تصدير
هدفي من هذا الكتاب هو دراسة هذه المشكلة: ما أثر «التجربة الصوفية»؟ إن كان هناك مثل هذا الأثر، على أكثر مشكلات الفلسفة أهمية؟ سوف نبدأ من واقعة سيكولوجية لا يُمكن إنكارها إلا عن جهل، وهي أن بعض الموجودات البشرية تتعرض أحيانًا لتجارب غير عادية يُطلق عليها اسمًا مميَّزًا هو «التجارب الصوفية»، وهي تجارب مدوَّنة، أو يُشار إليها على الأقل، في آداب الأمم المتحضرة في جميع العصور، لكن ما دامت صفة «الصوفية» غامضة تمامًا، فلا بد لنا أن نفحص أولًا المجال فحصًا تجريبيًّا، لنُحدِّد ما هي أنواع وأنماط تلك التجارب التي تُسمَّى «صوفية»، لنُحدِّدها ونُصنِّف خصائصها الرئيسية ولنُعيِّن حدود هذه الفئة من التجارب، أو تلك الحالات الذهنية، التي اخترناها ووصفناها، يُمكن أن تُلقي أي ضوء على مشكلات مثل: هل يوجد في العالم أي حضور روحي أعظم من الإنسان؟ وإن صحَّ وكان هناك مثل هذا الحضور، فما هي علاقته بالإنسان؟ وما هي علاقته بالكون بصفة عامة؟ هل يُمكن لنا أن نجد في التصوف أي توضيح لمشكلات مثل: طبيعة النفس (أو الذات) وفلسفة المنطق، ووظائف اللغة، وحقيقة — أو عدم حقيقة — دعوى الإنسان في الخلود، وأخيرًا طبيعة الإلزام الخلقي ومصادره، ومشكلات الأخلاق بصفة عامة؟
وإن كان من الأفضل أن تكون على حق على نحو غامض، من أن تكون على خطأ على نحو واضح.
وهذا السؤال يوازي من بعض الجوانب سؤالًا مِثل: ما أثر تجربتنا الحسِّية، كإحساسات اللون مثلًا؛ إذ كان هناك مثل هذا الأثر، على مشكلة طبيعة الكون وبنيته؟ وأنا أقول: «إنَّها توازي من بعض الجوانب.» أمَّا إلى أي حد يمكن أن نأخذ المماثلة والتشابه مأخذ الجد؛ فتلك إحدى المشكلات التي نواجهها. أمَّا القارئ الذي لا يغريه شيء يتجاوز تصدير هذا الكتاب؛ فهو ليس مخولًا أن يرفض في الحال هذه المقارنة، ما لم يُرِد اتهام نفسه بالتحيُّز والحكم المبتسر.
أنا أكتب هذا الكتاب بوصفي فيلسوفًا وليس متصوِّفًا، ولستُ أزعم لنفسي الخبرة أو التخصص في أي مجال ثقافي من مجالات التصوف التي يُناقشها هذا الكتاب. ولقد اخترتُ في كل مجال عددًا محدودًا من أولئك الذين أعتبرهم من عظماء المتصوِّفة في هذا الميدان، وأقمتُ استنتاجاتي، أساسًا، على دراسة مكثفة لهؤلاء الرجال. وفضلًا عن ذلك فإن نظرتي إلى الفلسفة هي نظرة فيلسوف تجريبي وتحليلي. لكني لا أذهب، من الناحية التجرِيبية، إلى أن كل تجربة لا بد أن ترتد بالضرورة إلى التجربة الحسِّية، ولا أذهب — من الناحية التحليلية — إلى أن التحليل هو المهمة الوحيدة للفلسفة، فأنا أضفي قيمة عظمى على ما سُمِّي ذات مرة «بالفلسفة النظرية» وأعتبر التحليل أداة جوهرية لهذه الفلسفة. ويُمكن أن يكون التحليل غاية في حدِّ ذاته، لكني أعتبره خطوة تمهيدية نحو اكتشاف الحقيقة.
مَن سبقونا في الكتابة في ميدان التصوف لم يفعلوا شيئًا يُساعدنا في مواجهة العديد من المشكلات التي ناقشتُها في هذا الكتاب، ولهذا فقد كان عليَّ أن أرتاد الميدان منفردًا، وأن أشق طريقًا منعزلًا، لا أسترشد فيه بالماضي، ومن هنا فإن هناك عددًا من الأفكار في هذا الكتاب قد تبدو كلها جديدة تقريبًا، وليس فيها سوى القليل من التهور، وأنا لا أقول ذلك على سبيل الزهو أو التباهي بالأصالة، بل على العكس؛ لأنَّني آمل أن يلتمس لي القرَّاء بعض العذر فيما يجدونه من مثالب في الحلول التي طرحتها. ولم أستطع أن أمنع نفسي من طرح تساؤلات بدت لي جوهرية للبحث كله، لكنَّها لم يحدث أن واجهت أسلافي، فيما يظهر على الإطلاق. وكان عليَّ أن أُناضل معها قدر استطاعتي.
لا بد لي من التشديد على أنه في ميدان بالغ الصعوبة كهذا، ليس في استطاعتنا أن نتوقَّع «براهين» أو «دحض للبراهين» أو «تفنيدات» أو «ضروبًا من اليقين»؛ فالواقع أن المتصوِّف لا يجادل ولا يناقش؛ فلديه يقينه الذاتي الداخلي، غير أن ذلك لا يُثير سوى مشكلة جديدة مُحيِّرة أمام الفيلسوف المسكين. وعلى أيَّة حال، فأقصى ما يُمكن أن نتوقَّعه في هذا المجال هو فروض مؤقتة، وآراء معتدلة. وبالطبع غير العلماء هم وحدهم الذين يؤمنون بيقين العلم المفترض، أمَّا العلماء فيعرفون أن الحلول التي يُقدِّمها ليست سوى حلول افتراضية، ولا شكَّ أن حلولنا سوف تكون حلولًا افتراضية أكثر من ذلك.
ولقد تفضَّلت مؤسسة بولنجن، مشكورة، بمساعدتي أثناء تأليف هذا الكتاب بأن قدَّمت لي منحة تفرغ جامعي لمدة ثلاث سنوات، ثم مدَّتها إلى أربعة، وأنا مدين بالعرفان لهذا العون.