الناحية الانفعالية، بل تحمل معها باستمرار شحنة عاطفية مؤثرة من نوعٍ ما.
نعود إلى المؤلف الذي يعتقد أن هناك سمات خاصة تتميَّز بها التجربة الصوفية الانبساطية، وهو يُحدِّدها في سبع خصائص، هي:
-
(١)
الرؤية الموحِّدة للأشياء التي تُعبِّر عنها الصيغة المجردة «الكل واحد» على أن الواحد يُدرَك في التجربة الانبساطية من خلال الإحساس البدني في — أو من خلال — كثرة من الموضوعات.
-
(٢)
يُدرَك الواحد في هذه التجربة على أنه الحياة التي تسري في كل شيء، وكثيرًا ما يوصف بكلمات مختلفة مثل الحياة أو الوعي أو الحضور الحي، فلا شيء جامد أو ميِّت.
-
(٣)
الإحساس بالموضوعية أو الواقعية.
-
(٤)
الشعور بالغبطة أو النشوة أو السعادة أو الرضا … إلخ.
-
(٥)
الشعور بأنَّ ما يُدركه الصوفي هو شيء مقدَّس أو ديني أو إلهي.
-
(٦)
انطواء التجربة على مفارقة (أو تناقض).٤
-
(٧)
زعم المتصوف أن تجربته لا توصف، أو هي فوق الوصف، أو أنه لا يستطيع أن يُعبِّر عنها في كلمات.
- (١)
الوعي الموحِّد الذي يستبعد كل كثرة للمضمون الحسِّي أو التصوُّري أو أي مضمون تجريبي آخر، حتى إنه لا يبقى سوى الوحدة الفارغة أو الخالية بحسب؛ تلك هي الخاصية الأساسية أو الجوهرية أو النواة، التي تنتج عنها معظم الخصائص الأخرى.
- (٢)
التجربة ليست مكانية أو زمانية، وهي خاصية تنبع، بالطبع، من الخاصية النواة التي ذكرناها الآن توًّا.
- (٣) الشعور بالموضوعية أو الحقيقة الواقعة Reality.
- (٤)
الشعور بالغبطة أو النشوة، والسلام، والسعادة … إلخ.
- (٥)
الشعور بأنَّ ما تمَّ إدراكه هو المقدس أو الإلهي.
- (٦)
انطواء التجربة على مفارقة.
- (٧)
زعم المتصوف أن تجربته لا توصف، أو هي تفوق الوصف، ولا يُمكن التعبير عنها.
التصوف الانبساطي أو الانطوائي، فيُمكن أن نقارن بين القائمتين السابقتين لنجد أن الاختلاف بينهما ضئيل للغاية؛ فالخصائص رقم ٣، ٤، ٥، ٦ واحدة في القائمتين، ومعنى ذلك أن هناك خصائص مشتركة كلية وعامة للتصوف (من النوعين) في جميع الثقافات، والعصور، والديانات، وحضارات العالم. وإن كان المؤلف يذهب إلى أن التجربة الانبساطية أدنى بالفعل من التجربة الانطوائية، أو أنها نوع ناقص أو كامل من تجربة تجد اكتمالها أو تحقُّقها التام في النوع الانطوائي، فإذا كانت فكرة «الوحدة» أو «الواحد» أساسية في التجربة الصوفية بصفة عامة فإنَّها تتحقَّق جزئيًّا فقط في النوع الانبساطي في حين أنها تتحقَّق تحقُّقًا كاملًا في النوع الانطوائي، الأول ينزع إلى توحيد الكثرة، أمَّا الثاني فتُطمس فيه الكثرة تمامًا، ومن هنا كانت هذه التجربة بلا زمان ولا مكان، ما دام الزمان والمكان هما مبدآ الكثرة، وهنا نجد الماهية الداخلية لكل تجربة صوفية، أو النواة المركزية التي تدور حولها جميع الخصائص الأخرى.
في الفصل الثالث يطرح المؤلف السؤال الذي كثيرًا ما يُردِّده الناس، وهو: هل التجربة الصوفية موضوعية؟ أهي تكشف عن «واقع» لا يصل إليه الناس بأيَّة طريقة أخرى؟ قد يُقال في الإجابة عن هذا السؤال إن هناك إجماعًا بين المتصوِّفة على أن تجاربهم تُشير إلى «مرجع موضوعي»، وليس هناك أدنى احتمال لاتهامهم بالكذب أو التزييف، ومن ثَم فلا بد أن يكون «لبرهان الإجماع» هذا قوته وأهميته الخاصة، طالما أنه دليل غامر يقوم على شهادة عدة آلاف من الأشخاص في مختلف البلدان، والثقافات، والعصور، في جميع أنحاء العالم. فضلًا عن أن الشهادة التي تُقدَّم من إحدى مناطق العالم، أو في فترة من فترات التاريخ مستقلة عن أولئك الذين قدَّموا نفس الشهادة في مناطق أو فترات أخرى، ومجهولة لديهم.
النظام هو، إذن معيار الموضوعية، فهل التجارب الصوفية منظَّمة بهذا المعنى؟ هل التجربة الصوفية، انبساطية أو انطوائية، تتألَّف من اقترانات متواصلة منظمة؟ من الواضح أن الجواب بالنفي، ومعنى ذلك أنَّ التجربة الصوفية، بنوعيها، ليست موضوعية، فهل هي ذاتية؟ تكون التجربة ذاتية إذا انطوت على خرق إيجابي لقوانين الطبيعة وكانت مشتَّتة أو غير منظَّمة، لكن التجربة الصوفية ليست كذلك، ومن ثَم فهي لا يُمكن أن تكون ذاتية، بالضبط لنفس السبب الذي يجعلها لا يُمكن أن تكون موضوعية. وهكذا ينتهي المؤلف إلى أن التجربة الصوفية لا هي ذاتية ولا هي موضوعية، بل هي تجربة «تجاوز الذاتية» وتعلو عليها.
ويتساءل المؤلف: هل شعور الصوفي بالموضوعية أو بالاتصال بحقيقة «واقعية» ينطوي على أي قدر من الإقناع لغير الصوفي؟ ويُجيب أنَّ الفلاسفة يرفضون ذلك، فما يشعر به الصوفي عن يقين، مهما كان مقنعًا بالنسبة للمتصوِّف ليس له أدنى وزن عند غير المتصوِّف. وكثيرًا ما بُذِلت محاولات لتفسير هذه الظاهرة على أساس افتراض أنها تقوم على اللاشعور، لكن الصوفي يصر على أن مصدرها النهائي يُجاوز اللاشعور كما أنه خارج عن ذاته.
وينتهي «ستيس» إلى القول بأنَّ العلو الذاتي هو جزء من التجربة الصوفية نفسها، وهو السبب في أن الصوفي يكون على يقين مطلق من حقيقتها، بعيدًا عن أي احتمال في مجادلته في ذلك؛ لأن تأويل التجربة يُمكن الشك فيه. أمَّا التجربة نفسها فلا يُمكن الشك فيها.
- (١)
أنه ليس ثمة تمييزات في الواحد.
- (٢)
أنه لا يوجد تمايُز بين موضوع وموضوع.
- (٣)
أنه لا يوجد تمايُز بين ذات وذات.
قد يعتقد المرء أن البديل للنظرية الثنائية التي تُنادي بالاختلاف الخالص بين الله والعالم هو النظرية الواحدية التي تنادي بالهوية الخالصة بينهما، وقد تتخذ النظرية صورتَين؛ «الإلحاد» أو «اللاكونية»؛ الأولى تقول إن ما هو موجود هو مجموعة الأشياء في العالم فحسب، وإنَّ الله ليس سوى اسم آخر لهذه الأشياء، وهي نظرية مرفوضة لأنها لا تُبرِّر لنا لِمَ تستخدم اسم الله في هذه الحالة؟!
وهكذا ينتهي المؤلف إلى رفض النظرية «الواحدية» أيضًا؛ لأنها لا تنتهي، فيما يقول، إلَّا إلى لغو فارغ، ولمَّا كنَّا قد رفضنا الثنائية، فلم يعُد أمامنا الآن سوى أن نتجه نحو المركب منهما، ألا وهو وحدة الوجود، على ما فيها من مفارقات.
وحدة الوجود، تعتمد على مبدأ «الهوية في الاختلاف»؛ فهي ترى هوية الله والعالم، وهذا هو الجانب الواحدي من هذا المبدأ، وهو ينتج من تعريف الله بأنه الوجود اللامتناهي؛ ذلك أن اللامتناهي الحقيقي هو ما لا يوجد شيء خارجه، ولا يوجد شيء غيره. ومعنى ذلك أنه ليس ثمة سوى الله. وهكذا لا يكون العالم شيئًا غير الله، ولا يُمكن أن يقع خارجه شيء آخر. وهذا هو مصدر وحدة الوجود في الكتابات المقدسة الهندوسية وعند اسبينوزا.
ويُناقش المؤلف في الفصل الخامس العلاقة بين «التصوف … والمنطق». والمنطق الذي يقصده هو المنطق الصوري بقوانينه الثلاثة (الهوية – عدم التناقض – الثالث المرفوع)، وهو يصطدم بما ينطوي عليه التصوف من مفارقات؛ مفارقة وحدة الوجود «الهوية في الاختلاف»، مفارقة «الخواء-الملاء»، مفارقة «فناء الذات ودوام وجودها» … إلخ، وهي كلها تُعبِّر عن تناقضات منطقية واضحة. وقد وُضِعت عدة نظريات لحل هذه المتناقضات؛ منها نظرية «المفارقة البلاغية»، التي ترى أن المفارقة هي عبارة عن حيلة بلاغية يستخدمها المتصوِّف للتأثير على السامع لما فيها من جمال شعري، وإيقاع مطَّرِد، ولغة بلاغية. ويرفض المؤلف هذا التفسير؛ لأن الحديث عن الوجود الإلهي بأنه «قريب وبعيد معًا»، وأنه خواء وملاء، ودينامي وساكن … إلخ، هي تناقضات حقيقية وليست مجرد حيلة بلاغية.
هناك أيضًا نظرية «الوضع المزدوج»، وهي تقول إنَّه ربما كانت الكلمتان المتناقضتان «السكون والحركة»، «الخواء-الملاء»، «النور-الظلمة» بدلًا من أن يوضعا في شيء واحد، فإنَّهما يوجدان معًا في موضع مزدوج؛ أحدهما في شيء، والآخر في شيء آخر، وبذلك يزول التناقض، لكن الواقع أنه يستحيل تطبيق هذه النظرية على بعض المفارقات الصوفية؛ مثل مفارقة فناء الذات الفردية مع دوام وجودها؛ فالأنا الواحدة هي التي تتوقَّف عن الوجود وتواصل الوجود في وقت واحد، ولا معنى لقولنا إن هناك فردين؛ واحد يتوقَّف عن الوجود، والآخر يواصل الوجود، ومن ثَم فهي نظرية مرفوضة. وقُل مِثل ذلك في نظرية «التباس الدلالة»، التي تذهب إلى أن الكلمة التي يستخدمها الصوفي قد تكون ذات معنيَين مختلفين.
وفي الفصل السادس يُناقش المؤلف موضوع «التصوف … واللغة». والمشكلة هنا هي أن المتصوِّف يشعر دائمًا أن اللغة قاصرة وغير كافية وأنها من ثَم لا غناء فيها كوسيلة لنقل تجاربه واستبصاراته إلى الآخرين، ولهذا نراه عندما يستخدمها يعلن أنها لا تقول ما يرغب قوله، وأنَّ جميع الكلمات عاجزة عن أن تفعل ذلك، ومن ثَم فإن تجربته مِمَّا لا يُمكن وصفه أو التعبير عنه، ويعتقد «ستيس» أن المشكلة تكمن في أن لدى الصوفي نوعًا خاصًّا من الوعي يختلف في الدرجة عن نوع الوعي المألوف لنا في حياتنا اليومية، ولا يوجد بينهما خاصية مشتركة سوى أنهما معًا وعي، وهي لا تعود إلى أي سبب من الأسباب التي تجعل من الصعب علينا أن نصوغ مشاعرنا وتجارِبنا اليومية في كلمات، كما أنها لا يُمكن تفسيرها بمصطلحات علم النفس المألوفة.
أمَّا الفصل السابع فيناقش فيه المؤلف «التصوف … والخلود» ويثير مجموعة من التساؤلات: لو سلَّمنا بأنَّ الوعي — أو النفس أو الروح — يبقى بعد الموت، فلا بد أن نسأل: وعي مَن الذي يبقى؟ وعي الرجل الناضج في سن الأربعين، أم الوعي الفج للمراهق، أم روح الطفل الرضيع وقد عادت إلى الظهور من جديد بعد الموت لتسير في اتجاه الأزل؟ كما يُشير أيضًا إلى المتاعب التي تُثيرها نظرية التطور، فإذا كان الإنسان قد تطوَّر من الحيوان، وإذا كان الوعي الإنساني سوف يبقى بعد الموت، ألا يستتبع ذلك بقاء الوعي الحيواني أيضًا؟
أمَّا الفصل الثامن والأخير فيُخصِّصه المؤلف لمناقشة العلاقة بين «التصوف، والأخلاق، والدين». ولعل أمتع ما فيه، مناقشته للاتهام الذي يوجهه النقَّاد عادةً إلى المتصوِّفة، والذي يذهبون فيه إلى أنَّ التصوف ليس إلَّا حيلةً أنانيةً للهروب من مسئوليات الحياة، وواجباتهم الأخلاقية تجاه إخوانهم من البشر؛ فهو استمتاع بالغبطة والتأمل، ومحاولة للخلاص الفردي، ويضربون المثل على ذلك بالتصوف الهندي، الذي وقف موقفًا سلبيًّا تجاه عذاب الناس وآلامهم ومشاكلهم. غير أن المؤلف يرفض هذا الاتهام، ويرى أنه «تعصب» من النقَّاد الغربيين ضد صوفية الشرق؛ ذلك لأنَّ «بوذا»، مثلًا، عندما وصل إلى الاستنارة، وهو في عزلته تحت شجرة «البو» لم يبقَ في هذه العزلة، بل هبط منها إلى الناس ليرشدهم إلى طريق الخلاص، وكذلك فعل نُسَّاك الهند الذين كانوا يؤمنون بضرورة انتقال الشعلة من رجل إلى رجل، من خلال العلم الروحي، وهم بذلك يوضحون طريق الخلاص الذي وجدوه أمام الآخرين، فهم يُعلِّمون ما يعتقدون أنه الحياة الطيبة أو الخيِّرة، ولا يُمكن أن نُسمِّ هذا النشاط «أنانية»، كما يضرب المؤلف أيضًا المثل «بغاندي» الذي هو النموذج الأول للعقلية الهندية، وما كان له من نشاط روحي وسياسي واجتماعي، في طول البلاد وعرضها. ويدعو المؤلف في النهاية إلى البحث عن مركب يجمع قيم الشرق والغرب معًا ليُنير الطريق أمام الإنسانية.
•••
أردنا في هذه المقدمة أن نُقدِّم للقارئ خيوطًا مُرشِدة، تُساعده وتوضح له طريق السير في هذا الكتاب الممتع، لكن ذلك لا يغني بالطبع عن قراءة الكتاب على مهل، وبشيء من الرويَّة والتدبر، حتى يستمتع هو نفسه بكل فصوله، وليرى كيف يُفكِّر الفلاسفة في المسائل الروحية بعمق نافذ.
واللهَ نسأل أن يهدينا جميعًا سبيل الرشاد.
الهرم، سبتمبر ١٩٩٧م